بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فقد تقدم الكلام على مسائل فيما يتعلق بالأمر ومباحثه.
وتوقف بنا الكلام على قول المؤلف -رحمه الله-: (وَالأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءٍ أَمْرٌ بِضِدِّهِ)، أي: إذا أَمَرَ الشارع بأمرٍ كالصَّلاة مثلا، فهو أَمَرٌ بها ونهيٌ عن جميع أضدادها التي تمنع من إقامتها، فإذا قيل مثلا: "أقم الصلاة"، فكأنه قال: لا يجوز لك أن تشتغل عنها بغيرها، فكل ما يُشغلك عن هذه الصلاة أنت منهي عنه؛ لأنه يحول بينك وبين فعلها.
ثم قال: (وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءٍ أَمْرٌ بِضِدِّهِ)، أي أنَّ الشَّارع إذا نهى عن شيء، فهو أَمرٌ بضد هذا الشيء، ولكن هذا ليس على إطلاقه، وذلك أنَّ النهي عن الشيء أمرٌ بضده إذا لم يكن له إلا ضد واحد، وأمَّا إذا تعددت أضداد المنهي عنه، فالنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده لا بجميعها، وذلك لأنَّ الأمر به ليس مقصودًا لذاته، وإنما للامتناع عن المنهي عنه، وهو يتحقق بمباشرة أحد أضداده، وهذا بخلاف الأمر؛ لأنه لا يتحقق فعله إلا بالامتناع عن جميع أضداده.
فالنَّهي عن الزنا مثلا أَمرٌ بأحد أضداده التي تمنع من فِعله وهي كثيرة، منها: النكاح، والصوم، والصبر، ونحو ذلك، ولهذا قال النبي ﷺ: «يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ؛ فإنَّه له وِجَاء»[1].
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَالنهْيُ: اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ، ويدل على فساد المنهي عنه).
النهي قَسيمُ الأمر؛ لأنَّ الأمرَ طلب الفعل والإيجاد، والنَّهي في اللغة هو: الكف والامتناع والترك، وأمَّا اصطلاحًا فعرَّفه المؤلف بقوله: (اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ).
فقوله: (اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ) الاستدعاء هو الطلب، وقوله: (الترك) خرج به الأمر، وقوله: (بالقول) هذا قيد، فيُخرج ما دلَّ على النهي بغير القول، كالإشارة، والكتابة، ونحو ذلك، فإنَّ ذلك لا يُسمى نهيًا اصطلاحًا، وإن دلَّ على النَّهي.
وقوله: (على سبيل الوجوب) أي: وجوب ترك المنهي عنه، ووجوب ترك المنهي عنه يقتضي التحريم، فدلَّ هذا على أنَّ النَّهي يقتضي التحريم، وهذا هو الذي رجحه المؤلف -رحمه الله-، وهذا القول هو الراجح، وهو مذهب الجمهور، أنَّ الأصل في النهي التحريم، ومما يدل على أنَّ الأصل في النهي التحريم:
أولا: قول الله -عز وجل-: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾ [الحشر:7].
ثانيًا: قول النبي ﷺ: «ما نَهَيْتُكُمْ عنْه فَاجْتَنِبُوهُ، وَما أَمَرْتُكُمْ به فَافْعَلُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ»[2]، فدلَّ هذا على أنَّ الأصل في النَّهي التحريم.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (ويدل على فساد المنهي عنه)، أي أن النَّهي يدل على فساد المنهي عنه، وظاهر كلامه على الإطلاق، وأنَّ النَّهي يقتضي فساده مُطلقًا، سواء عاد النَّهي إلى ذات المنهي عنه أو لا.
ولكن التحقيق في هذه المسألة أن يقال: إنَّ النَّهي باعتبار الفساد ينقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يعود النَّهي إلى ذات المنهي عنه، فحينئذ يقتضي الفساد وعدم الصحة، ومن أمثلة ذلك قول النبي ﷺ: «لا صَلاةَ بعْدَ الفَجْرِ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ، ولا بعْدَ العَصْرِ حتَّى تَغرُبَ»[3]، فهذا نهيٌ عائدٌ إلى ذات المنهي عنه، أي: إلى ذات الصلاة، وهو يقتضي الفساد، وكذلك نهيه ﷺ عن صوم يومي العيدين، فإنه يقتضي الفساد، فلو صام يوم عيد الفطر أو يوم عيد النحر، فإنَّ هذا الصيام محرم ولا يصح؛ لأنه منهي عنه لذاته.
ومن أمثلة ذلك أيضًا قول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة:9]، فقوله: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ هذا نهي عائدٌ على ذات المنهي عنه؛ فيقتضي الفساد، فعلى هذا لو عقد البيع بعد نداء الجمعة الثاني؛ فإنَّ العقدَ فاسدٌ ولا يصح؛ لأنه منهي عنه لذاته.
القسم الثاني من أقسام المنهي عنه: أن يعود النَّهي إلى شرط في المنهي عنه، كالنَّهي عن الصلاة بغير سترة، أي: من غير ستر عورة، فلو صلى الإنسانُ من غير طهارةٍ أو صلى من غير أن يستر عورته، فإنَّ هذه الصلاة فاسدة ولا تصح؛ لأنَّ النهي هنا يعود إلى شرط في العبادة على وجه يختص بها.
القسم الثالث من أقسام النهي: أنَّ يعود النَّهي على شرط في العبادة على وجه لا يختص بها، فلا يقتضي الفساد على القول الراجح، كما لو صلَّى في ثوب مغصوبٍ، فستر العورة شرط من شروط صحة الصلاة، فلو أنه ستر عورته بثوبٍ محرم، كما لو غصب ثوبًا أو سرق ثوبًا وستر به عورته وصلى، فإن صلاته في هذه الحال صحيحة.
ووجه الصحة أنَّ الشارع لم ينهَ عن الصلاة في الثوب المسروق، أو في الثوب المغصوب، بل نهى عن السرقة مُطلقًا، وعن الغصب مُطلقًا، فالجهة منفكة، أعني: جهة الأمر عن جهة النهي، وإذا كانت الجهة منفكة؛ فإنَّ هذا النهي لا يقتضي الفساد، ومن ثم أخذ العلماء -رحمهم الله- من هذا قاعدة، وهي: أنَّ النَّهي في العبادة لا يُفسدها إلا إذا كان خاصًا بها، وأمَّا إذا كان النَّهي عامًا فإنه لا يُفسدها، وأضربُ لذلك أمثلة توضح هذا المقام.
فمثلاً في هذه المسألة: لو أنَّ شخصًا صلَّى بثوب مغصوب، أو بثوب مسروق، فإنَّ صلاته صحيحة، ووجه الصحة أنَّ جهة النهي منفكة عن جهة الأمر، فالشارع نهى عن الغصب مُطلقًا، ونهى عن السرقة مُطلقًا، فلا يجوز للإنسان أن يغصب مال غيره، أو أن يسرق مال غيره، سواء سرق هذا المال ليستر به عورته للصلاة، أم لغير ذلك، فدلَّ هذا على أنَّ النَّهي هنا عامٌ وليس خاصًا.
ومن أمثلة ذلك الصيام: فالصيام له محرماتٌ خاصة، وهي: المفطرات، وله محرمات عامة، فالأكل والشرب والحجامة، ونحو ذلك من المفطرات إذا فعلها الإنسان عالِمًا بها مختارًا؛ فإنَّ صيامه يفسد بذلك؛ لأنَّه منهي عنها لذاتها.
وهناك محرمات في الصيام عامة، كالكذب، والغيبة، والنميمة، والسماع المحرم، والقول المحرم، ونحو ذلك، فلو أنَّ الصائم فَعَلَ محرمًا من هذه المحرمات وهو صائم، كما لو كذب في حديثه أو اغتاب أحدًا، أو شهد شهادة زور، ونحو ذلك، فإنَّ صيامه لا يفسد بذلك، وإن كان يأثم، وتنقص هذه الأمور من ثواب صيامه.
ووجه ذلك أنَّ هذه الأمور مثل: الكذب، والسب، والشتم، ليست محرمة لذات الصيام، بل تحريمها عام، فالكذب حرام على الصائم وعلى غيره، وإن كان في حال الصيام أشد، والغيبة محرمة على الصائم وغيره، وإن كانت في حقِّ الصائم أشد، ولهذا لَمَّا قيل للإمام أحمد: إنَّ فلانًا يقول: إنَّ الغيبة تُفَطِّرُ الصائم، قال -رحمه الله-: "لو كانت الغيبة تُفَطِّرُ ما كان لنا صوم".
والحاصل أنَّ القسم الثالث من أقسام المنهي عنه، أن يعود النَّهي إلى شرط في العبادة على وجه لا يختص بها، كالصلاة في الثوب المغصوب، والأرض المغصوبة، ونحو ذلك، فإنَّ العبادة تكون صحيحة.
ووجه ذلك: انفكاك الجهة؛ لأنَّ النَّهي عامٌ، والعبادة لا تُفسد بفعل المنهي عنه إلا إذا كان المنهي عنه خاصًا بها.
ويُستثنى من ذلك، أعني من هذه القاعدة، أنَّ العبادة لا تفسد بفعل المنهي عنه، إلا إذا كان النَّهي خاصًا بها، يُستثنى من ذلك: الحج؛ فإنَّ الحج لا يفسد بفعل المحرمات العامة أو الخاصة، سوى الجماع قبل التحلل الأول، فهو الذي يُفسد الحج. فلو أنَّ المحرم تَعَمَّدَ أن يُغطي رأسه، أو تعمد أن يتطيب، أو تعمد أن يلبس مخيطًا؛ فإنَّ حجه صحيح، ولكنه يأثم بذلك إذا كان متعمدًّا وعليه الفدية.
القسم الرابع من أقسام المنهي عنه: أن يعود النَّهي إلى أمرٍ خارج، لا يتعلق بذات المنهي عنه، ولا بشرطه مطلقًا، كما لو صلَّى وعليه عمامة من الحرير، فلبس الحرير منهي عنه، ولكن لو صلى وعليه عمامة حرير، فالصلاة صحيحة.
ووجه الصحة: أنَّ ستر الرأس ليس شرطًا من شروط صحة الصلاة، فسواء ستر رأسه أو كشفه فإن الصلاة تكون صحيحة.
واعلم أنَّ ما تقدم من مسائل الأوامر تتضح به أحكام النَّهي، فكل مسألة من مسائل النهي، تقاس على ما تقدم من مسائل الأمر، فالأمر كالنهي في المسائل السابقة، ولكنَّ النَّهي يفارق الأمر في ثلاث مسائل.
المسألة الأولى: أنَّ النَّهي يقتضي الفورية بالاتفاق؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق امتثال الأمر إلا بالفورية، وأمَّا الأمر فقد تقدم أنَّ فيه خلافًا من حيث اقتضاء الفورية.
المسألة الثانية مما يفارق فيه النَّهيُ الأمرَ: أنَّ النَّهي يقتضي التكرار، وذلك لأنَّ النَّهي لا يتحقق الامتثال به إلا بهذا، وذلك بأن يكف عن المنهي عنه مُطلقًا بخلاف الأمر كما سبق.
المسألة الثالثة من المسائل التي يخالف فيها الأمر النهي: أن النَّهي عن الشيء أمرٌ بأحد أضداده التي تمنع منه، بخلاف الأمر فهو نهي عن جميع أضداده التي تمنع من فعله.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَتَرِدُ صِيغَةُ الأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الإِبَاحَةُ، أَوْ التَهْدِيدُ، أَوْ التَّسْوِيَةُ، أَوْ التَّكْوِينُ) هذا شروع من المؤلف -رحمه الله- لبيان المعاني التي تستعمل لها صيغة "افعل"، فإنَّ صيغة "افعل" ترد للإباحة، وترد للتهديد، وترد للتسوية، وترد للتكوين، وترد لغير ذلك، وقد ذكر المؤلف -رحمه الله- أربعة من معاني الأمر.
الأول: الإباحة، أي أنَّ صيغة "افعل" تقتضي الإباحة، ومن أمثلة ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبً﴾ [البقرة:168]، وقال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُو﴾ [الأعراف:31]، وقال تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء:3]، فالأصل في الأوامر هنا: الإباحة، ولكن ليُعلم أنَّ كل مُباحٍ تجري فيه الأحكام الخمسة، فمثلا قول الله -عز وجل-: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُو﴾ فيه أمرٌ بالأكل والشرب، والأكل والشرب من حيث الأصل مُباح، ولكن تجري فيه الأحكام الخمسة، فقد يكون واجبًا، وقد يكون مُستحبًا، وقد يكون مُحرمًا، وقد يكون مُكروهًا، وقد يكون مُباحًا، فهو الأصل.
فيكون الأكل واجبًا، إذا كان فيه إنقاذ النفس من الهلاك، فالإنسان إذا خشي على نفسه الهلاك فيما لو ترك الأكل والشرب، فيجب عليه الأكل، ويجب عليه الشرب.
ويكون الأكل والشرب مُستحبًا كالسَّحور، فإنَّ النبي ﷺ قال: «تسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحورِ بَرَكةً»[4]، فأكلة السحر مُستحبة.
ويكون الأكل والشرب محرمًا كحال الصيام، فالصائم منهيٌ عن الأكل والشرب، فإذا تعمد ذلك، فقد فَعَلَ محرمًا.
ويكون الأكل والشرب مكروهًا وذلك فيما إذا كان يسبب للإنسان التخمة، بأن يأكل حتى يشبع، فتحصل له التخمة، فهذا مكروه، بل قد يصل إلى درجة التحريم.
والخامس يكون مباحًا وهو الأصل.
الثاني من معاني الأمر التهديد، كقول الله -عز وجل-: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارً﴾ [الكهف:29]، فالله -عز وجل- هنا في قوله: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ليس الأمر مُعلقًا بمشيئتهم، إن شاءوا آمنوا، وإن شاءوا كفروا، فهو لا يأمرهم بالكفر، أو يخيرهم بين الكفر والإيمان، وإنما تهديدٌ لهم بالعذاب فيما لو كفروا، بدليل قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارً﴾، ومثل ذلك قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ [إبراهيم:30].
الثالث من معاني الأمر: التسوية، أي التسوية بين الشيئين، والمراد بذلك الحال أو الشأن، أي سواء فعلت هذا أم فعلت هذا، فهما على حد سواء، ومن ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُو﴾ أنَّ المراد بذلك التسوية، أي إن صبرتم أو عجزتم عن الصبر، فهما على حد سواء، فأنتم في العذاب.
الرابع من معاني الأمر: التكوين، أي: طلب التكوين، والمقصود بالتكوين: التعجيز، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة:65]، وقال -عز وجل-: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبً﴾ [الإسراء:50-51]، فالأمر هذا ليس على ظاهره، فهو لا يقصد به الطلب، وإنما يُقصد به التعجيز، وهو المقصود بقول المؤلف: (التكوين).
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَأَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ مَا عَمَّ شيْئَيْنِ فَصَاعِداً مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ من قوله عممت زيدا وعمرا بالعطاء، وعممت جميع الناس بالعطاء، وَأَلْفَاظَهُ أَرْبَعَة: الاسْمُ الواحد الْمُعَرّفُ بِالألَفِ وَاللامِ، وَاسْمُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفُ بِاللامٍ، وَالأَسْمَاء الْمُبْهَمَةُ كَمَنْ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَمَا فِيمَا لا يَعْقِلُ، وَأَيٍّ فِي الْجَمِيع، وَأَيْنَ فِي الْمَكَانِ، وَمَتَى فِي الزَّمَانِ، وَمَا فِي الاسْتِفْهَامِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلا في النَّكِرَاتِ).
لَمَّا فرغ المؤلف -رحمه الله- من الكلام على الأمر ثم النهي، بدأ في أحكام العام والخاص، وهذا من الدلالات اللفظية على الأحكام.
والعام والخاص، وما يتعلق بهما الأحكام والمسائل من أهم وأعظم أبواب أصول الفقه؛ لأنه ما من لفظ من ألفاظ النصوص الشرعية من الكتاب والسنة إلا عام أو خاص، والعام إمَّا أن يبقى عمومه، وإمَّا أن يُخرج منه أحد أفراده، وهو الخاص، ولذلك كان لا بد لمن أراد أن يفهم الكتاب والسنة، لا بد أن يعرف أحكام العام والخاص، وهل هذا اللفظ الذي يريد أن يحتج به ويستدل به، هل هو باقٍ على عمومه؟ أو أنه مخصص إلى غير ذلك؟
والعام في اللغة بمعنى الشامل، وأمَّا في الاصطلاح فعرفه المؤلف بقوله: (وَأَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ مَا عَمَّ شيْئَيْنِ فَصَاعِداً مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ)، وقوله: (مَا عَمَّ شَيئين) لأنَّ الواحد مُفردًا، والاثنان مثنى، والعام جمع، فهو من الثلاثة فأكثر، على ما مشى عليه المؤلف -رحمه الله-.
وقوله: (من قوله: عممت زيدًا وعمرا بالعطاء، وعممت جميع الناس بالعطاء) مَثَّل -رحمه الله- للاثنين بقوله: (عممت زيدًا وعمرا بالعطاء)، وَمَثَّل بالأكثر أو للجمع بقوله: (وعممت جميع الناس بالعطاء)، واللفظ باعتبار العموم والخصوص على أقسام ثلاثة.
القسم الأول: عامٌ لا أعمَّ منه، وهو الشيء.
والقسم الثاني: عام وخاص بالنسبة، أي: عام لِمَا تحته، وهو خاص بما فوقه، كلفظ الرجال عام بالنسبة لأحدهم، زيد وعمرو وبكر ومحمد، وهو خاص بالنسبة لبني آدم، فهم أعم من ذلك، لدخول الرجال والنساء فيه.
والقسم الثالث: خاصٌ لا أخصَّ منه، وهو ما دلَّ على الواحد المفرد، كلفظ: زيد وعمرو وبكر.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وألفاظه أربعة)، والمراد بألفاظ العام: صيغه اللفظية التي وضعها العرب، بحيث أنها إذا وردت واستعملت، فُهِمَ منها إرادة العموم، ويُسميها الأصوليون: صيغ العموم، أي: الألفاظ التي إذا وردت فإنها تدل على العموم.
ثم قال -رحمه الله-: (وألفاظه أربعة: الاسم الواحد المعرف بالألف واللام)، يعني: به: اسم الواحد إذا سُبِقَ بالألف واللام، فـ "أل" المراد هنا "أل" الاستغراقية، فإذا دخلت على اللفظ المفرد؛ نقلت هذا اللفظ من كونه لفظًا يدل على الواحد، إلى كونه لفظًا يدل على العموم، بخلاف "أل" التي للعهد، فإنها لا تفيد العموم.
مثال ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر]. فقوله: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ﴾ هذا عام، فالمراد به جنس الإنسان، فيقتضي العموم، ولهذا استثنى منه فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، ولو كان المراد بالإنسان في قوله -عز وجل-: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ لو كان المراد به واحدًا لم يصحَّ الاستثناءُ من الواحد.
ومن أمثلة ذلك أيضًا قول الله -عز وجل-: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَ﴾ فهذا لفظ عامٌ، فالسارق والسارقة، أي: كل سارق وكل سارقة.
ومن أمثلة ذلك من السنة، قول النبي ﷺ: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ»، فقوله: «مَطْلُ الغَنِيِّ» أي: كل غني، فهذا اللفظ لا يختص بواحدٍ بعينه.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (واسم الجمع المعرف باللام) كلفظ: "المؤمنون" في قوله -عز وجل-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ﴾، فإنَّ هذا اللفظَ يدل على العموم لوجهين:
أولا: من "أل"، وثانيًا: أنه لفظ جمع، والمراد بالجمع هنا: اللفظ الواحد الدال على جماعة، فيدخل فيه الأنواع الثلاثة:
الأول: الجمع، قال الله -عز وجل-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ﴾، وكذلك قول الله -عز وجل-: ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال:34].
والثاني: اسم الجمع كقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
والثالث: اسم الجنس الجمعي، وهو ما يدل على أكثر من اثنين، ويفرق بينه وبين مفرده بالتاء، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَ﴾، فقوله: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ﴾ مفردها بقرة، أو بـ "الياء" كقوله تعالى: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ فالروم مفردها رومي.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَالأَسْمَاء الْمُبْهَمَةُ كَمَنْ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَمَا فِيمَا لا يَعْقِلُ، وَأَيٍّ فِي الْجَمِيع، وَأَيْنَ فِي الْمَكَانِ، وَمَتَى فِي الزَّمَانِ، وَمَا فِي الاسْتِفْهَامِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلا في النَّكِرَاتِ)
الأسماء المبهمة المراد بها: الأسماء التي لا تدل على معين، أو لا تدل على واحد بعينه، وهي: أسماء الشرط، والاستفهام، والأسماء الموصولة. هذه كلها تفيد العموم وسيأتي الكلام عليها مُفصلا -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لِمَا يحب ويرضى، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا وهدى وتوفيقًا وسدادًا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أسأل الله تعالى أن يُوفقنا لما يحب ويرضى، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا وعملا وهدى وتوفيقًا، وسدادًا، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
-------------------------------
[1] رواه البخاري (5065)، ورواه مسلم (1400).
[2] رواه مسلم (1337).
[3] أخرجه البخاري (1197) مطولاً، ومسلم (827).
[4] رواه البخاري (1923)، ومسلم (1095).