بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذا تعليق يسيرٌ على رسالةٍ مهمةٍ في أصولِ الفقه، للإمام الجويني -رحمه الله- المعروفة بـ "الورقات في أصول الفقه"، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعًا الإخلاص في القول والعمل، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزدنا علمًا وهدًى وتوفيقًا.
وأصول الفقه من العلوم المهمة، ويحسُن قبل الدخول في التعليق على هذا المتن أن نبيِّن معنى أصول الفقه:
الأصول: جمع أصل.
والأصل في اللغة: ما يبنى عليه غيره، ومنه أصل الجدار وهو أساسه، ويُطلق الأصل في النصوص الشرعية وفي كلام العلماء على عدة معانٍ:
المعنى الأول: الأصل بمعنى القاعدة المستمرة، كقولهم: "أكل الميتة على خلاف الأصل" أي: على خلاف القاعدة المستمرة.
المعنى الثاني: يطلق الأصل على الراجح أو الرجحان، ومنه قولهم: "الأصل في الكلام الحقيقة لا المجاز" أي: الراجح من الكلام أن يُحمل على الحقيقة لا على المجاز.
المعنى الثالث: يطلق الأصل على الدليل غالبًا، فيُقال: "الأصل في هذه المسألة قول الله -عز وجل- أو قول النبي الله عليه وسلم" أي الدليل.
المعنى الرابع: يطلق الأصل على المقيس عليه في باب القياس، لأن القياس إلحاقُ فرعٍ بأصلٍ في حكم لعلة جامعة.
المعنى الخامس: يطلق الأصل على أقل عدد تخرج منه المسألة أو فروضها بلا كسرٍ، وهذا في باب الفرائض.
فأصول الفقه يُعرَّف باعتبارين:
أولًا: باعتبار مفردَيه، أي باعتبار كلمة "أصول" وكلمة "فقه"، فالأصول: جمع أصل وهو ما يُبنى عليه غيره، ومن ذلك: أصل الجدار وهو أساسه، وأصل الشجرة الذي يتفرع منه أغصانها، قال الله -عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم/24].
وأما الفقه فهو في اللغة: بمعنى الفهم، قال الله تعالى عن موسى -عليه الصلاة والسلام: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه/27، 28].
وأما فقه اصطلاحًا: فهو معرفة الأحكام الشرعيَّة العمليَّة بأدلتها التَّفصيليَّة.
فالمراد بقولنا "معرفة": ما يشمل العلم والظن، لأن الأحكام الفقهية منها ما هو علم ومنها ما هو ظن باعتبار إدراكها، فبعض الأحكام الشرعيَّة قد يدركها الإنسان يقينًا وبعضها يدركها ظنًّا.
وقولنا "الأحكام الشرعية": أي الأحكام المتلقَّاة من الشرع، كالوجوب، والتَّحريم؛ فخرج بذلك أحكام العقليَّة، كمعرفة أنَّ الكلَّ أكبرُ من الجزءِ، وخرجَ به الأحكام العاديَّة، كمعرفة نزول المطر إذا كانت السماءُ ملبَّدةً بالغيوم.
وقولنا "العمليَّة" أي: ما لا يتعلَّق بالاعتقاد، كالصَّلاة والزكاة ونحوها؛ فخرج بذلك ما يتعلَّق بالاعتقاد كتوحيد الله -عز وجل- ومعرفة أسمائه وصفاته، فلا يسمى ذلك فقهًا اصطلاحًا، وإن كان يسمى فقهًا من حيث العلم الشَّرعي؛ بل التوحيد والعقيدة هو الفقه الأكبر.
وقولنا "بأدلتها التفصيلية" أي: أدلة الفقه المقرونة، فخرج بذلك أصول الفقه، لأن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجماليَّة.
وأما تعريف "أصول الفقه" باعتباره لقبًا لهذا الفن المعين: فيعرَّف بأنه علم يبحث عن أدلة الفقه الإجماليَّة، وكيفيَّة الاستفادة منها، وحال المستفيد.
فالمراد بقولنا "الإجمالية": القواعد العامة، كقولهم: "الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصحة تقتضي النفوذ"؛ فخرج بذلك التفصيلية، فإنَّ الأدلة التفصيلية لا تُذكر في علم أصول الفقه إلا على سبيل التَّمثيل للقاعدة.
وقولنا "وكيفية الاستفادة منها" المراد بذلك: معرفة كيف يستفيد الأحكامَ من أدلتها، وذلك بدراسة أحكام الألفاظ، ودلالاتها من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، وناسخ ومنسوخ، وغير ذلك، فإنه بإدراكه لذلك يستفيد من أدلة الفقه الإجمالية.
وقولنا "وحال المستفيد" أي: معرفة حال المستفيد، وهو المجتهد، وسمي المجتهد "مستفيدًا" لأنه يستفيد الأحكام من أدلتها بنفسه، وذلك ببلوغه مرتبة الاجتهاد، فمعرفة المجتهد، وشروط الاجتهاد، وحكم الاجتهاد وما يتعلق بذلك؛ يُبحث في علم أصول الفقه.
وأصول الفقه علمٌ عظيمُ القدرِ، بالغُ الأهمية، له فائدة عظيمة وهي التَّمكُّن من حصول قدرةٍ يستطيع بها المجتهد أن يستنبطَ الأحكامَ الشرعيَّة من أدلتها على أسسٍ سليمةٍ.
وأول مَن جمع هذا الفن كفنٍ مستقلٍّ هو الإمام الشافعي -رحمه الله-، ثم تتابع العلماء -رحمهم الله- بعد ذلك، فألَّفوا في هذا العلم التَّآليف ما بين منثورٍ ومنظومٍ ومختصرٍ ومبسوطٍ، حتى صار فنًّا مستقلًّا له أُسسه وله مميزاته.
قال المؤلف -رحمه الله: (بِسمِ اللَّه الرَّحمَنِ الرَّحِيم).
بدأ المؤلف -رحمه الله- بالبسملة اقتداء بكتاب الله -عز وجل-، فإنه مبدوءٌ بالبسملة، وتأسِّيًا بسنة الرسول ﷺ، فإنَّه كان يفتتح كتبَه ومراسلاته بالبسملة، وعملًا بقول النبي- صلى الله عليه وسلم: «كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأُ فيه ببسمِ اللهِ فهوَ أبترُ»[1]، أي: أقطع ناقص البركة.
فالبسملة بركة واستعانة بالله -عز وجل- على المراد، ولهذا إذا ذُكرت عند الذَّكاة أو الصَّيد صار حلالًا طيبًا، وإن تُركِت صار حرامًا خبيثًا، وإذا سمى الإنسان عند أكله لم يشاركه الشيطان، وإن ترك التسمية شاركه الشيطان.
والمؤلف هنا بدأ بالبسملة ولم يذكر الحمدلة والصلاة على النبي ﷺ طلبًا للاختصار.
ثم قال -رحمه الله: (هَذِهِ وَرَقَات تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ فُصُولٍ مَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ مُؤَلَّف مِنْ جُزْءَيْنِ مُفْرَدَيْنِ، فالأَصْلُ: ما يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْفَرْعُ: مَا يُبْنَى عَلَى غَيْرِهِ، وَالْفِقْهُ: مَعْرِفَةُ الأحكَامِ الشّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الاجْتِهَادُ).
قوله -رحمه الله: (هَذِهِ وَرَقَات)، الورقات جمع ورقة، وهو جمع قلة يفيد التَّقليل، سواء كان التَّقليلُ تقليلًا حقيقيًا أو كان تقليلًا معنويًّا، وهذا التَّقليل هنا يشمل التَّقليل الحقيقي لأنَّ هذه الرسالة رسالة قليلة، فهي ورقات معدودة، وهو أيضًا تقليلٌ معنوي، لأن التقليل المعنوي يهونُ على الطالب الشُّروع في دراسة هذا العلم.
وقوله: (تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ فُصُولٍ مَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ).
الفصول: جمع فصلٍ، وهو في اللغة الحاجز بين الشَّيئين، وقد اصطلح العلماء -رحمهم الله- في مصنفاتهم على تقسيمها إلى كتبٍ، وأبوابٍ، وفصولٍ، ومسائلَ.
وقوله: (وَذَلِكَ مُؤَلَّف مِنْ جُزْءَيْنِ مُفْرَدَيْنِ)، بدأ -رحمه الله- بتعريف علم أصول الفقه، فقال: (وَذَلِكَ مُؤَلَّف مِنْ جُزْءَيْنِ مُفْرَدَيْنِ)، أي باعتبارين لا باعتبار واحد، فإن علم أصول الفقه يُعرَّف باعتبار مفرديه -كما تقدم- ويُعرَّف بكونه لقبًا واسمًا لهذا الفن وقد تقدم الكلام على ذلك.
وقوله: (وَذَلِكَ مُؤَلَّف)، أي: مركب من جزئيين مفردين:
أحدهما: الأصول.
والثاني: الفقه.
قال: (فالأَصْلُ: ما يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْفَرْعُ: مَا يُبْنَى عَلَى غَيْرِهِ)، عرَّف الأصول بأن مفردها "أصل"، فاحتاج أن يبيِّن معنى الأصل، وعرَّف الفرع من باب البيان والإيضاح، لأنه مقابلٌ للأصل، وقد تقدَّم أن كلمة "أصل" تطلق في اصطلاح العلماء على إطلاقات خمس:
الإطلاق الأول: القاعدة المستمرة، ومنه قولهم: "أكل الميتة على خلاف الأصل"، أي: على خلاف القاعدة المستمرة، ومنه قولهم أيضًا: "الأصل في الأسماء والصفات إثباتها على مراد الله -عز وجل"، أي أن هذه القاعدة مستمرة في كل اسمٍ وصفةٍ لله -عز وجل.
ومنه قول علماء أصول الفقه: "الأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم"، أي أن هذا هو القاعدة المستمرة.
ومنه قول علماء اللغة: "الأصل في الفاعل أنه مرفوع، والأصل في المفعول أنه منصوب"، وهكذا.
الإطلاق الثاني: أنه يُطلق على الدليل، وهذا هو الغالب الأعم، فيُقال مثلًا: "الربا محرم، والأصل في ذلك قول الله -عز وجل: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَ﴾ [البقرة/275]".
الإطلاق الثالث من إطلاقات كلمة "الأصل": أنها تُطلق بمعنى "الراجح"، فيُقال: "الأصل في الكلام الحقيقة لا المجاز"، أي إذا دار الأمر بين أن يكون الكلام حقيقةً أو مجازًا؛ فإنه يُحمل على الحقيقة.
الإطلاق الرابع: يُطلق "الأصل" على المقيس عليه، وذلك في باب القياس.
الإطلاق الخامس: يُطلق الأصل على أقل عدد تخرج منه المسألة أو فروضها بلا كسرٍ، وهذا في باب الفرائض.
ثم قال -رحمه الله: (وَالْفِقْهُ: مَعْرِفَةُ الأحكَامِ الشّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الاجْتِهَادُ).
قوله (معرفة) ولم يقل "العلم"، لأن الأحكام الشرعيَّة منها ما هو علمٌ يقيني، ومنها ما هو ظنٌّ.
والفرق بين المعرفة وبين العلم من وجهين:
الوجه الأول: أن المعرفة انكشافٌ بعد لُبسٍ، أي أن الإنسان كان جاهلًا فعلم، وهذا بخلاف العلم، ولهذا لا يجوز أن نصف الله تعالى بأنه "عارف" لأن المعرفة انكشاف بعد لُبسٍ، أي أن الإنسان يكون جاهلًا ثم يعلم.
وأما قول النبي ﷺ: «تَعرَّف إلى اللَّهِ في الرَّخاءِ، يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ»[2]، فالمراد بالمعرفة هنا: لازمها، أي: اعمل أعمالًا في حال صحتك وحال نشاطك وحال رخائك تكون ذخرًا لك عند الله -عز وجل- في حال شدتك.
الفرق الثاني بين العلم والمعرفة: أن العلم يقين، وأما المعرفة فتشمل اليقين والظن.
وقوله: (الأحكَامِ الشّرْعِيَّةِ) خرج بذلك الأحكام العقليَّة، كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء، وخرج به الأحكام العادية التي طريق معرفتها التجربة، كمعرفتنا بنزول المطر إذا كانت السماء ملبدةً بالغيوم.
وقوله: (الَّتِي طَرِيقُهَا الاجْتِهَادُ)، الأحكام الشرعية على نوعين:
النوع الأول: أحكام قطعيَّة مسلَّمٌ بها لا تقبل النظر والاستدلال والاجتهاد، وذلك كالمسائل التي أجمع عليها العلماء، وكمسائل العقيدة، فهذه لا سبيل إلى الاجتهاد فيها، لأنها معلومة بالضرورة من الدين.
النوع الثاني: أحكامٌ ظنَّيَّة قابلة للاجتهاد، وهي مما تختلف فيه الآراء، وهذا هو المراد بقول المؤلف: (الَّتِي طَرِيقُهَا الاجْتِهَادُ)، فمراده بذلك: المسائل الظنية، وأما المسائل القطعية فإنها لا تدخل في ذلك.
وكان على المؤلف -رحمه الله- حينما عرَّف "علم الفقه" أن يقرِنَ ذلك بمعرف الدليل وأن يقول: "بأدلتها" وذلك لأن معرفة المسائل بدون دليل عليها ليس فقهًا وليس علمًا، بل هو تقليد محضٌ، كما قيل:
والعِلمُ مَعْرِفَةُ الهُدَى بِدَلِيلِهِ ... مَا ذَاكَ والتَّقليدُ مُستَويَانِ
ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعرفة الدليل في كل مسألة من المسائل، سواء كان الدليل دليلًا أثريًّا أم كان دليلًا عقليًّا نظريًّا، وذلك لأن معرفة الدليل فيها فوائد:
أولًا: زيادة طمأنينة الإنسان، فإن الإنسان إذا عرف الدليل ازداد طمأنينة إلى الحكم.
ثانيًا: أنه ادعى إلى امتثال الحكم، والإقبال عليه، والتنشيط على الامتثال.
ثالثًا: أنه يكون معه حجة أمام الله -عز وجل- لأنه سيُسأل عن ذلك، سيسأل عما جاءت به الرسل، قال الله -عز وجل: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص/65].
رابعًا: أنه يتمكَّن من إقناع غيره، فإذا عرف الدليل تمكَّن من إقناعه، بأن يقول له مثلًا: هذا واجب لقول الله تعالى كذا، أو محرم لقول الله -عز وجل- كذا، أو لقول النبي ﷺ ونحو ذلك.
خامسًا: أن الإنسان بمعرفته للدليل يتعبَّد لله -عز وجل- على علمٍ وبصيرةٍ، ولا يكون كالمقلِّد الذي يأخذ بقولِ غيره، ويقبل قولَ غيره من غير معرفةٍ لدليله أو تعليله.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَالأحْكَامُ سَبْعَة: الْوَاجِبُ، وَالمَنْدُوبُ، والْمُبَاحُ، والْمَحْظُورُ، وَالمَكْرُوهُ، وَالصَّحِيحُ، وَالْبَاطِلُ.
فَالْوَاجِبُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
وَالْمَنْدُوبُ: مَا يُثَاب عَلَى فِعْلِهِ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
وَالْمَحْظُورُ: مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ.
وَالْمُباحُ: مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ.
وَالْمَكْرُوهُ: مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ.
وَالصَحِيحُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَيُعْتَدُّ بِهِ.
وَالْبَاطِلُ: مَا لا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ وَلا يُعْتَدُّ بِهِ).
لما عرَّف المؤلف -رحمه الله- الفقه بأنه: معرفة الأحكام الشرعية، كان من المناسب أن يبين هذه الأحكام وأن يعرِّف هذه الأحكام الشَّرعية، وهي: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم، والصحة، والفساد؛ وذلك أن الأحكام الشرعية نوعان:
النوع الأول: الأحكام التكليفية وهي: ما طلب الشارع فيها فعلًا أو تركًا أو تخييرًا، وتعرف بأنها: ما اقتضاه خطاب الشرع، من أمرٍ أو تخييرٍ أو وضعٍ، فيدخل في ذلك الأحكام الخمسة، التي بينها المؤلف -رحمه الله- بقوله: (فَالْوَاجِبُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ...، إلى آخره).
النوع الثاني من الأحكام: الأحكام الوضعية وهي ما دل عليها خطاب الشرع بجعل شيءٍ علامةً على شيءٍ، وقد ذكر منها المؤلف -رحمه الله- اثنين فقط وهما: الصحيح والباطل.
ثم شرع المؤلف -رحمه الله- في بيان الأحكام التكليفيَّة، فقال: (فَالْوَاجِبُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ).
الواجب في اللغة: بمعنى الساقط، وبمعنى اللازم.
فيأتي الواجب بمعنى اللازم، كقولهم: "حقك واجب عليَّ"، ومنه قول النبي ﷺ: «الغُسْلُ يَومَ الجُمُعَةِ واجِبٌ علَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»[3].
ويطلق الواجب بمعنى: الساقط، ومنه قولهم: "وجبت الشمس" أي: سقطت، ومن ذلك قول الله -عز وجل: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَ﴾ [الحج/36]، أي: سقطت.
وأما اصطلاحًا فقد عرفه المؤلف بقوله: (مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ)، أي أن الواجب من الأفعال: ما بفعله يُثاب المكلَّف ويؤجر، ويعاقب على تركه ويأثم.
وهذا التعريف من المؤلف -رحمه الله- تعريف بالحكم، لا بالحدِّ والحقيقة، وهو وإن كان فيه إيضاح، بل قد يكون أوضح، ولكن هذا من الأمور المعيبة عند علماء هذا الفن وعند المناطقة، ولهذا قيل:
وَعِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرْدُودِ ... أَنْ تَدْخُلَ الْأَحْكَامُ فِي الْحُدُودِ
وأما تعريف الواجب باعتبار الحد والحقيقة، فهو: ما أَمر به الشَّارع على سبيلِ الإلزام بالفعلِ.
فقولنا: "ما أمر به الشارع" خرج بذلك المحرَّم والمكروه والمباح، لأن المحرم والمكروه منه عنهما، وأما المباح فلا يتعلق به أمر ولا نهي.
وقولنا: "ما أمر به الشارع" خرج بذلك ما يأمر به غير الشارع، فلا يسمى واجبًا اصطلاحًا.
وقولنا: "على سبيل الإلزام بالفعل" خرج بذلك المستحب، لأنه مأمورٌ به، ولكن لا على سبيل الإلزام بالفعل.
وأما حكمه: فقد عرفه المؤلف بقوله: (مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ)، وهذا التعريف للحكم قد يكون فيه نظرٌ، وذلك لأنه جزَمَ بالعقوبةِ، فقال: (وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ) مع أن الله -عز وجل- قد يعفو عنه، ولهذا عبَّر بعضهم بعبارةٍ أدق مما قال المؤلف، فقال: "ما يثاب على فعله امتثالًا ويستحق العقاب تاركه"، ولم يجزم لأن الله تعالى قد يعفو عنه، ولكن ما ذكره المؤلف -رحمه الله- وما ذكره غيره له وجه، وهو قوله (وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ)، ووجه ذلك باعتبار الأصل، لأن الأصل هو المعاقبة، فالأصل أن من ترك واجبًا أنه يُعاقب، وأن من فعل محرمًا فإنه يُعاقَب، إلا أن يعفو الله -عز وجل- عنه.
ثم إن الواجب نوعان: واجب عيني، وواجب كفائي.
فالواجب العيني: ما طُلب من كل مكلف بعينه.
والواجب الكفائي: هو الذي إذا قام به مَن يكفي سقط الإثم عن الباقين.
والواجب العيني والواجب الكفائي -وإن شئت فقل: فرض العين، وفرض الكفاية- يشتركان ويفترقان:
فيشتركان في أمرين:
الأمر الأول: أن الخطاب فيهما موجَّه إلى الجميع، فالخطاب في الواجب العيني -أو في فرض العين- موجَّه إلى جميع المكلفين، والخطاب في الواجب الكفائي -أو في فرض الكفاية- موجه إلى الجميع.
الأمر الثاني مما يشتركان فيه: أنَّ المكلفين إذا تركوهما أثموا، فإذا تركوا جميعًا الواجبَ العيني والواجبَ الكفائي فإنهم يأثمون بذلك.
ويفترقان في: ثاني حال، لأن الواجب الكفائي -أو فرض الكفاية- إذا قام به مَن يكفي سقط الإثم عن الباقين بخلاف الواجب العيني.
وإذا أردت أن تعرف الضَّابط في فرض العين وفي فرض الكفاية: فانظر إلى مقصود الشَّارعِ، فإن كان مقصود الشَّارع هو إيجاد الفعل بقطع النَّظر عن الفاعل فهو فرض كفاية، وإن كان المقصود هو الفاعل، فهو فرض عين، ولهذا قيل:
والأمرُ إنْ رُوعِي فيه الفاعل ... فذاك ذو عينٍ وذاكَ الفاضلُ
وإنْ يُراعَ الفعلُ معْ قطعِ النَّظَرْ ... عن فاعلٍ فذو كفايةٍ أُثِرْ
وفرض العين أفضل من فرض كفاية لأن الله -عز وجل- أوجبه على كل مكلَّف بعينه، وأمَّا قولُ من قال من العلماء: إنَّ فرض الكفاية أفضل، لأن القائم به قائم بالواجب عن نفسه وعن غيره؛ فهذا فيه نظر، بل فرض العين أفضل، ويدل على أفضليته أن الله تعالى أوجبه عينًا على كلِّ مكلفٍ، ولم يجعل الأمر فيه منوطًا لبعض المكلفين دون بعض.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَالْمَنْدُوبُ: مَا يُثَاب عَلَى فِعْلِهِ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ).
يقال في حد المؤلف -رحمه الله- هنا كما تقدم في الواجب، وأنه -رحمه الله- عرَّف المندوبَ بالحكم لا بالحد.
والمندوب من الندب، وهو في اللغة: بمعنى الطلب، ومنه قول الشاعر:
لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُمْ ... في النَّائِبَاتِ على ما قال بُرْهَانَا
قوله "حين يندبهم" أي: حين يطلبهم.
ويُطلق الندب بمعنى الدعاء.
وأمَّا المندوب اصطلاحًا: فهو ما أمرَ به الشَّارع، لا على سبيل الإلزام بالفعل.
وحكمه: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَالْمُباحُ: مَا لا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ).
الإباحة في اللغة: بمعنى الأذن، كما يقال أباح فلان لفلان كذا، أي: أذن له.
وأما اصطلاح فقد عرفه المؤلف فيما تقدَّم من أن المباح: ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
وقيل إن المباح: ما لا يتعلق به أمر ولا نهي.
فإذا قال قائل: ما وجه إدخال المباح في الأحكام التكليفية، مع أنه لا يتعلق به تكليف لأنه ليس فيه أمر ولا نهي؟
فالجواب عن ذلك من أحد وجهين:
الوجه الأول: أن هذا من باب التَّغليب، فأدخل المباح، وإن كان لا يتعلَّق به أمرٌ ولا نهي.
الوجه الثاني: أن على المكلف أن يعتقد إباحة المباح، وهذا الاعتقاد نوع من التَّكليف، فيجب عليه مثلًا أن يعتقد تحريم الخمر، وأن يعتقد إباحة بهيمة الأنعام ونحو ذلك، وهذا الاعتقاد يعتبر تكليفًا.
والمباح -أو الحلال- هو الأصل في جميع الأشياء، سواء كان ذلك من الأعيان، أم من الحيوانات، أم من غيرها؛ وذلك أن الأشياء أربعة أقسام: عبادات، ومعاملات، وأعيان، وعادات.
فأما الأول: وهو العبادات؛ فالأصل فيها الحظر والمنع، قال الله -عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى/21]، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ»[4].
الثاني: المعاملات، والأصل فيها الحل والإباحة، لقول الله -عز وجل: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَ﴾ [البقرة/275]، فمن ادَّعى تحريم معاملةٍ من المعاملات فعليه الدليل.
الثالث: أما الأعيان وهي ما خلقه الله -عز وجل- من النبات والأشجار والحيوانات؛ فالأصل فيها الحل والإباحة، لقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعً﴾ [البقرة/29]، وقال -عز وجل: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية/13].
الرابع: العادات، فالأصل كذلك فيها الحل والإباحة، فما اعتاده الناس من العادات والأعراف، فالأصل حلها وإباحتها إلا إذا كان فيها مخالفة للشَّرع.
هذا ما تيسَّر الكلام عليه في هذه الحلقة، وأسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا جميعًا الفقه في دينه، وأن يوفقنا لهداه، ويجعل عملنا في رضاه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
[1] مجموع فتاوى ابن باز (25/135).
[2] أخرجه الترمذي (2516) بنحوه، وأحمد (2803).
[3] أخرجه البخاري (880)، ومسلم (846).
[4] أخرجه البخاري (2697) بنحوه، ومسلم (1718).