الدرس التاسع

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3212 11
الدرس التاسع

فقه النوازل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين مرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في سلسلة علمية بعنوان "فقه النوازل" يقدمها معالي شيخنا، الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بمعالي الشيخ}.
حيَّاك الله، وأهلًا وسهلًا، أرحب بك وأرحب بمن يستمع إلينا ويشاهدنا، أسأل الله -جل وعلا- للجميع التوفيق لخيري الدنيا والآخرة.
{معالي الشيخ لا يزال الحديث حول دراسة النوازل وحول طرائق دراسة النوازل، تحدثنا في الحلقة الماضية عن القياس والاستصحاب، فهل نتحدث في هذه الحلقة عن الطرائق غير المقبولة لدراسة النوازل}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فأسأل الله -جل وعلا- للجميع توفيقًا وصلاحًا وسداد، وبعد.
هناك أمور قد يستخدمها بعض الناس من أجل أن يحكم على النوازل الجديدة لكنها طرائق مخالفة لما وردت به الشريعة.
وسأضرب لذلك عدداً من الأمثلة.
المثال الأول: ما يتعلق باستحسان الناس بعقولهم، فإن بعض من يتحدث في المسائل النازلة يبدأ ينظر من ذهنه أن هذا مما يستحسنه العقل وبالتالي يرى جوازه أو استحبابه، في مرات قد يرى وجوبه بناءً على هذا الاستحسان، ومثل هذا الطريق ليس طريقاً صحيحاً لإثبات الأحكام الشرعية، قد يقول قائل: إن هذا من دليل الاستحسان، فنقول: إن الاستحسان يطلق على ثلاثة معانٍ.
أولها: ترك القياس لدليل أقوى منه، وهذا ليس دليلاً مُستقلاً، بل هو تابع للدليل الأقوى الذي من أجله ترك القياس.
والثاني: ما ينقدح في الأذهان من المعاني التي تثبت بها الأحكام بدون أن يكون هناك قدرة على الحديث بها، وهذا قد يُسميه بعضهم إلهامًا، وله تسميات أخرى وجماهير أهل العلم لا يرون الاحتجاج به خلافًا للمتصوفة الذين يقول قائلهم: حدثني قلبي عن ربي، والناظر في النصوص يدل على أنه لا يلتفت إلى هذه المعاني، قد قال الله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل﴾ [النساء: 59].
وقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]، فيه نصوص كثيرة.
وبالتالي مثل هذه المعاني، أولاً: لا يمكن ضبطها ولا يمكن معرفة حقيقتها وقد تكون من وساوس الشيطان وقد تكون من الأمور التي تعرض للإنسان بسبب توهمه للحكم الشرعي ونحو ذلك، ومن ثَمَّ لا يصح أن يبنى عليها حكم.
المعنى الثالث من معاني الاستحسان: هو ما يستحسنه المجتهد بعقله، وهذا المعنى أيضًا لا يصح القياس عليه ولا يصح البناء عليه، وذلك لأن هذا المعنى لا يستند إلى الشريعة وإنما يستند إلى ما في النفوس، وكم من مرة يرى الناس أن ما تهواه نفوسهم هو الخير وهو الأفضل ولا يكون الأمر كذلك، وقد جاءت الشريعة بالنهي عن اتباع الهوى كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾[ص: 26].
أيضًا من الأمور التي تجعل الإنسان يحكم بها على النوازل: تأثيرات الواقع الذي يعيشه الإنسان، فإن الإنسان متى كان تحت ضغوط معينة فإنه حينئذٍ قد يحكم على أحكام نتيجة ما يضغط به من حول الفقيه، فكون الناس مثلاً يستعملون معاملة مالية معينة وتجدها عندهم شائعة، قد يعجز الفقيه أن يقول بتحريمها والمنع منها، ومن ثَمَّ لا يجوز للإنسان أن يلتفت إلى ضغط الواقع ويجعله يغير مدلول النصوص بناءً عليها.
ولذا لما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوة الإسلام لم يلتفت إلى واقع في كونهم يعبدون الأصنام وفي كونهم يحللون ويحرمون ما لم ينزل الله به عليهم سلطان، ولم يلتفت إلى هذا كله، وقد جاءنا في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ؛ رضِيَ اللهُ عنه، وأرْضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ، سخِط اللهُ عليه، وأسخَط عليه الناسَ».
هكذا أيضًا قد يكون هناك معاهدات دولية وهذه المعاهدات تتدخل في حياة الناس وفي أمورهم، فمثل هذه التدخلات لا ينبغي أن تؤثر على الفقيه في تعريفه لأحكام النوازل الفقهية، فإن الشريعة واضحة المعالم، وما وافقها هو المقبول وما خالفها فإنه مردود، ولذلك فعلى من يكون له ولاية أو يكون له أمر ونهي أن يلاحظ الأحكام الشرعية التي تتعارض مع هذه الاتفاقيات قبل التصديق عليها وقبل إقرارها، ولذا أيضًا يحسن بالمسلمين أن يدخلوا الفقهاء في صياغة هذه المعاهدات، بحيث يكون لهم مناديب يصوغونها ويوضحون حكم الشريعة في ما يراد أن يصاغ عليه تلك الوثائق والمعاهدات.
هكذا أيضًا من الأمور التي قد تؤثر على الإنسان فيما يتعلق بحكمه على النوازل: أن يكون راغبا في التسهيل على المكلفين، صحيح أن الشريعة قد جاءت بالتسهيل على عباد الله، كما في قوله -عز وجل-: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ونحو ذلك من النصوص، ولكن كم من مسألة يظن أن اليسر في جانب ويكون اليسر فيما يقابله.
وأورد لك مثلاً فيما يتعلق بمسألة كفر تارك الصلاة، فإن طائفة قالت بكفره، وآخرون قالوا بعدم كفره، فمن نظر إلى هذه المسألة من الوهلة الأولى ظن أن القائلين بعدم الكفر هم أهل التسهيل، والحقيقة أن الأمر بالعكس؛ لأن من قال بالكفر يلزم عليه أن التائب لا يؤمر بقضاء الصلوات التي فاتته ولو طال أمدها، بينما من يقول إن تارك الصلاة لا يكاد يكفر يقول بأنه يجب عليه أن يقضي الصلوات ولو طال أمدها، وبالتالي لا بدَّ من مراعاة أن التسهيل ليس بالنظرة الأولى، وأن الأسهل في الحقيقة هو الموافق للشرع وللنص، وكل ما خالف النص فإنه ليس بالأسهل، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَة».
أيضًا من الأمور التي قد تؤثر: ما يتعلق بضغط الجماهير، فإن ضغط الناس على الفقيه قد يجعل بعض الفقهاء يجاري ذلك الضغط ويتكلم في المسائل بناءً على هذه الضغوطات، ومرة قد يكون هناك رغبة في شهرة ورغبة في حظوة عند الناس تجعله يتغاضى عن بعض الاستدلالات ونحوها، ومن ثَمَّ يجاري الجمهور في مثل هذا، سواءً في المسائل الغوغائية مثل: المظاهرات ونحوها، والاعتراض على أصحاب الولاية، إلى غير ذلك من مسائل ضغط الجمهور، مرات نجد أن الفقيه يتسلط عليه بعض العوام ومن لا يدركون حقائق الأمور، فيبدءون في معارضته فيما يصدره من فتاوى واجتهادات فقهية مبنية على الدليل الشرعي بحسب اجتهاده ونظره، فيبدءون مرات حتى قد يصل الأمر إلى أن الاستهزاء به وتنقصه والتقليل من رتبته، وإذا نظرت إلى الأمر وجدت أن موافقة الشريعة هي المحققة للمصالح، وأن موافقة الشريعة هي الأسهل بالعباد، وأن موافقة الشريعة والعمل بالدليل هو الذي يتحقق به الخير للناس، ومن ثَمَّ فإن طاعة الجماهير في الأحكام الشرعية من الأمور المحرمة التي لا يجوز للإنسان أن يفعلها، وقد قال الله تعالى: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾[الأنعام: 116 ]، صحيح أن الإنسان قد يداري ولا يجامل، مثلاً قد لا يظهر الحكم ابتداءً من أجل أن يعود الناس على ذلك الحكم لكنه لا يفتي بخلاف الحكم الشرعي.
مثال ذلك: لو جاءنا شخص يريد أن يدخل في الإسلام ولكن قلبه متعلق بشيء من المحرمات، فإننا حينئذٍ قد نؤجل إخباره بتحريم هذا المحرم حتى يرسخ الإيمان في قلبه، وبالتالي إذا جاءه التوجيه بترك ذلك المحرم قبل به ورضي؛ لأنه قد توطد الإيمان في قلبه.
وهكذا أيضًا قد يكون ضغط من أصحاب الولايات على الفقيه لاستخراج أحكام مُعينة، وقد يرون أن فيها مصلحة أو أنها تحقق جانبًا من هذه الجوانب، وحينئذٍ يقال: إن صاحب الولاية إن كان فقيهًا فليظهر فقهه للناس ولكن ليبنه على مبانٍ صحيحة، وإن لم يكن فقيهًا فلا يجوز له أن يلزم الفقيه بترك ما توصل إليه باجتهاده ورأى أنه حكم الله في المسائل، وبالتالي لا يجوز للفقيه أن يطيعه في مثل ذلك، ولا يكون ذلك من أسباب استنقاص مكانة الفقيه عند صاحب الولاية، بل ينبغي عليه أن يقدره وأن يعرف له فضله وأن يعرف له مكانته، فهو قد صار على مُقتضى الشرع ولم يجامل أحدًا، والذي يجامل صاحب الولاية اليوم في حكم قد يجامل ضغط الجماهير، ضد صاحب الولاية في غد، وبالتالي لا بدَّ أن يعتمد في هذا الباب على صاحب الاجتهاد الموثوق الذي يستخرج اجتهاداته انطلاقًا من الأدلة الشرعية.
أيضًا من الأمور التي قد تكون في هذا الباب: ما يتعلق بملاحظة العوائد الفاسدة، فإن العادة الفاسدة المنتشرة بين الناس لا يجوز للفقيه أن يراعيها أو أن يجامل فيها، بل عليه أن يتقرب إلى الله -جل وعلا- ببيان حكمها والتعريف بها، وهو أن لا يكون عنده أي تردد في مثل ذلك.
أيضًا من الأمور التي تُلاحظ في هذا الباب: ما يتعلق بالاستدلال بأقوال الفقهاء خصوصاً شواذ الاجتهادات التي حصلت في الأزمنة الغابرة، فإن قول الفقيه ليس حجة ولا يجوز أن نستند عليه ولا يجوز أن يبنى عليه الحكم وإنما بناء الأحكام على الأدلة الشرعية، وبالتالي إذا أردنا أن نحكم على نازلة فقهية لا يصح بنا أن نخرجها على قول شاذ لفقيه سابق، وإنما ننطلق إلى كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فنثبت الأحكام من خلالها.
هكذا أيضًا من الأمور التي لا يصح لنا أن نعتمد عليها في إثبات أحكام النوازل: ما يتعلق بالخلاف الفقهي، يعني: بعض الناس كلما وجد خلافًا لأي أحد ظن أنه باب توسعة على الناس، وبالتالي يجيز الأخذ بقول أي فقيه، وهذا الكلام كلام خاطئ، فإن شرع الله في أحد الأقوال، ونحن نعلم أن أحدها هو الصواب وأن بقية الأقوال خطأ وليست من شرع رب العزة والجلال، والعبد يوم القيامة سيسأل عن اتباعه لشرع الله، ولا يسأل عن أقوال الفقهاء المتقدمين أو الحاضرين، وبالتالي لا يصح أن يستدل بأقوال الفقهاء المتقدمين، ولا يصح أن نستدل بوجود الخلاف، ما دام فيه خلاف خلاص، هذا خطأ؛ لأننا مطالبون بإتباع شرع رب العزة والجلال، وبالتالي لا بدَّ من ملاحظة هذا الأمر.
أيضًا مما أشير إليه في هذا الباب: ما يتعلق الاستدلال بالقواعد الفقهية، فإن القواعد الفقهية وهي أحكام كلية تصدق على مسائل فقهية متعددة من أبواب مختلفة، وهذه القواعد الفقهية ليست دليلاً لذاتها، وإنما لا بدَّ أن تُبنى على دليل، فمن ثَمَّ لا يصح لك أن تستدل بالقاعدة لذات القاعدة وإنما تستدل بالقاعدة لكونها قد وافقت النص أو قد حققت معنى مقصود للشارع، ومن هنا فلا يصح لنا أن نستدل بالقواعد الفقهية إلا إذا كانت مسنودة بدليلها، والقواعد قد تكون منصوص عليها وقد تكون تلك القواعد مأخوذة من استقراء للعديد من الأحكام، وقد تكون مأخوذة من تعليل حكم شرعي، وقد تكون مأخوذة من ملاحظة مقاصد الشريعة، وبالتالي هناك قواعد وقع الاختلاف فيها، فلا يصح للإنسان أن يستدل بها لذاتها، وهناك قواعد مطلقة تحتاج إلى تقييد بناءً على دلالة النصوص، ومن ثَمَّ لا بدَّ من ملاحظة قيام الدليل على القاعدة قبل الاستدلال بالقاعدة الفقهية.
وهناك قواعد يمكن أن تفيد الإنسان في استخراج أحكام النوازل، يعني مثلاً قاعدة الضرر يزال، هذه القاعدة مأخوذة من قوله: ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾[البقرة: 190]، ونحو ذلك من النصوص، فهذه القاعدة يمكن أن تستثمر في العديد من المسائل الفقهية النازلة، يعني عندك مثلاً المضايقات بالهاتف، عندك مثلاً ما يتعلق بالتنمر في الانترنت، عندك مثلاً ما يتعلق بالإضرار بمواقع الآخرين الموجودة في الشبكة العالمية، ونحو ذلك من المسائل التي يمكن تطبيق قاعدة الضرر يزال عليها، ومثله في القواعد التابعة لها، يعني: عندما تشاهد الضرر يزال بقدر الإمكان وعندما تشاهد قاعدة الدفع أولى من الرفع، المراد بالدفع منع الشيء من الوقوع قبل وقوعه، بينما الرفع هو إزالة الشيء الممنوع بعد وقوعه، ونحو ذلك من النصوص.
إذًا هذه القواعد يمكن استثمارها لكن لا لذاتها وإنما للمستند الذي استند العلماء إليه في تكوينها ووضعها، وحينئذٍ أشير إلى قاعدة وهي متعلقة بقاعدة الضرر يزال وبعضهم يجعلها تابعة لقاعدة المشقة تجلب التيسير، ألا وهي قاعدة الضرورات، فإن كثيرًا من المعاصرين يعول عليها ويبني عليها ويحكم بها، وقد يحكم أيضًا بقاعدة الحاجة تنزل منزلة الضرورة، ويبدءون يعولون عليها كثيرًا، فنقول:
لا بدَّ من فهم معنى الضرورة، فإن الضرورة يراد بها كل أمر يلحق المكلف به ضرر، فهذا يقال له ضرورة، والضرورة لا تكون مبيحة للمحظور إلا عند وجوده شروط معينة فيها.
من تلك الشروط: أن لا يمكن درء الضرورة إلا بفعل المحظور، يعني: بعض الناس صحيح عنده ضرورة لكنه يجد طريقاً آخر غير باب الضرورة، مثلاً في باب دفع الرشوة من أجل استخلاص الحقوق، تجد بعض المفتين يفتي بإجازة الرشوة في مثل هذه المسألة، ويبنيها على هذه القاعدة، وإذا نظرت وجدت أنه يمكن لصاحب ذلك العمل أن يستخلص حقه من غير الرشوة، من خلال التعاون مع الجهات الأمنية التي تقوم بالقبض على ذلك الجاني وطالب الرشوة، وبالتالي لا يوجد مجال لتطبيق هذه القاعدة، كذلك من ضوابط هذه القاعدة: أن الضرورة إنما تجيز من المحظور بقدر ما تندفع به الضرورة، ولذا يقولون: الضرورة تقدر بقدرها.
هكذا أيضًا من شروط الضرورة: أن تكون حقيقية وليست متوهمة، إذا كانت متوهمة لا يجوز أن يستباح المحظور بناءً عليها، فالمقصود أن قاعدة الضرورات تبيح المحظورات لها شروط وضوابط لا بدَّ من تحققها.
أنا اضرب لذلك مثالاً: كشف الرجل الطبيب على المرأة المريضة، واطلاعه على شيء من بدنها، هل هو جائز بناءً على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، نقول: لا بدَّ من شروط، الأول: التحقق أن هناك ضرورة، إذا صار مجرد توهم، يمكن هي مريضة ويمكن كذا، فهذا ليس من مسوغات جواز إطلاع الطبيب الرجل على بدن المرأة، كذلك لا بدَّ أن لا يكون هناك طريق آخر لدفع الضرورة، كما لو كانت هناك طبيبة مسلمة يمكن الوثوق بها في هذا الباب.
أيضًا من شروطه: أن تكون الضرورة تندفع بفعل المحظور، يعني مثلاً: إصابة في قدم المرأة ما نأتي لها بطبيب أسنان ونقول له: تعال عالجها؛ لأنه ليس ممن تندفع به الضرورة.
الأمر الآخر: أنه لا يستباح من المحظور إلا بقدر ما تندفع به تلك الضرورة، فإذا كان الجرح في قدمها ما تكشف له صدرها، لماذا؟ لأن الضرورة تقدر بقدرها.
وتلاحظ في هذا أنَّ الضرورة التي جاءت النصوص بجعلها طريقاً لاستباحة المحظور كما في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾[الأنعام: 119]، وقوله -جل وعلا-: ﴿اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[البقرة: 173]، ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[المائدة: 3]، ونحو ذلك من النصوص.
الضرورة إذا ارتفعت لحق الضرر بالمكلف ولا يقوم غيرها مقامها، وبالتالي الضرورة تبيح المحظور بالشروط المتقدمة، أما الحاجة فإنه يحصل بفقدها ضرر لكن قد يقوم غيرها مقامها، فهذا الفرق بين الضرورة وبين الحاجة، وبالتالي الحاجة لا تكون مبيحة للمحظور إلا إذا ورد فيها دليل من نص أو قياس، أما إذا لم يرد في الحاجة دليل بالنص أو قياس يجعل الحاجة طريقاً لاستباحة المحظور، فإنه لا يجوز أن يستباح المحظور.
مثال ذلك: استعمال الفضة حرام خصوصاً في الأواني؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَمَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ»، وجاء في بعض الألفاظ: «ولا في إناء فيه شيء منهم»، لكن قد يكون عندك إناء سينكسر فتحتاج إلى تلحيمه، والتلحيم هنا لإزالة الضرر الواقع عليك، إذاً هنا ضرر، هذا الضرر يمكن دفعه بالتلحيم بالفضة ويمكن دفعه بالتلحيم بغير الفضة، لكن الشرع جاء بإجازة التلحيم بالفضة هنا، فهنا حاجة أباحت المحظور لدفع الضرر مع أنه يمكن زوال الضرر بطريق غير هذا المحظور، لماذا؟ لأن النص جاءنا بإساغة دفع الضرر بهذا الأمر في حال هذه الحاجة.
فإذًا الحاجة لا يُستباح بها المحظور إلا إذا ورد فيها دليل من نص أو إجماع أو قياس، وبالتالي نعرف الفرق بين مسائل الضرورات ومسائل الحاجات.
من الأمور التي نؤكد عليها في هذا الباب أيضًا: ما يتعلق باستعمال موضوع المصالح والمفاسد، فإن المصلحة على ثلاثة أنواع، يقسمها الفقهاء إلى ثلاثة أنواع:
مصلحة معتبرة وهي ما جاء الشرع باعتبارها بدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع والقياس أو غيرها من الأدلة المعتبرة، فهذه لا شك في بناء الأحكام عليها، ولكن البناء عليها لا يكون لذات المصلحة وإنما للدليل الذي دل على اعتبارها.
والثاني: المصالح الملغاة، وهي التي جاء الشرع بعدم اعتبارها، ما يأتينا أحد يقول: الإجازات في عصرنا الحاضر يوم الأحد نحط صلاة الجمعة يوم الأحد، هذه مصلحة مُلغاة مُصادمة للنص، ما حكمها؟ لا يجوز الالتفات إليها ولا يجوز بناء الأحكام عليها، ولو فتح هذا الباب لغُيرت مراسم الشرع، ولأدى ذلك إلى التحريف في شرع الله ولأدى ذلك إلى الاختلاف، هؤلاء يصلون الجمعة وهؤلاء يصلون الأحد وهؤلاء يصلون الاثنين حسب إجازاتهم، وبالتالي يتغير مرسوم الشرع في هذا الباب، وأكثر الفقهاء يقولون: لا يصح أن نسمي هذا النوع باسم المصلحة، بل هو مفسدة.
من أمثلته مثلاً: يأتيك من يأتيك ويقول: الربا في عصرنا الحاضر يحقق مصلحة وبالتالي نقول بجوازه، فنقول: هذه في الحقيقة مفسدة وليست مصلحة، هذا مخالف معارض للنص، وبالتالي لا يجوز التأويل عليه.
لا يأتينا إنسان ويقول: التجارة في الخمور تحقق المصالح، فهذه مصلحة ملغية، والصواب أن المصالح الملغية في حقيقة الأمر هي مفاسد وليست بمصالح، ولذلك مثلاً في التجارة في الخمور بدل أن يشتغل الناس بالتجارات النافعة وبالمهن التي تعود عليهم بالخير يشتغلون بالخمور التي يترتب عليها زوال العقول وإتلاف الأموال وانشغال الناس وتفويت أوقاتهم فيما لا يعود عليهم بالنفع، ثم بعد ذلك مَنْ ذَهَبَ عقله فلا يؤمن فعله ولا تدري ما الذي يحصل منه من إفشاء سر أو من انتهاك حرمة أو من سفك دم أو من أخذ مال، إلى غير ذلك من المفاسد الكبيرة.
وهكذا في باب الربا، فإنه يُؤدي إلى تعطيل الإنتاج ويُؤدي إلى وقف نماء الأموال؛ لأن تضخمات المال أعظم من نسب الربا، وبالتالي فمفسدتها أعظم.
والنوع الثالث: ما يقال له المصلحة المرسلة، ويفرق هنا بين المصلحة المرسلة وبين ما يكون في باب القياس، في باب القياس هناك المناسبة طريق من طرق استخراج العلل، وهي مصلحة لكن هناك أصل واحد يستند إليه، بخلاف المصالح المرسلة فإنها تلتف إلى عموم ولا تلتف إلى تقول هذا معنى كلي التفت له الشريعة، ولا تلتف إلى علة حكم خاص، فهذا هو الفرق بينهما.
إذا كان ذلك المعنى قد التفت له الشريعة وعرفناه بواسطة استقراء أو بواسطة نص، فهذا في الحقيقة من المصالح المعتبرة من القسم الأول، لكن هل يوجد هناك أصلاً مصالح مرسلة؟ طائفة من أهل العلم قالوا: لا يوجد مصالح مرسلة، لأن الشريعة قد استكملت المصالح ولا يوجد مصلحة إلا وهي واردة في الشريعة، ويستدلون عليه بقوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِين﴾[المائدة: 3]، وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107]، وقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾[النحل: 89]، ونحو ذلك من النصوص.
ومن هنا قالوا: لا يوجد مصالح مرسلة، ومن أثبت وجود المصالح المرسلة، قال: اختلفوا هل يحتج بها أو لا يحتج بها؟ وبعض المالكية يحتج بها مطلقًا وهناك من احتج بها متى كانت قطعية وكانت كلية، وإذا نظرنا في أولئك الذين يقررون حجية المصالح المرسلة وجدناهم في الحقيقة يرجعون إلى تحقيق القياس المبني على المناسبة، وبالتالي يكون قولهم متوافق مع قول الجمهور وليس متناقضًا معهم، وكثير من المسائل التي مُثل بها على هذا الباب نجد أنها تندرج تحت قواعد كلية عامة في الشريعة.
يعني: يأتيك بعض الناس ويقول: الصحابة أجمعوا على جمع القرآن في مصحف واحد، فهذا يدخل في النصوص الواردة في حفظ القرآن والأمر بتعاهده، بينما يأتيك ويقول وجد التدوين وكتبت السنة، هذا يدخل فيما ورد من النصوص من الترغيب في تبليغ السنة «بَلِّغُوا عَنِّي» ونحو ذلك، ومن ثَمَّ كثير من المسائل التي تسند إلى المصالح المرسلة نجد أنها تدخل ضمن القواعد والأحكام الكلية الواردة في الشريعة.
ومن هنا نؤكد على موضوع المقاصد، المقاصد يراد بها المعاني الكلية التي لاحظها الشرع في أحكامه، وهذه المقاصد لا بدَّ أن يقوم عليها دليل، إما أن تكون منصوصة وإما أن تكون مستقرأة وإما أن تؤخذ من الأمر والنهي وإما أن تؤخذ من سكوت الشارع عن تقرير أحكام في أبواب معينة، ومن هنا لا بدَّ من ملاحظة أن هذه المقاصد الكلية سواءً كانت لكل أحكام الشريعة أو كانت في أبواب معينة، لا بدَّ أن يرجع فيها إلى قيام دليل على أن ذلك المعنى قد قصده الشارع حتى نتمكن من الحكم به.
وهنا أيضًا أشير إلى مسألة تعارض المصالح والمفاسد: فإنه عند تعارض المصلحة والمفسدة لا بدَّ أن نلاحظ أن المعيار في هذا الباب هو الرجوع إلى الشريعة وليست لذات أهوائنا ورغباتنا أو ما نقدره بدون أن نستند إلى دليل شرعي، فإذا كان هناك تعارض حكمنا بما هو الأغلب والأرجح منهما، وحكمنا على المسألة بما يغلب من أمر المصلحة أو أمر المفسدة، وقد يوجد اختلاف بين الفقهاء نتيجة للاختلاف الترجيح في ذلك الباب.
وأما إذا تساوت فحينئذ بعض الفقهاء قال: إن المصلحة تزول عند وجود المفسدة أو غلبتها، وآخرون قالوا: بأننا نقدم جانب المفسدة، ولذا يقولون: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقد يستدلون عليه بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فاجتَنبوهُ»، جعل الأمور في النهي اجتنابًا جازمًا، بينما في الأوامر علقه بالاستطاعة.
هناك من يرى رأيًا آخر ويقول: إنه عند التساوي يقدم جانب المصلحة، وقد يعنون عليه بقولهم: "اعتناء الشارع بالمأمورات أعظم من اعتناءه بالمنهيات"، ويستدلون عليه بأن جانب الأمر هو المقدم، ولذا قال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾[الحشر: 7]، ويستدلون عليه بأن الحسنة بعشر أمثالها في المأمورات، بينما في المنهيات السيئات بمثلها، وبالتالي قالوا: اعتناء الشارع بالمأمورات أعظم من اعتناءه بالمنهيات، ولهذا إذا وجدنا من يأمر بالخير والمعروف وكان عنده شيء من المخالفة، فإننا حينئذ نراعي بأمره ونهيه الذي وافق فيه الشرع، وبالتالي نسعى إلى إصلاحه بدون التكدير عليه فيما يتعلق بأمره ونهيه في هذا الباب.
من الأمور التي تتعلق بهذا الباب: أن هناك هزيمة نفسية عند كثير من الناس فيما يتعلق بمحاولة تطبيق أحكام الشريعة على نوازل الناس، ومن ثَمَّ قد يكون هناك التفات لما عند الأمم الأخرى وخصوصاً من بعض الأشخاص الذين يسعون إلى تغريب المجتمعات المسلمة فيما يتعلق بهذه النوازل، وخصوصاً فيما يتعلق بالعلوم، يعني عندنا علوم وافدة، هذه العلوم قد يأتي من يأتي ويقول هذا تقدم وهذا رقي وهذا حضارة لا بدَّ أن نقبله، وحينئذٍ قبوله أمر جيد ولكن لا بدَّ من ملاحظة الضوابط الشرعية في هذا الباب، وملاحظة الضوابط الشرعية يترتب عليها أشياء كثيرة أهمها ثلاثة:
أولها: إرضاء رب العزة والجلال بالدخول في هذا الباب، لأننا راعينا الضوابط الشرعية.
الثاني: أن الضوابط الشرعية جاءت لدرء مفاسد، فكوننا نقبل بهذا الوارد الجديد الذي يرد إلينا، إذا راعينا فيه الضوابط الشرعية معناه أخذنا مصلحته وتركنا مفسدته، بخلاف ما لو قبلناه بعواهنه وعجره وبجره فإننا حينئذٍ نقبل ما فيه من المفاسد ويعود علينا بكثير من المفاسد.
الأمر الثالث فيما يتعلق بقبول الناس له، فمتى صفيته للناس قبلوه وعملوا به وصاروا عليه، وأما إذا وجد فيه دخن فحينئذٍ قد يوجد في الناس من يضاده ويقف في وجهه.
وهنا أشير إلى شيء متعلق بهذا الباب: وهو عدم الالتفات إلى الشائعات في هذا الباب، فإن كثيرًا من الناس قد يستند إلى شائعة سواءً في تقرير الحكم أو في توصيف محل الحكم، لأن هذه الشائعات قد يترتب عليها مفاسد كثيرة.
يعني مثلاً فيما يتعلق بأخذ التطعيمات وأخذ اللقاح سواءً عن الأوبئة أو الأمراض المعدية، يوجد عند الناس من يحاول أن يشيع إشاعات مختلفة من أجل فهم خاطئ ولا كلمة قيلت أو نحو ذلك، وبالتالي يؤثر على أخذ الناس لهذا اللقاح، ومن هنا لا بدَّ من التنبه لهذا الأمر.
هكذا أيضًا المجاراة للناس والسير على ما يسير عليه الناس بدون الرجوع إلى فقهاء الشريعة وبدون إمعان النظر في أحكامها يجعل الناس لا يحققون المقصد الشرعي ولا يسيرون على مقتضى الشريعة في هذا الباب، ولهذا نجد مثلاً عند الناس الاستعمالات التي تكون مجارات لآخرين سواءً في مجتمعاتنا أو في مجتمعات أخرى ما يجعلهم يغفلون عن الحكم الشرعي فيما يتعلق بهذه النوازل سواءً فيما يتعلق بطريقة استعمال الإنسان لأدواته أو ما يتعلق بممارسته مع الآخرين، أو ما يتعلق بمظهره وشكله، فيجاري الآخرين بدون أن يتعرف الحكم الشرعي، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يكن أحدُكم إمَّعَةً، إن أحسن الناسُ أحسن، وإن أساؤوا أساء، ولكن وَطِّدوا أنفُسَكم، فإن أحسن الناسُ أن فأحسنوا، وإن أساؤوا فتجنبوا إساءتهم »، وبالتالي يكون عند الإنسان من المحفزات ما يجعله يأمن من وقوع الضرر والشر في حقه، ولذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيل﴾[النساء: 83].
فالمقصود أن ملاحظة هذه الأمور تجعل الفقيه -بإذن الله عز وجل- يصل إلى الحق فيما يتعلق بدراسة النوازل الفقهية ويتعرف حكم رب العزة والجلال ويكون من أسباب هداية الخلق، وبالتالي يعظم أجره عند ربه -سبحانه وتعالى- فيفد يوم القيامة بأجور خلق كثير.
هذا -والله اعلم- وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم معالي الشيخ ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طبية المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك