الدرس الرابع

فضيلة الشيخ أ.د. سامي بن محمد الصقير

إحصائية السلسلة

14706 10
الدرس الرابع

الورقات

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فقد تقدم أنَّ الأمر: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب، وصيغته (اِفْعَلْ)، وتقدم الكلام على هذا الحد وهذا التعريف.
وقوله: (عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ) هذا بيان لحكم الأمر، وأنه على سبيل الوجوب، وسيأتي الكلام على ذلك -إن شاء الله تعالى.
وقوله: (وَصِيغَتُهُ اِفْعَلْ)، أي أن الصيغة التي وضعت للأمر أو وضعها العرب هي: (اِفْعَلْ) التي تدل على الطلب، كقول الله -عز وجل: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: 78]، وقال -عز وجل: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، وقال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]، فهذه هي صيغة الأمر.
أو ما يقوم مقامها مما يدل على الطلب، ومن ذلك:
أولًا: اسم الأمر، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105]، فقوله ﴿عَلَيْكُمْ﴾ هذا اسم فعل أمر، أي: الزموا أنفسكم.
ثانيًا: المصدر النائب عن فعل الأمر، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83]، أي: أحسنوا إحسانا إلى الوالدين، فإنَّ "إحسانا" مصدر نائب عن فعل الأمر المحذوف.
ثالثًا: مما يدل على الأمر الفعل المضارع إذا اقترنت به لام الأمر، فإنه يكون للأمر، كقوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2].
رابعًا: مما يقوم مقام هذه الصيغة أن تأتي جمل اسمية وفعلية ومقتضاها الطلب، فحينئذٍ يكون معناها الأمر، كقول الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 233]، فإنَّ الله تعالى لم يرد بهذه الآية في قوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ﴾ لم يرد مجرد الخبر؛ بل هو خبر بمعنى الأمر، أي: ليرضعن.
وليعلم أنَّ الخبر الذي يراد به الأمر هو أبلغ من الأمر المجرد.
خامسًا: أن يأتي لفظ أن الشارع أمر بكذا، فهو إخبار عن أمر الشارع، وهو أمر في الحقيقة، كقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90].
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَهِيَ عِنْدَ الإِطْلاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْقَرِينَةِ تُحْمَلُ عَلَيْهِ)، أي أنَّ صيغة (اِفْعَلْ) عند التجرد عن القرينة، فإنها تحمل على الوجوب، أي أن الأمر إذا جاء مطلقًا غير مقيَّد، وجاء متجردًا عن القرائن؛ فإنه يُحمل على الوجوب.
وهذه المسألة محل خلاف بين الأصوليين -رحمهم الله- فقد اختلف علماء الأصول في الأمر المجرد عن القرائن هل يدل على الوجوب أو لا يدل على الوجوب؟
على خلاف في ذلك:
القول الأول: إنه يدل على الوجوب، وهو مذهب الجمهور، واستدلوا بأدلة منها:
أولًا: قول الله -عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]، ووجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى نفى الخيرة مع الأمر، فدلَّ هذا على أن الأصل في الأمر الوجوب، لأن الأمر إذا كان مندوبًا ففيه الخيرة.
ثانيًا: قول الله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، فهذه الآية أنكر الله تعالى فيها وحذَّر فيها من مخالفة أمره، فيمن تركه أو خالفه، ومن المعلوم أنه لا وعيد إلا على ترك واجب أو فعل محرم، لأن الأمر إذا كان مندوبًا أو مباحًا فإنه لا وعيد عليه.
ثالثًا: من الأدلة التي تدل على أن الأمر المتجرد عن القرائن يدل على الوجوب، قول النبي ﷺ: «لَوْلَا أنْ أشُقَّ علَى أُمَّتي أوْ علَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ مع كُلِّ صَلَاةٍ» ، فقوله: «لَوْلَا أنْ أشُقَّ علَى أُمَّتي»، يدل على أن الأمر للوجوب؛ لأنَّ الوجوب هو مظنَّة المشقَّة، والمندوب لا مشقة فيه، لأن الإنسان يُخيَّر فيه بين الفعل وبين الترك.
القول الثاني في هذه المسألة: أن الأصل في الأمر الاستحباب، فيُحمل على الاستحباب إلا أن يدلَّ الدليل على أنه للوجوب، واستدلوا بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَما أَمَرْتُكُمْ به فَافْعَلُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ» ، فقيد النبي ﷺ فعل الأمر باستطاعته، ولم يجزم بأنه يدل على الوجوب، فدلَّ هذا على أن الأمر ليس للوجوب.
ولكن هذا الدليل لا يصح الاستدلال به على أن الأمر لا يدل على الوجوب، بل هو دليل على الوجوب، ولكن النبي ﷺ قيد فعل الأمر بالاستطاعة، فمن استطاع أن يفعل وجب عليه، ومن لم يستطع أن يفعل سقط عنه هذا الأمر.
القول الثالث في هذه المسألة: هو التفصيل بين ما كان تعبُّدًا وما كان تأدُّبًا، قالوا: إن الأوامر إذا وردت في العبادات فإنها تُحمل على الوجوب، وإن وردت فيما يتعلق بالآداب والأخلاق فإنها تُحمل على الاستحباب.
ولكن هذا القول ليس مطَّردًا، وذلك لأن هناك من الأوامر في العبادات ما يُحمل على الاستحباب بالاتِّفاق، وهناك من الأوامر في الآداب والأخلاق ما يُحمَل على الوجوب بالاتفاق، فدلَّ هذا على أن هذا القول ليس مطَّردًا، وعلى هذا فيترجَّح ما قدمه المؤلف، وهو أن الأصل في الأمر الوجوب إلا أن يدل الدليل أنه للاستحباب، ولهذا قال: (إِلا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ مِنْهُ النَّدْبُ أَوْ الإِبَاحَةُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ)، أي أنَّ الأصل حمل الأمر على الوجوب إلا إذا دلَّ الدليل على أن هذا الأمر للندب -أي الاستحباب- أو للإباحة.
ومن أمثلة ما دلَّ الدليل على أنه للاستحباب وليس للوجوب: قول الله -عز وجل: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: 282]، فإن الأمر بالإشهاد هنا في هذه الآية الكريمة ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب، لأنه لم يُنقل أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يُشهِدون على كلِّ بيعٍ وكلِّ معاملة يتعاملون بها؛ فدلَّ هذا على أن الأصل في هذا الأمر في الآية الكريمة الاستحباب.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَلا يَقْتَضي التَّكْرَارَ عَلَى الصَّحِيحِ إِلا إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التكْرَارِ)، أي أن الأمر إذا جاء مطلقًا ومتجرِّدًا عن القرائن فإنه لا يقتضي التَّكرار -أي تكرار الفعل- لأن الامتثال يحصل بمرةٍ واحدةٍ، واستثنى -رحمه الله- فقال: (إِلا إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التكْرَارِ)، فإن وُجد دليل يدل على التكرار فإنه يحمل على ذلك.
وقوله: (إِلا إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التكْرَارِ)، أي أنه إذا ورد دليل يدل على قصد التَّكرار فإنه يُحمل عليه، ومن ذلك:
أولًا: أن يعلق الأمر على سبب فمتى وُجد السبب فإنه يتجدَّد الأمر، ويتكرَّر الأمر، كقول الله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]، فقوله ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ ، فالأمر هنا قُرِن بسبب وهو دلوك الشمس، فمتَى وُجد هذا الشيء وهو دلوك الشمس، كان الأمر بالصلاة مطلوبًا.
ومن ذلك أيضا قول النبي ﷺ: «إِذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يَجْلِسَ» ، فهذا ركعتين يقتضي تكرار الصلاة عند دخول المسجد.
ثانيًا مما يدل على التكرار: أن يُعلَّق الأمر على الصفة، فيُعلم حينئذٍ أنه كلما تكرر الوصف تكرر الأمر، كقول الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38] الآية، وقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]، فمتى وُجدت السرقة أو حصل الزنا فإن العقوبة تتكرر.
ثالثًا مما يدل على التكرار: أن يأتي لفظ الأمر بما يدل على التكرار كدخول "كان" كقول الله -عز وجل: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ﴾ [مريم: 55]، فإن "كان" تدل على الاستمرار غالبًا.
ثم قال -رحمه الله: (وَلا تَقْتَضِي الْفَوْرَ)، أي أن صيغة الأمر إذا تجرد لا تقتضي الفورية بل هي على التراخي.
والمراد بالفور عند الأصوليين: أن يفعل المأمور به أوَّلَ وقتٍ يتمكَّن فيه من الفعل.
واعلم أنَّ الأمر من حيث اقتضاء الفورية وعدمه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما دلَّ الدليل على أنه للفور، فيُحمل على الفورية كقول الله -عز وجل: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]، فهذا يقتضي أنه متى ثبتت رؤية الهلال فإنه يجب الصوم، وهذا الأمر على الفور بأنَّ رمضان زمنه مُضيَّق لا يتَّسع لغيره.
القسم الثاني: أن يدل الدليل على أن الأمر للتراخي وليس للفور، كقول الله -عز وجل: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184]، أي: فالواجب عدَّة، فهذه العدَّة ليست على سبيل الفورية، أي أن القضاء لا يجب فورًا، بل له أن يؤخِّر القضاء إلى أن يبقى على رمضان الثاني، بقدر ما عليه من الأيام.
والذي يدل على ذلك هو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كانَ يَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضَانَ، فَما أسْتَطِيعُ أنْ أقْضِيَ إلَّا في شَعْبَانَ» .
القسم الثالث: أن يكون الأمر متجردًا عن القرائن، أي ليس فيه قرينةٌ تدل على الفورية أو قرينة تدل على التراخي، فالمؤلف -رحمه الله- يقول: (وَلا تَقْتَضِي الْفَوْرَ)، أي أن الأمر المجرد عن القرائن لا يقتضي الفورية؛ بل له يؤخِّر.
واستدلوا على أن الأمر لا يقتضي فورية: أن صيغة الأمر تقتضي الطلب ولا تقتضي الفورية، فمتى أتى بالفعل فقد امتثلَ ولو مع التراخي.
والقول الثاني في هذه المسألة: أن الأمر المتجرد عن القرائن يقتضي الفورية.
واستدلوا لذلك بأدلة منها: قول الله -عز وجل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، وقال -عز وجل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133]، وقال تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84].
وهذا القول -أعني أنَّ الأمر المتجرد عن القرائن يدل على الفورية- هو الراجح، بدلالة الأدلة عليه.
ومما يدل عليه أيضا: أننا إذا قلنا إن الأمر المتجرد عن القرائن لا يدل على الفورية لزم من ذلك سقوط هذا الواجب أو سقوط هذا الأمر الذي أمر به الشارع، لأن الشارع أمر بأمر وقلنا: إن هذا الأمر لا يدل على الفورية، وإن له أن يؤخر إلى ما شاء الله؛ فحينئذ ربما أدركه الموت قبل أن يفعل هذا الواجب، فالقول بأن الأمر المجرد عن القرائن لا يقتضي فورية مِن لازمه سقوط هذا الواجب الذي أمر به الشارع.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَالأمرُ بِإيجَادِ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لا يَتِمُّ الْفِعْلُ إِلا بِهِ، كَالأَمْرِ بِالصلَوَاتِ أمْرٌ بِالطَّهَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلْيَهَا وَإِذَا فُعِلَ يَخْرُجُ الْمَأْمُورُ عَنْ الْعُهْدَةِ).
أي أن الشارع إذا أمرَ بأمرٍ فإن هذا الأمر أمرٌ بهذا الشيء وبما لا يتم إلا به، وهذا ما يعرف عند العلماء بقاعدة: "ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به"، وإن شئت فقل: "الوسائل لها أحكام المقاصد".
وهذه القاعدة "ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور"، هي أولى من قول بعضهم: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، لأن قولهم "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، تختص بالواجب فقط، وأما إذا قلنا: "ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به"، فإن ذلك يشمل الواجب والمستحب، فهذه القاعدة: "الوسائل لها أحكام المقاصد"، أو "ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به"، هي أعمُّ -كما سبق.
ومن أمثلة هذه القاعدة ما أشار إليه المؤلف -رحمه الله- بقوله: (كَالأَمْرِ بِالصلَوَاتِ أمْرٌ بِالطَّهَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلْيَهَا)، الشارع الحكيم أمر بالصلاة، فقال -عز وجل: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ ، والأمر بإقامة الصلاة أمرٌ بها وبما لا تتم إلا به، وذلك بأن يأتي بشروط الصلاة، فهذا الأمر أمرٌ بها وأمرٌ بشروطها، فمن ذلك: أنه أمرٌ بالطهارة لها، ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6]، وهو أيضًا أمرٌ باستقبال القبلة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144]، وقال النبي ﷺ للمسيء في صلاته: «إذا قمتَ إلى الصلاةِ فأسبغْ الوضوءَ ، ثم اسْتقبلِ القبلةَ فكبِّرْ» ، وهو أيضًا أمرٌ بستر العورة، لقوله تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]، وكذلك أيضًا هو أمرٌ بالنيَّة، لأن الصلاة عبادة، وكل عبادة لا بد فيها من النية لقول النبي ﷺ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» .
إذًا الشارع إذا أمرَ بشيءٍ فهو أمر به وبما لا يتم إلا به، لأن ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَإِذَا فُعِلَ يَخْرُجُ الْمَأْمُورُ عَنْ الْعُهْدَةِ)، أي أن المكلف إذا فعل المأمور به فإنه يخرج بهذا الفعل من العهدة، فيسقط عنه الطلب وتبرأ ذمته بذلك، كما لو صلى صلاةً تامَّةً بشروطها وأركانها وواجباتها، فإنه بفعله لهذه الصلاة يكون قد أبرأ ذمته وأسقط الطلب عنه.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّه تَعَالَى الْمُؤمِنُونَ، وأَمَّا وَالسَّاهِي، وَالصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ دَاخلِينَ في الْخِطَابِ. وَالكُفَّارُ مُخَاطبُونَ بِفرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَبِمَا لا تَصحُّ إلا بِهِ -وَهُوَ الإِسْلامُ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا سَلَككم فِي سَقَرَ قَالوُا لم نَكُ مِن المُصَلِّين﴾ ).
قوله: (يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّه تَعَالَى الْمُؤمِنُونَ)، المراد بالدخول هنا: تناول الخطاب، وتوجيه الخطاب، فخطاب الله تعالى لعباده بالأوامر والنواهي يتناول المؤمنين، فهم الذين يوجَّه إليهم الخطاب.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- أصنافًا مما لا يتناولهم الخطاب، قال -رحمه الله: (وأَمَّا وَالسَّاهِي، وَالصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ دَاخلِينَ في الْخِطَابِ)، الساهي غير مخاطب حال سهوه، لأن شرط الخطاب الفهم، والساهي فاقدٌ لهذا الفهم، ولكن متى زال السهو أو النسيان؛ وجب عليه التدارك، فمثلًا قال النبي ﷺ: «مَن أكَلَ ناسِيًا وهو صائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فإنَّما أطْعَمَهُ اللَّهُ وسَقاهُ» ، فالصائم إذا أكل أو شرب أو فعل مفطِّرًا من المفطرات وهو ناسٍ أو ساهٍ فإن صيامه صحيح، ولهذا قال النبي ﷺ: «فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»، ولو كان صيامه لا يصح، فإنه لا يتم الصوم، بل يلزمه القضاء، ولكن متى ذكر الناسي أو الساهي أو ذُكِّر وجب عليه الكف، وذلك لأنه قبل تذكره أو تذكيره كان معذورًا بالنسيان، فإذا نُبِّه فذكرَ أو تذكَّر وجب عليه الكف.
فمثلًا: لو أكل أو شرب ناسيًا، ثم ذكرَ أو ذُكِّرَ وجب عليه الكف، وأن يلفظَ ما في فيه -أي ما في فمه- من طعامٍ أو شراب، لأنه حال نسيانه كان معذورًا، فلما ذكر أو ذُكِّرَ جب عليه الكف.
وهنا مسألةٌ مهمَّة ينبغي التنبيه والتنبه لها، وهي: إذا رأى الإنسان شخصًا يأكل أو يشرب حال صومه، فهل يذكره بذلك وينبهه، أو يقول: هذا رزق ساقه الله له فلا تقطع رزق الله -عز وجل- عنه؟
الجواب: أنه يجب أن ينبهه وأن يذكره، لأن هذا الصائم الذي أكل أو شرب ناسيًا هو معذورا بالنسيان، ولكنك أنت لستَ معذورًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى.
ثانيا مما ذكره المؤلف -رحمه الله- مما لا يدخل في الخطاب: الصبي.
والمراد بالصبي هنا: من دون البلوغ، سواء كان مميزًا أم غير مميز، وذلك لأن الصبي تارة يكون مميزًا وهو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، وتارة يكون غيرَ مميزٍ.
والفرق بينهما من حيث الأحكام الشرعية:
- أن الصبي المميز يُؤمَر بالتكاليف الشرعية من صلاةٍ وصيامٍ ونحو ذلك، لأجل أن يألفها ويعتادها، ولأجل أن ترتاض نفسه على هذه العبادات، حتى إذا بلغ فإنه يؤديها بكل يُسر وسهولة.
- وأما غير المميز فلا تصح عباداته من صلاة وصيام وطهارة سوى الحج، فإنَّ الحج يصح من الصبي مطلقًا ولو كان غير مميز، لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما: «لَقِيَ رَكْبًا بالرَّوْحَاءِ، فَقالَ: مَنِ القَوْمُ؟ قالوا: المُسْلِمُونَ، فَقالوا: مَن أَنْتَ؟ قالَ: رَسولُ اللهِ، فَرَفَعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقالَتْ: أَلِهذا حَجٌّ؟ قالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» ، فدلَّ هذا على صحة حج الصبي ولو كان غير مميز.
الثالث ممن لا يدخل في التكليف: المجنون.
والمراد بالمجنون: فاقد العقل، سواء كان فقده للعقل من أصلِ الخلقة، بأن وُلد كذلك، أو أن الجنون كان طارئا.
ويدخل في حكم المجنون: الكبير المهذري الذي قد بلغَ من الكبر عتيًّا بحيث سقط تمييزه وزال تكليفه، فهذا في حكم المجنون من حيث سقوط العبادات، وعدم توجيه الخطاب إليه.
والدليل على سقوط الخطاب عن هؤلاء الثلاثة: قول النبي ﷺ: «رُفِع القَلمُ عن ثلاثةٍ: عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبي حتَّى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتَّى يَعقِلَ» ، وقد انعقد الإجماع على أن هؤلاء الثلاثة ليسوا بمكلفين.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَالكُفَّارُ مُخَاطبُونَ بِفرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَبِمَا لا تَصحُّ إلا بِهِ -وَهُوَ الإِسْلامُ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا سَلَككم فِي سَقَرَ قَالوُا لم نَكُ مِن المُصَلِّين﴾ ).
الكفار على اختلاف أنواعهم وأصنافهم مخاطبون بفروع الشريعة، أي أنهم يحاسَبون ويعاقَبُون على تركها، فالكافر سواء كان يهوديًّا أم نصرانيًّا أم وثنيًّا أم غير ذلك يحاسب ويعاقب على تركه للصلاة والصيام والزكاة والحج، وغير ذلك من فروع الشريعة.
والدليل على معاقبتهم على ذلك: قول الله يتساءلون عن المجرمين: ﴿مَا سَلَككم فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ .
قال أهل العلم: فتكذيبهم بيوم الدين كافٍ في عقوبتهم، فلولا أن لهذه الأمور التي ذكروها من ترك الصلاة وغيرها أن لها أثرًا في زيادة عقوبتهم ما ذكروها، بل كان ذكرها لغوًا لا فائدة منه، بل إن الكافر يحاسَب ويعاقَب حتى على ما يتنعَّم به في هذه الدنيا من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح.
والدليل على ذلك قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 93]، فقوله -عز وجل: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ﴾ ، مفهومه أن غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات عليهم جناح، فدلَّ هذا على أنَّ الكفار يحاسَبون على ما يتنعَّمون به في هذه الدنيا من مآكل ومشارب ومناكح ومراكب وغيرها.
ومما يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة قول الله -عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [الفرقان: 68]؛ فدلَّت هذه الآية على أن الذين يدعون مع الله إلها آخر، ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ويزنون: أنهم يحاسبون على ذلك.
ومن الأدلة أيضا حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي ﷺ قال: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ» ، الحديث؛ فدل هذا على أنهم يخاطَبون بفروع الشريعة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعًا الإخلاص في القول والعمل، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا وهدًى وتوفيقًا وسدادًا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ