الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري

إحصائية السلسلة

12551 9
الدرس السابع

نخبة الفكر

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طُلاب العلم في (المستوى الثاني) من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نشرح فيه كتاب (نُخبة الفكر)، للإمام أحمد بن علي بن حجرٍ العسقلاني -رحمه الله تعالى-، يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ مُضحي بن عبيد الشمري، باسمكم جميعًا نُرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله فضيلة الشيخ}
الله يحييك ويبارك فيك.
{نستأذنكم في إكمال القراءة}.
بسم الله، استعن بالله.
 {قال الحافظ ابن حجرٍ -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ الإِسْنَادُ إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ تَصْرِيحًا أَوْ حُكْمًا؛ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ فِعْلِهِ، أَوْ تَقْرِيرِهِ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فيقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: (ثُمَّ الإِسْنَادُ إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِي )، الإسناد كما هو معلوم هو الطريق الذي يُوصِل إلى المتن، أو سلسلة الرجال التي تصل إلى المتن، والمتن هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام.
فهذا الإسناد إمَّا أن ينتهي إلى النبي ، وكما في بعض النُسخ -ويقتضي لفظهُ إمَّا تصريحًا أو حكمًا-، قال: من قوله أو فعله، يعني: أنَّ هذا المرفوع إلى النبي إمَّا أن يكون مرفوعًا صريحًا، وإمَّا أن يكون مرفوعًا حُكمًا.
والمرفوع الصريح يعني أنه من قول النبي ، أو من فعله أو من تقريره .
فهو على ثلاثة أقسام:
•  إمَّا أن يكون قوليًا.
•  وإمَّا أن يكون فعليًا.
•  وإمَّا أن يكون تقريريًا.
فالقولية مثل قول النبي : «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[1]، هذا مرفوع إلى النبي ، وهو صريح لفظي من قول النبي .
وإمَّا أن يكون فعليًا: هذا المرفوع الصريح قد يكون أيضًا فعليًا، مثل: ماذا؟ مثل: «كَان النَّبِيُّ يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ»[2]، فهذا فعلي، أي: من فعل النبي ، وهو: مرفوع صريح فعلي.
وإمَّا أن يكون تقريريًا، أي أنَّ النبي يُفعل عنده الشيء ويسكت عليه، فسكوته إقرار منه على جوازه، مثل: ما أُكل عند النبي في مائدته -وهذا المثال يكثر ذكره عند من يُعلق على هذا الكتاب- وفيه «أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ »[3]، وسكت النبي ولم يُنكر ذلك، فهذا مرفوع صريح تقريري من النبي ولكنه ليس لفظيًا أو فعليًا.
هناك أيضًا المرفوع حكمًا، يعني يقولون عنه: له حكم الرفع، وهو عبارة عن شيء يقوله الصحابي، أو يفعله الصحابي، أو يسكت عنه الصحابي ولا ينكره، فنقول: هذا له حُكم الرفع، ومن العلماء من يقول: بشرط أن لا يؤتى بهذا من قبيل الرأي، أي: لا يكون من قبيل رأي الصحابي.
مثال على ذلك من قبيل الرأي: ابن مسعود -رضي الله عنه- صحّ عنه أنه كان يدعو في السعي فيقول: «ربِّ اغفرْ وارْحَمْ، إنَّك أنتَ الأعزُّ الأكْرَمُ»[4]، هل يصح أن نقول: هذا سنة وهذا مرفوع حُكمًا؛ لأنه لا يقال من قبيل الرأي؟ نقول: لا، لأنَّ هذا قد يقال من قبيل الرأي؛ لأنه دعاء، والدعاء عام.
ولكن الأفعال أو الأقوال التي حينما ننظر إليها من أقوال الصحابة أو أفعالهم وتقريراتهم ونقول: هذا لا يمكن أن يقال من قبيل الرأي، لم يأت به إلا بنص، فهذا نقول عنه: له حكم الرفع، وهذا أيضًا على ثلاثة أقسام، مثل الأقسام التي ذكرناها في المرفوع رفعًا صريحًا.
فنقول: هذا القول للصحابي الذي له حكم الرفع:
إمَّا أن يكون قوليًا، ابن عباس –رضي الله عنه- روى عنه ابن جرير أنه فسَّر الكرسي بأنه موضعُ قدمي الرب، فيقول العلماء: هذا له حُكم الرفع، فهو مرفوع ولكن ليس مرفوعًا صريحًا، وإنما هو مرفوع حكمًا، وهو قولي.
وإمَّا أن يكون فعليًا، مثل ما روى الترمذي –رحمه الله- أنَّ عليًا -رضي الله تعالى عنه- "صلَّى الكسوف بأكثر من ركوعين في ركعة"، ولا يمكن أن يفعل عليٌّ –رضي الله عنه- هذا إلا بمستند ونص، ولذا يقال عنه: له حكم الرفع.
أيضًا قد يكون تقريريًا، كما جاء في الصحيحين من حديث جابر -رضي الله عنه- أنه قال: «كُنَّا نَعْزِلُ، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ»[5]، يذكره بعضهم كمثال.
وأيضًا من المرفوع حكمًا قول الصحابي مثلًا: "من السنة كذا"، وقد ذهب بعضهم إلى أنه يعد من المرفوع صريحًا.
الشاهد: أنه له حكم الرفع.
الحافظ العراقي -رحمه الله- يقول:
قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ أَوْ ... نَحْو أُمِرْنَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ وَلَوْ
بَعْدَ النَّبِيِّ قَالَهُ بِأَعْصُرِ عَلَى ... الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ
 
إذًا هذا هو المرفوع الصريح والمرفوع حكمًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (أَوْ إِلى الصَّحَابِيِّ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإِسْلاَمِ، وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ في الأَصَحِّ)}.
يقول: (أَوْ إِلى الصَّحَابِيِّ كَذَلِكَ، وَهُوَ)، يريد الآن أن يُبين من هو الصحابي؟
قال: (وَهُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإِسْلاَمِ)، لاحظ "لقي" ولم يقل: وهو من رأى النبي ، لماذا لقي أدق؟، لأنَّ من الصحابة من كانوا أَكِفَّاء لا يبصرون، فقال: من لقيَ؟ واللقى عام.
ولم يشترط ابن حجر -رحمه الله- بهذا أن تكون صحبته للنبي مدة طويلة، بل قال: (مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإِسْلاَمِ)، التعبير باللقي هذا عام، ويثبت هذا حتى بالوقت اليسير.
ولكن الصحابي الذي لزم النبي الزمن الطويل لن يكون مثل الصحابي الذي لَقِيَ النبي مرة أو مرتين، ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "كل من صحب النبي سنةً أو شهرًا أو يومًا أو ساعةً فهو من أصحابه، وله من الصُحبة على قدر ما صَحبه"، هذا من كلام الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
قال: (هُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ مُؤْمِنًا بِهِ)، إذًا هذا شرط من الشروط، أن يكون حين لقي النبي كان مؤمنًا بالنبي .
قال: (وَمَاتَ عَلَى الإِسْلاَمِ)، هذا الشرط الثاني، إذًا لو أنَّ رجلًا لقي النبي ثم بعد ذلك ارتد ومات على الردة، هل يكون صحابيًا؟
الجواب: لا يكون صحابيًا، بل لا بد أن يكون قد مات على الإسلام.
قال: (وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ في الأَصَحِّ)، على الأصح هنا يشير ابن حجر -رحمه الله- إلى أن هذه المسألة فيها خلاف، وابن حجر -رحمه الله- يختار أنه حتى لو ارتد عن الإسلام في حياتهِ ثم عاد ومات على الإسلام، فإنه يبقى صحابيًا، مثل: الأشعث بن قيس الكندي.
مثال: لو أنَّ رجلًا لقيَ النبي مؤمنًا به، ثم ارتدَّ الرجل بعد موت النبي ، ثم بعد زمنٍ عاد إلى الإسلام مرة أخرى ومات عليه، فهذا صحابي على ما اختاره ابن حجر –رحمه الله- ومن الأمثلة على ذلك -كما ذكرنا- الأشعث بن قيس الكِندي.
{أحسن الله إليكم.
قال –رحمه الله تعالى-: (أَوْ إِلى التَّابِعِيِّ، وَهُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ كَذِلَكَ)}.
إذًا الإسناد أيضًا قد يصل إلى النبي فيكون من قبيل المرفوع، وقد يكون هذا الإسناد إلى الصحابي، وقد يكون إلى التابعي، من هو التابعي؟ قال: (التَّابِعِيِّ، وَهُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ كَذِلَكَ).
(مَنْ لَقِيَ)، لاحظ؛ لأنَّ العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- منهم من قال: إنَّ التابعي -كما ذكر ابن حجر، وهو قول جمهور أهل الحديث- هو: من لقي الصحابي، وسواء لقي صحابيًا واحدًا أو لقيَ صحابيين مثلًا، فقد أصبح تابعيًا، ولكن الخطيب البغدادي -رحمه الله- يرى أن التابعي هو من صَحِب الصحابي، الصُّحبة أطولُ من مجرد اللُقي.
ولكن الصواب هو ما عليه جمهور المحدثين، وهو اختيار ابن حجر، أنَّ مَنْ لَقِيَ صحابيًا فأكثر، يكون تابعيًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (فالأَوَّلُ: المَرْفُوعُ. والثَّانِي: المَوْقُوفُ. والثَّالِثُ: المَقْطُوعُ، وَمَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ فِيهِ مِثْلُهُ، وَيُقَالُ لِلأَخِيرَيْنِ: الأَثَرُ)}.
قال: (فالأَوَّلُ: المَرْفُوعُ)، إذا وصل الإسناد إلى النبي ، سواءً كان المتن من كلام النبي ، أو من فعل النبي ، أو من تقريره على فعل من الأفعال، أو على قول من الأقوال، فهذا يكون مرفوعًا، أو يسميه العلماء: المرفوع.
أمَّا الموقوف فهو المتن الذي يوصل إليه الإسناد، ويكون هذا المتن من قول الصحابي، أو من فعله، أو من تقريره.
والثالث قال: (المَقْطُوعُ)، المقطوع الذي ينتهي إلى التابعي، إمَّا من قوله، أو فعله، أو تقريره، أو ما شابه ذلك.
قال: (وَمَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ فِيهِ مِثْلُهُ)، يعني قد يقال له أيضًا: هو المقطوع.
وننبه هنا على مسائل:
إطلاق كلمة "المقطوع" قليلة أو نادرة جدًا في ألفاظ أو في كلام أئمة الحديث النقاد، أن يقولون هذا مقطوع يعني: من كلام التابعي، وأكثر ما يقولون: هذا موقوفٌ على فلان، فيسمونه موقوفًا، ولكنهم يُقيدون هذا اللفظ "موقوف" بتسمية هذا الرجل الذي قد وقف عليه هذا الكلام، أو قال هذا الكلام، فيقولون: هذا موقوفٌ على الحسن البصري، أو موقوفٌ على سعيد بن المسيب مثلًا، وهو تابعي، فيقولون: هذا موقوف عليه، ولا يقولون: هو مقطوع.
نعم الذي استقر عليه الاصطلاح أنَّ قول التابعي يسمى: مقطوعًا، ولكن لو قيل: موقوفًا فلا حرج، بشرط أن يُقيد باسم هذا التابعي، فيقال: موقوفٌ على فلان.
إذًا الأقسام هي:
-      أن يكون مرفوعًا إلى النبي كما أسلفنا.
-      أن يكون موقوفًا، وهو الموقوف على الصحابي.
-      أن يكون مقطوعًا، وهو المقطوع على التابعي.
قال: (وَيُقَالُ لِلأَخِيرَيْنِ: الأَثَرُ)، يعني قول الصحابي وقول التابعي يقال لهما: الأثر، هذا الذي استقر عليه اصطلاح المتأخرين، وإلا فالأثر قد يقال أيضًا للأحاديث المرفوعة، وهذا مُشتهر في كلام الأئمة، وفي كلام العلماء، فيقولون مثلاً: اتبع الأثر، عليك بالأثر، وما إلى ذلك، وهم يريدون بهذا ما صحَّ عن النبي ، وما صحَّ عن الصحابة والتابعين. أي أنهم يقصدون العموم، ولا يُقيدون هذا بالموقوف على الصحابي أو المقطوع الذي هو ثابت عن التابعي، وإنما هذا ما استقر عليه الاصطلاح.
ولكن لو قيل عن الجميع: "الأثر" فلا حرج؛ لأنَّ هذا موجود في كثير من كلام أئمتنا -رحمة الله عليهم تعالى-.
وقد قيل أو جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه كان كثيرًا ما يُنشد ويقول:
دين النبيِّ محمدٍ أخبارُ ... نعمَ المطيةُ للفتى آثارُ!
لَا تَرْغَبَنَّ عَنِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ ... فَالرَّأْيُ لَيْلٌ وَالْحَدِيثُ نَهَارُ
وَلَرُبَّمَا جَهِلَ الْفَتَى أَثَرَ الْهُدَى ... وَالشَّمْسُ بَازِغَةٌ لَهَا أَنْوَارُ
 
فقد يُطلق على الثابت عن النبي أنه أثر أيضًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَالمُسْنَدُ مَرْفُوعُ صَحَابِيٍّ بِسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الاتِّصَالُ، فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُ فَإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ أَوْ إِلى إِمَامٍ ذِي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كَشُعْبَةَ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَالمُسْنَدُ مَرْفُوعُ صَحَابِيٍّ بِسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الاتِّصَالُ)، ننظر إلى تعريف ابن حجر، ابن حجر يرى أنَّ لفظ المسند يطلق على ماذا؟ قال ابن حجر: (وَالمُسْنَدُ مَرْفُوعُ صَحَابِيٍّ)، أولًا يكون ماذا؟ يكون مرفوعًا.
وقال بعدها: (بسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الاتِّصَالُ)، ويكون الإسناد متصلاً، فابن حجر يرى أنه إذا كان مرفوعًا والإسناد متصلاً فهو حينئذٍ يسمى: المسند، وإذا اختلَّ أحد هذين الشرطين؛ فإنه لا يسمى المسند. هذا ما يظهر من كلام ابن حجر.
وابن حجر -رحمه الله- يقول: (وَالمُسْنَدُ مَرْفُوعُ صَحَابِيٍّ بِسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الاتِّصَالُ)، ظاهره، يعني أنه قد يكون فيه انقطاع خفي، لا يضر هذا الانقطاع الخفي عندنا في هذه القضية، فيسمى المسند.
المهم عندنا أن يكون ظاهر الاتصال، كأن هذا ما يذهب إليه ابن حجر -رحمه الله تعالى.
وابن حجر –رحمه الله- ذكر في شرحه لهذا الكتاب (نزهة النظر) ثلاث تعريفات للمسند، فذكر التعريف الأول وهو: أن المسند بمعنى المرفوع فقط، ولم يتحدث عن قضية الاتصال -متصل أم غير متصل- ليس لنا شأن بذلك، ما دام أنه مرفوع؛ فحينئذٍ يسمى مسندًا، وذكر أنَّ هذا ما ذهب إليه الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-.
التعريف الثاني الذي ذكره ابن حجر: أنَّ المسند هو كل ما اتصل إسنادهُ، سواء كان مرفوعًا أم لا. لاحظ، فالتعريف الثاني الذي ذكره ابن حجر أنَّ المسند هو المتصل سواء كان مرفوعًا، أو موقوفًا، أو مقطوعًا، لا يهمنا هذا الشيء في هذه القضية، وإنما المسند هو كل ما اتصل إسناده. هذا التعريف الثاني.
التعريف الثالث الذي ذكره ابن حجر -رحمه الله- هو ما جاء عندنا هنا في النخبة: أنَّ المسند هو مرفوع الصحابي، وإسناده ظاهره الاتصال، وهذا في الحقيقة هو تعريف الإمام الحاكم -رحمه الله- ولكن أتى به ابن حجر بصياغة أخرى، وهو الذي اختاره ابن حجر -رحمه الله تعالى- ها هنا، إذًا المسند هنا هو مرفوع الصحابي بسندٍ ظاهره الاتصال.
قال ابن حجر -رحمه الله-: (فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُ)، يعني: قلّ عدد الرجال في الإسناد، أي أصبح العدد قليلًا.
قال: (فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُ فَإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلى النَّبِيِّ ) هذا الإسناد الذي فيه رجال عددهم قليل، إما أن ينتهي إلى النبي ، وإما أن ينتهي (إِلى إِمَامٍ ذِي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كَشُعْبَةَ) أي: يقصد شعبة بن الحجاج -رحمه الله- أمير المؤمنين في الحديث.
وهذا الإسناد الذي قلَّ عدد رجاله، إمَّا أن ينتهي إلى النبي ، وإمَّا أن ينتهي إلى إمامٍ ذي صفةٍ عليةٍ كما ذكرها ها هنا.
{قال -رحمه الله-: (فالأَوَّلُ: العُلُوُّ المُطْلَقُ، والثَّانِي: النِّسْبِيُّ)}.
 العلو المطلق مثال: الإمام أحمد -رحمه الله- بينه وبين النبي في كثير من الأحوال أربعة رجال، قد ينزل الإسناد في بعض الأحاديث، فيكون بينه وبين النبي خمسة أو ستة، وقد يكون الإسناد عاليًا فيكون بينه وبين النبي ثلاثة.
إذا قلّ العدد قلنا: هذا إسناده عالٍ، وإذا كثر العدد صار الإسناد نازلًا، واضح؟ هذه قضية الفرق بين العالي والنازل.
كيف نستطيع أن نضبط هذه القضية؟
نقول: والله فلان إسناده من الأسانيد العالية، وفلان من الأسانيد النازلة، نقول: نقارن هذا بالغالب في رواية أهل طبقته، نظرنا إلى فلان من أهل هذه الطبقة، غالب أهل هذه الطبقة يكون بينه وبين النبي خمس رجال مثلًا، بينما هذا بينه وبين النبي في هذا الحديث ثلاثة رجال مثلًا، إذًا نستطيع أن نقول: إسناده عالٍ.
كيف قلنا: إنه عال؟
لأننا قارناه مع أسانيد أهل طبقته، هل هذا واضح؟
وهذا العلو إمَّا أن يكون بالنظر إلى آخر الإسناد وهو إلى النبي ، فحينئذٍ نقول: إسناد عال علوًا مطلقًا.
ما معنى مطلق؟
مُطلق؛ لأننا نظرنا إلى أنه عال بالنسبة إلى النظر للإسناد من هذا الإمام إلى النبي آخر الإسناد، فنقول: عال علوًا مطلقًا، أو نازل نزولاً مطلقًا مثلًا، جيد؟
لكن لو كان أثناء الإسناد رجل من أئمة الحديث مثل شعبة بن الحجاج مثلًا، فنقول: فلان بينه وبين النبي خمسة رجال، فالإسناد ليس بإسناد عالٍ مثلًا، ولكن بينه وبين شعبة أقل مما بين أهل الرواية في عصرهِ وبين شعبة، فنقول: عالٍ علوًا نسبيًا بالنظر إلى شعبة بن الحجاج هذا الإمام، وليس بالنظر إلى آخر الإسناد وهو النبي .
إذًا قد يكون بين شعبة وبين النبي عدد من الرجال، ولا يكون عال من هذه الحيثية، ولكن بينه وبين شعبة هو من أعلى أهل زمنه، واضح؟
كأن يأتي عالم من علماء هذا العصر مثلًا، فنقول: فلان بينهُ وبين هذا العالم رجل واحد، وأنا بيني وبين هذا العالم ثلاثة رجال، وفلان بينا وبينه ثلاثة رجال، فنقول: هذا إسناده قد يروي حديثًا من أحاديث إلى النبي ، لكن والإسناد ليس بإسنادٍ عالٍ، لكن بينه وبين ذاك بالنسبة إلى ذلك العالم إسناده عال، -بالنسبة إلى ذلك- فهو يسمونه علو نسبي، يسمونه العلماء علوٌ نسبي، أو يسمونه علوًا نسبيًا.
يعني وبحث الأئمة –رحمة الله تعالى عليهم- مع الأسانيد العالية لهم فيه –يعني لهم في هذا الباب- أخبار كثيرة، يسافرون، ويرحلون، ويقصدون العلماء في شتى البلدان... وما إلى ذلك. حتى بحثًا عن الإسناد العالي.
وقد قيل ليحيي بن معين –رحمه الله- عند موته، ماذا تشتهي؟
قال: بيتٌ خالٍ وإسنادٌ عالٍ، هذا ما يشتهونه –رحمة الله عليهم-.
{أحسن الله إليكم.
قال –رحمه الله تعالى-: (وَفِيهِ: المُوَافَقَةُ، وَهِيَ الوُصُولُ إِلى شَيْخِ أَحَدِ المُصَنِّفِينَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ)}.
نعم ذكر المؤلف -رحمه الله- قال: (فالأَوَّلُ: العُلُوُّ المُطْلَقُ، والثَّانِي: النِّسْبِيُّ)، بيناها.
قال: (وَفِيهِ: المُوَافَقَةُ)، الآن يريد ابن حجر -رحمه الله- أن يتحدث عن أقسام العلو النسبي ليس العلو المطلق، يريد يتكلم الآن عن أقسام العلو النسبي، بالنسبة إلى شيخ، أو بالنسبة إلى مصنف أو عالم، أو ما شابه ذلك.
قال: إن هذا العلو النسبي على أقسامٍ أربعة، قال: (وَفِيهِ: المُوَافَقَةُ)، هو ذكر هذه الإقسام: [الموافقة، والبدل، والمصافحة، والمساواة]، بدأ -رحمه الله- الآن بالموافقة، وهذه المصطلحات الغالب أنها ظهرت في القرن الرابع، في القرن الرابع هذا هو الغالب.
قال: (وَفِيهِ: المُوَافَقَةُ)، هذا القسم الأول من أقسام العلو النسبي.
قال: (وَفِيهِ: المُوَافَقَةُ، وَهِيَ الوُصُولُ إِلى شَيْخِ أَحَدِ المُصَنِّفِينَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ)، البخاري -رحمه الله- يروي في صحيحهِ حديثًا عن قتيبة بن سعيد مثلًا، وأنا أروي هذا الحديث بإسناد إلى النبي بإسنادٍ لا أَمْر فيه على البخاري، وإنما إسنادي يصل إلى شيخ البخاري، وهو قتيبة بن سعيد، فأصل إلى قتيبة بن سعيد، ثم بعد ذلك بإسناد قتيبة إلى النبي .
ما مررت بالبخاري بإسنادي، أي لا يوجد البخاري في إسنادي، وإنما مباشرة إسناد يُحدث عن فلان عن فلان عن فلان؛ حتى أصل إلى شيخ البخاري -شيخ المصنف- هنا هذا يُسمى الموافقة، وصلت إلى شيخ أحد المصنفين، أحد المصنفين من هو؟ البخاري، وصلت إلى شيخ البخاري، هذه تسمى الموافقة.
وهناك مؤلفات كتبها العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- في هذا الباب، وهو باب الموافقة، فمن ذلك الموافقات لابن عساكر، وقد وصفه السخاوي -رحمه الله تعالى- بأنه كتابٌ ضخم، يدل على تبحر ابن عساكر -رحمه الله تعالى- بهذا الفن.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (والبَدَلُ، وَهُوَ الوُصُولُ إِلى شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَلِكَ)}.
هذا هو النوع الثاني من أنواع العلو النسبي، النوع الأول الموافقة، العلو النسبي ها! النوع الأول الموافقة، النوع الثاني قال: (وَفِيهِ: البَدَلُ)، البدل كيف؟ قال: (وَهُوَ الوُصُولُ إِلى شَيْخِ شَيْخِهِ)، شيخ قتيبة بن سعيد، أروي حديثًا بإسنادي إلى النبي ولا أَمْر بهذا الإسناد لا بالبخاري ولا بشيخ البخاري قتيبة بن سعيد، وإنما بشيخ قتيبة بن سعيد هذا يسمونه البدل، وهو نوع من التفنن عند العلماء، نوع من التفنن يذكرونه ويحرصون عليه ويهتمون به.
ولذلك هذا هو النوع الثاني من أنواع العلو النسبي، وفيه مؤلفات: [الأربعون الأبدال] لابن عساكر، وأيضًا [الأبدال] لأبي الربيع بن سالم الأندلسي.. وغير ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (المُسَاوَاةُ، وَهِيَ اسْتِوَاءُ عَدَدِ الإِسْنَادِ مِنَ الرَّاوِي إِلى آخِرِهِ مَعَ إِسْنَادِ أَحَدِ المُصَنِّفِينَ)}.
هذا هو القسم ماذا؟ الثالث من أقسام أو من أنواع العلو النسبي، من أنواع العلو النسبي، ما هو؟ المساواة، قال: (وَهِيَ اسْتِوَاءُ عَدَدِ الإِسْنَادِ مِنَ الرَّاوِي إِلى آخِرِهِ مَعَ إِسْنَادِ أَحَدِ المُصَنِّفِينَ).
 يعني يساوي إسنادي إلى النبي ما بين البخاري والنبي ، مثلًا أنا عشت في زمن متقدم، عشت في زمن متقدم من طبقة مثلًا تلاميذ البخاري أو طبقة تلاميذ تلاميذ البخاري، ووجدتُ أو أنا أروي بإسنادٍ من الأسانيد العالية إلى النبي مثلًا، وهذا الإسناد بيني وبين النبي ستة رجال، وإذا نظرنا إلى الإمام البخاري -رحمه الله- وجدنا أن بين البخاري وبين النبي في ذات الحديث مثلًا ستة رجال، فهذا يسمونه ماذا؟ يسمونه العلماء المساواة، يسمونه العلماء المساواة وهي نوع مثل ما ذكرنا من أنواع العلو النسبي، وقد أَلّف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- أيضًا فيها مؤلفات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (والمُصَافَحَةُ وَهِيَ الاسْتِوَاءُ مَعَ تِلْمِيذِ ذَلِكَ المُصَنِّفِ)}.
قال: (وَفِيهِ: المُصَافَحَةُ وَهِيَ الاسْتِوَاءُ مَعَ تِلْمِيذِ ذَلِكَ المُصَنِّفِ)، كيف؟ يعني نفس الفكرة التي ذكرناها في قضية المساواة، لكن بدلًا من أن يُساوي عدد الرجال بيني وبين النبي ما بين البخاري وبين النبي ، لا، لا أساوي البخاري وإنما أساوي تلميذ البخاري، واضح؟
أساوي تلميذ البخاري، يعني أحد تلاميذ البخاري يروي عن البخاري إلى النبي ، هذا التلميذ من تلاميذ البخاري بينه وبين مثلًا مسلم بن الحجاج كمثال أو غير مسلم بن الحجاج مثلًا الترمذي مثلًا بينه وبين النبي سبعة رجال مثلًا، أو ستة رجال، أو خمسة رجال، وأنا أساوي هذا التلميذ فيما بيني وبين النبي .
قال: (وَفِيهِ: المُصَافَحَةُ)، أو في بعض النُسخ (وَالمُصَافَحَةُ).
(وَهِيَ الاسْتِوَاءُ مَعَ تِلْمِيذِ ذَلِكَ المُصَنِّفِ)، لماذا سُميت مصافحة؟ أنا ساويتُ تلميذ الإمام فكأني لَقيت هذا الإمام وهو البخاري وصافحته، ومن ذلك سُميت ماذا؟ سُميت المصافحة، إلى الآن المصافحة هي النوع الرابع من أنواع العلو النسبي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَيُقَابِلُ العُلُوَّ بِأَقْسَامِهِ: النُّـزُولُ فَإِنْ تَشَارَكَ الرَّاوِي وَمَنْ رَوَى عَنْهُ في السِّنِّ واللُّقِيِّ فَهُوَ: الأَقْرَانُ)}.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: (وَيُقَابِلُ العُلُوَّ بِأَقْسَامِهِ)، عندك في النُسخة (النُّـزُولُ)، وهذا هو المعنى، يعني أن كل قسم من أقسام العلو يُقابله قسم من أقسام ماذا؟ النزول، فهناك علو مطلق وعلو نسبي، وهناك نزول مطلق وهناك نزول نسبي، فالأنواع هي الأنواع التي سبق أن ذكرناها في العلو تُذكر أيضًا في قضية ماذا؟ قضية النزول.
قال الحافظُ ابن حجر –رحمه الله- قال: (فَإِنْ تَشَارَكَ الرَّاوِي وَمَنْ رَوَى عَنْهُ في السِّنِّ واللُّقِيِّ فَهُوَ: الأَقْرَانُ).
كيف يكون هذا؟
قال -لاحظ العبارة-: (فَإِنْ تَشَارَكَ الرَّاوِي وَمَنْ رَوَى عَنْهُ)، أنا رويت حديثًا من الأحاديث عن رجلٍ من الرجال، جيد! فهذا الرجل شيخي في هذا الحديث أنا تشاركت معه في السن، السن متقارب، ليس معنى هذا أن يكون السن بالضبط مستوي، وإنما المعنى أن السن متقارب، وتشاركتُ مع هذا الشيخ لي في هذا الحديث أيضًا في قضية ماذا؟ في قضية اللُّقِيِّ، اللُّقِيِّ هو الأخذ عن المشايخ.
يعني نحنُ أخذنا من مشايخَ في طبقةٍ واحدة، في طبقة واحدة، فنحن نكون ماذا؟ نكون أقران، نحن أقران، لكني رويتُ عنه في هذا الحديث، واضح هذه القضية؟
هذا هو المقصود، والعلماء –رحمة الله تعالى عليهم- أيضًا اعتنوا بهذا الباب، أبو الشيخ الأصبهاني –رحمه الله- له كتاب اسمه [ذِكر الأقران ورواياتهم] وللخطيب أيضًا –رحمه الله- في هذا الكتاب، وعبد الغني بن سعيد الأزدي له كتاب في رواية الصحابة عن بعضهم البعض، فهذه مهم.
طيب؛ ما الفائدة أن يُذكر هذا في المصطلح؟ ما الفائدة أن أعرف أنا أن هذا الراوي وشيخه في الرواية أنهم أقران؟ ما الفائدة أن أعرف هذا؟
يقول العلماء من أهم الفوائد لهذا الباب ولذلك يُذكر في المصطلح "دفع توهم الخطأ"؛ لأنه قد يأتي قارئ وينظر في الإسناد ويريد يحكم عليه، فيرى فلان يروي عن فلان، وهذا والشيخ أقران، فيقول هذا خطأ؛ لأن هؤلاء أقران كيف يروي عن قرينهِ؟! فأتى العلماء بباب يتحدثون فيه عن رواية الأقران أنهم قد يروون عن بعضهم، يتشاركون في السن، ويتشاركون في لُقي المشايخ ومع ذلك يروون بعضهم عن بعضهم، فهذا ما فيه إشكال؛ حتى يُدفع توهم الخطأ؛ حتى لا يقول إنسان يتوهم أن هناك خطأ في هذه الرواية، واضح؟ هذا هي الفائدة من هذا.
{أحسن الله إليكم.
قال –رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ رَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الآخَرِ: فَالمُدَبَّجُ)}.
نعم، يعني هؤلاء الأقران مرةً، مثلًا محمد وعبد الله أقران، اشتركوا في السن وفي لُقي المشايخ، جيد؟ مرةً من المرات محمد يروي عن عبد الله، هذه صارت ماذا؟ رواية أقران، لو أيضًا وجدنا أن عبد الله روى عن محمد أيضًا، فمحمد روى عن عبد الله، وعبد الله روى عن محمد أيضًا، نقول: هذا من باب ماذا؟ المدبج، المقصود ها هنا، يعني كل واحد منهم شيخ للآخر، واضح؟
ففي بعض الأحاديث تجد محمد عن عبد الله، وفي بعضها تجد أن عبد الله يروي عن ماذا؟ عن محمد أيضًا.
فما الفائدة طيب من ذكر هذا؟
الفائدة أن الناظر في الأسانيد قد يجد في إسناد من الأسانيد محمد قال: حدثنا عبد الله، وفي إسنادٍ آخر يجد أنَّ عبد الله قال: حدثنا محمد، فقد يأتي ويقول فيه خطأ، أحد الإسنادين خطأ، كيف الشيخ هنا أصبح التلميذ، والتلميذ هناك مثلًا أصبح هو الشيخ، فيتوهم أن هناك خطأ؟
العلماء -رحمة الله عليهم- صنفوا في هذا مصنفات المدبج؛ حتى تعلم أنه ليس هناك خطأ، بل هذا يروي عن هذا، وذاك أيضًا يروي عن الآخر، فكلٌ منهم يروي عن الآخر.
ولذلك يعني يشترط العلماء شرطًا، بعضهم يشترط هذا في رواية يعني يشترطون في المدبج أن كل واحد شيخ للآخر يشترطون فيهم أن يكونا قرينين، وهذا الشرط نصّ عليه الحاكم -رحمه الله تعالى- وابن الصلاح أيضًا، واضح؟
أيضًا العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- كما قلت اعتنوا بهذا الباب، وصنفوا فيه المصنفات لدفع توهم الخطأ، وهي قضية مهمة في هذا الباب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ رَوَى عَمَّنْ دُونَهُ: فالأَكَابِرُ عَنِ الأَصَاغِرِ، وَمِنْهُ: الآبَاءُ عَنِ الأَبْنَاءِ)}.
قال: (وَإِنْ رَوَى) يعني: الراوي، (عَمَّنْ دُونَهُ: فالأَكَابِرُ عَنِ الأَصَاغِرِ، وَمِنْهُ: الآبَاءُ عَنِ الأَبْنَاءِ)، هذا قد يحصل، الكبير يروي عمن؟ عن الصغير، الأب يروي عن الابن.
الحافظ ابن حجر -رحمه الله- والعلماء الذين صنفوا في المصطلح يذكرون هذا؟ لدافع توهم الخطأ، كما ذكرنا في القضايا السابقة، أو في المسائل السابقة، حتى لا يأتي ناظر إلى الإسناد يجد أن راويًا من الرواة يروي عن ابنه، أو يروي عن تلميذه، فيقول: هناك خطأ في الإسناد، لا، يقول العلماء هناك رواية أو هناك باب يسمونه: رواية الأكابر عن الأصاغر، ولابن حجر كتاب في هذا سماهُ: "نزهة السامعين برواية الصحابة عن التابعين"، وهناك حديث يروي فيه الصحابي عن التابعي وهذا كتاب مطبوع، هذا كتاب مطبوع وهو مختضر من كتاب لخطيب البغدادي –رحمه الله-.
من الأمثلة على ذلك: روى الترمذي وأبو داود وابن ماجة من حديثِ وائل بن داود عن ابنه، يروي عن ابنه عن الزهري عن أنس، هذا من رواية الآباء عن الأبناء.
رواية الصحابة عن التابعين أيضًا هي من رواية الأكابر عن الأصاغر، مثل رواية سهل بن سعد عن مروان بن الحكم، وما إلى ذلك.
فهذا مثل ما ذكرنا الفائدة فيه أن يُدفع توهم الخطأ، وهذا الحقيقة مفيدة في حتى غير هذا العلم، حتى في مثلًا العلوم الأخرى أحيانًا يجد بعض طلبة العلم مثلًا أحد العلماء متأخر الوفاة ينقل فائدة من الفوائد، وهذه الفوائد ذكرها أحد العلماء مات قبله بسنوات مثلًا، فيظن أن الذي قد تأخرت وفاته نقل هذه الفائدة من الذي قد تقدمت وفاته، ويغفل عن هذا الجانب، إذْ قد ينقل المتقدم الذي قد تقدمت وفاته أو الكبير قد ينقل عن الصغير، وهذا يحصل، يعني يحصل بكثرة في شتى العلوم.
مثال على ذلك: أحيانًا يذكر بعضهم أن يجد فائدة مثلًا في شرح ابن بطال -رحمه الله- علي بن خلف، المتوفى عام أربعمائة وتسع وأربعين من شُراح البخاري، يجد عنده فائدة، وهذه الفائدة بنصها موجودة عند ابن عبد البر، وذكرها ابن عبد البر –رحمه الله- في التمهيد، إذًا ابن عبد البر –رحمه الله تعالى- مات بعد ذلك بسنوات، بنحو خمسة عشر سنة، فيظن أن ابن عبد البر هو الذي نقل الفائدة عن ابن بطال، وابن عبد البر –رحمه الله- قد عُمِّرَ وطال عمره، ولكن الحقيقة أن ابن بطال هو الذي نقل هذه الفائدة من ابن عبد البر -رحمه الله.
فالاعتناء بهذا الجانب والتدقيق فيه والتأني مهم جدًا، ولذلك ألف العلماء في هذا رواية (الأكابر عن الأصاغر) و (الآباء عن الأبناء) حتى ينتبه الناظر في الأسانيد، وحتى لا يقع في الخطأ والزَلل حينما ينظر إلى روايةٍ من هذه الروايات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَفي عَكْسِهِ كَثْرَةٌ، وَمِنْهُ: مَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ)}.
يعني (في عَكْسِهِ كَثْرَةٌ) رواية الابن عن أبيه والصغير عن الكبير هذا فيه كثرة، لماذا فيه كثرة؟ لأنه هو الأصل، هذا هو الأصل أن الابن يروي عن أبيه، وأن الصغير يروي عن الكبير هذا هو الأصل، فلذلك فيه كثرة.
وقال: (وَمِنْهُ: مَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ)، هذا أيضًا فيه مؤلفات، عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، باز بن حكيم عن أبيه عن جده... وما إلى ذلك.
والحافظ العلائي -رحمه الله تعالى- له كتاب في هذا الباب، وقد رتبه ابن حجر -رحمه الله تعالى- في كتابه [الوشي المعلم فيمن روى عن أبيه عن جده]، وهناك خلاف كبير بين العلماء في بعض هؤلاء، هل المقصود بجده جد الأب أو هو جد الابن؟ وفي هذه المصنفات يعتني العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- ببيان ذلك، بيان من المقصود بجده ها هنا.
وقد يختلف؛ يكون الأصل في رواية فلان عن أبيه عن جده أن المقصود بجده جد الأب، والأصل في الأخرى أن المقصود بجده جد الراوي الأول... وما إلى ذلك.
ومن أواخر من ألّف في هذا التلميذ ابن حجر وهو ابن قطلبغا الحنفي –رحمه الله تعالى- وكتابه هذا مطبوع.
{أحسن الله إليكم، قال –رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ عَنْ شَيْخٍ وَتَقَدَّمَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ: السَّابِقُ وَاللاَّحِقُ)}.
نعم قد يشترك اثنان من الرواة في الرواية عن شيخٍ من الشيوخ، ويموت الراوي الأول، جيد؟ يموت الراوي الأول، ثم الراوي الثاني تتأخر وفاتهُ ثم يموت بعد ذلك، فيسمون روايتهم السابق واللاحق.
لماذا يعتنون بهذا الباب؟
لأنه قد يأتي شيخ من الشيوخ في شبابهِ يروي عنه شيخٌ له، شيخ له وهذا الشيخ كبير في السن يروي عن تلميذه، جيد؟ ويموت هذا الشيخ الذي قد روى عن تلميذه، فهو في هذا الحديث، في هذا الإسناد يعتبر استفاد، أو يعتبر تلميذه هذا هو شيخٌ له في هذا الإسناد، فيموت هذا الشيخ الكبير الذي قد روى عن تلميذه، ثم يطول عمر التلميذ ويُحدث حينما تكبر سنه، ثم بعد ذلك يموت ويبقى هذا التلميذ الذي حدّث عنه الآخر السنوات الطويلة، فيأتي من يستغرب يقول: كيف هذا الحديث يرويه اثنين! واحد مات عام كذا، وواحد مات عام كذا، فيتوهم أن هناك خطأ.
ومن أغرب ما جاء في ذلك: وقد ذكره ابن حجر –رحمه الله- يقول: من أكثر ما وقفنا عليه في ذلك بين الراويين أن يكون ما بينهما في الوفاة مائة وخمسين سنة.
المثال الذي ذكره ابن حجر –رحمه الله- ما هو؟
الحافظ السلفي –رحمه الله تعالى- روى عنه شيخهُ أبو علي البرداني، أبو علي البرداني شيخ الحافظ السلفي روى عنه حديثًا من الأحاديث، مات أبو علي البرداني –رحمه الله- على رأس عام الخمسمائة، جيد؟ هذا الشيخ مات والحافظ السلفي في شبابهِ، لكنه قد روى عن الحافظ السلفي هذا الحديث، مات على رأس الخمسمائة.
الحاف السلفي –رحمه الله- قد عُمر وطال عمرهُ، حتى في أواخر حياته حدّث بذات الحديث الذي رواه عنه شيخه، حدّث به من؟ حدّث به أحد أسباطه ابن بنته وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي.
يعني الحافظ السلفي –لاحظ- شيخه أبو علي البرداني حدّث عنه ومات أبو علي البرداني على رأس خمسمائة، طال عُمر الحافظ السلفي؛ حتى حدّث بهذا سبطه أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي، مات الحافظ السلفي طال عمر أبو القاسم مكي -رحمه الله- حتى مات –رحمه الله- عام نحو عام خمسين وستمائة، لاحظ بعد مائة وخمسين سنة من موت من؟ أبي علي البرداني -رحمه الله-.
فقد يأتي ويقول: هذا الحديث خطأ، كيف واحد يعني كلهم يروون عن ذات الشيخ واحد مات عام خمسمائة وواحد مات عام ستمائة وخمسين! ويغفل عن هذا الجانب وهو جانب ماذا؟ السابق واللاحق الذي اعتنى العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- في بيانه ها هنا.
الشاهد من هذا: أن الناظر في الأسانيد يتأنى، ولا يستعجل، ولا يبادر في إطلاق يعني في توهيم العلماء أو توهيم الرواة أو تخطئتهم أو ما شابه ذلك، فإن الحديث إذا لم تُجمع طُرقه لا يتبين غلطه، كما ذكر هذا العلماء -رحمة الله تعالى عليهم-.
ففي أي حديث من الأحاديث أنت بحاجة إلى جمع الطرق، والنظر في الرجال، والنظر في سياق المتون في هذه الأسانيد، والمقارنة بينها، والموازنة، ومعرفة القرائن، والتأني..
بعض العلماء قد يمكث على حديث واحد يدرسه الأشهر الطويلة، يبحث في حديث واحد فقط، وينظر في حديثٍ واحد فقط من الأحاديث المُشكلة، حديث: «إذا بلغ الماء قُلَّتينِ لم يحمل الخَبَث»، حديث طال خلاف أهل الحديث -رحمة الله تعالى عليهم- فيه.
وابن القيم -رحمه الله- أفاض جدًا في الكلام على هذا الحديث، يأتي بعض الطلبة يبادر مباشرة إمَّا بالقول أن الحديث مضطرب أو بخلاف ذلك، دون نظر وتأنٍ، نعم إذا كان مُقلدًا، يقول: العالم فلان قال: كذا، وفلان قال: كذا، هذا لا بأس به، ولكن أن يبادر هو إلى الحُكم هكذا بسرعة، ينظر في إسناد أو إسنادين لهذا الحديث، ثم يبادر بالحكم، هذا فيه إشكال في الحقيقة كبير.
لذلك لابد لطالب العلم في أمثال هذه الأبواب أن يتأنى، ولذلك ابن حجر -رحمه الله- ذكر رواية الأقران، وذكر رواية المدبج، رواية الأكابر عن الأصاغر، ومنه الآباء عن الأبناء، العكس رواية السابق واللاحق؛ كل هذا.. هذا يجعل الناظر في هذا العلم يتأنى، ويُعلمه التأني، ويعلمه ألا يبادر إلى توهيم الرواة وتوهيم العلماء وتخطئتهم، وإنما يتأنى وينظر ويوازن ويقارن، ومع ذلك يسأل ربه تبارك وتعالى أن يُلهمه التوفيق والسداد في أمثال هذه الأبواب.
فإن تصحيح الضعيف وتضعيف الصحيح بلا بينة خطأ كبير، يعني: وجرأة على أحاديث رسول الله .
لذلك علم الحديث يُعلم الطالب التأني، ويُعلم الطالب على ألا يقول في شيء بلا برهان، وبلا بينة، وبلا دليل واضح يستطيع من خلاله أن يُبرأ ذمته أمام الله -جلّ وعلا-.
فنحن نقول لطلاب العلم دائمًا في قضية النظر في الأحاديث: قم بنقل كلام الإمام المصنف، إذا كان الحديث في صحيح البخاري، فالبخاري صحيح، ومسلم الأصل فيه الصحة، في مثلًا جامع الترمذي أُنقل كلام الترمذي -رحمه الله- في سنن النسائي الأصل أنه صحيح ما لم يشير النسائي –رحمه الله- إلى علتهِ، هذا في الغالب، في سنن أبي داود، يُبين أبو داود –رحمه الله- ضعف الحديث إذا كان شديد الضعف، كما سبق أن أسلفنا.. وهكذا.
وأمَّا إذا أردت أن تنظر وتحكم فتأنى، وابحث، وأنظر، ودرّب نفسك، وسل الله -جلّ وعلا- التوفيق.
أسأل الله -جلّ وعلا- أن يُعلمني وإياك، وأن ينفعنا بما علمنا، ولعل في هذا القدر كفاية، هذا والله تعالى أعلم، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ.
وإلى هنا تكون قد انتهت حلقتنا، نستودعكم الله، ونلقاكم في حلقةٍ مقبلة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------------
[1] رواه البخاري (54)، ومسلم (1907).
[2] رواه البخاري (4837).
[3] رواه البخاري (2575)، ومسلم (1947).
[4] أخرجه ابنُ أبي شيبة (15807)، والطبراني في (الدعاء) (870)، والبيهقي (9620) موقوفًا على ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صححه الألباني في (حجة النبي) (120). وأخرجه ابن أبي شيبة (15812)، والبيهقي (9621) موقوفًا على ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صححه الألباني في (حجة النبي) (120)، وصحح إسناده ابن تيمية في (شرح العمدة - المناسك) (2/461)، والعراقي في (تخريج الإحياء) (1/424)، وابن حجر كما في (الفتوحات الربانية) لابن علان (4/401).
[5] أخرجه البخاري (5208)، ومسلم (1440).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ