الدرس الأول
فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم في (المستوى الثاني) من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (نخبة الفكر) للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ مضحي بن عبيد الشمري.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله}.
الله يحييك ويبارك فيك، ويكتب أجركم، ويثيبكم على هذه البرامج النوعية، وجزاكم الله خيرًا.
{نستفتح بمقدمة}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فأولاً أشكر الإخوة الكرام القائمين على هذه الجمعية المباركة، على البرامج النوعية في تأسيس طلاب العلم، لأنَّ كثيرًا من طلاب العلم يود الدخول في هذه الجادة (جادة المتعلم) وطلب العلم والقراءة وما إلى ذلك، ولكنه لا يعرف كيف يكون السبيل إلى ذلك؟
وكثير من طلبة العلم أيضًا يتمنى أن ينتظم في سلك أهل الحديث، ومعرفة الصحيح من الضعيف، وما إلى ذلك، ولكنه لا يعرف بماذا يبدأ؟ وكيف يترقى في هذا الفن؟ وكيف يصل إلى مرحلة معرفة طريقة الحكم على الحديث، من حيث الصحة والضعف، ولكن جاءت هذه البرامج، أسأل الله -جل وعلا- أن يجعلها في موازين حسناتكم؛ لترتيب هذا الأمر بالنسبة إلى طلاب العلم.
ولا يخفى عليكم أيها الإخوة الكرام أنَّ المقصد من دراسة العلوم الشرعية هو: معرفة كلام الله -جل وعلا- ثم معرفة سنة النبي ﷺ، ومعرفة السنة أيضُا هذا فن آخر مستقل، فهناك فن مثل: معرفة الصحيح من الضعيف، وهناك ما يسمى بدراية علم الحديث؛ لأنهم يقولون: علم الحديث رواية ودراية، فالرواية هي ما يتعلق بجانب الرواية، من معرفة الصحيح من الضعيف، وطرق المقارنة بين الروايات، وما إلى ذلك. بينما الدراية فهو ما يتعلق بفقه السنة، يعني النظر في شروح الحديث، وماذا قال أهل العلم عن معنى هذا الحديث، ومعنى ذاك الحديث، وما إلى ذلك.
ومصطلح الحديث هو الفن الذي نريد أن ندرسه من خلال هذا الكتاب، يتعلق بجانب الرواية، وهذا الكتاب هو: (نخبة الفكر) يلج بطالب العلم هذا الباب، أي: باب معرفة الصحيح من الضعيف، فهو في البداية يعطي الطالب بعض القواعد، ثم يترقى، ثم بعد ذلك يطبق تطبيقًا عمليًا، ثم يصل إلى مرحلة معرفة الصحيح من الضعيف، وذلك من خلال جمع الطرق ومقارنة المرويات، وبعد ذلك الموازنة بين الطرق، ثم بعد ذلك معرفة الصحيح من الضعيف، وهذه هي الغاية من دراسة هذا الكتاب.
كثير من طلاب العلم يدرس مثلا نخبة الفكر، للحافظ ابن حجر، فيتقن هذا الكتاب، ويتقن شروح هذا الكتاب، ثم بعد ذلك ينتقل مثلا إلى كتاب (الموقظة) للحافظ الذهبي، ويضبط هذا الكتاب، ويقرأ بعض الشروح، ثم بعد ذلك يقرأ في (ألفية العراقي) أو (ألفية السيوطي) -رحم الله الجميع- ويقرأ في شروحها، ويضبط معانيها، ثم بعد ذلك يتوقف ويقول: لقد أتقنت علم المصطلح. هل هذا صحيح؟
نقول: لا؛ لأن هذا الفن هو من علوم الآلة، ودراسته توصلك إلى فهم السنة، ومعرفة الصحيح من الضعيف، والتطبيق العملي، وكيف إذا طرق إلى مسامعك حديثًا من الأحاديث، أو قيل لك: قال رسول الله ﷺ، كيف تعرف أن هذا الحديث صحيح أو ضعيف؟
فتذهب وتجمع الطرق، وتقارن وتنظر في كلام الأئمة النقاد، وما إلى ذلك. وهذه هي الغاية، وليست الغاية فقط أن يقال لك: عرِّف الحديث الصحيح، وتأتي بخلاف العلماء في تعريف الحديث الصحيح، ولو أتيتك بحديث وقلت لك: خَرِّج هذا الحديث، فلا تعرف! إذًا ما الفائدة من هذا العلم؟
إذًا هذا هو ما نريد أن نوصله إلى طلاب العلم من خلال دراسة هذا المتن.
مؤلف هذا المتن هو: الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين -رحمه الله-، وقيل له: العسقلاني نسبة إلى أجداده؛ لأنَّ أجداده من عسقلان، وإلا فهو -رحمه الله- قد ولد ونشأ في مصر، وقد ولد -رحمه الله- عام ثلاث وسبعين وسبعمائة، وتوفي عام اثنين وخمسين وثمانمائة.
ونشأ -رحمه الله- يتيمًا، فقد مات أبوه وعمره أربع سنوات، وهذا شيء عجيب في كثير من العباقرة في تاريخ الإسلام أن نشأوا أيتامًا!
وأمه قد ماتت قبل أبيه، ولَمَّا مات أبوه، أوصى به إلى أحد تجار مصر، وهو زكي الدين الخرُّوبي، فاعتنى به، ودله على كبار العلماء، ويسر له سلوك هذا الطريق، وهو طريق العلم، وتتلمذ ابن حجر -رحمه الله- على جمع كبير من العلماء، وقد جمع شيوخه -رحمه الله- في كتابه: (المجمع المؤسس)، وقد تتلمذ -رحمه الله- على كبار علماء الحديث، مثل: الحافظ زين الدين العراقي وغيره، وتتلمذ أيضًا على جمع من علماء أصول الفقه، مثل: شمس الدين البِرْمَاوي -رحمه الله-، وتتلمذ على ابن جماعة، وتتلمذ -رحمه الله- على البُلقيني، وتتلمذ على جمع كبير من العلماء، فهو -رحمه الله- مكثر من السماع من الشيوخ، ومن الدراسة على الشيوخ، وقد ألف -رحمه الله- المؤلفات العظيمة الكثيرة التي سارت بها الركبان.
ومن أعظم مؤلفات ابن حجر -رحمه الله- كتاب: (فتح الباري)، هذا الكتاب الذي لو اجتمعت عدة جامعات على أن تصنف مثله ما استطاعت، والذي يقرأ شروح البخاري قبل أن يأتي ابن حجر يعرف معنى الكلام الذي نقوله؛ لأنَّ ابن حجر -رحمه الله- أغنى عن كثير من الشروح التي كتبت قبله في صحيح البخاري.
وابن حجر -رحمه الله- ألف أكثر من مئة وخمسين كتابًا، وقد ترجم لنفسه -رحمه الله- في كتابه (رفع الإصر عن قضاة مصر)، وترجم له تلميذه الحافظ السخاوي -رحمه الله- في كتابه العظيم: (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام بن حجر)، فترجم لشيخه ابن حجر بما لا مزيد عليه بهذا الكتاب، فَعَدَّدَ مؤلفات ابن حجر، وعَدَّدَ شيوخ ابن حجر، وَعَدَّدَ تلاميذ ابن حجر، وذكر شيئًا كثيرًا في سيرة ابن حجر -رحمه الله تعالى- في هذا الكتاب، حتى إنه -رحمه الله- ذكر أنَّ شيخه ابن حجر لم يكن راضيًا عن شيء من مصنفاته، إلا عن "فتح الباري ومقدمته"، و "الْمُشْتَبِه" الذي بناه على كتاب الذهبي -رحمه الله- وأيضًا كتاب "التهذيب" و "تهذيب التهذيب" وأيضا "لسان الميزان" وهو أيضا بناه على كتاب الحافظ الذهبي، فالحافظ الذهبي ألف كتاب (ميزان الاعتدال) وأتى ابن حجر وألف (لسان الميزان)، ومقدمة كتاب (لسان الميزان) لابن حجر مقدمة نفيسة، فيما يتعلق بفهم طرق علماء الجرح والتعديل في الحكم على الراوي، ومناهجهم في ذلك، فالمقدمة نفيسة جدًا.
وكتاب الحافظ الذهبي (ميزان الاعتدال) هو من الكتب التي تعد أصلا في باب معرفة ألفاظ أئمة الجرح والتعديل، ومناهجهم في الحكم على الرواة من حيث التشدد والتساهل والتوسط وما إلى ذلك. والحافظ الذهبي -رحمه الله- يطلق الكثير من العبارات التي تُبين منزلة هذا العالم في باب الجرح والتعديل، فأتى ابن حجر وألف (لسان الميزان)، وبناه على كتاب الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- (ميزان الاعتدال)، وزاد عليه أشياء نفيسة، ولا يُستغنى بكتاب (ميزان الاعتدال) عن كتاب ابن حجر -رحمه الله- (لسان الميزان).
يقول السخاوي -رحمه الله-: "ورأيته -بعد أن ذكر أن ابن حجر لم يكن راضيا عن شيء من كتبه إلا ما ذكرناه من الكتب الأربعة- قال: "ورأيت في مواضع أثنى على (الفتح والتغليق)"، و "التغليق" أحد كتب ابن حجر -رحمه الله-، وقد ألفه في وصل الأحاديث التي علقها الإمام البخاري، وسماه: (تغليق التعليق). قال: "ورأيته في مواضع يثني على التغليق والنخبة"، أي: على هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
كتاب (تغليق التعليق) ألفه ابن حجر -كما يظهر- قبل تأليفه لفتح الباري، ولذلك أحيانا تنظر في حديث معلق في صحيح البخاري، وتنظر في وصل هذا الحديث في كتاب (تغليق التعليق) فتجد فوائد، ثم ترجع إلى (فتح الباري) في هذا الموضع، فتجد ابن حجر -رحمه الله- يزيد الفوائد أحيانًا عمَّا هو موجود في (تغليق التعليق)، وهذا يدل على أنه ألف الفتح بعد ذلك؛ لأنَّ ابن حجر -رحمه الله- لَمَّا أراد تأليف (فتح الباري) ألف قبله كتبًا تساعده على هذه الغاية العظيمة، وهي شرح صحيح الإمام البخاري -رحمه الله- فألف التغليق، وألف في رجال البخاري، وألف بعض الكتب قبل أن يبدأ بـ (فتح الباري).
وكتاب فتح الباري للحافظ ابن حجر -رحمه الله- يعد معلمة من معالم الإسلام.
يسأل الكثير متى ألف ابن حجر -رحمه الله- كتابه هذا (النخبة)؟
السخاوي -رحمه الله- تلميذ ابن حجر، وهو من أعرف الناس بشيخه، ومن أعرف الناس بمؤلفات شيخه ابن حجر، ذكر أن ابن حجر -رحمه الله- ألَّف كتاب (نخبة الفكر) عام اثنا عشر وثمانمائة.
والصنعاني -رحمه الله- ينقل عن ابن الوزير أنَّ ابن حجر -رحمه الله- ألف هذا الكتاب عام سبعة عشر وثمانمائة، يعني: بعد التاريخ الذي ذكره السخاوي بخمس سنوات، ولكن الصواب مع تلميذ ابن حجر السخاوي -رحمه الله-؛ لأنَّ هذا الكتاب مبني على سؤال بعض الطلبة، ومِنْ هؤلاء الطلبة الذين سألوا: شمس الدين الزركشي -رحمه الله-، والذي توفي عام ثلاثة عشر وثمانمائة.
ومما يدل أيضًا على أن ابن حجر ألَّف كتاب (نخبة الفكر) عام اثني عشر وثمانمائة أو بالأحرى قبل التاريخ الذي ذكره ابن الوزير، وهو سبعة عشر وثمانمائة، أن شَيخ ابن حجر وهو: -رحمه الله- نظم "النخبة" بكتاب سماه: (الرتبة في نظم النخبة)، متى وضع هذا النظم؟
وضعه عام أربعة عشر وثمانمائة، ولذا كان واضحًا أن ابن حجر -رحمه الله- انتهى من النخبة قبل ذلك، وإلا كيف ينظمها شيخه كمال الدين وهو لم ينته منها!
إذًا انتهى قبل ذلك -رحمه الله تعالى-، وللفائدة: فشيخ ابن حجر كمال الدين، هو أول شارح لكتاب (نخبة الفكر) في كتابه: (نتيجة النظر) وهو شيخ ابن حجر، وقد توفي كمال الدين الشُّمُنِّي -رحمه الله- عام واحد وعشرين وثمانمائة، فانظر إلى تواضع الشيخ في شرحه لكتاب تلميذه.
وابن حجر -رحمه الله- شرح هذا الكتاب (نخبة الفكر) بكتابه: (نزهة النظر)، وهو أفضل شرح للنخبة؛ لأنَّ المؤلف إذا شرح الكتاب بنفسه، ألَّف متنا، ثم شرح هذا المتن، فسيكون أعلم بمراده من غيره، ولذلك كان يذكر بعض الأشياء، ويخالف شيخه كمال الدين الشُّمُنِّي في المراد، ويقول: "وصاحب البيت أدرى بما فيه"، فهو صاحب البيت، أي: ابن حجر -رحمه الله تعالى.
وهذا الكتاب (نخبة الفكر) من أنفس الكتب، وقد شُرِحَ شروحًا كثيرةً إلى يومنا هذا، ونحن ما زلنا كل سنة، أو كل سنتين، أو ثلاث سنوات، ينزل شرحًا جديدًا من شروح هذا الكتاب، وهذا لأهمية هذا الكتاب، ولأنه أصل في هذا الفن، ونسأل الله -جل وعلا- أن يعينني وإياكم على التعليق على هذا الكتاب بطريقة ليست بالطويلة المملة، ولا المختصرة المخلة.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلِيمًا قَدِيرًا، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ)}
بدأ المؤلف -رحمه الله- كتابه بحمد الله -جل وعلا-، ثم بالصلاة على النبي ﷺ، ويعني الابتداء بذكر الله عمومًا، وإن كان قد جاءت فيه أحاديث، مثل: «كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأُ فيهِ بـبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أقطَعُ» ، أو «كلُّ كلامٍ لا يُبْدَأُ فيه بحَمْدِ اللهِ فهو أَجْذَمُ» فعامة هذه الأحاديث لا تخلو من ضعف، ولكن هذا من باب الاقتداء بكتاب الله -جل وعلا- والاقتداء بسنة النبي ﷺ في مراسلاته ومخاطباته، فإنه ﷺ كان يبدأ فيها بذكر الله -جل وعلا.
ومن المعلوم -وإن كنا نبهنا على هذا قبل قليل، ولكن نعيد التنبيه- أنَّ العلوم علمان، هناك علوم مقصودة لذاتها، وهي: العلوم المتعلقة بفهم القرآن، والعلوم المتعلقة بفهم السنة، والتفقه في القرآن والسنة.
وهناك علوم آله، توصل الإنسان إلى العلوم المقصودة لذاتها، مثل: علم أصول الفقه، حيث إنَّ غايته أن يوصل الإنسان لفهم المراد من كتاب الله -جل وعلا- ودلالات الألفاظ، والناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك، وكذلك فهم المراد من كلام نبيه ﷺ.
وهناك علم المصطلح مثلاً، وهو علم آله، ويوصل الإنسان أيضا إلى هذه الغاية، أي إلى معرفة الصحيح من الضعيف، وكذلك علوم اللغة العربية وما إلى ذلك، فهذه العلوم يراد بها الوصول إلى العلوم المقصودة لذاتها، فبعض الناس يتخصص في هذه العلوم، أي: علوم الآلة، ويقتصر على ذلك ويتوقف، ويترك الغاية التي لأجلها يُراد هذا العلم، وهو أن يتوصل به إلى فهم المراد من كلام الله -جل وعلا- وكلام نبيه ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (فَإِنَّ التَّصَانِيفَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَدْ كَثُرَتْ، وَبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ، فَسَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ أَنْ أُلَخِّصَ لَهُمُ الْمُهِمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ؛ رَجَاءَ الِانْدِرَاجِ فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ، فَأَقُولُ)}
قال ابن حجر: (فَإِنَّ التَّصَانِيفَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَدْ كَثُرَتْ، وَبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ)، وقد ذكر -رحمه الله- في شرحه لهذا الكتاب أي في (نزهة النظر) أن أول من صنف في هذا الفن هو: أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد المشهور بالرامهرمزي الفارسي -رحمه الله تعالى- وقد ألف كتابًا اسمه: (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي)، ولكن انتقد الحافظ ابن حجر -رحمه الله- هذا الكتاب في كتابه "النزهة" وقال: هناك أشياء في هذا العلم لم يستوعبها -رحمه الله.
قال ابن حجر: (فَإِنَّ التَّصَانِيفَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَدْ كَثُرَتْ، وَبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ)؛ لأن المؤلفات في فن مصطلح الحديث كثيرة بالفعل، ومنها المبسوط ومنها المختصر ومنها المتوسط، وما إلى ذلك. ومن أشهر كتابين في فن "مصطلح الحديث" قبل ابن حجر، هما: كتاب (الكفاية في علم الرواية) للخطيب البغدادي -رحمه الله-، المتوفى عام ثلاث وستين وأربعمائة، هذا من أهم الكتب التي ألفت في هذا الفن قبل "النخبة"، وأيضًا كتاب (علوم الحديث) لابن الصلاح، المتوفى عام ثلاث وأربعين وستمائة، وهي مجالس إملاء للحافظ ابن الصلاح -رحمه الله-، كان يملي فيها علوم الحديث، وكتاب ابن الصلاح -رحمه الله- (علوم الحديث) قد ألف حوله نحو المئة كتاب، أي: نحو مئة كتاب بنيت على كتاب ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-، ومنهم من اختصره، ومنهم من شرحه، ومنهم من بنى عليه، وما إلى ذلك، ومن أشهر الكتب التي اختصرت هذا الكتاب كتاب الإمام النووي -رحمه الله تعالى- (إرشاد طلاب الحقائق) اختصر كتاب ابن الصلاح -رحمه الله-.
ثم أتى النووي -رحمه الله- واختصره بكتاب آخر، اسمه: (التقريب والتيسير)، ثم أتى بعد ذلك وشرح التقريب الحافظ السيوطي -رحمه الله- في كتابه: (تدريب الراوي)، وقد اختصر هذا الكتاب أيضًا ابن دقيق العيد في كتابه (الاقتراح) والذي يقال: إن الحافظ الذهبي -رحمه الله- بنى كتابه (الموقظة) عليه، وأيضًا اختصر علوم الحديث هذا لابن الصلاح، ابن كثير -رحمه الله- في كتابه الشهير (اختصار علوم الحديث).
إذاً هناك كتب كثيرة بنيت على كتاب ابن الصلاح -رحمه الله-، وأتى ابن حجر -رحمه الله- وكان قد سأله الكثير من الطلبة أن يختصر لهم كتابًا في هذا الفن، فلخص -رحمه الله- لهم المهم من ذلك في هذا الكتاب، لاحظ قول ابن حجر: (فَسَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ) يعني: مجموعة وليس واحدًا، وذكر أن منهم عبد السلام البغدادي وغيره، وذكر أن منهم أيضًا شمس الدين الزركشي وغيره، أي أنَّ بعض الطلاب سألوا ابن حجر -رحمه الله- أن يلخص لهم كتابًا في هذا الفن، انظر بركة يعني الاقتراح! ترى كثيرا من كتب العلماء بناء على اقتراح، حتى القصة الشهيرة وفيها أن الإمام البخاري -رحمه الله- كان في مجلس إسحاق بن راهويه ، فقال: لو أنَّ أحدًا انبرى فجمع لنا الأحاديث الصحيحة، فعلقت هذه الفكرة في قلب الإمام البخاري -رحمه الله- فألف لنا هذا الكتاب العظيم، والذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله -عز وجل-.
فابن حجر -رحمه الله- ألف هذا الكتاب باقتراح، وهكذا كثير من المشاريع العلمية والدعوية والتأصيلية وما إلى ذلك، كانت بسبب اقتراح في مجلس، أحدهم رأى أن هناك من عنده تميز في فن معين، فن علمي، أو دعوى، أو شيئًا مما ينتفع به الإسلام والمسلمين، فوضع هذا الاقتراح أو هذه الفكرة التي طرحت عليه، ثم بعد ذلك نتج عن ذلك مشروع عظيم جدًا، ينفع الله -عز وجل- به الإسلام والمسلمون، ولذا فلا يحتقر الإنسان مثل هذه الأفكار، التي يكون لها -إذا بارك الله جل وعلا فيها- الأثر العظيم على المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (فَأَقُولُ: الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ: طُرُقٌ بِلَا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مَعَ حَصْرِ بِمَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِوَاحِدٍ)}.
يقول ابن حجر -رحمه الله-: (فَأَقُولُ: الْخَبَرُ) الخبر عند علماء الفن مرادف للحديث، وهذا هو مقصود ابن حجر هنا بكلمة الخبر، فهو يعني به: الحديث، وقد يقول بعضهم: إن الحديث هو ما جاء عن النبي ﷺ، بينما الخبر فيشمل ما جاء عن النبي ﷺ وما جاء عن غيره، ولكن المقصود أن ابن حجر هنا يريد بالخبر الحديث.
وإطلاق الخبر على الحديث هذه عبارة قديمة، كان يذكرها الإمام الشافعي -رحمه الله-، فكان يقول الخبر، وهو يعني بهذا: الحديث، وكان يذكرها بكثرة أيضًا الإمام ابن خزيمة، وابن حبان -رحمهما الله- حتى ابن حبان كان كثيرًا ما يقول: باب الخبر الدال على كذا وكذا، ويريد بالخبر الحديث، وعلى هذا ابن حجر هنا، فهو يقول: (فَأَقُولُ: الْخَبَرُ) يعني بذلك الحديث.
قال: (الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ: طُرُقٌ) يعني: أسانيد، يروي سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: كذا وكذا. أين الطريق؟ الطريق هو الإسناد، وهو هنا: "سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة"، هذا يُسمى طريقًا، أو إسنادًا، والحديث هو قوله ﷺ الذي ذكره، والذي ينتهي به هذا الطريق هو الحديث.
فقال: (الْخَبَرُ) يعني به: الحديث، (إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ: طُرُقٌ) أي: أسانيد، (بِلَا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ)، أي: كثيرة جدًا وغير محصورة، أي: لا تحصرها، فلا تقول: عشرة، أو خمسة عشر، أو عشرين، لأن ابن حجر -رحمه الله- يختار أنها غير محصورة، ويأتينا هذا.
هذا الخبر إمَّا أن يكون له طرق كثيرة غير محصورة، وإما أن تكون هذه الطرق محصورة، وابن حجر يسمي الذي له طرق غير محصورة: "المتواتر"، وأمَّا الذي له طرق محصورة فيسميه ابن حجر: "الآحاد"، وهذا الآحاد له ثلاثة أقسام، يأتي بيانها الآن.
إذًا ابن حجر -رحمه الله- يريد أن يُبين لك المسألة من أصلها، فيبين أنَّ هناك طرقًا غير محصورة، وأخرى محصورة.
{قال -رحمه الله-: (فَالْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ: الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِشُرُوطِهِ)}.
إذًا الذي له طرق بلا حصر يسميه ابن حجر -رحمه الله- "المتواتر".
قال: (المفيد للعلم اليقين بشروطه) هذا اشتراط من ابن حجر، أن يكون هذا المتواتر يفيد العلم اليقيني، أي: لا يفيد الشك، بل يفيد القطع عند الإنسان.
(بِشُرُوطِهِ) اعرض ابن حجر -رحمه الله- عن ذكر الشروط ها هنا، ولكنه في شرح هذا الكتاب وهو "النزهة" بَيَّنَ الشروط التي يجب أن تتوفر في الخبر حتى نقول عنه: متواترًا.
ما هي هذه الشروط؟
قال ابن حجر -رحمه الله- في النزهة:
الشرط الأول: أن يرويه جماعة.
ابن حجر -رحمه الله- يختار عدم ذكر عدد معين، فهو يقول: بلا حصر، والعلماء -رحمة الله تعالى عليهم- اختلفوا في تحديد هذا العدد، ولكن ابن حجر قال: "بلا حصر"، وذكر ابن حجر -رحمه الله- أن من حصرها بعدد معين قد استدل بوقائع ليس لها علاقة بأصل المسألة، مثلا يقول بعضهم: أربعين، ويستدل بورود لفظ أربعين في القرآن، وبعضهم يقول مثلا بعشرة، وبعضهم يقول بغير ذلك، وأما ابن حجر فيرى أنها استدلالات ضعيفة، وأن المتواتر يكون له طرق غير محصورة بعدد معين، فابن حجر -رحمه الله- لا يتقيد بعدد معين في هذا الباب.
ومن هنا نفهم مسألة مُهمة، وهي أنَّ المقصود بالمتواتر على حسب تعريف ابن حجر، أنه غير مرتبط بعدد معين.
والسيوطي -رحمه الله- قال: إن المتواتر يكون له عشرة طرق، وألف السيوطي -رحمه الله- كتاب (قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة)، وقد يأتي بعض طلاب العلم، ويقرأ كلام ابن حجر: أنَّ المتواتر (الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِشُرُوطِهِ) ويتساءل ما هو هذا المتواتر، وما هي أمثلته؟ ثم يأتي بكتاب السيوطي، ويستخرج منه بعض الأحاديث المتواترة!
وهنا نقول له: هذه متواترة عند السيوطي، ولكنها ليست متواترة عند ابن حجر؛ لأنَّ ابن حجر لا يختار التقيد بعشرة، ولذلك كان فهم المصطلحات هنا من المسائل المهمة جدًا.
إذًا ابن حجر لا يتقيد بعدد معين بهذه الطرق.
الشرط الثاني الذي ذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى- للحديث المتواتر هو: أن يستحيل تواطؤهم على الكذب.
أي: يستحيل أن يتفق أهل هذه الطرق على الكذب.
كيف نعرف أنه يستحيل تواطؤهم على الكذب؟
نقول: يُعرف عدم تواطؤهم على الكذب بالعقل، هل يمكن أن يتفق أو يتواطأ جماعة بعدد كثير على الكذب؟ أو يتفقون على الكذب في قضية معينة؟
نقول: قد يكون هذا من أهل مكان مُعين، أو جماعة مُعينة، وقد يتفق كلهم على تقرير كذبة مُعينة، أو إخراج شائعة مُعينة، فيوم أن نسمع هذه الشائعة، نقول: هذا يستحيل طبعًا، لأنَّ هؤلاء -أهل هذه المدينة، أو هذه الجماعة، أو أهل هذا المصر- قد يتفقون على إخراج هذه الشائعة المعينة، أو قد يتفق جماعة من الناس في مكان معين ولظروف مُعينة على الكذب في هذه القضية، ولذا فنحن نشترط أن يستحيل تواطؤ هؤلاء على الكذب.
الشرط الثالث، الذي ذكره ابن حجر -رحمه الله- في شرحه لكتاب "النزهة" على هذه المسألة شروط المتواتر، قال: أن تكون هذه الجماعة الذين تواطؤوا على نقل حديث معين، وكان نقلهم بلا حصر يبلغ المتواتر، أن يكون هذا التواتر في جميع طبقات الإسناد، أي لا يتواتر هذا في طبقة الصحابة وطبقة التابعين، ثم تأتي طبقة أتباع التابعين فنجد أنهم ثلاثة رواة، نقول: لا، لا بد أن يكون هناك تواتر في طبقة الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، حتى زمن تصنيف الكتاب. حتى يأتي هذا إلى المصنف، فهذا الشرط من الشروط التي ذكرها ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
الشرط الرابع الذي ذكره ابن حجر -رحمه الله- في الحديث المتواتر، قال: أن يكون مستند خبرهم الحس، كيف يكون مستند خبرهم الحس؟
أي أنَّ هؤلاء الصحابة مثلا الذين تواطأت أحاديثهم وتواترت على نقل شيء عن النبي ﷺ يكون المستند الحس، يعني: رأينا أو سمعنا، ولا يكون مستند الخبر استنتاجًا عقليًا. كيف؟
هل يمكن أن يروى خبر ويستند فيه إلى الاستنتاج العقلي؟
أو هل يمكن أن ينتشر شيء في زمن الصحابة وهو عبارة عن استنتاج عقلي، وليس بـ "رأيت أو سمعت"؟
نقول: نعم، يمكن أن يكون هذا، لَمَّا هجر النبي ﷺ نساءه، تحدث الناس في المدينة أن النبي ﷺ طلق نساءه، والنبي ﷺ لم يطلقهن، ولكن نحن نقول: هذا ليس متواترًا لماذا؟ لأنه استنتاج عقلي، ولذلك لَمَّا سُئِلَ النبي ﷺ بعد ذلك -سأله عمر- هل طلقت نساءك؟ قال: لا، قال عمر: الله أكبر.
إذًا، كان قبل سؤال عمر، هل نسمي الأمر متواترًا؟ لا؛ لماذ؟ لأنه استنتاج عقلي، وليس مستنده سمعنا النبي ﷺ يقول لنسائه لفظة الطلاق، أو رأيناه يُطلق نساءه، وما شابه ذلك، وإنما هو استنتاج عقلي، فهم قد رأوا أن النبي ﷺ اعتزل نساءه، فقالوا: إنه طلقهن ومبنى هذا على الاستنتاج العقلي، ولذلك لا يكون مُتواترًا.
إذًا يشترط ابن حجر -رحمه الله- أن يكون مستند خبرهم الحس، أي: سمعنا أو رأينا.
وابن حجر -رحمه الله- زاد شرطًا آخر، وهو شرط خامس، وهو أنَّ الخبر يفيد العلم اليقيني ولا يفيد الشك. طيب قد يأتي سائل ويقول: هل المتواتر بهذه الشروط التي ذكرها ابن حجر -رحمه الله تعالى- موجود؟
نقول: من العلماء من ذهب إلى عدم وجود الحديث المتواتر، وينسب لابن حبان -رحمه الله- أنه قال: لا يوجد حديث متواتر من كل أحاديث السنة، بل كلها آحاد، والذي يظهر من عبارة ابن حبان أنه يقصد شيئًا آخر.
يقول ابن حبان -رحمه الله- في مقدمة صحيحه: فأمَّا الأخبار فإنها آحاد؛ لأنه لا يوجد عن النبي ﷺ خبر من رواية عدلين، روى أحدهما عن عدليين، وكل واحد منهما عن عدليين، أي أنَّ ابن حبان -رحمه الله- كأنه يرى أن حديثًا من الأحاديث رواه عن النبي ﷺ، فلنفرض أنه رواه عن النبي ﷺ سبعين، وهؤلاء السبعون عن كل واحد منهم يروي له تلاميذ بلغوا عدد التواتر، وهؤلاء التلاميذ كل واحد منهم يروي عنه عدد التواتر. هذا ليس بموجود بالطبع.
فإذا كان ابن حبان -رحمه الله- يقصد هذا، وهذا الذي يبدو من كلامه، فهذا غير موجود.
وقد ذهب ابن الصلاح -رحمه الله- إلى عدم وجود المتواتر إلا في حديث «مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، والصواب أن المتواتر موجود في السنة موجود.
وقال "الكتاني" في نظم المتناثر، قال: وفي حواشي التاؤدي:
مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شفاعة والحـوض ... ومسح خفين وهذه بعض
أي أنه ذكر أمثلة للحديث المتواتر.
والصواب أن الأحاديث المتواترة موجودة في السنة، منها أحاديث متواترة تواترًا معنويًا، والتواتر المعنوي مثل: ما تواتر من أن عدد ركعات الظهر أربع ركعات مثلا، وما تواتر من أن عدد ركعات العشاء أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات. وهذا هو التواتر المعنوي.
وهناك تواتر لفظي، وهي تلك الأحاديث التي ذكرناها هنا:
مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذه بعض
فهذه كلها أحاديث، والصواب أنها أحاديث متواترة، ولذلك هناك أحاديث متواترة كثيرة، ومن أشهرها الحديث الذي ذكره ابن الصلاح، وهو حديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدً»، وقيل في هذا الحديث: إنه قد روي عن مئة صحابي، وذكر النووي -رحمه الله- في شرحه لمقدمة الإمام مسلم، أنه قد رُوِيَ عن نحو مائتي صحابي، وقيل: إن كلام النووي هذا فيه شيء من التصحيف، والصواب هو ما ذكره الحافظ العراقي، أن رواة هذا حديث نحو العشرين صحابي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالثَّانِي: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى رَأْيٍ)}.
قلنا: إنَّ الخبر إمَّا أن يكون متواترًا أو آحادًا، وقد انتهينا من المتواتر.
والقسم الثاني: أخبار الآحاد، والآحاد قَسَّمَهُ ابن حجر -رحمه الله- إلى ثلاثة أقسام، وهي:
المشهور، وهذا ما نحن يصدده، ويأتي بعده العزيز، ويأتي بعده الغريب، ولعلنا الآن -بإذن الله عز وجل- نذكر المشهور.
قال: (وَالثَّانِي: الْمَشْهُورُ) والحافظ ابن حجر يقول لك: الخبر أنواع، منه: "المتواتر، والمشهور، العزيز، والغريب" ثم بعد ذلك يقول: كلها سوى الأول آحاد، أي أنَّ القسم الثاني وهو المشهور تابع للآحاد. أي: من أقسامه.
قال: (وَالثَّانِي: الْمَشْهُورُ) قال ابن حجر في نزهة النظر عن المشهور: "ما له طرق محصورة في أكثر من اثنين.
سؤال: كيف يختلف المشهور عن المتواتر؟
نقول: المتواتر قال فيه: ليس له حصر، وأمَّا المشهور فهو محصور، وهذا الحصر بأكثر من اثنين؛ لأنه إذا كان من اثنين فأقل، فيكون له مصطلح آخر، فالمشهور هو محصور ولكنه أكثر من اثنين، ولكنه لم يبلغ حد التواتر، وهذا القول هو الذي استقر عليه اصطلاحًا، وهو أن المشهور ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين.
ويقول علماء الأصول -أصول الفقه-: المشهور أكثر من ثلاثة، وليس أكثر من اثنين، ولذلك قال البيقوني: مشهور مروي فوق ما ثلاثة.
فالبيقوني يرى أن المشهور أكثر من ثلاثة، بينما ابن حجر يقول: المشهور أكثر من اثنين، وهذه نقطة الخلاف بين ابن حجر وكثير من أهل الأصول، ومنهم البيقوني في الثلاثة، أي: ما له ثلاث طرق. ماذا يسمونه؟
أهل الأصول لا يسمونه مشهورًا، بينما أهل الحديث يسمونه مشهورًا، فكل ما كان فوق الاثنين يعتبرونه مشهورًا.
ومن الأمثلة على ذلك السخاوي -رحمه الله-، حيث مَثَّلَ لهذا بحديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «المُؤْمِنُ يَأْكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكَافِرُ يَأْكُلُ في سَبْعَةِ أمْعَاءٍ» . يروي هذا الحديث ابن عمر، ويرويه أبو هريرة، ويرويه جابر بن عبد الله، ويرويه أبو موسى الأشعري.
في هذه الطبقة كم راوي للحديث؟
أربعة رواة، هل محصورة؟ نعم محصورة، هل أكثر من اثنين؟ نعم أكثر من اثنين. إذًا هذا حديث مشهور، ولم يبلغ حد التواتر.
وابن عمر- رحمه الله- يرويه عنه نافعًا، ويرويه عنه أبو الزبير المكي، ويرويه عنه عمرو بن دينار، وعن نافع يرويه مالك، ويرويه أيوب السختياني وغيرهم أيضا، فهذا الحديث يكثر العلماء من التذكير به للحديث المشهور.
قال ابن حجر -رحمه الله-: (وَالثَّانِي: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى رَأْيٍ) يعني: يسمى المستفيض على رأي، وعند بعض العلماء يسمى المشهور: المستفيض، وابن حجر -رحمه الله- لَمَّا عَلَّق على هذا في شرح "النزهة" قال: "وليس من مباحث الفن"، أي: الفرق بين المستفيض والمشهور.
وعبارة المستفيض من فن أصول الفقه، وعبارة المستفيض يندر جدًا ذكرها عند أهل الحديث، ويُكثر منها فقهاء الحنفية، والحنفية -رحمة الله تعالى عليهم- أيضًا لهم كلام كثير في عبارة المستفيض، وما هو الحديث المستفيض؟
وننبه هنا أيضًا على قضية مهمة في قضية المصطلحات، حيث قد يأتي بعض الطلبة، ويدرس معنى المشهور، ويعرف من كلامنا أنَّ المشهور ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، ويذهب مباشرة وينظر في الكتب، ويجد كتابًا مثلاً للحافظ السخاوي (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة) ويقول: أنا آتيكم الآن بمثال للحديث المشهور. فنقول: لا، لأنَّ المشهور في اصطلاح أهل الحديث هو ما عرفه ابن حجر، وهناك شهرة -من باب اللغة- شهرة لغوية، فيقال مثلا: هذا الحديث مشهورًا، وهو حديث في الصحيحين، وقد يكون هذا الحديث متواترًا.
وقد يأتي حديث ليس له إلا طريق واحد، مثل حديث: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»، ويأتي بعضهم ويقول: هذا حديث مشهور، ويقصد الشهرة اللغوية، أي أنه مشهور لغة.
وأنا قولي قبل قليل أنه قد يقال: مشهور وهو في الصحيحين، نعم قد يوجد حديث مشهور في الصحيحين، وقد يوجد أقل من المشهور، وهو الحديث الغريب، مثل حديث: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»، ولكن أقصد أن بعض العلماء قد يقول: هذا الحديث مشهورًا، وهو لا يعني به الشهرة في الاصطلاح، وإنما يعني أنه اشتهر على ألسنة الناس، مثل حديث: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»، فهو ليس بحديث مشهور من حيث الاصطلاح، ولكنه حديث مشهور من حيث اللغة.
فنقول: كتاب السخاوي لا يقصد به هذا الاصطلاح، ومثله كتاب العجلوني: (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس الكاتب) والعجلوني يقصد به الأحاديث التي اشتهرت شهرة لغوية، وليست شهرة اصطلاحية، ولذلك وجب أن ننبه تنبيهًا مهمًا جدًا على قضية المصطلحات، وهو: لا تحاكم عالم إلى اصطلاح غيره، ولهذا انتقد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعض من ينتقدون كتاب ابن الجوزي (الموضوعات) ويحاكمونه إلى اصطلاح غيره من العلماء، فعليك أن تعلم ماذا يقصد ابن الجوزي -رحمه الله- بالأحاديث الموضوعة في كتابه، ثم حاكمه إلى اصطلاحه هو.
وانظر إلى ما يقصده الترمذي -رحمه الله- بقوله: حسن، وحاكمه إلى ما يقصده هو، ولا تحاكمه إلى اصطلاح غيره، وكذلك نبهنا قبل قليل على المتواتر، إذا أتيت وأردت أن تمثل المتواتر عند ابن حجر، فلا تنظر إلى المقصود بالمتواتر عند السيوطي مثلا في كتابه.
ولذلك كان من المهم جدًا عند دراسة المصطلح أن تعرف المصطلحات، ونحن نهتم بالتعليق على هذا الكتاب، كتاب ابن الحجر، على بيان المراد من كلام ابن حجر، فاعرف ما هو مصطلح ابن حجر ها هنا، وفي الغالب من يريد أن يدرس مصطلح الحديث، يبدأ أولا بفهم المصطلحات والمعاني في المنظومة البيقونية مثلا، ثم بعد ذلك ينتقل إلى النخبة، (نخبة الفكر) ويتوسع شيئًا ما في المعاني والمصطلحات، ثم بعد ذلك ينتقل إلى كتاب (الموقظة) أو مقدمة ابن الصلاح مثلا، ويتوسع أكثر، ولكن بما أننا ها هنا ندرس النخبة من البداية؛ فإننا سننبه كثيرًا على قضية المصطلحات، وما هو المراد من كلام ابن حجر في المتواتر، وما هو المراد من كلام ابن حجر في المشهور، وهذا ما نبه عليه أيضًا ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
قال ها هنا: (الْمَشْهُورُ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى رَأْيٍ) ولكن الذي استقر عليه في الاصطلاح أنَّ المشهور هو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، هذا ما أردت بيانه في هذا الدرس المختصر، وأسأل الله -جل وعلا- لي ولكم التوفيق والسداد.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خير الجزاء، وبهذا تكون حلقتنا لهذا اليوم قد انتهت -بإذن الله تعالى-، نلتقي بكم في درس قادم، وإلى ذلك الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13135 9