بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أمَّا بعد؛ فقد توقف بنا الكلام على أفعال الرسول ﷺ في قول المؤلف: (فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ لا يخلو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوْ غير ذلك)، وأفعال الرسول ﷺ تنقسم إلى أقسام متعددة:
القسم الأول: ما فعله النبي ﷺ على وجه العادة والطبيعة والجبلة، كالأكل، والشرب، والنوم، واللبس، ونحو ذلك، فهذا لا حكم له في ذاته؛ لأنَّ هذا مما تقتضيه الطبيعة والجبلة، فكل الناس يأكلون ويشربون وينامون ويلبسون، فلا حكم له في ذاته، ولكن قد تكون فيه صفة مستحبة، إذا فعلها الإنسان فإنه يثاب على ذلك، فإذا أراد أن يأكل فيأكل باليمين، ويأكل مما يليه، وإذا أراد أن ينام، ينام على شقه الأيمن، ويأتي بما ورد من الأذكار، وحينئذ تكون هذه العادات عبادات.
فما فعله النبي ﷺ بمقتضى الطبيعة والجبلة لا حكم له في ذاته؛ لأنَّ هذا مما تقتضيه الطبيعة والجبلة، لكن قد يكون فيه صفة مستحبة، كالأكل باليمين، والأكل مما يليه.
وهكذا يقال في النوم واللبس.
القسم الثاني من أفعال الرسول ﷺ: ما فعله بيانًا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل، إن كان المجمل واجبًا فهو واجب، وإن كان المجمل مستحبًا فهو مستحب.
مثال ذلك، قول الله -عز وجل-: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة:43]، فهذا لفظ مجمل، بينه الرسول ﷺ في سنته، وذلك في صلاته عليه الصلاة والسلام، حيث بين صفة الصلاة بقوله، وفعله، وبهما معًا، فيكون حُكم هذا الفعل حُكم المجمل، فإن كان المجمل وهو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ واجبًا، كان هذا البيان واجبًا أيضًا.
القسم الثالث: ما فعله الرسول ﷺ ويظهر فيه معنى التعبد، فهذا يُقتدى به ويُتأسى به، وحكمه أنه مشروع حتى يدل الدليل على وجوبه؛ لأنه فعل مجرد من الرسول ﷺ، فما فعله النبي ﷺ فعلا مجردًا ولم يقترن بأمر؛ فإنه يدل على المشروعية، ولا يدل على الوجوب إلا بدليل يدل على ذلك.
القسم الرابع من أقسام أفعال الرسول ﷺ: ما كان خاصًا به، فهذا يختص به، ولا يتأسى به فيه؛ لأنه خاص به ﷺ، وقد خصَّ الله تعالى رسوله ﷺ بخصائص تَرجع إلى أمور أربعة، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "خُصَّ النبي ﷺ بواجبات، ومحرمات، وكرامات، ومباحات".
الأول: الواجبات التي هي خاصة به، كوجوب قيام الليل والسواك، فقد قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ وكان السواك واجبًا عليه ﷺ.
الثاني: المحرمات التي تختص به دون غيره، كالنَّهي عن الغمز بالعين، «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ»[1]، وكتحريم الصدقة عليه.
وأمَّا الثالث فهو الكرامات التي أكرمه الله تعالى بها، ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي»، وفيه: «وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورً»[2].
الرابع: مباحات، أي أنَّ الله تعالى أباح له أمورًا ليست لغيره، وأكثرها في النِّكاح، فمن المباحات التي اختص بها النبي ﷺ: أنه يتزوج بلا عدد، وبلا ولي.
ومنها أيضًا جواز نكاح الهبة في حقه؛ لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب:50]، فبين الله -عز وجل- أنَّ ذلك أعني: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ أنه خاص به دون غيره.
ومن ذلك أيضًا الوصال، فكان النبي ﷺ يُباح له الوصال دون غيره، ولهذا لَمَّا واصل النبي ﷺ، وواصل الصحابة معه -رضي الله عنهم- اقتداء به، واصل بهم يومًا، ثم آخر، ثم قال: «لو تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لهمْ»[3].
قال المؤلف- رحمه الله-: (فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الاخْتِصَاصِ بِهِ حُمِلَ عَلَى الاخْتِصَاصِ)، أي أنَّ فعل الرسول ﷺ إذا دلَّ الدليل على أنه خاص به، فيكون خاصًا به، (وَإنْ لَمْ يَدُلَّ دَلِيل لا يُخَصُّ بِهِ)، فالأصل هو التأسي والاقتداء به؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21].
ثم قال: (فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتَوَقَّفُ فِيهِ)، والمراد بذلك: أنَّ النبي ﷺ إذا فعل فعلا يظهر فيه معنى التعبد، وكان متجردًا عن القرائن، فقد تقدم أنه يحمل على المشروعية وعلى الاستحباب؛ لأنَّ فعله ﷺ له يدل على المشروعية، ولا يقال بالوجوب؛ لأنه يجوز أن يُأثم الناس إلا بدليل.
ثم قال- رحمه الله-: (فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الإِبَاحَةِ) أي: إذا فَعَلَ فِعْلاً لا يظهر فيه معنى التعبد والقربى والطاعة، وذلك فيما إذا فعل فعلا مما تقتضيه الطبيعة والجبلة، كالأكل، والشرب، والنوم، واللبس، ونحو ذلك، فهذا يحمل على الإباحة؛ لأنه مما تقتضيه الطبيعة والجبلة، ولكن قد يكون فيه صفة مُستحبة، إذا فعلها الإنسان فإنه يُثاب على ذلك، وقد يكون في مخالفتها إثم ووزر، فمثلا: الأكل مما تقتضيه الطبيعة والجبلة، فكل الناس يأكلون ويشربون، فإذا اقتدى الإنسان بالرسول ﷺ في ذلك، بأن كان يأكل بيمينه، ويأكل مما يليه، ويسمي عند الأكل، ويحمد عند الفراغ؛ فإنه يُثاب على هذه الصفات.
وعلى العكس من ذلك إذا خالف، بأن كان يأكل بشماله مثلا، فإنه يكون آثمًا بذلك؛ لأنَّ الأكل بالشمال محرم، لقوله ﷺ للغلام: «يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ»[4]، وقال ﷺ أيضًا: «لا يَأْكُلَنَّ أحَدٌ مِنكُم بشِمالِهِ، ولا يَشْرَبَنَّ بها، فإنَّ الشَّيْطانَ يَأْكُلُ بشِمالِهِ، ويَشْرَبُ به»[5]، فالذي يأكل بالشمال قد اتبع خطوات الشيطان، وقد قال الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [النور:21]؛ ولأنَّ النبي ﷺ لَمَّا أكل رجل بحضرته، أكل بيده الشمال، فقال له النبي ﷺ: «كُلْ بِيمِينكَ» قَالَ: لا أَسْتَطِيعُ. قالَ: «لا استطعَت» مَا منعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ فَمَا رَفعَها إِلَى فِيهِ[6]، فعوقب هذا الرجل حينما أكل بشماله، ومن المعلوم أنه لا عقوبة إلا على ترك واجب أو فعل محرم، فلولا أنَّ الأكل بالشمال محرم لَمَا عوقب على ذلك.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقَوْلِ هُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الشرِيعَةِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَفِعْلِهِ، وَمَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَعَلِمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فحكْمُهُ حُكْمُ مَا فُعِلَ فِي مَجْلِسِهِه).
لَمَّا فرغ المؤلف -رحمه الله- من بيان السنة الفعلية، بدأ في بيان أحكام السنة التقريرية، أي: ما أقره النبي ﷺ، والسنة الإقرارية هي ما نقل من سكوت النبي ﷺ وإقراره على قول، أو فعلٍ فُعِلَ بحضرته، أو قيل بحضرته، أو عُلم به ولم ينكره.
وإقرار النبي ﷺ حجة، ولكنه لا يدل على المشروعية، وإنما يدل على الجواز، سواء كان ذلك إقرارًا على قول، أم على فعل، فكل ما أقره النبي ﷺ فهو حجة، سواء علم به أم لم يعلم، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى.
لكن إقراره لا يدل على المشروعية، وإنما يدل على الجواز؛ لأنَّ سنة النبي ﷺ ثلاثة أنواع: قول، وفعل، وإقرار، فالقول والفعل يدلان على المشروعية، فإذا قال قولا؛ فهو دال على المشروعية، وإذا فعل فعلا؛ فهو دال على المشروعية، وأمَّا إذا أَقَرَّ شيئًا ولم يقله ولم يفعله؛ فليس دالا على المشروعية، وإنما يدل على الجواز.
ومن أمثلة ذلك: إقرار النبي ﷺ للرجل الذي كان يختم قراءته في الصلاة بـ "قل هو الله أحد" لَمَّا سأله عن ذلك، أي عن سبب قراءته لها، قال: "لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وأَنَا أُحِبُّ أنْ أقْرَأَ بهَا"[7]، فأقر الرسول ﷺ هذا الرجل على هذا الفعل، فهذا يدل على الجواز، ولا يدل على المشروعية؛ لأنه لم ينقل عنه ﷺ أنه كان يفعل ذلك، وأنه كان يختم قراءته في الصلاة بقراءته لهذه السورة، "قل هو الله أحد".
وليعلم أنَّ كل ما في عهد الرسول ﷺ فهو حجة، سواء علم به النبي ﷺ أم لم يعلم، فإن كان النبي ﷺ قد علم به فهو حجة بإقراره ﷺ، وإن كان الرسول ﷺ لم يعلم به فهو حجة بإقرار الله تعالى له؛ لأنَّ الله تعالى لا يمكن أن يقر في الشريعة أمرًا باطلاً، ولهذا فضح الله تعالى المنافقين بقوله: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطً﴾ [النساء:108]، وبهذا التقرير أعني أن كل ما فعل في عهد النبي ﷺ حجة، سواء علم به أم لم يعلم، نستدل به على صحة اقتداء وائتمام المفترض بالمتنفل، وذلك من قصة معاذ -رضي الله عنه-، فمعاذ كان يصلي مع الرسول ﷺ صلاة العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم صلاة العشاء، فينوي صلاته مع الرسول ﷺ فريضة، ويصلي بقومه وينويها نافلة.
فإذا قال قائل: لعل النبي ﷺ لم يعلم بفعل معاذ، وأنه كان يصلي معه فريضة ثم يذهب ويصلي بقومه وينويها نافلة، فالجواب: أنَّ ذلك لا يصح؛ لأننا لو افترضنا جدلاً أنَّ الرسول ﷺ لم يعلم بفعل معاذ، فالله -عز وجل- قد علم، ولا يمكن أن يقر أمرًا باطلاً في الشريعة.
فإذا قال قائل: يحتمل أنَّ معاذًا -رضي الله عنه- كان يصلي مع الرسول ﷺ وينوي صلاته نافلة، ثم يرجع إلى قومه ويصلي بهم صلاة الفريضة، وحينئذ لا يكون في هذا الحديث دليل على جواز ائتمام واقتداء المفترض بالمتنفل. فالجواب: أنَّ هذا الاحتمال بعيد، بل ضعيف لوجوه:
الوجه الأول: أن الأصل أنَّ ما وقع أولا فهو الفريضة، فالأصل أنَّ صلاة معاذ -رضي الله عنه- مع الرسول ﷺ هي الفريضة؛ لأنَّ الأصل أنَّ ما وقع أولا فهو الفرض، ويدلك على هذه القاعدة وهذا الضابط أنَّ الأصل إنما وقع أولاً أنه الفريضة، أنَّ النبي ﷺ لَمَّا أوتي بالرجلين اللذين دخلا مسجد الخيف ولَمْ يُصلِّيا، فقال لهما: «ما منعَكما أن تصلِّيا معنا؟» قالا: قد صلَّينا في رحالِنا. فقالَ: «لا تفعلوا، إذا صلَّى أحدُكم في رحلِهِ، ثمَّ أدرَكَ الإمامَ ولم يصلِّ فليُصلِّ معَهُ، فإنَّها لَهُ نافلةٌ»، فبين ﷺ بهذا أنَّ فرض قبل النفل أنه.
ثانيًا: يبعد أنَّ معاذًا -رضي الله عنه- ينوي صلاته مع النبي ﷺ نفلا، ويجعل صلاته بقومه فريضة، ووجه البعد أولاً: أن صلاته مع الرسول ﷺ أفضل لكونها أكثر جمعًا، ولكونها أفضل من حيث المضاعفات، ولكونها خلف النبي ﷺ، فيبعد مع هذه الفضائل أن يجعل هذه الفضائل للنفل لا للفرض.
فالمهم أنَّ كل ما فعل في عهد الرسول ﷺ فهو حُجة سواء علم به أم لم يعلم به، فإن علم به فهو حجة بإقراره ﷺ، وإن لم يعلم به فهو حجة بإقرار الله -عز وجل-.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: (وَمَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَعَلِمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فحكْمُهُ حُكْمُ مَا فُعِلَ فِي مَجْلِسِهِ)، يعني: من حيث الجواز لا من حيث المشروعية، والحاصل أنَّ إقرار النبي ﷺ على الشيء لا يدل على مشروعيته، وإنما يدل على جوازه وإباحته، فالمشروعية لا تؤخذ إلا من قوله ﷺ أو من فعله.
ثم انتقل المؤلف -رحمه الله- إلى الكلام على النسخ، فقال: (وَأَمَّا النَّسْخُ: فَمَعْنَاهُ الإِزَالَةُ، يُقَالُ: "نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّل"، إِذَا أَزَالَتْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ النَّقْلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: "نَسَخْتُ مَا فِي هذا الْكِتَابِ"، إِذَا نَقَلْتَهُ بِأَشْكَالِ كِتَابَتِهِ.
وَحَدُّهُ: الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتاً، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ، وَنَسَخُ الأَمْرَيْنِ مَع)، النسخ في اللغة بمعنى: الإزالة والنقل. يقال: نسخت الشمس الظل إذا إزالته. ويقال: نسخت الكتاب، أي: نقلته.
وأمَّا اصطلاحا فعرفه المؤلف بقوله: (الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتاً، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ)، والمراد بالخطاب: الدليل من الكتاب والسنة، (الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ) أي: بالنص المتقدم، (عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِت)، أي: لولا النص المتأخر لكان النص المتقدم هو الثابت وهو المحكم.
قال: (مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ) الضمير يعود إلى الدليل الثاني وهو الناسخ.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- أنواع النسخ، فقال: (وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ، وَنَسَخُ الأَمْرَيْنِ مَعًا، وَيَنْقَسِمُ النَّسْخُ إِلَى: بَدَلٍ، وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ، وَإِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ، وَإِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ.
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، وَيَجُوزْ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَنَسْخُ الآَحَادِ بِالآحَادِ وَبِالْمُتَوَاتِرِ، وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بالآحادِ).
ذكر -رحمه الله- بعض أنواع النسخ باعتبارات مُتعددة:
أولاً: أقسام النسخ باعتبار المنسوخ من لفظ الدليل وحكمه، فذكر أقسامًا:
القسم الأول: ذكره بقوله: (وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ، وَنَسَخُ الأَمْرَيْنِ مَع)، أي: يجوز نسخ لفظ الدليل مع بقاء حكمه، ومن أمثلة ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة:240]، فإنَّ هذه الآية منسوخة بالآية المتقدمة قبلها، وهي قول الله -عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾ [البقرة:234].
ثم قال: (وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ)، والمراد بالرسم الآية، أي أن تبقى الآية، وأمَّا الحكم فينسخ، وهذا كالمثال السابق في قوله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾.
ومن أمثلة ذلك أيضًا، ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ ﷺ وَهُنَّ فِيما يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ»[8]، فالآية هنا نسخت من حيث اللفظ، ومن حيث الرسم، ثم أيضًا نُسخت من حيث الحكم؛ لأنه كان الرضاع المحرم في أول الأمر هو عشر رضعات، ثم نسخ بالقرآن بخمس رضعات، ولكن كلا النصين: الأول نسخ لفظًا وحكمًا، والثاني نسخ لفظًا لا حكمًا.
ثم إنَّ النسخ ينقسم باعتبار البدل وعدمه إلى أقسام، ولهذا قال: (وَيَنْقَسِمُ النَّسْخُ إِلَى: بَدَلٍ وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ).
مثال النسخ إلى بدل حديث عائشة المتقدم «كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ»، وهذا نسخ إلى بدل، وهو أنَّ العشرة نسخن إلى خمس.
وقد يكون النسخ (إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ)، فينسخ الحكم إلى غير بدل، كالأمر بالصدقة عند مناجاة النبي ﷺ في قوله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [المجادلة:12]، فقد نسخت الصدقة في هذه الآية، ولم يأت حكم بدليل لها.
ثم إنَّ المنسوخ إلى بدل قد يكون إلى بدل أشد، وقد يكون إلى بدل أيسر وأخف، ولهذا قال: (وَإِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ، وَإِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ)، فلمَّا بَيَّنَ المؤلف -رحمه الله- أنَّ النسخ منه ما يكون إلى بدل، ذكر أنَّ البدل على نوعين:
النوع الأول: بدل يكون بحكم هو أشد وأغلظ من الحكم المنسوخ، فالحكم الجديد يكون أشد من الحكم السابق، ومن أمثلة ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة:184]، فكان أول الأمر من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل، فنسخ هذا الحكم بقول الله -عز وجل-: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة:185]، فالبدل هنا أشد وأغلظ من الحكم السابق.
ويكون النسخ أيضًا إلى بدل أيسر وأسهل، كقوله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة:240]، فالعدة في الآية هي عام كامل، ثم نسخ الحكم لتكون العدة أربعة أشهر وعشرة أيام، كما في قوله -عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾ [البقرة:234].
ثم بين المؤلف -رحمه الله- أقسام النسخ باعتبار الدليل أو النص، فقال: (وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ونسخ السنة بالسنة)، هذا فيه بيان لأنواع النسخ باعتبار الدليل الناسخ والمنسوخ.
أولا: قال: (وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ)، ومن أمثلة ذلك الآية المتقدمة، وهي قول الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة:240]، نسخت بالآية قبلها، وهي قول الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾ [البقرة:234].
الثاني: (وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ) بأن يأتي حديث في السنة، ثم ينسخ بكتاب الله -عز وجل، ومن أمثل ذلك تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال الله -عز وجل-: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:144]، فنسخت هذه الآية ما أمروا به أولا من استقبال بيت المقدس؛ لأن استقبال بيت المقدس إنما هو من فعل الرسول ﷺ، فنسخت هذه السنة بالقرآن.
قال: (ونسخ السنة بالسنة)، ومن أمثلة ذلك قول النبي ﷺ: «نَهَيْتُكُمْ عن زِيارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوها، ونَهَيْتُكُمْ عن لُحُومِ الأضاحِيِّ فَوْقَ ثَلاثٍ، فأمْسِكُوا ما بَدا لَكُمْ، ونَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إلَّا في سِقاءٍ، فاشْرَبُوا في الأسْقِيَةِ كُلِّها، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِرً»[9]. فقد النبي ﷺ عن هذه الأمور المذكورة في الحديث بقوله: «نَهَيْتُكُمْ» ثم نسخ هذا النهي، فنسخ النهي عن زيارة القبور بقوله: «فَزُورُوه»، ونسخ النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث بقوله: «فأمْسِكُوا ما بَدا لَكُمْ»، ونسخ النهي عَنِ النَّبِيذِ إلَّا في سِقاءٍ، إلى آخر ما جاء في الحديث.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيَجُوزْ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ منهما، وَنَسْخُ الآَحَادِ بِالآحَادِ وَبِالْمُتَوَاتِرِ، وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بالآحادِ).
هذا بيان لِما يجوز أن يكون ناسخًا من الأدلة وما لا يجوز باعتبار قوة السند، فالسنة نوعان: متواتر وآحاد، فالمتواتر ينسخ بالمتواتر، والآحاد ينسخ بالمتواتر، والأحاد ينسخ بالآحاد، وبقي القسم الرابع وهو نسخ المتواتر بالآحاد، فالصور أربع:
الصورة الأولى: نسخ المتواتر بالمتواتر، كأن تَنسخُ آيةٌ آية، وقد تقدم مثال ذلك.
الصورة الثانية: نسخ الآحاد بالآحاد، وهذا هو الغالب في الأحاديث عن النبي ﷺ.
والصورة الثالثة: نسخ الآحاد بالمتواتر، ومنه نسخ الأحاديث التي هي أخبار آحاد بالأحاديث التي هي متواترة.
الصورة الرابعة: وهي نسخ المتواتر بالآحاد، وقال المؤلف -رحمه الله- فيها: (وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بالآحادِ)، ودليل عدم الجواز عند من يرى ذلك، أنه لا يصح أن ينسخ الأضعف الأقوى؛ لأنَّ المتواتر أقوى من الآحاد، فكيف ينسخ الضعيف القوي؟!
ولكن هذا القول ضعيف، أعني: القول بأنَّ الآحاد لا ينسخ المتواتر قول ضعيف، ولهذا كان القول الثاني في هذه المسألة، وهو مذهب الجمهور على جواز ذلك؛ لعموم جواز نسخ الكتاب بالسنة.
ومن أمثلة ذلك، أعني من أمثلة نسخ الكتاب بالسنة التي هي من أخبار الآحاد: قول الله -عز وجل-: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:180]، فدلت هذه الآية الكريمة على الوصية للوالدين والأقربين، فنسخت عند جمهور العلماء بقول النبي ﷺ: «لَا وَصيَّةَ لوارِثٍ»[10]، مع أنه من أحاديث الآحاد، فإن قوله ﷺ: «لَا وَصيَّةَ لوارِثٍ» خبر آحاد وليس متواترا عن النبي ﷺ، والمتواتر عرفه علماء المصطلح بأنه ما رواه جماعة يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، والأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ كثيرة:
منها: أحاديث المسح على الخفين، ومنها: أحاديث رؤية الله -عز وجل- بالنسبة للمؤمنين يوم القيامة، ولهذا قيل:
مِمَّا تَوَاتَرَ حَدِيثُ: مَنْ كَذَبْ ... وَمَنْ بَنَى للهِ بَيْتًا وَاحْتَسَبْ
وَرُؤْيَةٌ شَفَـاعَةٌ وَالْحَـوْضُ ... وَمَسْحُ خُفَّيْنِ وَهَذَي بَعْضُ
أسأل الله -عز وجل- أن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
------------------------------------
[1] رواه أبو داود (4359) بإسناد صحيح، وصححه ابن تيمية في الصارم المسلول (2/219)، وابن الملقن في البدر المنير (7/450)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/1136)، والألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 301).
[2] أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
[3] أخرجه البخاري (7242)، ومسلم (1103).
[4] أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).
[5] رواه مسلم (2020).
[6] رواه مسلم (2021).
[7] رواه مسلم (813).
[8] رواه مسلم (1452).
[9] رواه مسلم (1977).
[10] أخرجه أبو داود (2870)، والترمذيُّ (2120)، وابن ماجه (2713)، وأحمد (22294). حسَّنه الإمامُ أحمد.