الدرس الخامس

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5956 11
الدرس الخامس

فقه النوازل

{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
أعزائنا المشاهدين مرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في سلسلة علمية بعنوان "فقه النوازل" يقدمها معالي شيخنا، الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بمعالي الشيخ}.
حيَّاك الله، أهلًا وسهلًا، أرحب بك وأرحب بأحبتي من طلبة العلم الذين ينتسبون إلى هذه المؤسسة العلمية، بارك الله فيكم جميعًا، وأسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا وإياهم علمًا نافعًا وعملًا صالحًا، وأن يبارك في هذه الجهود وأن يعظم الأجر والثواب.
{شيخنا الكريم لا زلنا نتدارس حول النوازل وأحكامها، فهل تحدثوننا مشكورين عن آداب دراسة النازلة}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد،
فإن النوازل الفقهية التي نحتاج إلى دراستها ومعرفة الحكم الشرعي فيها، تحتاج إلى عددٍ من الآداب وعلى طالب العلم الذي يقوم بدراستها بالتزامها والمحافظة عليها، وفي التزام الآداب عددٍ من الفوائد:
أولها: تحقيق مقصد الشارع في التزام الأخلاق والآداب، فإن شريعتنا المباركة قد جاءت بإيجاب الالتزام بعددٍ من الأخلاقيات والترغيب في عددٍ آخر منها، وجاءت النصوص بالثناء على أصحاب الأخلاق الفاضلة، وبيان أن هذا هو منهج أنبياء الله -عليهم السلام- وفي مقدمتهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وكما قال -جل وعلا-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].
وكذلك جاءت النصوص ببيان عظم أصحاب الأخلاق الفاضلة، وقد جاء في السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا زعيم ببيت في أعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ» ، ولَمَّا سُئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: «تَقوى اللهِ وحُسنُ الخُلُقِ»، وقال: «إن المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجةَ الصائمِ القائمِ».
والأمر الثاني مما نستفيده من هذه الآداب والتزامها: أن نحوز الأجر والثواب في أبوابنا وفي معاملاتنا جميعًا، فإن الإنسان متى أتقن عمله وأتى به على أحسن وجوهه، حصل به على الأجر والثواب.
والأمر الثالث مما نستفيده من آداب دراسة النوازل الفقهية: تيسير الاجتهاد، من رأى هذه الآداب في دراسة النازلة الفقهية، سهل عليه أن يراجعها وأن يدرسها وأصبحت يسيرة بالنسبة له بخلاف من لم يكن كذلك.
فأنت مثلًا عندما تريد أن تراجع كتابًا من الكتب، لا بدَّ أن تعرف طريقة ذلك الكتاب في عرض المسائل وفي ترتيبها، فإذا لم تراع ذلك صعبت عليك مراجعة الكتاب، وهكذا فيما يتعلق بدراسة النوازل، من راعى آدابها سهلت عليه دراستها.
الأمر الرابع من فوائد دراسة آداب النوازل الفقهية: درء التخبط الذي قد يكون عند الإنسان بسبب عدم مراعاته لهذه الآداب، فإن من لم يراع الآداب المتعلقة بدراسة النوازل يقع في تخبطات وتكون اجتهاداته متناقضة ومتضادة إذا لم يسير على طريقة واحدة بسبب الآداب المراعاة في دراسة النوازل.
الأمر الآخر من فوائد دراسة هذه الآداب: أننا نوجد تعليمًا وتدريبًا لطلبة العلم فيما يتعلق بدراسة هذه النوازل، فعندما يتعلم الإنسان هذه الآداب ويعرف ضوابط دراسة النوازل، يكون عند دُربة على دراسة النوازل، وبالتالي نصل إلى فائدة أخرى، ألا وهي: إيجاد العقليات الفقهية المتمكنة من دراسة النوازل.
وهذه نماذج من فوائد مراعاة آداب دراسة النوازل، وإن كان هناك إضافة فوائد أخرى، لكن هذه أبرز الفوائد التي نجنيها، وبالتالي لعلي أشير إلى عدد من الآداب المتعلقة بدراسة النوازل.
أول هذه الآداب: ما يتعلق بالإخلاص، بحيث يجعل طالب العلم الذي يدرس النازلة الفقهية نيته أن يحصل على شيئين:
الأول: أن يحصل على الأجر الأخروي.
والثاني: أن يحصل على رضا رب العزة والجلال.
فهذه هي المقاصد الصحيحة فيما يتعلق بالأعمال، فطلب العلم الشرعي ومنه البحث في النوازل الفقهية هذا مما يتمحض أن يكون عبادة يُعبد الله -جل وعلا- بها، وما كان كذلك فلا بدَّ أن تخلص النية فيه وأن يكون مقصود العبد استجلاب هذين الأمرين: ألا وهو رضا الله والحصول على الأجر الأخروي.
ولذا جاءت النصوص بترغيب الناس في أن تكون مقاصدهم وغاياتهم كذلك، مثلًا في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيم﴾ [النساء: 114]، فدلَّ هذا على أنَّ العبد عليه أن يطلب رضا رب العزة والجلال، وهكذا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، رَضِيَ الله عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ» .
ومما ينويه الإنسان الأجر الأخروي لتكون الآخرة حاضرة بين عينيه قبل دراسة هذه النوازل، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُور﴾ [الإسراء: 18- 19].
وهكذا في قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15- 16].
ولذلك جاءت النصوص بذم أولئك الذين تقتصر مقاصدهم على الدنيا في مثل قوله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 16- 17].
فيه نصوص كثيرة تذم أولئك الذين تقتصر مقاصدهم على الدنيا، ومن ذلك نعلم أنَّ من المقاصد الفاسدة أن يكون مقصود العبد بدراسة النازلة أن يكون له مكانة ومنزلة أو أن يشار إليه أو أن يفوز بالجوائز العالمية المتعلقة بالدراسات الفقهية أو أن يكون مقصوده التأثير على الناس أو نحو ذلك من المقاصد، هكذا قد يكون مقصد بعض الناس إعزاز مكانة الجماعة التي ينتمي إليها دنيويًا، ونحو ذلك من المقاصد، فهذه مقاصد فاسدة لا تنبغي أن تكون في قلب المؤمن الذي يقوم بدراسة النوازل الفقهية، وقد جاءت نصوص في ذم أولئك الذين يقصدون المقاصد الفاسدة فيما يتعلق بطلب العلم.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أول من تسعر بهم النار ثلاثة» وذكر منهم القارئ الذي يؤتى به يوم القيامة فيعرفه الله نعمه، فيقول ما فعلت فيها، فيقول: قرأت القرآن فيك وأقرأته، فيقول الله -عز وجل-: بل كذبت إنما قرأته ليقال فلان قارئ، ثم أمر به إلى نار جهنم.
ومن هنا يحذر الإنسان من هذه المقاصد الدنيوية فيما يتعلق بطلب العلم أو بدراسة النوازل، وقد جاء في سنن أبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن من طلب علمًا مما يبتغي به وجه الله من أجل الدنيا لم يرح رائحة الجنة، بل قد ورد في بعض الروايات تفصيل بعض المقاصد الدنيوية، فمن طلب العلم من أجل أن يجاري العلماء وأن يماري السفهاء، فهذه مقاصد دنيوية على الإنسان أن يتنزه عنها عند دراسته للنوازل الفقهية.
وبالتالي لا بدَّ من إخلاص النية، وإخلاص النية له أثر كبير في التوفيق وفي الوصول إلى الحق وفي أخذ الناس بخلاصة ما يصل إليه ذلك الدارس، فنحن نشاهد فرقًا كبيرًا بين آثار أهل العلم فيما يتعلق بهذا الباب ولعل ذلك مرده إلى أمر إخلاص النيات، ونحن نشاهد أيضًا جهودًا متفاوتة، فهناك من وفق وبورك له في وقته ومن كان له الأثر الكبير على الأمة على مدى قرون متطاولة ولم يكن كذلك، ولعل من الأسباب في هذا ما يتعلق بأمور النيات.
الأمر الثاني من آداب دراسة النوازل: التوكل على الله -جل وعلا-، والمراد بالتوكل اعتماد القلب على الله -سبحانه وتعالى-، فليست قدرة الإنسان في باب دراسة النوازل مُعتمدة اعتمادًا مجردًا على ذهنه أو قُدرته أو معلوماته أو ما لديه من قواعد دراسة النوازل، وإنما هي توفيق من رب العزة والجلال، ولذا فإننا نجد أن بعض العقلاء الذين لهم ذهنيات كبيرة وعندهم ذكاء مفرط لَمَّا دخلوا في بعض الأبواب لم يكن لهم ذلك التأثير، ولعل مرد ذلك قضية الاعتماد على الصفات الإنسانية والغفلة عن الاعتماد على رب العزة والجلال، وقد جاءت النصوص بالاعتماد على الله -جل وعلا- والتوكل عليه -سبحانه وتعالى-، فقال -جل وعلا-: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 23]، وقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12]، في نصوص كثيرة تأمر بجعل التوكل على الله -جل وعلا-.
ومن توكل على الله فإن الله -جل وعلا- يعينه ويؤيده وينصره ويرزقه سواءً فيما يتعلق بالعلم أو ما يتعلق بأدوات البحث أو ما يتعلق بكيفية دراسة النوازل، ولذا قد جاء في عدد من النصوص أن التوكل من أسباب صلاح أحوال العبد واستقامة أموره ووصوله إلى هدفه وغايته، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَان» .
وليس المراد بهذا رزق الأكل فقط، وإنما رزق العلم ورزق البركة ورزق الاستفادة من الوقت، كله مرتبط بقضية التوكل على رب العزة والجلال، ومن ثَمَّ لا يعجب الإنسان بما لديه من قدرة ذهنية ولا بما لديه من معلومات متعددة ولا بما يحضره من كتب كثيرة ولما يتمكن به من البحث في دوائر عديدة من دوائر البحث في المكتبات الالكترونية أو وسائل الاتصال العالمية، وإنما يعتمد على رب العزة والجلال، ونحن نشاهد أن عددًا من الأشخاص يكون قدراتهم محدودة ولكنهم لما توكلوا على الله -جل وعلا- وفقهم في أمورهم.
ومن هنا فإن التوكل على رب العزة والجلال أمر عظيم وله آثاره الكبيرة في التوفيق للحق وفي تيسير الاجتهاد وفي التمكن من الوصول للأدلة بسهولة ويسر، ونحن نجد أن بعض الناس قد يكون عنده آلية البحث الكبيرة ومع ذلك لا يوفق للوصول إلى مبتغاه من المعلومات التي يريدها بسبب قلة التوفيق، وقد ذكر الله -جل وعلا- في أواخر سورة "الأحقاف" هناك من أوتي السمع والأبصار والعقول ومع ذلك لم تنفعهم شيئًا لأن الله -جل وعلا- لم يوفقهم وذلك لأنهم لم يتوكلوا على رب العزة والجلال.
والأمر الثالث من الآداب التي ينبغي بطالب العلم عند دراسة النوازل أن يراعيها: ما يتعلق بدعاء رب العزة والجلال، التوكل فيه حسن ظن بالله، والله -جل وعلا- يقول: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيظُنَّ بِي مَا شَاءَ» ، والدعاء استجداء وطلب منه -سبحانه وتعالى- أن يعينه وأن يوفقه وأن يوصله إلى الحق في مسائل النوازل،

ودعاء رب العزة والجلال سلاح عظيم وهو من أعظم الأسباب التي توصل العبد إلى الحق، وخصوصًا عند دراسة النوازل، فالله -جل وعلا- قد أمر عباده بالدعاء ووعدهم بالإجابة كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وكما في قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]، انظر لكلمة ﴿لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ﴾ أي يوفقوا ويمكنوا من الوصول إلى جانب الرشاد.
ولذلك إذا نظرنا إلى نصوصٍ كثيرةٍ تأمر بدعاء الله -جل وعلا- خصوصًا في هذا الباب، مثلًا في قوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْم﴾ [طه: 114]، ومن العلم الوصول إلى أحكام النوازل الجديدة، وهكذا في مثل قوله -جل وعلا- في سورة "الفاتحة" ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، فهذا دعاء من العباد لربهم -سبحانه وتعالى- أن يوفقهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، يعني طريق الحق الذي لا خطأ فيه ولا شبهة، وهكذا جاء في الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رغب في الدعاء المشهور: «اللَّهمَّ ربَّ جِبْرَائِيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ عالِمَ الغيبِ والشَّهادةِ أنتَ تحكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيهِ يختلِفونَ، أهدِني لِمَا اختُلِفَ فيهِ منَ الحقِّ».
فهذا الدعاء دعاء عظيم ينبغي بطالب العلم أن يجعله في ورده وأن يقوله في صباحه ومساءه، فإنه محتاج أشد الحاجة إلى أن يوفقه رب العزة والجلال إلى القول الصواب والقول الحق في المسائل التي تعرض له.
ومن الأمور التي ينبغي أن تُلاحظ في هذا الباب: أن تُلاحظ أسباب إجابة الدعوات، وأن تُلاحظ أيضًا درء موانع إجابة الدعاء حتى يكون الدعاء مما يستجاب -بإذن الله عز وجل-، ولذا جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُستجابُ لأحدِكم ما لم يَدْعُ بإثمٍ أو قَطِيعةِ رَحِمٍ».
ومن الآداب المتعلقة بهذا: اختيار الأوقات المناسبة للدعاء، ومن ذلك أن يدعو الإنسان في المواطن والأحوال التي ترجئ إجابتها، ومن هذا الدعاء في السجود، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أقربَ ما يكونُ العبدُ مِن ربِّه وهو ساجدٌ فأكثِروا من الدُّعاءَ فقَمِنٌ أن يستجاب لكم»، وهكذا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟» الحديث.
ومن ذلك اختيار ساعات الإجابة في يوم الجمعة واختيار أيضًا الأحوال التي يحسن بالعبد أن يكون عليها، وأشير هنا إلى شيء قد يفوت كثير من الناس: ألا وهو الدعاء الخفي، يعني بعض الناس تجده يسعى إلى أن يكون دعائه في الأماكن المشهورة التي يشاهده الناس فيها سواءً عند الكعبة أو في المسجد أو نحو ذلك، بينما الأولى بالإنسان أن يكون دعاؤه خفية، ولذلك انظر إلى دعوة زكريا -عليه السلام-: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّ﴾ [مريم: 2]، وقال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55]، وبالتالي على الإنسان أن يخفي هذا الدعاء ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، لا ينتبه له أحد ولا يدقق في أمره أحد من الناس.
هكذا أيضًا من الأمور التي أو من الصفات التي ينبغي أن تُلاحظ في هذا الباب: أن العبد ينبغي به أن يدعو بالغاية التي يريد الوصول إليها، وابتداءً ويدعو بالوسائل تبعًا، ولا يجعل الوسائل هي الأصل وإنما يجعل الغاية التي يريد الوصول إليها من معرفة الحق وإرشاد الخلق ونحو ذلك هي المقصود في دعواته.
وأيضًا مما يتعلق بهذا الباب: أن طالب العلم عليه أن يجتنب تلك الأسباب التي تمنع من إجابة دعوته، ومن ذلك مثلًا أكل المال الحرام، ومن ذلك الاعتداء على الخلق، وإيذاء الناس، فإن هذا من أسباب عدم إجابة الدعوات. ولا شك أن من الدعوات التي يُخشى من إجابتها دعوة المظلوم، ولذلك على طالب العلم أن يجتنب باب الظلم كله وأن يحذر من هذا الباب، وليس الظلم بأخذ المال فقط، قد يكون الظلم بالكلام في الآخرين والقدح فيهم وذكر العيوب التي يتصفون بها، فإنه غيبة ومعصية وفي نفس الوقت من الأسباب الخذلان وعدم توفيق العبد وإصابة دعوة ذلك الشخص المتكلم فيها التي يدعو بها على من تكلم فيه.
وهكذا أيضًا يراعي الإنسان ما يتعلق بآداب الدعاء من كونه يتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾ [الأعراف: 180]، وكما قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، ومن ذلك أيضًا أن يتقرب إلى الله -جل وعلا- بالثناء عليه والصلاة والسلام على نبيه -صلى الله عليه وسلم- في مقدمة دعائه، فإن ذلك من أسباب إجابة الدعوات.
وهكذا أيضًا من أسباب إجابة الدعاء: أن يرفع الإنسان يديه في المواطن التي يشرع فيها رفع اليدين عند الدعاء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرً».
ومن الأمور والآداب المتعلقة بهذا، يعني قبل أن أذكر أدبًا آخر متعلق بالدعاء، هناك مواطن لا يُستحب رفع الأيدي فيها، وهي المواطن التي دعا فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يرفع يديه، ومن أمثلة ذلك مثلًا: الدعاء في السجود، أو الدعاء في الجلسة بين السجدتين، من جاءنا ورفع يديه في هذا الموطن، قلنا: أخطأت، لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في هذا الموطن، وبالتالي عليك أن تقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومثله في الدعاء بعد صلاة الفريضة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو وكان يرغب أصحابه في الدعاء بعد الصلاة المكتوبة، ومع ذلك لم يكن يرفع يديه في هذا الموطن، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سُئل: أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ المكْتُوباتِ» ، وقال في الحديث الآخر حديث ابن مسعود: «فإذا فرغ من ذلك» يعني من التشهد «فليدعو الله بما شاء».
وجاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حينما أوصاه أن يقول دبر كل صلاة: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» ، فالدعاء في هذا الموطن وبعد الصلاة المفروضة وبعد السلام منها من الأمور المستحبة، وجاء فيه ترغيبات كثيرة ولكن يكون بدون رفع اليدين، إذا تقرر هذا فإن نجد أنَّ أولئك الذين يتوجهون بالدعاء إلى الله -جل وعلا- في خلواتهم وفلواتهم نجد أن لهم من التوفيق في طلب العلم وفي الوصول إلى الحق وفي القدرة على دراسة النوازل ما ليس بغيرهم، ولذا نجد أن علماء الإسلام الأوائل الذين كان لهم تأثيرهم ومكانتهم، نجد أنهم لديهم من القدرة على تمييز حقائق المسائل والمعرفة الحق فيها ما لا نجده عند غيرهم.
الأدب الآخر من آداب دراسة النوازل: الإكثار من قراءة القرآن الكريم ومن قراءة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن تلاوة القرآن تفيد طالب العلم خصوصًا في باب دراسة النوازل من جهات متعددة: أولها أنها ترقي نفسه ليكون لديه القدرة على الفهم والاستيعاب، فإن الله -جل وعلا- جعل لهذا الكتاب من الخاصية ما تكون سببًا في قدرة الإنسان على الفهم والاستنباط، ولذا جاء ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[الزخرف: 3]، ما قال تعقلون الكتاب فقط وإنما أطلق ليكون ذلك مؤشرا إلى أن قدرتهم على الفهم تترقى بهذا الكتاب، سواءً كان فهمًا لكتاب الله -عز وجل- أو فهمًا لغيره.
ثم إنَّ الإنسان بمراجعته للآيات القرآنية والأحاديث النبوية يكون عنده دربة على معرفة الأسباب والمؤثرات على الأحكام الشرعية، وبالتالي يكون الإنسان بكثرة مراجعته للقرآن ومدارسته لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مُؤهلًا لفهم النوازل وللتفريق بين الأوصاف المؤثرة وبين الأوصاف غير المؤثرة؛ ولذا نجد أنَّ أهل الإسلام الأوائل يعتنون بدراسة هذه الأصول، ونجد أنهم يخصصون أجزاءً من وقتهم لقراءة القرآن وفي نفس الوقت أجزاء أخرى لمدارسة السنة النبوية، فنجد أنهم يقرءون الكتب الستة أو السبعة وغيرها من الكتب باستمرار ويجعلون لذلك أورادًا يومية أو أسبوعية، وهذا وجدناه عند علماءنا ومشايخنا الأوائل يسيرون عليه ونحتاج إلى إحيائه ومدارسته مرة أخرى.
الأمر الآخر من الآداب المتعلقة بهذا الباب: ترك المعاصي والذنوب، فإن المعاصي لها أثرها في جعل الإنسان لا يميز حقائق الأمور ولا يتوصل إلى مقاصدها ونهايتها، بخلاف الورع والتقوى، فإن لها من الأثر العجيب في جعل الإنسان يدرك حقائق الأمور ويتمكن من دراسة النوازل، ولذا جاءت النصوص ببيان أن الذنوب من أسباب طمس قدرة العبد على فهم حقائق الأشياء كما في قوله -جل وعلا-: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]، فجعل ما يكسبونه سواءً ما يكسبونه من مال حرام أو ما يكسبونه من عمل فاسد ومعاصي من أسباب وضع الران على القلوب.
وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ» إلى أن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ»، ثم ذكر من صفتها أنها بمثابة الكوب الذي يوضع أو يجعل مكفيًا فإنه لا يستقر فيه شيء من العلم، ولذا على الإنسان أن يحذر من هذه المعاصي خصوصًا طالب العلم، وعليه أن يبادر بالتوبة كل ما وجد منه شيء من هذه الذنوب، وعليه أن يتفكر في أعماله حتى في صغائرها وبالتالي يزنها بميزان الشرع، هل هي طاعة لله -عز وجل- أو هي من المعاصي؟ ومن ثَمَّ يبادر إلى التوبة وإلى الاستغفار.
ولا شك أن التقوى لها أثر كبير في التوفيق للحق والوصول إلى القول الصواب، حتى في باب دراسة النوازل، ولذا قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 - 3]، يجعل له مخرجًا فيخرج من الباطل إلى الحق، ويرزقه من الرزق أن يرزقه العلم النافع وأن يرزقه القدرة على دراسة النوازل من حيث لا يحتسب، وهكذا في قوله -جل وعلا-: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْر﴾[الطلاق: 4]، أي ييسر له الأمر ويسهله عليه، ومن ذلك أن يسهل عليه باب دراسة النوازل، ويدل على هذا مثل قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 2]، فأهل التقوى يهتدون بهذا الكتاب ويتمكنون من الوصول إلى الحق.
ومثله في قوله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَان﴾ [الأنفال: 29] أي قدرة تفرقون بها بين الحق والباطل وتتمكنون من الوصول إلى القول الصواب، ومن ذلك أن يتمكن من الوصول إلى صواب الأقوال في المسائل النازلة، وقد قيل في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282]، في تفسير هذه الآية تفاسير متعددة: منها القول بأن تقوى الله من أسباب تعليم الله -عز وجل- للعبد.
فالمقصود أن ملازمة الطاعات والإكثار منها وترك المعاصي من أسباب التوفيق للوصول إلى الحق، وإذا نظرت إلى الأوائل وتوصياتهم في هذا الجانب، تجدها كثيرة متعددة، فهم في جانب يراعون هذا الأدب ونجد منهم مثلًا من قراءة القرآن الشيء الكثير إذا نظرت إلى عدد من الأئمة تجد أن منهم من يختم القرآن كل ثلاث، ويختم القرآن في كل أسبوع، ومنهم من يختمه في كل عشر، مما يدلك على اعتناءهم بكتاب الله -جل وعلا-.
ومن هنا فإن من الوصية لطالب العلم الذي يريد أن يدرس هذه النوازل: أن يكثر من قراءة القرآن وأن يجعله محفوظًا عنده بحيث يتمكن من قراءته في ذهابه، في إيابه، في جلوس انتظاره، إلى غير ذلك من أحواله، وإذا عرف الناس بسمراتهم وخلاوتهم فليكن من شأنه أن يعرف عن نفسه ذكر الله -جل وعلا- وتلاوة الكتاب، ولذا فإن من الوصية أن يكثر طالب العلم الذي يُعنى بدراسة النوازل من ذكر الله -سبحانه وتعالى، فإن لذكر الله من الأثر في النفس الشيء الكثير، فذكر الله تطمئن به النفس، يرزقها الثبات، يجعل الإنسان بعيدًا عن الشياطين التي توسوس له الباطل وتزينه وتخوفه من الحق، كذلك من ذكر الله -جل وعلا- فإن الله يذكره ومن ثَمَّ يعينه ويوفقه ويسدده كما ورد ذلك في العديد من النصوص، قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾[الرعد: 28]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قالَ: يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي، وإنْ ذَكَرَني في ملإٍ، ذكَرتُهُ في ملإٍ خَيْرٍ منْهُمْ».
وبالتالي يُكثر الإنسان من ذكر الله -جل وعلا-، ولذكر الله من الأثر العظيم في القدرة على دراسة النوازل ومعرفة أسبابها وعللها والتمكن من الوصول إلى الحق فيها ما ليس لغيره، وذكر الله -جل وعلا- قد يكون بالقلب، فتستحضر ما يتعلق بالله -عز وجل- في كل جزء من أجزاء حياتك، إذا رأيت شيئًا نسبته إلى الله فهو من خلق الله، وإذا رأيت سنة كونية نسبتها إلى الله -جل وعلا-، وإذا رأيت فعلًا حتى فعل المعاصي تذكرت حكم الله في ذلك الفعل، وبالتالي نظرت إلى ما هو الواجب عليك تجاه مثل هذه الأفعال، وقد يكون الذكر لسانيًا كما هو معروف، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيل﴾[الأحزاب: 41- 42]، وكذلك قد يكون ذكر الله -جل وعلا- بطرد الوساوس التي ترد على القلب من الشياطين، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾[الأعراف: 201].
ومما يتعلق بهذا أيضًا: أن يكون هناك استماع لآيات القرآن ولكتب العلم، فإن الاستماع له من الأثر على النفس ما لا يكون عند قراءة الإنسان بنفسه، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن مسعود: «أقر»، قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، ومن هنا قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]، ومن أسباب الرحمة: أن يوفق الإنسان للصواب، وأن ييسر له سبيل الاجتهاد في مسائل النوازل.
من الآداب التي لا بدَّ من مراعاتها: التحقق، تحقق طالب العلم من أهليته لدراسة النوازل الفقهية، فإنه إذا لم يكن مؤهلًا لم يجوز له الدخول في باب إقرار القول الراجح وتميزه من القول المرجوح في باب دراسة النوازل الفقهية، وقد تقدم معنا البحث في صفات المجتهد ومن هو المؤهل لدراسة النوازل، وبالتالي لا بدَّ أن يتحقق الإنسان من نفسه من وجود تلك الصفات، والصفات المتعلقة بالاجتهاد على نوعين: منها صفات عامة ومنها صفات خاصة في بعض الأبواب، فإن الإنسان قد يكون مؤهلًا للاجتهاد في بعض الأبواب، ولا يكون مؤهلًا للاجتهاد في الأبواب الأخرى.
فمثلًا يكون الإنسان عنده من القدرة على تمييز الحق في النوازل الواردة على الناس في أبواب العبادات، لكنه لا يكون كذلك في أبواب أخرى مثل الجنايات أو المعاملات، ومن هنا لا بدَّ أن يتحقق من الأمرين، التحقق من الأهلية العامة والتحقق من قدرته على الاجتهاد في ذلك الباب من أبواب الاجتهاد أو من أبواب مسائل العلم.
كذلك من الآداب التي على الإنسان أن يراعيها عند دراسة النوازل: التصوير المسائل التي يريد أن يدرسها، فهو يحتاج إلى شيئين: تصور وتصوير، من أجل أن يكون حكمه على النازلة حكمًا صحيحًا، فإننا -كما تقدم- قد يخفى الإنسان بعض جوانب النازلة فيكون حكمه حكمًا خاطئًا لأن المأخذ الشرعي موجود في تلك الأجزاء التي جهلها ولم يقم بدراستها، ومن هنا على الإنسان أن يقوم بالتوصيف الدقيق للمسألة التي يريد أن يدرسها أو يفتي فيها.
ونحن نجد أن كثيرًا من المصطلحات يضاف إليها معانٍ بعد ذلك الوقت الذي يحدث فيه الاجتهاد، وبالتالي تكون تلك الاجتهادات قاصرة لأنها لم تستوعب جميع المسألة بجميع أبوابها وصفاتها وأجزائها، ومن هنا على الإنسان أن يقوم بتصور المسألة تصورًا كاملًا قبل أن يقوم بدراسة النازلة، ومحاولة التعرف على الحكم الشرعي المتعلق بها.
ونحن نجد مثلًا هناك كلمات ابتدأت بمعنى، ثم بعد ذلك توسعت، فمثال ذلك كلمة التأمين، فإنها أول ما ابتدأت فيما يتعلق بالمسائل التجارية وما يتعلق بالتجارة التي تكون بين بلد وآخر، فإذا بها تتوسع فأصبح هناك تأمين على البضائع، هناك تأمين على الحياة، هناك تأمين على الوظائف، هناك تأمين طبي، إلى غير ذلك من الفروع التي تم إدخالها تحت مسمى التأمين، ومن هنا فلا بدَّ عند الحكم على نازلة من أن يكون هناك تصور لتلك النازلة وتصوير دقيق لها، قد يكون هناك غفلة عن بعض أجزاء النازلة، وبالتالي لا يكون الحكم الذي أطلق على تلك النازلة حكمًا صحيحًا.
وحينئذٍ أذكر أن بعض الناس حاول أن يستجلب خيرًا ومصلحة بقول في نازلة فكان أثره بضد ذلك، حيث جلب على الناس من الشر الشيء الكثير بسبب أنه لم يقم بتصور المسألة على جهة الكمال والتمام من جميع أجزائها.
ومن الأمور التي نؤكد عليها في هذا الباب: أنه لا بدَّ أن يدخل الدارس للنازلة في عمق هذه النوازل ليعرف أجزائها وليعرف أوصافها وليعرف حدودها ولينطلق من ذلك إلى بيان الحكم الشرعي الذي يجب عليه عند النطق به أو كتابته أن يوصف تلك النازلة التوصيف الدقيق الذي يرتب عليه الحكم ويميز تلك النازلة من غيرها من المسائل حتى المسائل التي قد يتم إدخالها في مسمى تلك النازلة في مستقبل الأيام.
من الآداب التي على الإنسان أن يراعيها: أن يراعي التفصيل في المسائل التي تحتاج إلى تفصيل، هناك مسائل فيها أجزاء مختلفة متعددة، فعندما يُسأل عنها لا بدَّ من التفصيل فيها، وإطلاق القول فيها لا يكون إطلاقًا صحيحًا، وبالتالي على الإنسان أن يدقق في كل شيء وكل جزئية من الأجزاء المتعلقة بذلك.
فمثلًا لما يأتينا سائل ويسألنا عن أحكام عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، فهذا العقد فيه صور متعددة وبالتالي لكل صورة حكم مستقل، ومن ثَمَّ لا بدَّ من التفصيل فيها، ففرق بين ذلك العقد الذي يكون فيه دفعة أولى بدون أن يكون قد وازها مقدار من الزمان وبين العقد الذي لا يوجد فيه دفعة أولى، أيضًا هناك من يتعلق بقدرة المستأجر على التصرف في العين المستأجرة وما لا يمكن فيه من التصرف، وهكذا قد يكون هناك أوصاف مؤثرة وبالتالي لا بدَّ من التنبه لمثل ذلك، هل هناك عقد واحد؟ أو هي عقود متعددة، وبالتالي لا بدَّ من مراعاة هذا الأمر.
إذا لم يتم التفصيل في المسائل القابلة للتفصيل تلك المسائل المشتركة، فإنه حينئذٍ سيكون طرف من أطراف ذلك الاجتهاد قد وقع في الخطأ وسلك طريق الباطل ولم يسلك طريق الحق.
من الأمور التي ننبه عليها في هذا الباب: الانتباه للجانب العقدي، يعني هناك كثير من النوازل الفقهية فيها جانب عقدي، فقد يأتي الفقيه ويحكم بناءً على الجانب الفقهي ولا يلتفت إلى ذلكم الجانب العقدي المتعلق بالمسألة، وبالتالي يكون في اجتهاده جانب من جوانب الخطأ، فإن التقسيم في العلوم بين الفقه والمعتقد والتفسير والحديث، هذا تفسير من أجل تيسير هذه العلوم وتقريبها، لكن عند النظر في وقائع الناس لا بدَّ من ملاحظة هذه الجوانب جميعًا، ومن لاحظ جانبًا ولم يلاحظ جانبًا آخر فإنه حينئذٍ يقع في زلل.
ومن أمثلة هذا: لو جاءنا سائل وسألنا عن دبلة الخطوبة، فيأتي ويقول: دبلة الخطوبة للمرأة جائزة لأن المرأة يجوز لها لبس الذهب لكنها لا تجوز للرجل لأنه لا يجوز له لبس الذهب، فيغفل عن وجود جانب عقدي في المسألة، وهو أن هناك اعتقادًا بأن وجود الدبلة يسبب استمرار النكاح وأنه من أسباب التوفيق بين الزوجين، ومن أسباب بقاء العلاقة بينهما، فهذا الجانب الاعتقادي لا بدَّ من ملاحظته في باب دراسة النوازل، ولا يصح بالإنسان أن يترك ذلك.
أيضًا مثلًا يأتيك ويقول: ما حكم وضع خط على اليد، فيلتفت إلى أصل الإباحة ويقول الأصل في باب الألبسة الجواز والإباحة ويغفل عن وجود اعتقادات في هذا الباب تعتقد بمعانٍ معينة، ولذا ورد في الحديث النهي عن تعليق التمائم ونحوها، ومن ثَمَّ لا بدَّ من ملاحظة الجانب العقدي عند دراسة النوازل، ومن لم يلاحظ الجانب العقدي فإنه سيقع في خطأ وزلل في هذا الباب.
كذلك من الآداب المتعلقة بدراسة النوازل الفقهية: أن يقوم دارس النوازل الفقهية بجمع جميع الأدلة الواردة في المسألة المجتهد فيها ولا يقتصر على الأدلة من الكتاب أو على آية واحدة أو على حديث واحد، والناظر في بعض اجتهادات المجتهدين يجد أنه متى وجد حديثًا أو آية في النازلة، اكتفى بها وأصبح يصدح بالحكم في تلك النازلة بناءً على تلك الآية ويغفل عن وجود أدلة أخرى عليه أن يراعيها وأن ينظر في كيفية دفع التعارض عند وجود هذه الأدلة المتعارضة في ذهنه، وإلا أنه في حقيقة الأمر لا يوجد بينها تعارض، ولذلك كم من إنسان اقتصر على دليل واحد، فجعل ذلك يخطئ ولا يصل إلى الحق في المسائل المجتهد فيها من المسائل النازلة، ولذلك على الإنسان أن يجمع جميع الأدلة في المسألة المجتهد فيها قبل أن يقوم بعملية دراسة النازلة الفقهية ومحاولة الاجتهاد فيها والوصول إلى الحكم الشرعي المتعلق بها.
هناك عدد من الآداب التي أريد أن أتحدث فيها فيما يتعلق بدراسة النوازل وما ذكرته قرابة اثني عشر أدبًا هي نماذج من نماذج آداب دراسة النوازل الفقهية.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمون}.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا وأسأل الله -جل وعلا- للجميع التوفيق لكل الخير وأن يرزق الجميع العلم النافع، هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طبية المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك