{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين مرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء
العلمي"، نحن وإياكم في سلسلة علمية بعنوان "فقه النوازل" يقدمها معالي شيخنا،
الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بمعالي الشيخ}.
حيَّاك الله، وأهلًا وسهلًا، أرحب بك وأرحب بأحبتي من طلبة العلم، وأسأل الله -جل
وعلا- لهم علماً نافعًا وعملاً صالحاً.
{شيخنا الكريم في الحديث عن النوازل يذكر العلماء طرائق لدراسة هذه النوازل، فهل
تحدثونا مشكورين عن هذه الطرائق}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
تقدم معنا الكلام في تعريف النوازل الفقهية وبيان أركان النازلة وتحدثنا عن التكييف
الفقهي وكيف يكون طريقاً لاستخراج أحكام النوازل كما سبقت أن تكلمت عن معرفة حقيقة
الواقعة والنازلة وأثر ذلك في دراسة النازلة والقدرة على استخراج حكمها، كما ذكرنا
فيما مضى آداب دراسة النوازل.
في هذا اليوم -بإذن الله عز وجل- نتحدث عن طرائق استخراج أحكام النوازل، فإن
الطرائق التي يمكن استخراج أحكام النوازل بها هي ثلاثة طرق:
الطريق الأول: ما يتعلق بدلالة النص، بحيث يُعرف مدلول منطوق الكلام الوارد في
الأدلة في كتاب الله أو في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثَمَّ إذا وردت على
الناس نازلة لا يمكن أن تعود فيها إلى إجماع نصي أو قول صحابي نصَّ على تلك النازلة
أو آية أو حديث تنص على النازلة، وإنما يمكن أن يكون في النص القرآني ما يشعر بحكم
تلك النازلة.
ومن هنا فإن الطرائق ثلاثة طرائق:
أولها ما يتعلق بمنطوق النص.
وثانيها: ما يتعلق بمفهوم النص.
وثالثها: ما يتعلق بمعنى النص، فلعلنا نشير إلى كل واحدة من هذه الطرائق الثلاثة
بما يجعل طالب العلم يتمكن من معرفتها أولاً، ثم يتمكن من القدرة على تطبيقها
واستعمالها عند دراسة النوازل.
ومن الأمور التي تتعلق بهذا أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فيها إشارات لعدد
من الأحكام: منها الإشارة إلى مستقبل الناس وما يقع في حياتهم، ومن أمثلة ذلك ما
ورد في الحديث أن جبريل -عليه السلام- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- مَتَى
السَّاعَةُ؟ قالَ: «ما المَسْئُولُ عَنْهَا بأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»، قَالَ:
فَأَخْبِرنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ: «أَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ
الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»، ولما ذكر التطاول
في الْبُنْيَانِ ولم يعقب عليه بحكم شرعي فيه ولا يوجد في مدلول النصوص ما يتعارض
مع هذا الأمر، حينئذٍ أخذنا جواز المطاولة في الْبُنْيَانِ ورفع البيوت إلى هذه
الأدوار العديدة.
فهذه الأبراج التي تُبنى ويوضع فيها من المنافع ما يوضع يمكن أن تؤخذ أحكامها من
هذا الحديث الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن مثله في قوله تعالى: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس:
42]، ومن آياته لَمَّا ذكر الله -جل وعلا- في سورة "يس" المراتب العظيمة التي أشار
إلى أنه سيخلقها، وأن ذريتهم سيركبونها، فدل هذا على جواز صنع البواخر العظيمة
الكبيرة وعلى جواز ركبوها والإبحار بها والسفر فيها.
فهذا جانب من الجوانب النصية التي يمكن أخذ الأحكام المتعلقة بالنوازل وقضايا
العصر.
وهناك طرائق يؤخذ بطريق المنطوق تُسمى عند العلماء طريق الظاهر، بحيث تكون دالة على
المعنى ودالة على حكم النازلة الفقهية ولكن مع احتمال وجود ما قد يرد على ذلك
الدليل وإن كان ذلك الاحتمال غير متأيدٍ بدليل.
ومن أمثلة ذلك: الألفاظ العامة التي ترد في النصوص الشرعية، فإن هذه الألفاظ العامة
قد يؤخذ منها أحكام النوازل الفقهية، من أمثلة هذا مثلاً في قوله تعالى:
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ﴾[النحل: 8]، فإن كلمة "ما" من الأسماء الموصولة، وهي من الأسماء
المبهمة التي يستفاد منها العموم، وحينئذٍ يقال: إنه لما أشار إلى تلك المركوبات
التي تركب في الزمان الأول مما يشعر بجواز الركوب عليها، ثم قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ﴾ دلَّ هذا على أن الأصل في المركوبات هو الحِل والجواز.
وينبغي بالإنسان قبل أن يبتدئ بالنظر في القاعدة، النظر في الأصل في ذلك الباب، هل
هو الحِل والجواز أو عدمه، ومما يدل على هذه القواعد ظواهر وعمومات الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية.
ومن أمثلة هذا قوله -جل وعلا-: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ
جَمِيع﴾ [البقرة: 29]، وفي هذه الآية إشارة إلى جواز استعمال واستخدام ما في
الأرض من سائر الإمكانات، وهذه قاعدة في هذا الباب: وهي أن الله -جل وعلا- إذا
امتنَّ على العباد بشيء دل ذلك على جواز ما أمتن الله -جل وعلا- به على العباد.
ومن هنا كما أخذنا في قوله -جل وعلا: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أن الأصل في المركوبات
من الحيوانات هو جواز ركوبها وجواز الانتفاع بها، ويمكن أيضًا أن يستفاد منه في
أحكام المركوبات الحديثة التي وردت على الناس.
ومن أمثلة هذا في قوله -جل وعلا-: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ﴾[الأنفال: 60]، فإن قوله: ﴿مَّا اسْتَطَعْتُم﴾ من
ألفاظ العموم، فإنما من الأسماء المبهمة، الأسماء الموصولة فتفيد العموم، ومن
المعلوم أن أدوات العموم خمسة أدوات أو ستة أدوت: أولها المبهمة مثل: "ما، ومن"
ونحوها، وثانيها: "كل وجميع"، ومن أمثلة ذلك ما ورد في النصوص من استعمال لفظة "كل،
وجميع" كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيع﴾، فهذا
دليل على عموم شمول هذا الحكم لعموم ما يكون على الأرض مما عرفه الناس أو مما
سيعرفونه في مستقبل أيامهم.
وهكذا أيضًا من صيغ العموم الألف واللام الدالة على الجموع أو أسماء الجنس أو
الأفراد، فإنها تفيد العموم، وهكذا أيضًا مثل قوله -عز وجل-: ﴿وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَ﴾ [المائدة: 38]، فإن السرقة لا يمكن
حصرها بالممارسات الموجودة في عهد النبوة التي يقع فيها أخذ مال الآخرين على جهة
الخفية، فإن وضع الأموال في عصرنا الحاضر يجعلنا نعرف أن اسم السرقة يشمل كل عملية
أخذ بأموال الآخرين على طريق الخفية.
ومن هنا فإن هذا الاسم يشمل ما وجد في عصرنا الحاضر من أخذ الأموال وتحويل هذه
الأموال من حسابات بنكية إلى حسابات أخرى على جهة الخفية لا على جهة النهبة
والتنمر، فهذه اللفظة ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ من ألفاظ العموم؛ لأنها من
الأسماء المفردة المعرفة بالألف واللام التي تقع للاستغراق.
وهكذا أيضًا أسماء الجموع المضاف إلى معارف، وكذلك اللفظ المفرد المضاف إلى اسم جنس
معرف، فإن هذه أيضًا تفيد العموم، وبالتالي فإنها تشمل صورا كثيرة غير محصورة ولا
متناهية.
مثلاً في قوله -جل وعلا- في آية المواريث: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، فإن هذا كما يشمل المولود
الذي ولد بالطريق المعتاد بجماع وولادة ونحوها، كذلك يشمل ذلكم المولود الذي أخذ من
ماء الرجل، فلقحت به بويضة زوجته فنتج عنهما مولود بما يسمى طفل الأنابيب.
وهكذا من ألفاظ العموم النكرة في سياق النفي وما ماثله، فإنه يشمل ما لا يتناهى من
السور، ومثله أيضًا حذف المتعلقات في أفعال النهي والنفي مثل قوله -عز وجل-: ﴿وَلاَ
تَعْتَدُو﴾ فإن هذه الكلمة حذف المفعول فيها والفعل هنا وقع في سياق النهي فيفيد
النهي عن جميع أنواع الاعتداءات بما فيها الاعتداءات المعاصرة سواءً كانت بالتنمر
أو باستعمال وسائل التواصل الاجتماعي في إلقاء بعض الكلمات المؤذية التي تؤذي
الآخرين.
هذه الآية فيها أيضًا إشارة إلى اسم من أسماء العموم في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ [المائدة: 87]، فهذا فيه دلالة على المنع من الاعتداء بكافة
صوره وجميع أشكاله بما فيها الممارسات المعاصرة التي وجدت في زماننا الحاضر.
وكذلك من أنواع الألفاظ التي يمكن أن يستفاد بمنطوقها أحكام النوازل، الألفاظ
المطلقة، والمراد بالمطلق النكرة التي تقع في سياق الإثبات، سواءً كانت نكرة مفردة
أو كانت جمعًا منكر، فإنها متى وقعت في سياق الإثبات أفادت الإطلاق، ولهذا نجد أن
النصوص التي وردت عندنا في عدد من الأوامر تشمل بإطلاقها عدداً من الصور المعاصرة.
فمثلاً في قوله -جل وعلا-: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [يونس: 87]، أو على النصوص
الواردة في: "صلي صلاة الظهر، صلي إذا زالت الشمس" ومثله في قوله -عز وجل-: ﴿أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: 78]، فهنا الفعل مثبت وقد حذف مفعوله،
فمن ثَمَّ يكون من ألفاظ الإطلاق، وبالتالي يكون هذا اللفظ بإطلاقه شاملًا شمولًا
بدليًا جميع المواطن والأماكن حتى ما يتعلق بالأماكن الجديدة التي لم يكن الناس
يصلون إليها في الزمان الماضي.
يعني مثلاً:
راكب الطائرة، لم يكن في الزمان الماضي طائرات، فبالتالي من صلى في الطائرة هل تصح
صلاته أو لا تصح؟ ومثله في قوله: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج:
29]، فإنه في هذه الآية لم يذكر الآلة التي يحصل بها الطواف، هل هي بالأقدام أو
بالإبل أو بغيرها؟ والفعل هنا مثبت غير منفي، وقد حذف متعلقه، فكأنه قال: وليطوفوا
بأي وسيلة يطوفون بها الكعبة، ومن ثَمَّ كل وسيلة استجدت على الناس يمكن أن يمتثل
بها الأمر الشرعي الوارد بالطواف، فإنه يمكن الامتثال بها، فتكون هذه القاعدة
المتعلقة بفهم المطلق مما يمكن استعماله في استخراج أحكام النوازل الجديدة.
وهكذا في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ
فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ
بِهِمَ﴾ [البقرة: 158]، ونماذج الإطلاق كثيرة متعددة، وبالتالي يمكن أن يكون لنا
استعمال نصوص شرعية وردت بصيغة الإطلاق لتشمل بعمومها البدلي الوسائل والقضايا
المعاصرة التي لم تكن تُعرف في الزمان الأول.
ومن أمثلة هذا، أمثلة العموم: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الْمَاءُ طَهُورٌ
لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، فإن كلمة الماء اسم جنس معرفة بـ "أل" الاستغراقية فإنها
تفيد العموم، وبالتالي هذا اللفظ يشمل بعمومه مياه التحلية ويشمل بعمومه المياه
المنقاة، ومثله في قوله -جل وعلا-: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّب﴾ [النساء: 43]، فإن هذا اللفظ يشمل المياه المعالجة، ويشمل المياه
المحلاة.
وهنا أشير إلى شيء وهو أن النكرة في سياق النفي إنما استفيد العموم منها، لأن نفي
المطلق يكون عموماً، فهو في الحقيقة نفى المطلق، والمطلق عمومه بدلي، فإذا نفيت
أفراد العام البدلي فحينئذٍ معناه أنك لا تجيز إثبات هذا الحكم لأفراد هذا العام.
فالمقصود أن المطلق يمكن استخدامه في معرفة أحكام النوازل التي تحدث في حياة الناس،
وهكذا أيضًا فيما يتعلق بالأوامر والنواهي، فإنها بلفظها يمكن استخراج أحكام العديد
من النوازل، ومن أمثلة ذلك ما ذكرته -قبل قليل- في قوله: ﴿وَلاَ تَعْتَدُو﴾، فإن
هذا نهي فيشمل بنهيه الوقائع الجديدة التي وجد فيها ذلك المعنى.
ومما يتعلق أيضًا بهذا الباب: أن نستحضر أن هذه النصوص الواردة في الكتاب والسنة
أصلاً وردت لتكون عامة شاملة لجميع الوقائع إلى قيام الساعة، ولذا قال تعالى:
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، ونحو
ذلك ما ورد من النصوص في عموم هذه الشريعة، فإنه من مقتضى ذلك أن تكون الشريعة
بنصوصها قد شملت أحكام جميع الوقائع بما فيها الوقائع المعاصرة التي لم تكن في
الأزمان الماضية.
هكذا أيضًا فيما يتعلق باستعمال الألفاظ المجملة التي ورد بيانها في نصوص أخرى،
فالمقصود أن الأمر والنهي يمكن أن يستفاد منهم في معرفة أحكام النوازل من جهات
متعددة.
الجهة الأولى: أن الأوامر والنواهي يندرج في ضمنها وثناياها أحكام هذه النوازل.
والأمر الثاني: أن الأوامر والنواهي تعرفك بمقاصد الشريعة وبالمعاني التي وردت
الشريعة بملاحظتها وترتيب الأعمال والأحكام عليها، ومن ثَمَّ فإن معرفة مقاصد
الشريعة يجعلك تتعرف على أحكام النوازل الجديدة.
والأمر الثالث: أننا نعرف أن الشريعة قد جاءت بأن الأمر ملزم، وأنه يفيد الوجوب كما
في قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، وكما في قوله
سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].
ومن هذا المنطلق فإننا يمكن أن نعرف بمنطوق الأدلة أحكام كثير من النوازل، سواءً
كانت في نوازل الجريمة -كما ذكرنا في السرقة- أو في غيرها من الأبواب، يعني لما تجد
أن الشريعة قد جاءت بأن القذف موجب للحد، فبالتالي هذا الحد أين يقام؟ وما هي
الأداة المستعملة فيها؟ ونحو ذلك، هذا يمكن للإنسان أن يعرف أحكامه من خلال نظره في
العمومات ونظره في النصوص المطلقة.
فالمقصود أن الطريق الأول من طرائق تعرف أحكام النوازل، هو النظر في ظواهر النصوص.
أما الطريق الثاني: فهو النظر في مفهوم النص، بحيث نستنتج من النص أحكام النوازل
والوقائع الجديدة، وهناك مسائل يقع الاختلاف فيها هل هي من المنطوق أو من المفهوم،
ومن أمثلتها مثلاً في باب مفهوم الحصر، والمراد بالحصر أن يرد الحكم على محل ويشعر
دليله بأن الحكم مقتصر على ذلك المحل، والحصر له أدوات متعددة منها إلا، ﴿وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ﴾[آل عمران: 144]، فـ "إلا" من أدوات الحصر،
ويمكن أن يستفيد الإنسان من بعض النصوص أحكاما للنوازل الفقهية من خلال معرفة ألفاظ
النسخ، ألفاظ القصر وطرائقه، فهناك إلا وهناك النفي والإثبات وهناك إنما، وهناك
المبتدأ المعرف، وهناك إيراد ضمير الفصل ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[المائدة:
45]، فهذه أدوات مثل أيضًا تقديم المعمول، فهذه أدوات الحصر يمكن أن تكون مرتعًا
للفقيه يستفيد منه أحكام الوقائع والنوازل الجديدة.
من المسائل أيضًا المتعلقة بالمفاهيم والقدرة على استخراج الأحكام الشرعية منها: ما
يسمى عند العلماء بدلالة التنبيه، والمراد بدلالة التنبيه ما نسميه مفهوم الموافقة
بحيث يكون النص نص على الحكم في محل، فنجد محلاً آخر لا توجد بين المحلين فوارق
مؤثرة بالتالي نقوم بإلحاقه بحكمه ونجعله يماثله، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِير﴾ [النساء: 10].
فالآية حرمت الأكل من مال اليتيم، فحينئذٍ نقول: كل هذا التحريم جاء من أجل
المحافظة على أموال اليتامى، فكل معنى يتضمن المحافظة على أموال اليتامى فإننا
ندخله في هذه الآية، وبالتالي ما يناقض هذه التصرفات يكون محرمًا ممنوعًا منه.
ومن أمثلة هذا كما ذكرت في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَار﴾، فالآية نصت على
تحريم الأكل، فحينئذٍ نقول: كل تصرف سيؤدي إلى عدم تمكن اليتيم من الانتفاع بماله،
فإنه يكون محرم يماثل الأكل، ومن هنا إذا جاءتنا تصرفات جديدة، مثلاً تمكين
المحتالين من أخذ مال اليتيم، مثلاً وضع أموال اليتيم في بنك أو مصرف لا يُؤمن عليه
من الإفلاس، فمثل هذه التصرفات تصرفات وقعت في عصرنا الحاضر يمكن أن نستفيد منها
بواسطة دلالة التنبيه، وهو أن ينص على الحكم في محل، فنجد محل يماثله في معنى
الحكم، فنقول: إن الدليل يشمله.
ومن هذا مثلاً في قوله -عز وجل-: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَ﴾
[الإسراء: 23]، فإنه يفهم بواسطة مفهوم الموافقة النهي عن كل تصرف يؤذي الوالدين،
وبالتالي لا بدَّ من أن نعرف أن مفهوم الموافقة أو دلالة التنبيه يراد بها إلحاق
المسائل المسكوت عنها ومنها مسائل معاصرة بمسائل تم النص على حكمها بوجود المعنى
المشترك فيما بينهما.
من أنواع الدلالات: دلالات الاقتضاء والمراد بها أن يكون الكلام قد حُذف بعض أجزائه
بحيث يتمكن من سمعه من معرفة ذلك اللفظ المحذوف، من أنواع الدلالات أيضًا: الدليل
الخطاب وهو الذي نسميه مفهوم المخالفة، فإنه متى ورد في النصوص النص على مسألة وذلك
لمعنى، فوجدنا مسألة أخرى فيها معنى مناقض للمعنى الأول، فإننا نقول بأن المسألة
الأخرى لا تماثل المسألة الأولى في الحكم بل تعاكسها، ومن هنا نعرف أن دليل الخطاب
مما يمكن أن يكون طريقاً مناسباً لاستخراج أحكام النوازل الفقهية.
ومن أمثلة هذا مثلاً: عندما قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: 101]، فأخذنا
من هذا أن من لم يضرب في الأرض عليه جناح إذا قصر الصلاة، فهنا دلالتان في قوله:
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ ولم تذكر الآلة، فهذا حُذف المتعلق في سياق الشرط، فيكون
مفيدًا للعموم، وبالتالي نأخذ معنا السفر بالطائرة والسفر بالسيارة وإن كانت من
الوقائع الجديدة التي لم تقع في الأزمنة الأولى.
من أنواعه الدلالات أيضًا: دلالة الإيماء والمراد بها طريقة استخراج الوصف الذي
يعلل به الحكم، فإننا متى عرفنا علة الحكم تمكنا حينئذٍ من إلحاق المسائل الجديدة
والمعاصرة بتلك المسائل المنصوص عليها.
من أنواع الدلالات: دلالة الإشارة، بأن يكون في الكلام معنى لم يكن مقصودًا أصالة
بالكلام لكنه يفهم منه على جهة التبعية، فالمقصود أن هذه الطرائق من طرائق استخراج
الأحكام -أحكام النوازل- بواسطة الدليل الشرعي، سواءً كان ذلك بالنص أو كان ذلك
بالظاهر أو كان ذلك بالمفهوم.
والنصوص في دلالتها تدل على حجية الكتاب دلالة صريحة ولم يشر فيها إلى طرائق
استخراج الحكم، فالمقصود أن النص يمكن أن نستفيد منه بالطريق المنطوق ويمكن أن
نستفيد منه بالطريق المفهوم لاستخراج أحكام النوازل.
والناظر في كثير من النوازل يجد أننا نتمكن من استخراج أحكام لها من طريق النصوص،
أشير أيضًا هنا إلى شيء وهو أن في المقارنة بين النصين قد نستنتج حكم نازلة فقهية،
ومن أمثلة هذا مثلاً في مسألة التلقيح الصناعي، عندنا إ ذا أخذنا من ماء الرجل
فوضعناه في بويضة امرأة، ثم وضعنا هذه البويضة الملقحة في رحم زوجة أخرى لذلك
الرجل، فإن النصوص قد جعلت الأم هي التي تكون البويضة منها وجعلتها هي الأم التي
ولدت، في مثل قوله تعالى: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي
وَلَدْنَهُمْ﴾[المجادلة: 2]، وقوله -جل وعلا-: ﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ﴾[الطارق: 7]، فإن قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾
يفيد أن خلق الإنسان من البويضة التي تخرج من الصلب والترائب.
والآية الأخرى: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ﴾ فيها إشارة
إلى تعلق الأم بكونها والدة للطفل، فلما وقع التردد أيهما تكون أمًا له، حينئذٍ
منعنا من تلقيح بويضة من ماء زوج ثم غرزها في رحم امرأة أخرى زوجة ثانية، لهذا
المعنى لوقوع هذا التردد.
هناك أيضًا باقي معنا ما يتعلق بمعنى النص ولعلنا نتحدث عنه في لقاءٍ آتٍ -بإذن
الله جل وعلا.
{أحسن الله إليكم معالي الشيخ ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وأسأل الله -جل وعلا- للجميع توفيقًا
وصلاحًا وسدادًا وبارك الله فيك وفي أحبتي جميعًا، وصلى الله على نبينا محمد.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طبية المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله
تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.