بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فقد تقدم الكلام على المطلق، وذكرنا أنَّ حمل المطلق على المقيد باعتبار الحكم والسبب، لا يخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب، ففي هذه الحال يُحمل المطلق على المقيد بالاتفاق.
والحال الثانية: أن يتحد المطلق والمقيد في السبب دون الحكم، بحيث يتحدان سببًا ويختلفان حكما، ومن أمثلة ذلك: قول الله -عز وجل- في كفارة الظهار: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة:4-5]، فالسبب الموجب للكفارة هنا هو: الظهار في كلا الآيتين، ولكن الحكم مختلف.
ففي الأول، أعني الخصلة الأولى: تحرير الرقبة، وقد قيد تحرير الرقبة بأن يكون ذلك قبل المسيس، فقال -عز وجل-: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ ، وأمَّا الإطعام فلم يذكر أنه قبل المسيس، وحينئذ يُحمل المطلق على المقيد. ويقال: إنه لا يجوز له أن يمسها حتى يكفر، ولو كان التكفير بالإطعام.
الحال الثالثة من أحوال المطلق والمقيد: أن يتحدا في الحكم ويختلفا في السبب، كقوله تعالى في كفارة القتل: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء:92]، وقال -عز وجل- في كفارة الظهار: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ ، ولم يُقيد ذلك بالإيمان، ولذا فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يشترط في الرقبة التي تحرر أن تكون مُؤمنة، حملا للمطلق في كفارة الظهار على المقيد في كفارة القتل.
الحال الرابعة: أن يختلف المطلق والمقيد في السبب والحكم، فهنا لا يُحمل المطلق على المقيد بالإجماع.
ثم قال المؤلف: (وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالكَتَابِ، وَتَخْصِيصُ الكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالكِتَابِ، وَتَخْصِيصُ السُّنِّةِ بالسُّنَّة، وَتَخْصِيصُ النُّطْقِ: بِالْقِيَاسِ، وَنَعْنِي بِالنُّطْقِ: قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى، وَقَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ) .
لَمَّا فرغ المؤلف -رحمه الله- من ذكر المخصصات المتصلة، شرع في ذكر المخصصات المنفصلة، وهي التي تخصص العام، وتكون دليلا منفصلا عنه، وقد ذكر المؤلف -رحمه الله- ستة أنواع من المخصصات:
الأول: تخصيص القرآن بالقرآن، ولهذا قال: (وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالكَتَابِ) ، ومن أمثلة ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة:228]، أي أنَّ كل مُطلقة فإنها تتربص ثلاثة قروء، أي: تعتد ثلاثة قروء، وهذا عام في كل مطلقة، لكن قول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب:49]، فدلَ هذا على أنَّ المطلقة قبل الدخول أو الخلوة، لا عدة عليها، وعلى هذا يكون قول الله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ عامًا قد دخله التخصيص، فخرج بذلك المطلقة قبل الدخول أو الخلوة للآية الكريمة.
الثاني من المخصصات: (وَتَخْصِيصُ الكِتَابِ بِالسُّنَّةِ) ، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة:5]، فهذه الآية الكريمة مخصصة بالسنة، وهي أنَّ النبي ﷺ نهى عن قتل النساء والصبيان، فخرج من عموم قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ خرج من تلك النساء والصبيان ونحوهم.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكر المحرمات من النساء، قال: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ ، خصصت ذلك بقول النبي ﷺ: «لا تُنكَحُ المرأةُ على عمتِها، ولا العمةُ على بنتِ أخيها، ولا المرأةُ على خالتِها، ولا الخالةُ على بنتِ أختِها» .
المخصص الثالث: تخصيص السنة بالقرآن، بأن يأتي حديث عام ثم تأتي آية من كتاب الله -عز وجل- فتخصصه.
ومن أمثلة ذلك قول النبي ﷺ: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ» فقوله أمرت أن أقاتل الناس لفظ الناس عاما يسمن الجميع سواء دفع الجزية أم لم يدفعها لكن جاء القرآن بتخصيص ذلك فقال -عز وجل-: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:29].
الرابع: تخصيص السنة بالسنة، بأن يأتي حديث عام، ثم يأتي حديث يخصص هذا العموم، ومن أمثلة ذلك قول النبي ﷺ: «وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا» ، فهذا الحديث يدل على جواز الصلاة في كل بقعة من الأرض، ولكن السنة جاءت بتخصيص ذلك، وهو تحريم الصلاة في المقبرة والحمام، فقال النبي ﷺ: «الأرضُ كلُّها مسجدٌ إلا الحمامَ والمقبرةَ» .
الخامس: تخصيص بالقياس، بأن يأتي اللفظ العام في الكتاب أو السنة ثم يخصص بالقياس، ويمكن أن يمثل لذلك بقول الله -عز وجل-: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ ، حيث دلت الآية على عموم الجلد لكل زان وزانية أن يجلدا مائة جلدة، ثم جاء تخصيص هذا القرآن بإخراج الإماء من هذا العموم، وذلك في قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ﴾ ، فالتخصيص بالقياس هنا أن يقاس العبد الزاني على الأمة الزانية في تنصيف العذاب.
السادس: تخصيص السنة بالقياس، ومن أمثلة ذلك قول النبي ﷺ: «خُذُوا عَنِّي، فقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لهنَّ سَبِيلًا؛ الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، وَالْبِكْرُ بالبِكْرِ، البِكْرُ يُجْلَدُ وَيُنْفَى، وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ» ، فقوله: «وَالْبِكْرُ بالبِكْرِ» لفظ عام، لكن القرآن جاء بتخصيص الأمة بتنصيف العذاب في قوله -عز وجل-: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ .
هذا ما ذكره المؤلف -رحمه الله- من المخصصات، وهناك مخصصات أخرى ذكرها بعض الأصوليين منها: التخصيص بالإجماع، ومثلوا لذلك بقول الله -عز وجل-: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:29]، فدلت هذه الآية على أن كل ما يسمى جزية إذا دفعوه؛ فإنهم يعصمون دماءهم، ولكن قد اتفقت الأمة على أنه إذا دفع شيئا يسيرًا؛ فإنه لا يحقن بذلك دمه، فكان الإجماع مخصصًا لهذه الآية.
ومن أمثلة التخصيص بالإجماع قول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة:9]، فقد أخرج الإجماع المرأة من هذا العموم.
ومن المخصصات عند بعضهم: التخصيص بقول الصحابي، فإذا قال الصحابي قولاً ولم يوجد له معارض؛ فإنه يمكن أن يخص به العام.
ثم انتقل المؤلف -رحمه الله- إلى الكلام على المجمل، والمبين، والنص، والظاهر، فقال- رحمه الله: (وَالمُجْمَلُ: مَا يَفْتَقِرُ إلى الْبَيَانِ، وَالْبَيَانُ: إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي)
بدأ المؤلف -رحمه الله- ببيان أنواع الألفاظ والكلام باعتبار قوة الدلالة، وذلك لأنَّ الألفاظ من حيث الدلالة تتفاوت، فاللفظ إمَّا أن يدل على أكثر من معنى، ولا مرجح لأحد هذه المعاني على الآخر فهو المجمل، وحكمه أنه يتوقف فيه إلى ورود البيان.
وإمَّا أن يكون اللفظ يحتمل أكثر من معنى، ولكنه أقوى في أحدهما، فهذا هو الظاهر، وحكمه أنه يجب العمل به، إلا إذا ورد الدليل على أنَّ هذا المعنى ليس مُرادًا، فحينئذ يؤول، وهو ما يسمى بالتأويل.
بدأ المؤلف -رحمه الله- بذكر أحكام: المجمل، والمبين، فعرف المجمل بقوله: (وَالمُجْمَلُ: مَا يَفْتَقِرُ إلى الْبَيَانِ) ، المجمل هو اللفظ الذي دلَّ على أمرين أو أكثر لا مَزية لأحدهما على الآخر بالنسبة له، فمثلاً لفظ: "القرء" يطلق على الطهر، ويطلق على الحيض، فلا مزية لأحد الإطلاقين في قول الله -عز وجل-: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة:228]، فالقروء هنا يحتمل أنَّ المراد بها الأطهار، ويحتمل أن المراد بها الحيض.
ومن أمثلة ذلك أيضا قول الله -عز وجل-: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ [التكوير:17]، فيحتمل أن المراد "إذا أقبل"، ويحتمل أنَّ المراد "إذا أدبر"، ولا مزية لأحدهما، وعلى فهذا إجمال يحتاج إلى البيان.
وحكم المجمل أنه يجب أن يتوقف فيه إلى أن يأتي البيان، ولَمَّا كان المجمل يُتوقف فيه إلى وجود البيان، عَرَّفَ المؤلف البيان فقال: (وَالْبَيَانُ: إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي) ، فالبيان هو نقل اللفظ المجمل من إشكاله وعدم وضوحه إلى البيان والوضوح، فكل دليل مجمل يأتي دليل آخر يوضحه، ويبين المراد منه، فإنه يكون مُبينا لهذا المجمل.
ومن أمثلة الإجمال والبيان، قول الله -عز وجل-: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:43]، وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران:97]، ففي الآية الأولى أَمَرَ الله تعالى بإقام الصلاة، ولكنه -سبحانه وتعالى- لم يُبين صفة هذه الصلاة، ولا كيفية هذه الصلاة، لكن جاءت السنة ببيان صفة الصلاة من قول النبي ﷺ تارة، ومن فعله تارة، وبهما معًا.
فالنبي ﷺ قد بين صفة الصلاة بفعله، فصلى أمام الصحابة، وقال: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي» .
وبين ﷺ صفتها بقوله، حين عَلَّمَ المسيء في صلاته، فقال: «إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ».
وبين ﷺ صفة الصلاة بالأمرين معًا، أي: بالقول والفعل، وذلك حينما صلى على المنبر، فكان إذا أراد أن يسجد نزل فسجد، وقال ﷺ: «إنَّما صنعتُ هذا لتأتمُّوا بي ولتعلَّموا صلاتي» .
وكذلك الحج في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ ، فقد بين الرسول ﷺ صفة الحج بفعله تارة وبقوله تارة، فبفعله أنه حج ورآه الصحابة، وقال لهم: «خذوا عنِّي مناسِكَكم» وفي رواية: «لتأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
وأمَّا التعليم بالقول، فإجابته على أسئلة الصحابة، وما يرد إليه من إشكالات تتعلق بالنسك.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَالنصُّ: مَا لا يَحْتَمِلُ إِلا مَعْنًى وَاحِداً، وَقِيلَ: مَا تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌ مِنْ مِنَصَّةِ الْعَرُوسِ، وَهُوَ الْكُرْسيّ) .
النص في اللغة مأخوذ من الارتفاع والعلو، ومنه سميت المنصة: منصة؛ لعلوها وارتفاعها، ولهذا قال المؤلف: (وَهُوَ مُشْتَقٌ مِنْ مِنَصَّةِ الْعَرُوسِ، وَهُوَ الْكُرْسيّ) ؛ لأنها مرتفعة فسميت منصة.
وأمَّا في الاصطلاح فالنص هو اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحدًا، ولهذا عَرَّفَه المؤلف بقوله: (مَا لا يَحْتَمِلُ إِلا مَعْنًى وَاحِداً) .
ومن أمثلة ذلك، قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ، وقال تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة:196]، وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:1]، فكل آيات واضحات بينات، لا تحتمل سوى معنا واحدا فقط.
وحكم النص أنه لوضوحه وعدم احتياجه لغيره؛ فإنه يجب العمل به مُباشرة، ولا يجوز تأخير العمل به، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله- في تعريفه باعتبار حكمه: (مَا تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ) أي: أنه بمجرد النزول يفهم منه المعنى، ولا يحتاج إلى غيره في فهم المعنى؛ لوضوحه وبيانه.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَالظَّاهِرُ: مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ: أحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ، وَيُؤَوَّلُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ، وَيُسَمَّى ظَاهِراً بِالدَّلِيلِ) .
الظاهر لغة: بمعنى المرتفع الذي فيه علو، وفيه قوة، وظهر وغلب على غيره، وأمَّا اصطلاحا فعرفه المؤلف -رحمه الله- بقوله: (وَالظَّاهِرُ: مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ: أحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ) ، أي أنَّ الفظ معنيين، لكن أحد المعنيين أظهر وأقوى من الآخر.
مثال ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ [البقرة:237]، فيمكن أن يكون المراد بذلك الولي أو الزوج، لكن لَمَّا قال سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا أَن يَعْفُونَ﴾ أي: الزوجات، دلَّ ذلك على أن المراد بقوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ أنَّ المراد بذلك الزوج، وحكم الظاهر أنه يجب العمل به، إلا أن يرد الدليل الذي يدل على أن هذا الظاهر ليس مرادا.
ولهذا قال المؤلف: (ويؤول الظاهر بالدليل ويسمى الظاهر بالدليل) ، والتأويل لغة بمعنى: التفسير، ويطلق على الرجوع، وعلى مآل الأمر، والتأويل يطلق في النصوص الشرعية على ثلاثة معان:
المعنى الأول: التأويل بمعنى التفسير، ومنه قول الله تبارك وتعالى: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ [يوسف:36]، وقوله: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ [يوسف:44]، ومِن ذلك قول ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره: التأويل في قول الله -عز وجل- كذا، أي: التفسير.
المعنى الثاني من معاني التأويل: بيان عاقبة الشيء ومآله، فإن كان خبرًا، فتأويله وقوعه، وإن كان طلبًا، فتأويله امتثاله.
مثال الخبر قول الله -عز وجل: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ﴾ ، أي ما ينتظر هؤلاء إلا وقوع حقيقة ما أخبر الله تعالى به.
ومثال ما كان طلبًا: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ»
ومنه قولك مثلا: فلان لا يتعامل بالربا، يتأول قول الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:275].
المعنى الثالث من معاني التأويل: صرف اللفظ عن ظاهره، فهذا إن دلَّ عليه دليل فهو صحيح مقبول، وإلا فهو فاسد مردود.
مثال ما دلَّ عليه الدليل، قول الله -عز وجل-: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:98]، فمعنى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ﴾ أي: إذا أردت أن تقرأ.
ومن أمثلته أيضا قول الله -عز وجل-: ﴿أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل:1]، أي: سيأتي أمر الله، ولا يقال: إنَّ "أتى" هنا فعل ماض، بل أتى، أي سيأتي، والصارف له من الماضي إلى المضارع قوله: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ؛ لأنَّ الماضي لا يُستعجل، وإنما الذي يستعجل هو ما كان مُستقبلاً.
وأمَّا إذا لم يدل الدليل على صرف اللفظ عن ظاهره فهو فاسد مردود، بل يعتبر تحريفًا كتأويل المعطلة؛ لقول الله -عز وجل: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5]، قالوا: استولى، وكقولهم في قوله -عز وجل-: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أي: جاء أمره، أو جاء ملكه، وتأويلهم لقول النبي ﷺ: «يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ» ، أي: ينزل أمره، أو ينزل مَلَكُه، فكل هذا من التحريف الفاسد؛ لأنه صرفٌ للفظ عن ظاهره من غير دليل أو قرينة تدل عليه.
ثم شرع المؤلف -رحمه الله- في بيان أفعال الرسول ﷺ وأحكامها، فقال: (فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوْ لا يَكُونَ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الاخْتِصَاصِ بِهِ حُمِلَ عَلَى الاخْتِصَاصِ، وَإنْ لَمْ يَدُلَّ دَلِيل لا يُخَصُّ بِهِ؛ لأنَّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿لَّقَد كاَنَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة﴾ ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قال يحمل على الندب، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتَوَقَّفُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الإِبَاحَةِ) .
شرع المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا في بيان شيء من أحكام السنة، والسنة هي المصدر الثاني من مصادر الشريعة، ومصادر التشريع هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
والمحتج بكتاب الله -عز وجل- يحتاج إلى نظر واحد فقط، وهو النظر في دلالة النص على الحكم.
وأمَّا المحتج بالسنة فيحتاج إلى نظرين:
النظر الأول: في ثبوت هذه السنة، هل هي ثابتة أو ليست ثابتة؟ لأنه ليس كل ما ينسب إلى الرسول ﷺ يكون ثابتًا صحيحًا، فقد يُنسب إليه ما يكون موضوعًا مكذوبًا، وقد يُنسب إليه ما يكون ضعيفًا، وقد يُنسب إليه ما يكون حسنًا، وقد يُنسب إليه ما يكون صحيحًا، ولذا يجب التثبت فيما ينسب إلى رسول لله ﷺ.
النظر الثاني مفرَّع على النظر الأول: أي إذا ثبت أنَّ هذا من السنة فننظر في دلالة هذه السنة على هذا الحكم أو على هذه المسألة، وبين المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا شيئًا من أفعال الرسول ﷺ، وذلك أنَّ الاحتجاج إنما يكون بالرسول ﷺ؛ لأنه هو الحجة، وهو القدوة، وهو الأسوة، قال الله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21].
واعلم أنَّ التمسك بسنة النبي ﷺ والحرص عليها، له فوائد عظيمة، فمن ذلك:
أولا: أن المتمسك بسنة الرسول ﷺ يكون قد جعل لنفسه إمامًا يَقتدي ويتأسى به.
ومن فوائد ذلك: أنه يتمكن من إقناع غيره، فإذا قال لشخص: افعل كذا أو لا تفعل كذا، ثم احتج عليه، بيَّن أن ذلك من سنة النبي ﷺ، فيكون معه دليل يتمكن به من إقناع غيره.
وثالثا: أنه يكون معه حجة أمام الله -عز وجل-؛ لأنَّ الإنسان يوم القيامة لن يُسأل عما قال فلان أو فلان، وإنما سيسأل عما جاءت به الرسل، قال الله تعالى: ﴿وَيَومَ يُنَادِيهِم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبتُمُ المُرسَلِينَ﴾ [القصص:65].
ومن فوائد التمسك بالسنة: أن فيه زيادة طمأنينة للمكلف، فالمكلف الذي يتعبد لله -عز وجل- وهو يعلم سنة النبي ﷺ، ليس كالذي يتعبد لله -عز وجل- عن جهل بذلك.
ومن فوائد التمسك بالسنة: أنَّ المتمسك بها يكون في سيره إلى الله -عز وجل- وسطًا بين الغالي في دينه والجافي عنه، فلا غلو ولا جفاء، فعلى كل مؤمن أن يحرص على الاقتداء بالرسول ﷺ في أقواله وفي أفعاله؛ لأنَّ التأسي والاقتداء به له أثر على قلب الإنسان وعلى تعبده لله -عز وجل-.
ولهذا نقول: إنَّ الإنسان ينبغي له عند فعل كل عبادة أن يستحضر أمورًا ثلاثة.
أولاً: أنه يقوم بهذه العبادة امتثالا لأمر -عز وجل-.
ثانيًا: أن يستحضر إخلاص النية لله -تبارك وتعالى-.
ثالثًا: أن يستحضر كأنَّ الرسول ﷺ يفعل هذه العبادة أمامه، وحينئذ باجتماع هذه الأمور الثلاثة، يحقق: الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله ﷺ، وهما: شرطا قبول العبادة، فكل عبادة لا تكون مقبولة مرضية عند الله، إلا إذا كان الإنسان فيها مخلصًا لله، مُتبعًا لرسوله ﷺ.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا مخلصين لله، مُتبعين لرسول الله، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.