بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد توقف بنا الكلام في التَّعليق على هذه الرسالة الطيبة المباركة وهي (الورقات في أصول الفقه) عند أقسام الكلام.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا أَقْسَامُ الْكَلَامِ: فَأَقَلُّ مَا يَتَرَكبُ مِنْهُ الْكَلامُ: اسْمَانِ، أَوْ اسْمٌ وَفِعْل، أَوْ فِعْلٌ وَحَرْف، أَوْ اسْمٌ وَحَرْف.
وَالْكَلامُ يَنْقَسِمُ إِلى: أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ، وَاسْتِخْبَارٍ، وَيَنْقَسِمُ أَيْضاً إِلَى تَمَنٍ، وَعَرْضٍ، وَقَسَمٍ)
لَمَّا ذكر المؤلف فيما تقدَّم "أصول الفقه" وعرفه باعتبار مفرديه، وباعتباره لقبًا لهذا الفن، وذكرَ أحكام التكليفية والأحكام الوضعية، ولما كان أصول الفقه مستمَدًّا من كتاب الله -عز وجل- ومن سنة رسوله ﷺ ومن لغة العرب كان لزامًا على من أراد أن يفهم كلام الله، وأن يفهم كلام رسوله ﷺ فهمًا صحيحًا؛ أن يتعلم اللغة التي نزل بها القرآن -وهي اللغة العربية- فذكر -رَحِمَهُ اللهُ- شيئا من المباحث اللفظية، ولا ريب أن معرفة اللغة العربية، ولا سيما ما يحتاج إليه في فهم نصوص الكتاب والسنة؛ من أجلِّ العلوم ومن أفضل العلوم، وله ثمرة جليلة عظيمة، وهي أنه يستعين بمعرفته باللغة العربية، بفهم كلام الله وفهم كلام رسوله ﷺ.
فبدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بقوله: (فَأَمَّا أَقْسَامُ الْكَلَامِ: فَأَقَلُّ مَا يَتَرَكبُ مِنْهُ الْكَلامُ: اسْمَانِ، أَوْ اسْمٌ وَفِعْل، أَوْ فِعْلٌ وَحَرْف، أَوْ اسْمٌ وَحَرْف).
قوله: (فَأَقَلُّ مَا يَتَرَكبُ مِنْهُ الْكَلامُ)، وأما أكثره فلا حدَّ له، ولهذا لم يذكره، فجميع ما يُتلفَّظ به في مسائل العلم من الكلام على قسمين: قسم مستعمل، وقسم مهمل.
- فالمهمل: كل كلام وضع لغير فائدة.
- والمستعمل: كل كلام وضع للفائدة.
وقد قسَّم -رَحِمَهُ اللهُ- أقل الكلام المستعمل المفيد إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: اسمان، كقولهم: "زيد قائم"، فـ "زيد" اسم، و"قائم" اسم فاعل، والجملة هنا جملة اسمية من مبتدأ وخبر.
القسم الثاني: اسم وفعل، كقولك: "جاءَ زيدٌ أو قامَ زيدٌ" ونحو ذلك، فـ "قام" فعل ماض، و"زيد" فاعل، والجملة هنا جملة فعلية، مركبة من فعل وهو "قام" أو "جاء" ومن فاعل وهو "زيد".
القسم الثالث: اسم وحرف، كقولك مثلا: "يا زيد" فـ "يا" حرف نداء، و"زيد" اسم منادى.
القسم الرابع: فعل وحرف، كقولك: "ما قامَ" فـ "ما" حرف من حروف النفي، و"قام" فعل منفي.
ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْكَلامُ يَنْقَسِمُ إِلى: أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ، وَاسْتِخْبَارٍ)، هذا تقسيم للكلام باعتبار معانيه، وذلك أن الكلام:
إما أن يراد به إيجاد الفعل وطلب الفعل: فهذا هو الأمر.
وإما أن يراد به طلب الترك: فهذا هو النهي.
وإما أن يكون إعلامًا وخبرًا مجردًا: فهذا هو الخبر.
وإما أن يراد به طلب الخبر: فهو الاستخبار، والاستخبار: هو الاستفهام.
والكلام باعتبار معناه ينقسم إلى هذه الأقسام الأربعة:
القسم الأول: طلب الفعل، وهو الأمر.
والقسم الثاني: طلب الترك، وهو النهي.
والقسم الثالث: الإعلام، وهو الخبر.
والقسم الرابع: الاستعلام، وهو طلب الاستخبار.
ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَنْقَسِمُ أَيْضاً إِلَى تَمَنٍ، وَعَرْضٍ، وَقَسَمٍ)، أي: ينقسم الكلام أيضًا، و "أيضًا" مصدر "آضَ يئيضُ" إذا رجعَ.
ينقسم إلى:
- تمنٍّ، والتمني هو: تشوف النفس إلى المطلوب، وهو طلب حصول الأمر المرغوب فيه، سواء كان ممكنًا أم ممتنعًا.
ومنه قول الشاعر:
ألا لَيتَ الشَبابَ يَعودُ يَومًا *** ...............................................
وأمَّا التمني فهو أعم من الترجي؛ لأن الترجي لا يكون إلا في الأمر المستحيل، أو الذي يمتنع حصوله، وأما التمني فهو أعم لأنه يكون فيما يُمكن حصوله وما لا يمكن حصوله.
- وعرض: وهو الطلب برفق، كقولك: "ألا تأتيني، ألا تعطيني، ألا تصلي" ونحو ذلك، فهو طلب برفق.
- وَقَسَم: وهو توكيد الشيء بذكر معظم على صفة مخصوصة، فالقسَم يراد به التوكيد للكلام الذي يخبر به الإنسان، وذلك أن المخبَر لا يخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يكون المخبر خالي الذهن، ليس عنده ما يردِّد ذهنه في قبول الخبر، فحينئذٍ يُلقَى إليه الخبر مجردًا من غير توكيد، فيقال مثلا: "جاء زيد أو قدم زيد".
والحال الثانية: أن يكون المخبر عنده نوعٌ من التردد، فحينئذ يحسن توكيد الكلام بقسَمٍ أو بغيره، فيُقال مثلًا: "لقد قدم زيدٌ. أو: لقد جاء زيد أو: والله لقد جاء زيد" ونحو ذلك.
والحال الثالثة: أن يكون المخبَر منكِرًا للخبر، أو يُخشى من إنكاره، فحينئذ التوكيد بقسَمٍ أو بغيره، بأن تقول: "لقد قدم زيد" على سبيل الوجوب، أو "والله لقد قدم زيد" ونحو ذلك.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ.
فَالْحَقِيقَةُ: مَا بَقِيَ فِي الاسْتِعْمَالِ عَلَى مَوْضُوعِهِ. وَقِيلَ: مَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ.
وَالْمَجَازُ: مَا تُجُوِّزَ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ.
وَالْحَقِيقَةُ: إِمَّا لُغَوِيَّةٌ، وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ، وَإمَّا عُرْفِيَّةٌ).
شرع المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في تقسيم الكلام باعتبار استعماله، أي: باعتبار استعمال الكلمة للمعنى، أو بتقسيم الكلام باعتبار الوضع.
فاللفظ المفيد باعتبار أصل استعماله ينقسم إلى: حقيقة ومجاز.
ثم إن الحقيقة قد يكون مصدرها اللغة أو العرف أو الشرع:
- فإن كان مصدرها هو اللغة العربية: فهي الحقيقة اللغوية.
- وإن كان مصدرها الشرع: فهي الحقيقة الشرعية.
- وإن كان مصدرها العرف: فهي الحقيقة العرفية.
وبهذا يتبين أن الكلام باعتبار الاستعمال ينقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: الحقيقة اللغوية.
القسم الثاني: الحقيقة العرفية.
القسم الثالث: الحقيقة الشرعية.
القسم الرابع: المجاز.
فالحقيقة اللغوية عرفها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بقوله: (مَا بَقِيَ فِي الاسْتِعْمَالِ عَلَى مَوْضُوعِهِ. وَقِيلَ: مَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ)، والمراد بذلك: أنَّ العرب إذا وضعت لفظًا لمعنى في أول وضع اللغة، فاستعمال هذا اللفظ لذلك المعنى الذي وضعوه له هو الحقيقة اللغوية، فمثلًا لفظ "أسد" استُعمل أولًا ما استعمل في الحيوان المفترس، فحقيقة "أسد" أنه الحيوان المفترس، فالعرب حينما وضعوا هذه الكلمة وضعوها لهذا الحيوان، فإذا قيل: "أسد" فالمتبادر إلى الذهن هو هذا الحيوان، ولا أن يتبادر غيره من الحيوانات.
ولهذا فإنَّ من علامات الحقيقة: التبادر الذهني، أي أنه بمجرد أن يتلفظ بهذا اللفظ، يتبادر إلى الذهن المعنى الذي وضعته العرب وهو الحقيقة، لكن قد يُطلق هذا اللفظ الذي وضع حقيقة على هذا الحيوان مثلًا قد يُطلق على غيره تجوُّزًا، فتقول: "رأيت أسدًا يقاتل قتالًا شديدًا" والمراد بذلك: الشجاع، وتقول مثلًا: "رأيت أسدًا يضرب بسيفه ضربًا"، فتريد بذلك المقاتل الشجاع ونحو ذلك.
ولهذا قال: (مَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ)، فهذا يفيد أن كل لفظ استعمل فيما اصطلح عليه عند المخاطبة هو الحقيقة، وحينئذ يدخل في ذلك الحقائق الثلاث: الحقيقة اللغوية، والحقيقة العرفية، والحقيقة الشرعية.
فالحقيقة اللغوية: هي اللفظ الذي له معنى في اللغة.
والحقيقة العرفية: هو اللفظ الذي له معنى في العرف.
والحقيقة الشرعية: هو اللفظ الذي له معنى في الشرع.
وها هنا قاعدة مُفيدة: وهي أن الأصل أن يُحمل كل كلام على عرف الناطق به، فإن كان الناطق به من أهل اللغة حُمل على المعنى اللغوي، وإن كان الناطق به من أهل العرف حُمل على المعنى العرفي، وإن كان الناطق من أهل الشرع حُمل على المعنى الشرعي.
فمثلًا لفظ "الصلاة" له معنى في اللغة، وله معنى في الشرع، فالصلاة في اللغة: بمعنى الدعاء. والصلاة في الشرع: هي العبادة المعروفة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، فالأصل أن نحمل لفظ "الصلاة" إذا ورد في اللغة العربية على الدعاء، إلا ذا دلَّ دليلٌ على خلاف ذلك، والأصل أن نحمل لفظ "الصلاة" إذا ورد في الشرع على الحقيقة الشرعية -وهي العبادة- إلا إذا دل دليل على ذلك، فمن ذلك قول الله- عز وجل: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 103]، خذ فالمراد بقوله: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ أي: ادعُ لهم. والذي يفسر هذا هو فعل الرسول ﷺ فإنَّه كان إذا أوتي بالصدقة، قال: «اللهمَّ صلِّ على آل فلأن».
وإن كان اللفظ قد وُضع عرفًا فيُحمل على المعنى العرفي، فمثلا لفظ "الدابة" يطلق في العرف على ذوات الأرباع، وأما في اللغة فيُطلق على كل ما يدبُّ على الأرض، سواء كان من ذوات الأربع أو من الزَّواحف، أم من غير ذلك؛ قال الله- عز وجل: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ [النور: 45]، فبين -سبحانه وتعالى- في هذه الآية أن لفظ "الدابة" يطلق على كل ما يدب وجه الأرض، سواء كان من ذوات الأربع أم من غيرها.
ثم إنَّ الحقيقة العرفيَّة على قسمين:
القسم الأول: حقيقة عرفية عامة، وهي الألفاظ التي نُقلت من مسماها إلى غيره بالعرف لعموم الناس.
القسم الثاني: حقيقة عرفية خاصة، أي أن أهل هذا البلد اصطلحوا على أن هذا اللفظ يُراد به كذا، أو أن علماء هذا الفن اصطلحوا على أن هذا اللفظ يراد به كذا، وهكذا...، كالتوحيد، والعقيدة، والواجب، والسنة، والمرسل، والتقليد، ونحو ذلك.
وإذا تعارضت الحقائق الشرعية واللغوية والعرفية، فإن كان النَّاطق من أهل الشرع حُمل على الحقيقة الشرعية، وإن كان من أهل اللغة حُمل على الحقيقة اللغوية، وإن كان من أهل العرف حُمل على الحقيقة العرفية، إلا أن يدل الدليل على خلاف ذلك.
فالقاعدة في هذا الباب: أنَّ كل كلام يُحمل على عرف النَّاطق به.
وأما المجاز؛ فالمجاز في اللغة: من التَّجوُّز، وهو التَّعدي والعبور.
وأمَّا اصطلاحا فعرفه المؤلف بقوله: (وَالْمَجَازُ: مَا تُجُوِّزَ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ)، أي أنه اللفظ الذي تُجوِّز -أي عُبِّر- به ونُقِل عن موضوعه الذي وُضع له.
فمثلًا لفظ "الأسد" وضع أول ما وضع على الحيوان المفترس، فإذا قلت: "رأيت أسدا" فالذي يتبادر إلى الذهن هو الحيوان المفترس، لكن لو قلت: "رأيت أسدا يقاتل قتالًا شديدًا"، فالمراد بذلك: الرجل الشجاع؛ فتُجُوِّز باللفظ ليراد به الإنسان الشجاع تشبيهًا له بالأسد في باسلته وفي شجاعته.
ولا بد في المجاز من أمرين:
الأمر الأول: وجود العلاقة، وهي المعنى المشترك بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، ففي المثال السابق:
المعنى المشترك بين "الأسد" الذي هو الحيوان وبين المقاتل هو: الشجاعة.
الأمر الثاني: القرينة التي تدل على ذلك، فالقرينة هي التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، لأنه لا يمكن أن يُحمل الكلام على حقيقته، فإذا قلت: "رأيت أسدًا يقاتل في سبيل الله"، فإنه يمتنع أن يكون المراد بذلك الحيوان المفترس لاستحالة وقوع ذلك منه.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْمَجَازُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بزِيَادَةٍ، أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ نَقْلٍ، أَوْ اسْتِعَارَةٍ.
فَالْمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيس كَمِثلهِ شَيءٌ﴾ .
وَالْمَجَازُ بِالنُّقْصَانِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَسئَلِ اَلقَريَةَ﴾ .
وَالْمَجَازُ بِالنقل كَالغَائِطِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ.
وَالْمَجَازُ بِالاستِعَارَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿جِدَاراً يُرِيدُ أَن ينَقَضَّ﴾ ).
تقدم أنَّ من شروط المجاز: أن توجد علاقة بين الحقيقة والمجاز، وقد ذكر علماء البلاغة وعلماء الأصول أنواعًا من العلاقات في المجاز، والمؤلف هنا ذكر أربعة منها:
الأول: المجاز بالزيادة، والمراد بذلك: أن يكون اللفظ فيه زيادة عن لفظ الحقيقة، ومثَّل المؤلف لذلك بقوله: ﴿لَيس كَمِثلهِ شَيءٌ﴾ على اعتبار أنَّ الكاف زائدة، ولو لم يقل بزيادة الكاف لكان المعنى: ليس مثل مثله شيء؛ هكذا قال مَن يرى وقوع المجاز في اللغة العربية.
القسم الثاني: المجاز بالنقصان، وهو عكس الأول، فالأول مجازٌ بزيادة لمعنى بلاغي، كتأكيد النفي، فإن البلاغة تكون أيضًا بالنقصان أو بالحذف، كقوله- عز وجل: ﴿وَسئَلِ اَلقَريَةَ﴾ .
القسم الثالث: المجاز بالنقل، والمراد بالنقل: استعمال اللفظ لمعنى آخر غير الذي وضع له، فاللفظ هو اللفظ بحروفه العربية المستعمل في اللغة، لكن التَّجوُّز ليس في تغيير اللفظ أو العبارة، وإنما في نقلِ اللفظ من دلالته على معنًى إلى دلالته على معنًى آخر.
ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ ، فالغائط: في الأصل هو المكان المنخفض من الأرض، ثم أُطلق ذلك على الخارج المستقذَر، لأنَّ الإنسان إذا أرادَ أن يقضي حاجته طلبَ لقضاء حاجته مكانًا مستترًا منخفضًا عن أعين الناس.
القسم الرابع: المجاز بالاستعارة. والاستعارة: هي أخذ الشيء إلى غيره، فهو ليس موجودًا في هذا اللفظ من حيث الأصل، لكن بالاستعارة حصلَ المجاز.
ومن أمثلة ذلك قول الله- عز وجل: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ [الكهف: 77] ووجه هذا المثال: أن الله تعالى قال عن الجدار: ﴿يُرِيدُ﴾ ومن المعلوم أن الإرادة من صفات الأحياء، لأنها لا بد لها من قابلية، فالجماد لا إرادة له ولا قابلية له، فلا يُوصَف بأنه يريد أو بأنه يفعل، ولكن هنا استعار هذه الإرادة للجماد لما وُجد من هذا الجدار ميلٌ وقربٌ إلى الهوي والسقوط، فشبه الجدار في هذه الحال وكأنه الذي يريد أن يسقط بنفسه، فاستعارَ له ما ليس له.
هذه أقسام المجاز.
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في ثبوت المجاز في اللغة العربية:
القول الأول: وهو قول أكثر علماء اللغة، بل جُلهم وكذلك علماء أصول الفقه، وهو إثبات المجاز، وأنه ثابت ثبوتًا لا مرية فيه.
القول الثاني: إنكار المجاز وعدم ثبوته، وممن ذهب إلى هذا القول: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى- فقد أنكرا وجود المجاز في اللغة العربية.
القول الثالث: إثبات المجازِ في اللغة دون القرآن، فأثبتوا المجاز في اللغة العربية، وأمَّا القرآن فنفوا أن يكون فيه مجازًا، قالوا: لئلا يُتخذَ ذلك وسيلةً وسلمًا إلى نفي صفات الله -عز وجل- التي أثبتها لنفسه في كتابه، أو أثبتها له رسوله ﷺ.
وهذا القول فيه نظر! ووجه النظر: أنَّ القرآن الكريم بلسان عربي مبين، كما قال -عز وجل: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 192-195]، وإذا كان القرآن بلسان عربي مبين، فمِن لازم ذلك: أننا إذا أثبتنا في اللغة أن نثبتها في القرآن، وإن نفيناه في اللغة أن ننفيه في القرآن.
هذا مجمل أقوال أهل العلم -رحمهم الله- فيما يتعلق بالمجازِ ثباتًا ونفيا.
قال الموفق -رَحِمَهُ اللهُ- في روضة الناظر بعد أن ذكر هذه الأقوال: "ومن منع فقد كابر"، أي: من منع المجاز وقال إن العربية لا مجاز فيها؛ فقد كابر، قال: "ومن سلَّم -أي سلم بالمجاز- وسماه بغير اسمه، فهو اصطلاح لا مشاحة فيه".
فكونه يقول: "هذا ليس مجازًا هذا أسلوب من أساليب اللغة"، يقول -رَحِمَهُ اللهُ: سمِّ هذا أسلوبا من أساليب اللغة أو سمه ما شئت؛ فهذا اصطلاح، وإلا فإن أصل المجاز موجود في اللغة العربية، والله تعالى أعلم وأحكم.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالأمرُ: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ، وَالصِّفَةُ الدَّالّةُ عَلَيْهِ: افْعَلْ، وَهِيَ عِنْدَ الإِطْلاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الْقَرِينَةِ تُحْمَلُ عَلَيْهِ، إِلا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ مِنْهُ النَّدْبُ أَوْ الإِبَاحَةُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَلا يَقْتَضي التَّكْرَارَ عَلَى الصَّحِيحِ إِلا إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَصْدِ التكْرَارِ، وَلا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَالأمرُ بِإيجَادِ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لا يَتِمُّ الْفِعْلُ إِلا بِهِ، كَالأَمْرِ بِالصلَوَاتِ أمْرٌ بِالطَّهَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلْيَهَا وَإِذَا فُعِلَ يَخْرُجُ الْمَأْمُورُ عَنْ الْعُهْدَةِ).
لَمَّا فرغ مؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- من الكلام على أقسام الكلام باعتبار الوضع والاستعمال؛ شرعَ في بيان أقسام الكلام باعتبار الطلب، والكلام باعتبار الطلب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أمر، وهو طلب الإيجاد.
القسم الثاني: نهي، وهو طلب الكف أو الترك.
وذلك لأن الأمر إما أن يكون طلب فعل: فهو الأمر. وإما أن يكون طلب تركٍ: فهو النهي.
والأمر في اللغة: بمعنى الحال أو الشأن، سواء كان قولًا أم فعلًا، ومنه قول- عز وجل: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: 97].
ويطلق الأمر على طلب الفعل، ومنه قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: 90].
أما اصطلاحًا فقد عرف المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- الأمر بقوله: (وَالأمرُ: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ).
الاستدعاء: بمعنى الطلب، والفعل هنا هو المأمور به، إذا جاء فهو طلب منك أن تفعل.
قوله: (اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ) هذا على سبيل التغريب، وإلا فإن الأوامر الشرعية قد تستدعي الفعل، وقد تستدعي الاعتقاد، وقد تستدعي الجميع.
وعلى هذا فقوله: (اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ) هذا على سبيل التغريب، وإلا فإن الأمر استدعاء الاعتقاد، واستدعاء القول، واستدعاء الفعل.
وقوله: (اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالقَوْلِ)، هذا قيد، فقيَّد الاستدعاء بأن يكون بالقول، فخرج بذلك الإشارة، فهي وإن دلَّت على ما يدل عليه القول من الأمر إلا أنها لا تسمى أمرًا اصطلاحًا، ولكنها تسمى أمرًا تجوُّزًا.
وقوله: (مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ)، أي: ممن هو دونه في المرتبة، وذلك أن الطَّلب باعتبار المطلوب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون طالب الفعل -وهو الآمر- أعلى مرتبةً من المأمور والمطلوب منه، فهذا يسمى أمرًا، كأمر الله، وأمر رسوله.
القسم الثاني: أن يكون طالب الأمر أدنى، وأقل مرتبةً من المأمور، فهذا يسمى سؤالًا وطلبًا ودعاءً، ومنه دعاء العبد بربه -عز وجل- بقوله: "اللهم اغفر لي"، فقوله: "اغفر" صيغتها صيغة أمر، لكنها في الحقيقة ليست أمرًا وإنما هي دعاء.
القسم الثالث: أن يكون طلب الفعل مِن مساوٍ إلى مساوٍ له في الرتبة، فهذا يسمى التماسًا، كقول الطالب لزميله: "أعطني قلمًا"، أو "أحضر لي ماءً" ونحو ذلك، فهذا لا يسمى أمرًا، ولا يسمى دعاءً، وإنما يسمى التماسًا.
وقوله: (عَلَى سبِيلِ الْوُجُوبِ) هذا بيان لحكم الأمر، وأنه على سبيل الوجوب.
وقوله: (صِيغَتُهُ: افْعَلْ)، أي أنَّ الصيغة التي وضعها العرب للطلب هي صيغة "افعل، أو افعلا، أو افعلوا"، فكل ما جاء بصيغة هذا الفعل وما تصرَّف منه: فإنه يسمى أمرًا.
ومن أمثلة ذلك قول الله- عز وجل: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: 78]، وقال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، وقال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238].
هذا ما عرف به المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- الأمرَ، والأحسن في تعريف الأمر أن يقال: إن الأمر قولٌ يتضمَّن طلبَ إيجاد الفعلِ بصيغةٍ مخصوصةٍ.
فقولنا: "قولٌ" خرج بذلك ما سوى القول من الإشارة أو ما كان في معناها.
وقولنا: "يتضمن إيجاد الفعل" خرج بذلك النهي لأنه يتضمَّن ترك الفعل.
وقولنا: "بصيغة معروفة"، وهي صيغة "افعل" وما تصرف منها كما تقدم، وسيأتي الكلام إن شاء على بقية أحكام الأمر وما يتعلق به في الدرس القادم.
وفَّق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.