الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، قال- رحمه الله تعالى: (وَمِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ أَصْلاَ وَفَرعًا، خِلافًا وَمَذْهبًا).
شرع المؤلف -رحمه الله- في بيان الإفتاء وأحكامه، والمفتي: هو المخبر بحُكمٍ شرعيٍّ، ومقامُ الإفتاء مقام عظيم، يجب على المؤمن ألا يتصدَّى له إلا وعنده من الأهلية والعلم ما يكون له حجة أمام الله -عز وجل-، ولهذا قال المؤلف: (وَمِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ أَصْلاَ وَفَرعًا، خِلافًا وَمَذْهبًا، وَأنْ يَكُونَ كَاملَ الآلَةِ في الاجْتِهَادِ)، فلا بد في المفتي -على ما مشى عليه المؤلف- لا بد أن يكون مجتهدًا.
والمجتهد: هو الذي يعرف من أدلة الكتاب والسنة وما يكون تابعًا لهما ما يتمكَّن به من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها من الكتاب والسنة.
وقوله -رحمه الله: (وَأنْ يَكُونَ كَاملَ الآلَةِ في الاجْتِهَادِ)، أي أن يكون مجتهدًا، وتقدم معنى المجتهد.
ثم إن المجتهدين ينقسمون إلى أقسام:
القسم الأول: مجتهد مطلق، وهو الذي يتمكَّن من استنباط الأحكام الشرعية من نصوصها من الكتاب والسنة، فيستنبطها بنفسه.
القسم الثاني: مجتهد بين المذاهب، بحيث إنه يخرج عن مذهبه، لكن لا يخرج عن المذاهب الأربعة.
القسم الثالث: مجتهد في المذهب، فيجتهد في أقوال إمامه، وفي الرواية عنه، وفي أقوال أصحاب المذهب، فيختار ما يرى أنَّ الدليل يدل عليه.
القسم الرابع: مجتهد في باب من أبواب الفقه، كالفرائض مثلًا.
القسم الخامس: مجتهد في مسألة من المسائل.
والواجب على المفتي أن يتقي الله -عز وجل-، وألَّا يتصدر لهذا المكان ولهذا المنصب إلا إذا توافرت فيه الشروط والأهلية، ومن ذلك:
- أن يكون عنده علم بالأحكام الشرعية.
- أن يكون له علمٌ وحلمٌ ووقارٌ وسكينة.
- أن يكون قويًّا على ما هو فيه وعلى معرفته.
- أن يكون ورعًا متعففًا متكففًا، لا يمد يده أو يُذل نفسه للناس؛ لأنه حينئذٍ يُستضعف ويُستصغر.
قال -رحمه الله: (وَمِنْ شَرْطِ الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَكُون أَهلًا للتقليد، وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يُقَلِّدَ)، أي أنَّ المستفتي لا يستطيع أن يفهم الحكم الشرعي بنفسه، وأن يستنبطه بنفسه، فحينئذٍ وظيفته السؤال والتقليد، قال الله -عز وجل: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، فالواجب على مَن لم يعرف الحكم الشرعي، سواء كان من طلبة العلم ولكنه لم يبلغ مرتبة الاجتهاد والتمكن منه، أو كان عاميًّا؛ الواجب على كل هؤلاء أن يسألوا إذا جهلوا؛ لقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
قال: (وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يُقَلِّدَ)، أي ليس للعالم الذي يتمكَّن من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها أن يقلد غيره، وأن يتبع قول غيره، إلا تعذر ذلك بالنسبة إليه، وأمَّا إذا كان يتمكَّن من أن يستنبط الحكم بنفسه، فالواجب عليه أن يستنبط الحكم بنفسه؛ لأن العالم إذا استنبط الحكم بنفسه، يكون استنباطه للحكم أقوى في قلبه من تقريره لغيره.
قال -رحمه الله: (والتَّقْلِيدُ: قَبُولَ قَوْلِ القَائِلِ بِلا حُجَّةٍ، فَعَلَى هَذَا قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ يُسَمَّى تَقْلِيدًا)، وهذا اللازم الذي ذكره المؤلف بقوله: (فَعَلَى هَذَا قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ يُسَمَّى تَقْلِيدًا)، هذا ليس بلازم، وذلك لأنَّ قول النبي ﷺ حُجة في ذاته، فليس فيه تقليد لقول الغير، الذي يتبع قول النبي ﷺ لا يقال عليه مقلدًا، بل إنه متبع؛ لأنه اتبع من كان قوله حجة، واتباع قول غير النبي ﷺ ليس بحجة، وهذا هو الفرق بين قبول قول القائل غير النبي ﷺ بلا حُجة، وبين قبول قول النبي ﷺ.
فقبول قول النبي ﷺ أمر واجب وهو حُجَّة؛ لأنَّه هو الشرع وهو الحجة، وقبول قول غير النبي ﷺ بلا حجة، وقبول قول غير النبي ﷺ بلا حجة يُسمى تقليدًا؛ لأنَّ قول غيره ليس حجة، فكل مَن سوى النبي ﷺ فإنه يُحتج لقوله ولا يحتج بقوله.
قال -رحمه الله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ قَالَهُ)، أي أن تقبل قولًا قاله عالم وأنت لا تدري من أين أتى بهذا القول؟
قال- رحمه الله: (فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ بِالْقَياسِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى قَبُولُ قَوْلِهِ تَقْلِيدًا)، وهذا فيه نظر -كما تقدم- لأنَّ أقوال النبي ﷺ وأفعاله حجة، فلا يصح أن تسمى قياسًا، أو أن يُسمى من اتبعها وتأسَّى بها مقلِّدًا، بل هو عالم، لأنَّ العالم حقيقة هو من يعرف الحكم بدليله، فإذا عرف الإنسان الحكم بدليله من كتاب أو سنة فهو عالم، كما قيل:
وَالعِلمُ مَعرِفَةُ الهُدَى بِدَلِيلِه ... مَا ذَاكَ والتَّقلِيدُ مُستَوِيَانِ
والحاصل: أن التقليد هو قبولُ قولِ الغير من غير حجة، بأن يتكلم عالمٌ مثلا بقول من الأقوال، فتأخذ به من غير أن تأخذ بهذه الحجة، أو أن تعلم هذه الحجة، وإنما اعتمادًا على ثقتك به، هذا يُسمى تقليدًا، وأمَّا إذا اتَّبعتَ هذا العالم وعرفتَ دليله فعلمتَ الحكم بدليله؛ فهذا لا يسمى تقليدًا، فمَن يعرف الحكم بدليله يُسمى عالِمًا، وأمَّا من يعرف الحكم من غير الدليل فيسمى مقلِّدًا.
قال- رحمه الله: (وَأَمَّا الاجْتِهَادُ فَهُوَ: بَذْلُ الْوُسْعِ فِي بُلُوغِ الْغَرَضِ، فَالْمُجْتَهِدُ إنْ كَانَ كَامِلَ الآلَةِ فِي الاجْتِهَادِ فَإنْ اجْتَهَدَ فِي الْفُرُوعِ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِن اجتَهَدَ فِيهَا وأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ).
شرع المؤلف -رحمه الله- في بيان الاجتهاد وشيءٍ من أحكامه.
والاجتهاد: افتعال من الجُهد أو الجَهد، وهو في الأصل: بذل الجهد والطاقة لإدراك أمرٍ من الأمور، ومن ذلك قول الله -عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: 79]، أي لا يجدون إلا طاقتهم وما يقدرون عليه.
وأمَّا اصطلاحًا: فالاجتهاد هو بذل الجهد والطاقة لإدراكِ حكمٍ شرعيٍّ، أي أن المجتهد يبذلُ جهده وطاقته في تحصيل الحكم الشرعي، وفي إدراك الحكم الشرعي، وفي معرفة أدلته وما يتعلَّق بذلك.
وقد تقدَّم بيان أقسام المجتهدين، وأن المجتهدين ينقسمون إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: مجتهد مطلق.
والقسم الثاني: مجتهد بين المذاهب.
والقسم الثالث: مجتهد في المذهب.
والقسم الرابع: مجتهد في باب من الأبواب.
والقسم الخامس: مجتهد في مسألة من المسائل.
قال- رحمه الله: (فَالْمُجْتَهِدُ إنْ كَانَ كَامِلَ الآلَةِ فِي الاجْتِهَادِ فَإنْ اجْتَهَدَ فِي الْفُرُوعِ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِن اجتَهَدَ فِيهَا وأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ واحد).
ودليل ذلك قول النبي ﷺ: «إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ» ، فكل مجتهد فإنه مصيب للأجر، لكن إن أصاب الحق فله أجران: أجر إصابة الحق، وأجر الاجتهاد، وإن لم يصب الحق فله أجر واحد وهو أجر اجتهاده.
وليعلم أنَّ كلَّ مَن بحث مسألة علمية واجتهدَ فيها وأخطأ في الحكم شرعي؛ فإن خطأه يرجعُ إلى واحد من أسباب خمسة:
السَّبب الأول: نقص العلم، بحيث لا يكون عنده من العلم ما يتمكن به من معرفة هذا الحكم الشرعي، وحينئذ يقع في الخطأ.
السَّبب الثاني: القصور في الفهم، بأن يكون عنده علم لكنه قاصر من حيث الفهم، وحينئذ يقع في الخطأ.
السَّبب الثالث: التقصير في الطلب، بحيث إنه لا يبذل جهده وطاقته، وإنما يبحث قليلًا ثم يقول لم أجد شيئًا، وحينئذ يقع في الخطأ.
السَّبب الرابع: سوء الإرادة والقصد، بأن يكون قصده من البحث والمراجعة الانتصار لنفسه أو لمذهبه أو لشيخه ونحو ذلك، فمثل هذا لا يوفَّق للصواب.
السَّبب الخامس: الذنوب والمعاصي، فإنَّ الذنوب والمعاصي سببٌ لحرمان العبد فضل الله -عز وجل- والتوفيق، ولهذا قال الشافعي- رحمه الله:
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي ... فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِــأَنَّ العِلــــمَ نــــورٌ ... وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصـــي
فعلى طالب العلم أن يحرصَ على البحث والتَّحري والاجتهاد، والاجتهاد الحقيقي الذي يُؤجَر فاعله عليه هو ما تحققت فيه ثلاثة شروط:
الشَّرط الأول: أن يكون من أهل الاجتهاد -أي في علمه- أي بلغ مرتبة في العلم تؤهله إلى الاجتهاد في الأحكام الشرعية.
الشَّرط الثاني: أن تكون المسألة المجتَهَد فيها مما يصح فيها الاجتهاد، فخرج بذلك أصول العقيدة، والمسائل التي أجمع عليها العلماء، فمثل هذا ليس محلًّا للاجتهاد، لأنه إذا اجتهد فيها فقد خالف النَّص أو خرق الإجماع.
الشَّرط الثالث: أن يكون اجتهاده موافقًا للنصوص الشرعية والقواعد المرعيَّة المعروفة عند الأئمة في هذا الشأن.
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَمِنهُم مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كُل مُجْتَهِدٍ فِي الأُصُولِ الْكَلامِيَّةِ مُصِيبًا، لأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَصْوِيبِ أَهْلِ الضَّلالَةِ مِنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْكُفارِ، وَالْمُلْحِدِينَ، وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ: "لَيْسَ كُل مُجْتَهِدٍ فِي الفُرُوعِ مُصِيبًا "، قَوْلُهُ ﷺ: «مَنِ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنِ اجتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحِدٌ»، وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَّأَ الْمُجْتَهِدَ تَارَةً وَصَوَّبَهُ أُخْرَى).
ختم المؤلف -رحمه الله تعالى- كتابه بهذه المسألة، وهي: هل كل مجتهدٍ مصيب أو لا؟ أي هل كل مجتهد توصَّل لرأي رجَّحه هل يكون مصيبًا للحق؟ أي هل كلُّ من اجتهد أصاب الحق؟
هذا من لازمه أن يكون الحق متعدِّدا عند الله -عز وجل- أو أنه ليس كل مجتهد يكون مُصيبًا، والصَّحيح في هذه المسألة: أن المصيبة في الفروع واحد، فليس كلُّ مجتهد يكون مُصيبًا؛ لأن الحق عند الله -عز وجل- واحد، فمَن أصابه فقد أدرك الحق، ومن لم يصبه فهو مخطئ، ولكنه معذور باجتهاده، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء وعامَّة المذاهب.
ودليل هذا القول: "أنه ليس كل مجتهد يكون مصيبا"، قول الله- عز وجل: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 78، 79]، فميز الله تعالى نبيه سليمان عن أبيه داود بهذا الفهم، بقوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾، مما يدل على أنه أصاب الحق، ولو كان الحق مُتعددًا وكلاهما مصيبًا ما كان لتخصيص سليمان ثمرة ولا فائدة ولا معنى.
ومما يدل على أنه ليس كل مجتهد يكون مصيبًا: قول النبي ﷺ: «إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ» ووجه الدلالة في هذا الحديث: أنَّ النبي ﷺ خَطَّأَ المجتهد تارة، وَصَوَّبَهُ أخرى، كما قال المؤلف: (وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَّأَ الْمُجْتَهِدَ تَارَةً وَصَوَّبَهُ أُخْرَى)، فهذا دليل على أنَّ الحق واحد، إذ لو كان الحق متعددًا لم يخطِّئ أحدًا منهما، بل كلهم كان مصيبًا.
ومما يدل على أنه ليس كل مجتهد يكون مصيبًا، أننا لو قلنا: "إن كل مجتهد يكون مصيبا للحق" لكان لله -عز وجل- حكمان في المسألة، فتكون المسألة في حكم الله تكون حرامًا وحلالًا، تكون صحيحة وفاسدة؛ وهذا يلزم منه التَّناقض والجمع بين النقيضين!
فتبين بهذا أنه ليس كل مجتهد يكون مصيبًا بالنسبة لحكم الله -عز وجل-، وإلا للزم من ذلك أن يكون حكم الله تعالى في المسألة أكثر من حكم.
وليعلَم أنَّ العالم وطالب العلم متى أخلص النية لله -عز وجل- وجدَّ واجتهد في تحري الحق وفي البحث عن الحق، فإن الله تعالى يوفقه وييسر أمره، وينبغي للعالم ولطالب العلم إذا أراد أن يبحث مسألة وأعيته أن يكثر من الاستغفار؛ فإن الاستغفار سبب للفتح، وقد أشارَ الله تعالى إلى ذلك بقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 105، 106]، فقال: ﴿لِتَحْكُمَ﴾ ثم قال: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ مما يدل على أن الاستغفار له شأن عظيم في الفتح على الإنسان.
ووجه ذلك: أنَّ الاستغفار من تقوى الله تعالى، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].
ولنختم التعليق على هذه الرسالة القيمة -وهي الورقات للإمام الجويني- بوصية جامعة لطالب العلم، وهي أن يعلم طالب العلم فضل العلم، فالعلم فضله عظيم، وشرفه كبير، فهو نوع من الجهاد في سبيل الله، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 73]، فالكفار يُجاهَدون بالسيف والسنان، والمنافقون يُجاهَدون بالعلم والبيان، والأمة الإسلامية في زمننا في حاجة -بل في ضرورة- إلى النوع الثاني من أنواع الجهاد، وهو الجهاد بالعلم لأسباب ثلاثة:
السبب الأول: ظهور كثير من البدع والخرافات التي لم تكن معروفة من قبل.
السبب الثاني: ظهور متعالمين يدعون العلم والافتراء على الشريعة والشريعة منهم براء.
السبب الثالث: ظهور جدار ومرآة في مسائل هي من ثوابت الشريعة، صار بعض الناس يجادل فيها.
فلهذه الأسباب الثلاثة وهي أهمها صارَ طلبُ العلم في هذا الزمن من الأمور المهمة التي تحتاجها الأمة، ولذلك يتعيَّن على طالب العلم في هذا الزمن أن يجدَّ ويجتهد ويحرص على العلم الشرعي، فإن العلم الشرعي فضله عظيم، قال النبي ﷺ: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» ، وقال: «مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ» ، وقال: «وَما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ» ، لهذا ينبغي لطالب العلم أن يتأدب بآداب العلم، ومن أهمها:
أولًا: الإخلاص لله -عز وجل-، فإن العلم عبادة، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، فيخلصُ في طلبه للعلم.
والإخلاص في طلب العلم يتحقق بأمور:
أولًا: أن ينوي بطلبه للعلم رفع الجهل عن نفسه، لأجل أن يعبد الله تعالى على علم وعلى بصيرة من أمره، لأنَّ الإنسان وُلد جاهلًا وخرج من بطن أمه جاهلًا، كما قال- عز وجل: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: 78]، فينوي أولا بطلبه للعلم أن يرفع الجهل عن نفسه.
ثانيًا: أن ينوي بطلبه للعلم رفع الجهل عن غيره، فإذا رفعَ الجهل عن نفسه فإنه يسعى إلى أن يرفع الجهل عن غيره، وهذا من حقوق المسلم على أخيه المسلم، بل هو من تمام الإيمان؛ لقول النبي ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
ثالثًا: أن ينوي بطلبه للعلم الدفاع عن شريعة الله ممن يحاول أن يستنقصها، أو أن يورد الشُّبَه والشكوك فيها أو عليها.
رابعًا: أن ينوي بطلبه للعلم الدعوة إلى الله -عز وجل-، لأن الدعوة إلى الله لا يمكن أن تتمَّ إلا بالعلم الشرعي، لقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]، فلا بد للداعية إلى الله -عز وجل- من أن يكون عن علم وبصيرة فيما يدعو إليه، وفيمن يدعوه، وفي طريق الدعوة ووسيلتها التي يوصلها إلى المدعو.
ثانيًا من آداب طالب العلم: أن يحرص على الجد، والاجتهاد والمصابرة والمثابرة في طلب الشرعي، فالعلم الشرعي نوع من الجهاد، فهو يحتاج إلى صبر ومصابرة ومثابرة، وقد قال الله -عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].
والعلم يحتاج إلى تفرغ تام، ولهذا قيل: العلم إن أعطيته كلَّكَ أدركت بعضه، وإن أعطيتَه بعضَك فاتك كلُّه، فمهما تفرغ الإنسان للعلم الشرعي فإنه لن يدرك العلم كله وإنما يدرك بعضًا منه، قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].
وأما إذا كان الإنسان يجعل للعلم أوقاتًا يسيرة ولا يتفرغ للعلم فلن يدرك العلم، وإن أدرك أمورًا ومسائل يسيرة تكون متفرقة.
ثالثًا من آداب طالب العلم التي ينبغي له أن يتَّصف بها: أن يحرص على الحفظ، فحفظ المتون هو أساس العلم، وهو الخزينة التي يتمكن طالب العلم من الاغتراف منها ومن الأخذ منها متى شاء، فطالب العلم على قدر حفظه يرتقي في العلم، فينبغي أن يحرص على حفظ المتون، فيحفظ في كل فن من فنون العلم متنًا يتعلق بهذا الفن، سواء كان الفن من العقيدة، أو الفقه، أو أصول الفقه، أو النحو أو غير ذلك.
وينبغي لطالب العلم حينما يختار متنًا من المتون لحفظه أن يكون هذا المتن فيه ثلاثة أوصاف:
أولًا: أن يكون المتن مُعتَمَدًا عند علماء الفن.
وثانيًا: أن يكون المتن محرَّرًا، بحيث تكون المسائل الموجودة في هذا الفن محرَّرة ومعتمدة في المذهب أو عند علماء هذا الفن.
ثالثًا: أن يكون هذا المتن مخدومًا بالشروح والحواشي؛ لأجل أن يرجع إليها إذا أشكل عليه عبارة أو أشكلت عليه مسألة من المسائل، فيرجع إلى هذه الشروح والحواشي والتعليقات.
رابعًا من آداب طالب العلم: أن يحرص على التواضع ولين الجانب، فلا يستكبر ولا تظهر عليه الخيلاء وأن يرى نفسه منزلة فوق منزلته التي أنزله الله تعالى، لأنه قد يوجد من المنتسبين للعلم من يظن أنه إذا تعلم شيئًا من الأحكام الشرعية أنه فاق الناس وأنه فوق الناس فيستكبر عليهم؛ وهذا من الخطأ! بل الواجب على العالم وعلى طالب علم أنه كلما ارتفع في العلم تواضع، ومن تواضع لله -عز وجل- رفعه، وحينئذ لا يستكبر ولا يستنكف عن سؤال مَن دونه ممن يكون عنده علم وإحاطة في مسألة من المسائل، فقد يكون عند التلميذ في مسألة من المسائل ما ليس عند شيخه، فلا يلزم من الفضل العام الفضل الخاص.
خامسًا من آداب طالب العلم: أن يحرص على الضبط والمراجعة مع نفسه ومع إخوانه، بحيث يستذكر ويُراجع ما درسه وما حفظه؛ لأن المراجعة سبب لثبات العلم واستقراره في قلبه.
سادسًا من آداب طالب العلم وهو من أهمها: أن يكون عاملًا بعلمه، فيحرص على العمل بالعلم؛ لأن العمل بالعلم هو ثمرة العلم، فعلمٌ بلا عمل كشجرٍ بلا ثمر؛ بل حينئذٍ يكون العلم حجة عليه عند الله -عز وجل- كما قال النبي ﷺ: «والقُرْآنُ حُجَّةٌ لكَ أو علَيْكَ» ، فيحرص طالب العلم على العمل بالعلم.
وطالب العلم إذا عمل بما علم فإنه يستفيد فوائد:
أولًا: أنه اتقى الله -عز وجل- حيث إنه عمل بهذا العلم ليكون له حجة عن الله -تبارك وتعالى.
ثانيًا: إذا عمل بعلمه ازداد علمًا، فيزيده الله تعالى علمًا وهدًى وتوفيقا، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]، وقال- عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282].
ثالثًا: إذا عمل بعلمه، فإنه يحفظ العلم، لأن العلم إذا لم يعمل به الإنسان فإنه يُنسى.
رابعًا: أن الإنسان إذا عمل بالعلم فإنه يزداد ثقة عند الناس، يكون موثوقًا عندهم محبوبًا مقبولًا، فيحتجُّون بأقواله، ويرجعون إليه عند السؤال؛ لأنهم يرونه يطبق علمه تطبيقًا عمليًّا؛ فيزداد ثقة عند الناس، وهذا من عاجل بشرى المؤمن، أن يكون له قبول عند الناس في الدنيا، فهي من عاجل البشري للمؤمن عند الله -عز وجل.
سابعًا من آداب طالب العلم: أن يحرص على ضبط الأصول والقواعد والضوابط، فإن المسائل والفروع الفقهية لا حصر لها، وإنما تُحصر بالقواعد والضوابط والأصول، فعليه أن يحرص على ضبط الأصول والقواعد والضوابط.
وقيل:
اغْتَنِمِ القواعدَ الأصُولَا ... فمَنْ تَفُتْهُ يُحْرَمِ الوُصُولَا
ولهذا قيل: من حُرم الأصول حُرم الوصول.
ثامنًا من الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يحرص عليها: أن يحرص على تقييد ما يمر به من الفوائد والمسائل النادرة، وألا يعتمد في ذلك على حافظته، فالإنسان مهما قويت ذاكرته فإنه عرضة للنسيان، فإذا مرَّت به فائدة أو قاعدة أو مسألة من المسائل الغرائب أو مر به نقل من النقول التي يحسن لطالب العلم أن يحفظها وأن يعرفها؛ فليقيد ذلك إما كتابة وإما إشارة إلى موضعه من الموضع الذي مرَّ عليه أثناء قراءته.
تاسعًا من الآداب والأمور التي ينبغي أيضا لطالب العلم أن يعتني بها: أن يحرص على التَّركيز في طلب العلم الشرعي وفي المطالعة، فليس العلم بكثرة القراءة، وليس العلم بكثرة جمع الكتب؛ ولكن العلمَ بضبط الأصول والقواعد والضوابط، فطالب العلم إذا حرص على أمهات المصادر، وأمهات الكتب، وركَّز عليها تركيزًا بحيث أنه ينقطع على هذه الكتب وهذه المصادر والمراجع الأصيلة؛ فإنه يستفيد كثيرًا، بخلاف الذي يشتت ذهنه وعقله في القراءة، تارة في هذا الكتاب وتارة في هذا الكتاب، فمثل هذا في الواقع لا يصح أن يُوصَف بأنه طالب علم، وإنما يصح أن يوصف بأنه مثقَّف، والمثقفُ هو من يعرف مِن كل شيءٍ شيئًا.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لِمَا يحبُّ ويرضى وأن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل ذلك حجَّة لنا لا علينا وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن يوفق ولاة أمرنا لِمَا يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدًا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.