الدرس الحادي عشر

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

6055 11
الدرس الحادي عشر

فقه النوازل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين مرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في اللقاء الثاني عشر من لقاءات فقه النوازل، يقدمها معالي شيخنا، الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بمعالي الشيخ}.
حيَّاك الله، وأهلًا وسهلًا، وأسأل الله -جل وعلا- للجميع أن يكونوا ممن أتاهم الله -جل وعلا- العلم وممن بلغ هذا العلم وممن كانوا من أسباب الخير والهدى.
{معالي الشيخ هذا هو اللقاء الختامي في فقه النوازل وأظن أن لديكم موضوعات عدة ختامية في هذا الباب وفي هذا العلم}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فإن من أواخر ما تكلمنا عنه البحث التاريخي فيما يتعلق بدراسة النوازل، وهنا أؤكد على أمرين:
الأمر الأول: أن النوازل الفقهية كانت محلَّ اعتناءٍ بالنَّسبة للنُّصوص الشَّرعيَّة في الكتاب والسنة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُعنى بدراسة هذه النوازل، والتعريف بكيفية الحكم على هذه النوازل حيث كان يوضح ذلك للصحابة -رضوان الله عليهم-، ومن ثَمَّ نُقل لنا كثير من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بدراسة هذه النوازل.
والأمر الثاني: أن عصرنا الحاضر فيه من طرائق الاعتناء بدراسة النوازل الفقهية ما لا يوجد في العصور السابقة، وذلك لتنوع النوازل من جهة ولوجود طرائق جديدة موجودة في عصرنا سواءً في التَّعلم أو في نشرِ الكتاب أو فيما يتعلَّق بالمؤسَّسات الطِّبية والماليَّة التي احتاجت إلى دراسة النوازل الفقهية، وهذا يؤكد ما رآه بعض العلماء من أن العصور لا يمكن أن تخلو عن مجتهد، كل عصر لا بدَّ أن يكون فيه مجتهدون أخذًا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهِرِينَ على الحقِّ»، ومن كونهم على الحق أن يوجد فيهم مجتهدون ينظرون في وقائع الناس ونوازلهم، ومن هنا نعلم أن تلك المقالة التي تبناها بعض العلماء بغلق باب الاجتهاد لمقالة جائرة ولا يمكن أن يكون لها محل.
ومثل هذا أيضًا في أبواب القضاء، فإن القضاء لا بدَّ أن يكون فيه اجتهاد سواءً كان ذلك الاجتهاد في تحقيق مناط المسائل التي ورد النص حولها -سواءً كان نصًا شرعيًّا أو نصًا نظاميًّا- أو فيما يتعلق بالمسائل المستجدة، لأنه لا يمكن أن تكون النصوص النظامية مستوعبة لجميع الوقائع، إذ لا بدَّ أن تقع وقائع جديد لم يكن من سبق قد تنبَّه لها سواءً كانت وقائع جديدة البتة، أو كانت وقائع تركَّبت من صور متعددة ومن ثَمَّ نشأ عنها صورة مستجدة.
ولذا فإن القضاء لا بدَّ أن يكون فيه دراسة للنوازل الفقهية من أجل الفصل بين النزاعات والخصومات التي تكون بين الناس، ومنها ما يتعلق بأمور النوازل الجديدة، يعني مثلًا لو نظرت إلى مسائل الحماية الفكرية وما يتعلق بها، هذه مسائل فيها النوازل كثيرة، خصوصًا ما يتعلق بطرائق اكتشاف أخذ الأفكار وطرائق معرفة ما لدى الإنسان من تقليدٍ وأخذٍ من غيره، سواءً كان في كتاب أو في غيره، يعني إذا نظرنا مثلًا إلى هذه الأجهزة الجديدة التي يوضع فيها النَّص وبالتالي يكشف لنا مدى المقاربة بينه وبين النَّص الآخر في ألفاظه وفي أفكاره، هذا الجهاز الجديد من النوازل الجديدة، وبالتالي يحتاج القاضي إلى أن يَفصل فيما يتعلق بأمر الحماية الفكرية، وهل يوجد سرقة أدبية أو لا يوجد.
ومن هنا أيضًا نؤكد على ما يتعلق بدراسة النظريات الفقهية، والمراد بالنَّظريَّات الفقهية: دراسة الموضوعات القانونية بدراسة فقهية شرعية، وذلك لأن النَّظرَّيات الفقهيَّة وما يتعلَّق بها لا تختص ببلدٍ دون بلدٍ، ومن ثَمَّ نحتاج إلى دراسة ما يكون عند الأمم الأخرى من توجُّهات قضائيَّة تجعلنا نعرف مدى مماثلة تلك التَّوجُّهات القضائيَّة للأحكام الشَّرعيَّة، أو مدى إمكانيَّة انطباق الحكم الشرعي عليها موافقة أو مخالفة.
وهكذا أيضًا هناك ما يتعلق بالتُّوجُّهات الدُّوليَّة تجاه أمر معين، يعني مثلًا هناك توجهات دولية فيما يتعلق بالبيئة، فيما يتعلق بالمناخ، فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعيَّة التي تكون بين الأشخاص من خلال ما تصدره المنظمات الدُّوليَّة والأمميَّة في تنظيم أحوال الناس، فهذه أمور تحتاج إلى دراساتٍ فقهيَّةٍ متعمِّقةٍ من أجل معرفة مدى موافقتها مِن مخالفتها للشَّرع، وكيفية التَّعامل معها، وكيفيَّة إقناع المنظَّمات الدولية بالوجهة الشَّرعية المتعلِّقة بهذه المسائل والموضوعات.
وحينئذٍ نحتاج إلى أن نعرف التَّوجه الشرعي في هذه الموضوعات كاملة، وفي الموضوعات الجزئية المندرجة تحتها، وهناك رغبة من العديد من الدول والمنظمات لتوحيد الأنظمة على مستوى العالم أو على الأقل إيجاد أنظمة دولية تكون محل توافق من أكثر الدول أو من جميعها، ومن ثَمَّ نحتاج إلى نظر فقهي يعتمد على طريقة دراسة النوازل الفقهية من أجل أن نتبين مدى موافقة تلك الأنظمة للشريعة أو مدى مخالفتها وكيفية تفاديها سواءً بطلب تغير نص ذلك النظام أو بإيجاد لوائح تفسيرية تجعل ذلك النظام لا يتعارض مع التَّوجه الشَّرعي لها.
وحينئذٍ نحن نحتاج إلى تأصيلِ موضوعاتِ مقاصد الشَّريعة، والمراد بمقاصد الشريعة: المعاني الكلية التي لوحظت في تشريع الأحكام، وهذه المعاني الكليَّة لا بدَّ أن نجعلها محلَّ عنايةٍ، ونحاول أن نقوم بتعميمها على مستوى العالم، لأنَّ هذه الغايات والمعاني الكلية متى نظرَ الإنسان فيها بعقلٍ متجرِّدٍ وجدَ أنها تحقِّق مصالح العباد ويترتَّب عليها الخير الكثير، ومن ثَمَّ إذا استطعنا أن نخاطِب العالَم بما يتعلَّق بهذه المقاصد من أجلِ إقناعهم بها ومن أجلِ جعلهم يتبنَّونها، فحينئذٍ سنُقلِّل كثيرًا من مخالفة هذه الأنظمة الدولية للأحكام الشرعية.
وهنا أنبه إلى شيء ذكره بعض أهل العلم منهم الإمام الشاطبي وغيره، قالوا: إنَّ النَّاظرين في علوم الشَّريعة يمرون بثلاثِ مراحل:
المرحلة الأولى: معرفة جزئيَّات الأحكام، بحيث يكون ذلك الفقيه يعرف الجزئيَّة الفقهيَّة ويعرف أحكامها، فهذه مرتبة أولى.
المرحلة الثانية: وهي أنَّ ذلك الفقيه يغوصُ إلى المعاني التي لاحظتها الشَّريعة ويعرف المقاصد الكليَّة للأحكام في أمرٍ يجعله يتناسَى الجزئيَّات، وهذه مرحلة وقعَ الاختلاف فيها بين العلماء فيما يتعلَّق بقدرةِ أصحابِ هذه المرحلة على استخراج الأحكام. فالقسم الأول: فُرعيُّون يعرفون الأحكام الجزئيَّة، وهؤلاء أصبح عندهم معرفة بالكليات لكنهم تناسوا الجزئيات.
المرحلة الثالثة: أن يكون هناك معرفة في الكليات وإدراك لها وفي نفس الوقت ربط للجزئيات الفقهية بها، بحيث يكون عند ذلك الفقيه قدرة على معرفة الجزئيات وربطها بقواعدها المقاصديَّة الكليَّة.
فهذا القسم هم الفقهاء وهم الذين يكون لهم الأثر الجميل في الأمة، وهم الذين يكون لهم الأثر في إعادة صياغة الأمة ككل، ولذا فإن المرء عندما يكون عنده معرفة بطرائق دراسة النوازل وعنده قدرة على معرفة المقاصد وربط واقع النَّاس بتلك المقاصد يكون له من الأثر الحميد في تصحيح أحوال الناس، وإذا نظرت إلى كثير من علماء الشريعة الذين كان لهم الأثر الجميل في تصحيح مسار مجتمعاتهم، وجدت أنهم ممن اعتنوا بهذه التركيبة التي ذكرت لك قبل قليل.
فمثلًا لو نظرت إلى شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -غفر الله له وأسكنه فسيح جناته- لوجدت أنه اعتنى بهذه المقاصد الكلية، فأنت تجده يُعنى بإفراد الله -عز وجل- بالعبادة وهذا مقصد كلي للشريعة، ويُعنى أيضًا بتطهير المجتمع من العوائد الجاهلية التي ورثوها عمن قبلهم، وكذلك يُعنى أيضًا بجعل العلاقات المجتمعات مبنية على مقاصد لإرضاء رب العزة والجلال، وبالتالي كان له من الأثر الجميل في تحويل مجتمعه من حال إلى حالٍ مضادة له، من حالٍ سيئة إلى حالٍ حسنة، ونحن نشهد هذا في هذه الدولة السعودية التي نعيشها والتي صارت على منطلقات الدعوة التَّصحيحيَّة المأخوذة من كتاب الله -عز وجل- ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا لما جاءت النَّوازل الفقهيَّة والمسائل المستجدِّة لم يكن هناك تعارض بين المنهج الذي صارت عليه هذه الدولة مع الاستفادة من هذه المعطيات الجديدة، بينما نجد أنَّ كثيرًا من المجتمعات -سواءً المسلمة أو غير المسلمة- كان عندها لما وردت هذه المخترعات شيئًا من التردد في قبولها وشيء من الممانعة في استعمال هذه المخترعات الجديدة سواءً كانت طبية أو كانت آلية والكترونية أو أيًّا كانت هذه المستجدات.
وهكذا إذا نظرت إلى عدد من العلماء الذين كان لهم الأثر الجديد في مجتمعاتهم في عصورنا الحاضرة، وجد أنهم يعنون بهذه التركيبة: دراسة المقاصد وتطبيقها على واقع المجتمعات والاعتناء بدراسة النوازل الفقهية، يعني إذا نظرت مثلًا إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- وكيف كان له الأثر الجميل في إبقاء الهوية الإسلامية في بلاد الجزائر وما حولها، إذا التفت إلى الشيخ فوده في نيجيريا وما قاربها، إذا التفت إلى عدد من العلماء الذين كان لهم الأثر الجميل في مجتمعاتهم، وجد أنهم عُنوا بهذه التركيبة التي ذكرت لك.
ومن الأمور التي ننبه عليها هنا: هي مسائل متعلقة باكتشاف الخطأ في دراسة النوازل، وقبل هذا أن نعرف أسباب الخطأ في دراسة النوازل الفقهية، نحن سبق أن ذكرنا عددًا من أركان دراسة النوازل وبيَّنَّنا عددًا من الاشتراطات في دراسة هذه النوازل وعددًا من الآداب، فعندما نفقد شيئًا من تلك الاشتراطات أو بعض الآداب السابقة، حينئذٍ نقع في خطأ.
من أسباب الخطأ:
1- إذا لم يكن هناك دراسة للواقع صحيحة، لم يكن هناك سبر وتقسيم للصفات المتعلقة بتلك النَّازلة بحيث نعطي كلَّ صفةٍ الحكم الشَّرعي المتعلق بها، ومن ثَمَّ ننظر لتلك الوقائع بناءً على الصفات المتعلقة بها.
2- أيضًا التأثر بأمور مغايرة لا علاقة لها بالدراسة الشرعية للنوازل، مثل التعصب، ومثل تبنِّي موقف الممانعة من كل ما هو جديد، ونحو ذلك من الأمور التي أشرنا إليها سابقًا في الأمور المؤثرة على دراسة النوازل، فإنها تجعل الفقيه يخطئ في استنتاجاته فيما يتعلق بدراسة النوازل.
وفي عصرنا الحاضر كان هناك اهتمام بإصدار الفتاوى وإصدار القرارات والبيانات المتعلقة بالنوازل، سواءً كانت نوازل سياسية أو كانت نوازل طبية أو اقتصادية أو حتى في العبادات، هذه البيانات لا بدَّ أن يُلتفت إلى طريقة صياغتها لتكون متناسبة مع الطَّريقة الشَّرعيَّة في دراسة النَّوازل، ولذلك فمن المهم أن تشتمل هذه القرارات على عدد من الأمور، منها:
- أن تكون مشتملة للسبب الداعي إلى دراسة تلك النازلة.
- ثم توصيف النازلة توصيفًا مشتملًا على الأوصاف المؤثرة في الحكم، لأن النازلة قد تتغير بين زمن وآخر لتغير بعض صفاتها.
- وهكذا لا بدَّ من التَّفصيل بين الجزئيات بحيث تُعطى كلَّ جزئيَّة الحكم الشَّرعي المتعلق بها.
- وبعد ذلك لا بدَّ من بيان الدَّليل الذي دلَّ على هذا الحكم من كتاب الله -عز وجل- ومن سنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
وقضية التطعيم بالنقولات الفقهية يختارها بعض العلماء ممن يُعنَون بدراسة النَّوازل الفقهية، لكن ذلك ليس من الأمور الضَّرورية خصوصًا أنَّ المذاهب الفقهيَّة ليست دليلًا يُعتمد عليه، وكذلك هذه النُّقول الفقهيَّة قد تتناسَب مع بلدٍ دون بلدٍ ومع أهلِ مدرسةٍ دون مدرسةٍ أخرى.
أما بالنسبة للتطعيم بالقواعد الفقهية والمقاصدية، فهذا لا بدَّ أن يلاحظ فيه أن تكون تلك القاعدة ثابتة، بحيث يكون لها دليل يصححها سواءً من الكتاب أو من السُّنة أو من الإجماع أو من الاستقراء ونحو ذلك، ولا شك أنَّ الاعتماد على الدَّليل الذي استندت عليه القاعدة أنه أولى بالقبول لأننا أُمرنا بالرَّدِّ إلى الكتاب والسُّنة كما في قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً﴾ [النساء: 59].
وكما قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10].
هكذا أيضًا لا بدَّ من المخاطبة بملاحظة من يتم الكلام معهم في هذه البيانات أو الفتاوى، ففرق بين ذلك الفقيه الذي يتكلم في وسيلة إعلام يخاطب بها الجمهور وبين الكلام مع الفقهاء من خلال القرارات التي تكون مكتوبة ويتم توزيعها على الناس أو على الفقهاء والعلماء وطلبة العلم، وهذه تكون بأسلوب خطابي معين تتناسب مع فهم وعقلية عموم الناس وهذه يكون الخطاب فيها والتحرير بما يتناسب مع عقلية وطريقة طلبة العلم في الفهم والاستنتاج.
ومن هنا لا بدَّ من ملاحظة طريقة الصياغة بالنسبة لهذه البيانات والقرارات التي يتم إصدارها، وكما ذكرتُ قبل قليل أنَّ النوازل قد يقع تطور فيها، وبالتالي قد يقع الاختلاف في حكمها، مثلًا هناك إجراءات طبية سابقًا وعلاجات كانت تعتمد على ما يؤخذ من الخنزير، فتأتي الدراسة وتبين أن تناول الخنزير محرم وأن التداوي بالمحرمات من الأمور الممنوعة في الشرع، ثم بعد ذلك يتطور الأمر ويكون هناك قدرة على استخراج ذلك النوع من حيوانات أخرى كالبقر وغيرها، مثل ما ذكروا في البلاتين ونحوه، وبالتالي يكون هناك تغير في دراسة هذه النازلة ليس تغيرًا للحكم الشرعي بناءً على ضغوطات وإنما لأن المعطيات التي بُني عليها الحكم الفقهي في دراسة تلك النازلة تغير وبالتالي يتغير الحكم المناط به، ولا شك أن الأحكام الشرعية تُبنى على علل وأن الحكم الشرعي يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
وهكذا هناك أيضًا أمور يُبنى عليها الحكم، مثلًا في قضايا العوائد والأعراف، لأن الحكم الشرعي في بعض مواطِنِه يُبنى على العُرف والعادة ومن ثَمَّ لا يستغرب أن يتغيَّر الحكم بسبب تغيُّر تلك العادة وذلك العُرف، يعني مثلًا من القواعد المقررة في الشَّريعة أن القطع في السَّرقة لا يكون إلا عند أخذ المال على جهة الخفية من الحرز، هذا الحرز المكان الذي يحفظ فيه ذلك المال عادة، وهذا يختلف باختلاف أعراف الناس ما بين زمان وآخر، فإذا كان الناس في الزمن الماضي يضعون نقودهم في أمكنة معينة من بيوتهم، وبعد ذلك أصبحوا يضعون الصناديق المسماة بالتَّجور، ثم بعد ذلك أصبح الناس لا يضعون هذه النقود في البيوت وإنما يضعونها في المصارف والبيوت، وبالتالي تغيرت أعراف الناس فيما يتعلق بحرز النقود.
هكذا قد يتغير الحكم في مسائل متعددة لا لتغير الحكم الشرعي وإنما لأن المناط الذي بُني عليه الحكم في تلك النازلة قد تغير.
وهنا أيضًا شيء آخر وهو التوسع في مدلول مصطلح من مصطلحات النوازل الفقهية، يعني مثلًا: أول ما جاء التأمين التجاري صدرت الفتاوى والقرارات التي تُعنى ببيان الحكم في التأمين التجاري، ومن ثَمَّ لما وجدت صور جديدة لهذا التأمين اختلف الحكم عما ذكر سابقًا، فهناك مثلًا التأمين التعاوني، هناك التأمين الصحي، هناك تأمينات متعددة، وبالتالي توسع مفهوم ومدلول كلمة التأمين، ومن ثَمَّ تختلف الاجتهادات الحاضرة عن الاجتهادات الماضية فيما يتعلق بهذه النازلة.
ما العمل عند تغير الاجتهاد؟
هذه مسألة أخرى، يعني في مرات قد يكون الفقيه يخفى عليه بعض المعطيات المتعلقة بالنَّازلة، ومن ثَمَّ يصدر حكمًا فيها، وبعد ذلك يتبين له تلك المعطيات التي لم يتبينها سابقًا، ومن ثَمَّ يختلف اجتهاده، يعني في هذه النَّازلة لم يعرف الفقيه جميع جزئياتها وإنما نظر إليها من جانب، وبالتَّالي أعطى لتلك النَّازلة حكم من خلال نظره من هذا الجانب، ومن ثَمَّ لما نظر من جوانب أخرى تغير اجتهاده، وهذه مسألة يذكرها علماء الأصول وكيفيَّة التَّعامل معها، ويقررون أنه لا بدَّ من إعادة النظر في النازلة كلما عرضت على الفقيه ليتأمَّل واقعها ويعرف جزئياتها، ثم يستحضر الدَّليل المتعلق بتلك النَّازلة ويقوم بتطبيقه عليها من أجل استخراج الحكم الشَّرعي.
فإذا كان هناك تغيُّر في الاجتهاد: فما هو الحكم؟ وبالنسبة للفقيه المجتهد الذي تغير اجتهاده، وبالنسبة للمستفتي، وما لو كان الأمرُ قضائيًّا فتغيَّر اجتهاد الفقيه القاضي في تلك النازلة؛ وهذا يقررونه بقولهم: "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد" وهذا بالنسبة للمسألة القضائية.
أما بالنسبة للفقيه: فإن المسائل التي عرضت عليه يمضي اجتهاده فيها وفيما يعرض له في مستقبل أيامه، سواءً له أو من غيره من المستفتين، فإنه حينئذٍ يقوم بتطبيق الاجتهاد الجديد عليها، وهذه -كما تقدم- مقرَّرة عند علماء أصول الفقه، وبالتَّالي نحتاج إلى تقرير هذه القواعد.
من الأمور التي أنبه عليها في هذا الجانب: أن لأصحاب الولاية دورًا كبيرًا فيما يتعلق بدراسة النوازل، وأصحاب الولايات يتعددون بتعدد مراتبهم وتختلف أحكامهم باختلاف هذه المراتب، ولكن في عصرنا الحاضر أصبح لأي دولة من المشاركة والهيمنة على كثير -بل على جميع- أحوال الناس ما يجعل الإنسان يعرف أن للدول أثرًا كبيرًا فيما يتعلق بدراسة النوازل، فالدول هي التي يكون لها العناية في ترتيب أمور التعلم والدراسة ومن ثَمَّ يكون لذلك أثر في تكوين الفقهاء.
يعني إذا نظرت إلى دُور التعلم في الجامعات، في المعاهد ونحوها، هذه تحتاج إلى أن يكون عندها أذونات من الجهات الرسمية في الدولة قد تشرف عليها الدولة؛ بل قد يكون للدولة أثر في إنشائها وترتيبها ووضع الجامعات التي فيها الأقسام الشرعية والفقهية، وبالتالي للدولة الأثر الكبير في إخراج شخصيات فقهية يكون لها الأثر الحميد في دراسة النوازل، وهذه المعاهد والكليات يكون لها أثر أيضًا في دراسة هذه النوازل بكونها مجالًا تطبيقيًّا لها في التدريس وفي الرسائل الجامعية وفي إقامة المؤتمرات والندوات فيما يتعلق بهذه النوازل.
هكذا أيضًا الدولة لها أثرها فيما يتعلق بإنشاء مؤسسات الفتوى على مختلف درجاتها، ولها أثرها أيضًا في تنمية الاجتهاد الجماعي في مجامع الفقه والهيئات العلمية التي تُعنى بدراسة هذه النوازل، كذلك الدول لها أثر في تنمية دراسة النوازل بعرض النوازل الفقهية التي تعرض للدولة ومؤسساتها على فقهاء الشريعة من أجل استخراج الحكم الشرعي فيها، ومن أجل إيجاد الحلول الشرعية لعدد من القضايا النازلة على الأمة، ولذلك فلا بدَّ أن يكون للجميع أثر في جعل أصحاب الولاية يعنون بدراسة النوازل الفقهية ليكون هناك الأثر الحميد للشريعة في تطبيق الأحكام الشرعية على النوازل الفقهية.
وأؤكد هنا على أن من واجب الفقيه أن يُعنى بالبدائل للنوازل الفقهية الممنوعة، فإذا كان هناك نازلة فقهية نزلت بالناس وتبيَّن لهم أنها مخالفة للشريعة، وحينئذٍ على الإنسان أو على الفقيه أن يقوم ببيان البدائل التي يمكن أن توصل لتحقيق الهدف الذي يريده الناس بغير تلك النازلة الممنوع منها شرعًا، وإذا ذكرنا الحديث الذي ورد في تمر خيبر عندما قدَّم بلال أو غيره تمرًا جيدًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال -صلى الله عليه وسلم: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟»، فقال: لا، وإنما نبيع الصاع من جمع التمر بنصف الصاع من هذا التمر الجَنِيبٍ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَوَّاهْ أَوّاَهْ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَ»، ثم أرشده إلى البديل، فقال: «بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبً»، فذكر له البديل الشرعي الذي يحقق المقصد الذي يريده، ومن ثَمَّ فنحن نحتاج إلى أن يكون هناك بيان للبدائل المتعلقة بالمسائل النازلة التي يُفتى بمنعها والقول بتحريمها.
ومن الأمور التي أؤكد عليها هنا: أن بعض الناس يظن أننا إذا قررنا أن دراسة النوازل تكون بناءً على اجتهاد فقهي مبني على النصوص، يظن أننا نقوم بإلغاء المذاهب الفقهية وبالطلب بعدم اعتماد وعدم مراجعة الكتب التي أُلفت في المذاهب الفقهية! وهذا خطأ، لأن المذاهب الفقهية أنشئت من أجل أن تكون طرائق للتعلم ومدارس يسير الإنسان عليها، ومن ثَمَّ فهي سُلَّم من سَلالم التَّعلُّم الفقهي، وبالتَّالي هذه المؤلفات لا بدَّ أن تكون محل عناية ومحل دراسة بالنسبة للفقيه.
وأشير هنا إلى معنى يتعلق بأسباب الخطأ: أنَّ هناك من يقوم بالتَّلفيق، يأخذ من هذا المذهب شيئًا ومن ذاك المذهب شيئًا ومن ذلك المذهب شيئًا، فيقع في تناقضات في اجتهاده ولا يسير على طريقة واحدة، ولذلك دراسة المذاهب الفقهيَّة تجعل الفقيه يسير على طريقةٍ واحدةٍ بحيث يتعوَّد على ربطِ المسائل بعضها ببعض، فتلك المسألة منشأ وهذه المسألة أثر؛ ومن ثَمَّ لا بدَّ أن تُلاحظ جميع المسائل.
يعني مثلًا في مسألة قاعدة الشريعة فيما يتعلق بمسائل الصيام والمفطرات في الصيام، عندما يأتي الفقيه وينظر إلى المسائل قد يقع في اختلاف وتناقض بالنسبة للمسائل النازلة في باب مُفطِّرات الصيام الحادثة، إذا لم يسِرْ على قاعدة واحدة، فلا بدَّ أولًا أن يختار القاعدة التي ينطلق منها في دراسة هذا الموضوع، ثم بعد ذلك يقوم بدراسة هذه الجزئيات بناءً على تلك القاعدة.
ومثلًا في مسألة الورق النقدي، هناك اجتهادات في حقيقة هذا الورق النقدي، هل هو نقد أو بدلًا عن النقد أو هو فلوس نافقة أو هو عروض تجارة، فعندما يأتي الإنسان وينظر إلى جزئيات المسائل مثلًا في مسألة الربا، مسألة الزكاة، مسألة أحكام البيع، مسألة أحكام القبض، ونحو ذلك، إذا لم يسر على منهج واحد فإنه حينئذٍ سيقع في تناقضات في الأحكام التي يتوصل إليها، ولذا فيما يتعلق بالعملات الافتراضية ولا بدَّ أن يكون نظر الفقيه فيها مبني على أسس وقواعد، إذا لم يلاحظ هذه القواعد فإنه سيقع في تناقضات، إذا نظرنا مثلًا إلى أنواع العملات الافتراضية مثل البتكوين أو غيرها، لا بدَّ قبل أن نلتفت إلى تعرف الحكم أن نلتفت إلى المعاني الشرعية التي لاحظها الشرع في أحكامه، وبالتالي نسير على منهج واحد.
فبعضهم يقول: هذه النازلة قد تسبب الخسارة الكثيرة، فمثل هذا لم يُبنَ عليه حكم في الشرع، لأن هذا وصف طردي، بينما آخرون يقولون ليس لها غطاء.
وآخرون يقولون: ليس لها موثوقية واحتمال انهيارها وارد، ومن ثَمَّ لا بدَّ من معرفة المنطلق الذي ينطلق منه في معرفة حكم هذه النوازل، وبعد ذلك كلما جاءت لنا نازلة من هذا النوع نطبق عليها تلك القواعد.
مثلًا: قد تصدر الحكومات عملات افتراضية وعملات رقمية، فمن ثَمَّ ما هو الضابط وما هو المعيار في ذلك؟ إذا لم نلاحظ ما يمكن أن يؤول إليه الأمر حينئذٍ قد نقع في شيء من التناقضات في اجتهاداتنا المتعلقة بالنوازل الفقهية، فملاحظة هذا الأمر من الأمور المهمة.
كذلك من الأمور المهمة: أن بعض الناس من خلال الضغط الواقع عليه أو من خلال وجود رغبة عند جمهور كثير من الناس تجده قد يتساهل في تطبيق المعايير الشرعية والاجتهاد الفقهي في دراسة هذه النوازل، لدرجة أنه يصل إلى تأويل النصوص الشرعية لإخراجها عن معناها المفهوم لغةً إلى معانٍ أخرى بدون أن يكون هناك مستند، وأنت تعرف أن التأويل إذا كان غير مستند على دليل صحيح، فإنه يكون دليلًا فاسدًا ويجب رده ولا يمكن قبوله، وبالتالي لا بدَّ أن نورد في قلوب الناس تعظيم هذه النصوص والتسليم لها وعدم إخراجها عن معناها لمعانٍ غير مقصودة من الشارع، بسبب رغبة الناس أو من ضغط الواقع أو ملاحظة الأمور الدنيوية التي قد تكون مخالفة لما يريد الله -جل جلاله- وما يكون مقررًا في شريعة رب العزة والجلال.
ولذا فإني أختم حديثي فيما يتعلق بدراسة النوازل بأن من أعظم ما يجب علينا الاهتمام به: تعظيم الكتاب والسنة والرجوع إليهما، ومعرفة أن السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة إنما تحصل بالرجوع إلى كتاب الله -جل وعلا- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولذا إذا نظرت في مثل قوله: ﴿إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، يعني ما يقيم حياة الناس على أكمل الوجوه وأتمها في جميع مناحي الحياة، جعلك ذلك تقرر ما ذكرته لك من وجوب الاعتناء بكتاب الله -عز وجل- وجعله المنطلق في أي دراسة نريد أن ندرسها.
هكذا أيضًا آيات متعددة تبين أنَّ الهداية والصَّلاح واستكمال الأمور واستكمال المصالح إنما هو بالرجوع إلى مصادر الشريعة، ولذا مثلًا في قوله -جل وعلا: ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، وانظر لقوله -عز وجل: ﴿إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمً﴾ [النساء: 105]، إلى أن قال -جل وعلا: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمً﴾ [النساء: 113]، وأنزل عليك الكتاب يعني القرآن والحكمة يعني سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن هنا فإننا في حاجة شديدة إلى دراسة الكتاب والسنة، دراسة الكتاب والسنة في ألفاظهما وفي معانيهما ودلالتهما وفي كيفية استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، وهذا يفسر لك معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «خيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ»، وليس التعلم هنا تعلُّمًا للحروف فقط كما يفهمه بعضهم، بل إن تعلُّم المعاني والدِّلالات هو من أنواع تعلم القرآن، وخيريَّة الأمة تَنتج من الرجوع إلى الكتاب والسنة، وعند الرجوع إلى الكتاب والسنة يحصل اتحاد في الأمة واجتماع لكلمتها، بخلاف ما إذا تم ترك هذه المصادر، ولذا قال: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، لأن ذلك يحفظ اجتماع الأمة، فعندما نرجع إلى الكتاب والسنة حينئذٍ يكون هناك أثر حميد في اجتماع الكلمة، ولذا أذكر بقوله -جل وعلا: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ* وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 100- 101].
وقوله: ﴿تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ﴾ القرآن، ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ من يلجأ إلى الله ويعود إليه -سبحانه وتعالى-، ثم قال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ* وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 102- 105].
ولذلك لا بدَّ من أن نرسخ دراسة الكتاب والسنة في الأمة وأن نعيد الأمة إلى هذه المصادر العظيمة التي تحصل بها نجاتها وفوزها وسعادتها واتحاد كلمتها، فتعميم حفظ القرآن في الأمة وتعميم دراسة السنة وتعميم طرائق دارسة وفهم النصوص الشرعية كتابًا وسنة، هذا هو الذي يكون له الأثر الحميد في تطبيق شرع رب العزة والجلال على واقع الناس وعلى النوازل التي تحدث بهم، ومتى كان من شأننا ذلك، كان بإذن الله -عز وجل- الأثر الحميد في رفعة درجة الأمة سواءً فيما يتعلق بأمور الآخرة أو حتى فيما يتعلق بأمور الدنيا، فإن الله -جل وعلا- قد وعد هذه الأمة بالخير العظيم الدنيوي عند تطبيق شرع رب العزة والجلال، ومن ذلك ما يتعلق بتطبيقه على النوازل الفقهية.
انظر إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، وقوله -جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 172 - 173].
وقوله -جل وعلا: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]، وقال -جل وعلا: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128]، وهكذا قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، قال -جل وعلا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [الأعراف: 32].
وهكذا وعد الله -جل وعلا- أهل الإيمان بالخيرات العظيمة، ووعدهم بالأمن الوارف، ووعدهم بالنعم المتتابعة، ووعدهم بالنصر التام، ووعدهم بخيرات عظيمة، ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: 13]، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئً﴾ [النور: 55].
وانظر أيضًا لقوله -عز وجل: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 40- 41].
وهنا بعض الناس قد يقول: نحن نجد دولًا كبيرة ومنتصرة ولها مكانتها مع أنهم ليسوا على دين الإسلام، فيقال: هؤلاء عندهم من المعاني التي جاءت بها الشريعة ما جعل دولتهم تستمر وما جعلهم ينتصرون بمبادئ مثل العدل، مثل الرحمة، مثل القيم مع المساكين والضعفاء ونحو ذلك من الأسباب التي يكون لها الأثر الدنيوي.
في ختام هذه اللقاءات أشكرك على مشاركتك معي في هذا البرنامج وفي هذه اللقاءات التعليمية، كما أسأل الله -جل وعلا- لإخوتي الذين يشاهدوننا ويتابعوننا سواءً في القنوات التليفزيونية أو في المواقع العنكبوتية، أسأل الله -جل وعلا- أن يرزقكم العلم النافع وأن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير وأن يكونوا من أسباب عود الأمة لشرع رب العزة والجلال، كما أسأل الله -جل وعلا- أن يمكنهم ليكونوا فقهاء مجتهدين يتمكنون -بإذنه جل وعلا- من دراسة النوازل.
هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم معالي الشيخ ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه اللقاء نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في برامج قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك