الدرس الأول

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5956 11
الدرس الأول

فقه النوازل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم البناء العلمي، نحن -بإذن الله عز وجل- معكم في سلسلة علمية بعنوان فقه النوازل يقدمها معالي شيخنا، الشيخ/ سعد بن ناصر الشثري، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بمعالي الشيخ}.
حياك الله وأهلاً وسهلاً، أرحب بك وأرحب بأحبتي الدارسين الكرام، وأسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا وإياهم علمًا نافعًا وعملاً صالحًا ونية خالصة.
{في بداية هذه السلسلة هل تحدثونا معالي الشيخ عن تعريف فقه النوازل، والمقدمات لهذا العلم}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد: فإن الطوارئ والحوادث والوقائع التي تستجد في حياة الأمة كثيرة متجددة وخصوصًا في عصرنا الحاضر، والناظر في الوقائع التي تقع في هذا الزمان يجد أنها بحاجة شديدة لبيان الحكم الشرعي فيها؛ وذلك لعدد من الأمور:
أول هذه الأمور: أن الشريعة المباركة يُستجلب بها رضا رب العزة والجلال، ولن يتمكن الناس من العمل بالشريعة إلا بوجود الفقهاء الذين يبينون لهم الأحكام الشرعية، والفقهاء لا بدَّ أن يكون عندهم دربة يتدربون بها على كيفية استخراج أحكام النوازل، ولن يكون هناك دربة إلا بوجود منهج علمي يتمكنون به من الحكم على النوازل الفقهية، ومن ثَمَّ كانت الحاجة لهذه المناهج التي تتبين فيها كيفية دراسة النوازل الفقهية شديدة جدًّا.
والأمر الثاني: أننا في هذا العصر قد كثرت عندنا النوازل الجديدة والمسائل التي تحتاج إلى أحكام فقهية، ومن هنا فإذا كانت الحاجة لوجود من يفتي ويبين الحكم في النوازل الجديدة في العصور السابقة مُلحة، فإن الإلحاح في هذا الزمان أكثر لكثرة هذه الوقائع والنوازل، والناظر في زماننا يجد أن هناك نوازل في الأمور المالية والاقتصادية، ونوازل في الأمور الطبية، ونوازل في فنون كثيرة وعديدة؛ وذلك أن هذا العصر يمتاز بوجود أمور تقنية جديدة لم تكن في الزمان الحاضر، ومن ثَمَّ فإن كثيرًا من الأحكام الفقهية السابقة تحتاج إلى تطبيق المسائل التقنية الجديدة عليها، مثلاً إجراء العقود بواسطة آلات الاتصال الحديثة بأنواعها، مثلاً ما يتعلق بالكلام في الآخرين والحديث عنهم في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى غير ذلك من الأمور التي تجعلنا نحتاج إلى دراسة هذه الوقائع.
الأمر الثالث: أنَّ الوقائع والنوازل في عصرنا الحاضر أصبحت مُعقدة بحيث يركب فيها أكثر من صورة، وليست وقائع مُفردة، ومن ثَمَّ تحتاج من التركيز والتنبه لها ما لا يحتاجه ما يقع في الأزمان السابقة من الوقائع والنوازل.
الأمر الرابع: أننا نجد في زماننا الحاضر أن الملهيات والمغريات التي تطرأ في حياة الناس كثيرة، ومن أمثلة ذلك: ما نجده من صنوف مغريات الحياة سواءً فيما يتعلق بأمور الترفيه أو أمور الألعاب بأنواعها أو وسائل الإعلام والاتصال التي تنقل للناس الوقائع التي تحدث في العالم في لحظات يسيرة، ومن ثَمَّ يشتغل كثيرٌ من الناس في هذه الأمور، فيكون ذلك صارفًا لهم عن دراسة كيفية استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة؛ ولذلك لابد من أن يكون في الأمة انصراف كبير للأدلة الشرعية كتاباً وسنة، من أجل استخراج ما فيهما من حلول لأحوال الأمة، ويدلك على ما ذكرت أن هذه الشريعة المباركة أنزلها الله -جل وعلا- لتحقيق مصالح العباد، ولجلب الخير لهم في دنياهم وفي أخراهم، ومن ثَمَّ إذا كان التعامل مع هذه الوقائع والنوازل الجديدة بناءً على أحكام شرعية؛ كان ذلك من أسباب ورود الخير لهم،
فإن الوقائع والنوازل على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: منها ما يكون شرًّا محضًا وليس فيه من الخير شيء، ولا يمكن تقليبه ليكون جالبًا إلى الخير، وبالتالي فمثل هذا قد يتضح أمره، ومن أمثلة ذلك مثلاً: المخدرات ونحوها.
النوع الثاني: ما يكون فيه تحقيق لمصالح العباد لكن على وجه دون وجه، ومن ثَمَّ فإن تعرف الحكم الشرعي والضوابط الشرعية الواردة في تلك المسائل تجعل الناس يستفيدون من خير هذه النازلة الجديدة -وبإذن الله عز وجل- يدرأ عنهم ما فيها من شر ومن سوء.
ومن أمثلة هذا مثلاً: آلات الاتصال، فإن الشريعة جاءت بضوابط عامة فيما يتعلق بالأخلاق، فيما يتعلق بطريقة التعامل مع الآخرين، فيما يتعلق بترك الإيذاء الذي يتعدى للآخرين، إلى غير ذلك من الضوابط التي إذا ضبطت بها هذه الوسائل، فإنها -بإذن الله جل وعلا- تكون خيرًا للناس، يعني مثلاً لما تنظر للشبكة العنكبوتية وتشاهد ما فيها من غثاء كثير ومن شر ومن مقاطع قد تنشر الإجرام وتنشر المخالفات الكثيرة التي ينشأ عنها ضرر عظيم لأحوال العباد، فإذا ضبطنا مشاهدة هذه الشبكة العنكبوتية والمشاركة فيها بالضوابط الشرعية جعلها محققة لمصالح الناس وكانت من أسباب سعادة الناس في دنياهم، بخلاف ما إذا كان التعامل مع هذه الشبكة بغير مراعاة للضوابط الشرعية.
وهناك قسم ثالث: فيه خير لكن خيريته إنما هي لبعض الفئات دون بعض، أو لبعض الأشخاص دون بعض، وبالتالي فمراعاة الحكم الشرعي يجعل الحكم محققًا للمصلحة بحيث لا يستفيد أو لا يتعامل مع هذه النوازل إلا من كان الشرع قد أباح له التعامل معها، وبالتالي تحقق المصلحة التي ترجى من مثل ذلك.
وهذا يجعلنا نؤكد على عدد من خصائص هذه الشريعة، فإن مراعاة هذه الخصائص تجعل الحكم الفقهي الصادر من الفقيه على النوازل الفقهية مطابقاً لشرع الله ومحققًا لمصالح العباد، فلعلي -إن شاء الله- أشير إلى عدد من هذه الصفات التي تتصف بها هذه الشريعة.
فأول هذه الصفات: أن الشريعة المباركة شريعة كاملة لم تترك شيئًا من أفعال العباد إلا وقد جاءت فيه بحكم شرعي واضح فاصل؛ ولذا جاءت النصوص ببيان كمال هذه الشريعة، كما في قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، وكما في قوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِين﴾ [المائدة: 3]، فإن من كمال هذا الدين جعل هذا الدين شاملاً في أحكامه لجمع الوقائع؛ ولذا وصف الله -جل وعلا- كتابه بأن فيه تفصيل كل شيء، ومن هنا فكمال هذه الشريعة يجعلنا نعرف أنه ما من واقع ولا نازلة تنزل في حياة الناس إلا وفي شرع الله -جل وعلا- حكم لها.
الأمر الثاني: أن هذه الشريعة عامة لجميع الأفراد بلا استثناء مهما اختلفت بلدانهم وألوانهم، ومهما اختلفت ميولهم وصفاتهم، فإن الله تعالى قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرً﴾ [سبأ: 28]، وقال -جل وعلا-: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيع﴾ [الأعراف: 158]، فهذه الشريعة بخطابها تشمل جميع أفراد الخلق بلا استثناء، ومن ذلك قوله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 21]، فجاءت بخطاب عام لجميع أفراد الناس، ومثله في قوله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيب﴾[النساء: 1].
الأمر الثالث مما جاءت به هذه الشريعة المباركة: أنها جاءت بتحقيق مصالح الخلق، وكما في الآية السابقة في قوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِين﴾، وإذا نظر الإنسان في أحكام الشريعة وجد أنها تحقق مصالح العباد بأعلى درجات المصلحة؛ ولذا جاءت النصوص ببيان أن من تمسك بهذه الشريعة صلحت له أمور دنياه وأمور أخرته، كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل: 97].
وكما في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [الأعراف: 32].
والناظر في أحوال هذه الأمة يجد أن هذه الأمة كلما ازداد تمسكها بشرع رب العزة والجلال وعادت إلى دين الله -جل وعلا- كان ذلك من أسباب صلاح أحوال واستقامة أمورها فيما يتعلق بالتعاملات التي تكون بين أفرادها، سواءً التعاملات الاجتماعية والاقتصادية والتجارية أو السياسية أو غيرها من أنواع مجالات الحياة.
وكذلك تستقيم نفوسهم وتصلح أحوالهم النفسية، وبالتالي يكون هذا من أسباب صلاح أحوال الأمة.
ولعلي أضرب لك أمثلة فيما يتعلق بهذا الباب، ولعلي أربطه أيضًا بالنوازل الفقهية، نجد في زماننا الحاضر أن وسائل الإعلام تنشر في نشرات الأخبار العديد من أخبار الوقائع والنكسات والاضطهاد الذي يحصل على عدد من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فعندما يأتي الفقيه ويبين الأحكام المتعلقة بمشاهدة مآسي المسلمين، يكون ذلك من أسباب صلاح أحوال الناس، ولعلي أذكر نماذج من ذلك.
فمثلاً: عندما يكون من شأن الإنسان أن يكون مؤمناً بقضاء الله وقدره، يعلم أن ما أصاب أولئك الإخوة هو بقدر من رب العزة والجلال، وكما قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، فيكون ذلك مبعدًا للإحباط أو الاكتئاب أو عدم القدرة على أداء الأعمال بسبب ما يحدث في نفس الإنسان من معانٍ تجعله يتثبط عن أداء أعماله.
وهكذا عندما تأتينا النصوص بوجوب نصرة أولئك الأخوة الذين يلحقهم شيء من الأذى والضرر بما يستطيعه الإنسان وعلى حسب قدرته، فذاك يدعو الله -جل وعلا- لهم بالنجاة والسلامة، والآخر يكون إعلاميًا وبالتالي يحاول مناصرة قضيتهم في الإعلام، والآخر سياسيًّا فيكون من شأنه أن يعرف بتلك القضية وأن يستجلب الأنصار لها في المحافل السياسية والدولية، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذا الشيء.
فالفقيه يعرف الناس بهذه الواجبات، وبالتالي يجعل تحركاتهم ويجعل انفعالاتهم مؤثرة تأثيراً إيجابيًّا على ذلك الواقع، لا أن يكون ذلك الواقع مثبطًا للنفوس، زارعًا للإحباط وذهاب الهمة في نفوس الناس.
فهذا نموذج من نماذج ما يتعلق بالتعامل مع الوسائل الإعلامية في الأخبار التي تقوم بنقلها.
هكذا من خصائص هذه الشريعة المباركة أنها شريعة تعنى بالباطن كما تعنى بظواهر الناس، هي لا تكتفي بتوجيه الناس بحسب ظاهرهم، بل ينتقل الحكم فيها إلى أن يكون موجهًا للناس بما يتعلق بنياتهم وأعمالهم القلبية، وهذا له من التأثير على النفوس الشيء الكثير، ولذلك عندما تؤدي عملاً من الأعمال المتعلقة بالنوازل الفقهية، ويكون من شأنك احتساب الأجر وطلب واستجلاب رضا رب العزة والجلال، يكون هذا دافعاً قويًّا لك لإنجاز ذلك العمل والسعي في استكماله.
وأنا أضرب لك مثلاً في الاختراعات أو البحوث التي يُقدم الناس عليها: فإنه عندما يوجد الدافع النفسي عند الإنسان لإكمال هذه الأعمال سواءً كانت بحوثًا أو كانت منجزات ومخترعات، يكون ذلك من أسباب إنجاز الإنسان لمثل هذه الأعمال، فإن كنت تعلم أنَّ أداء هذا العمل يستجلب رضا رب العزة والجلال ويكون من أسباب تحصيل الأجور العظيمة، بأن المرء بالنية الصالحة يحصل على الأجور التي تتعلق بأجر كل من استفاد من ذلك البحث أو من ذلك المخترع، فيكون ذلك دافعاً قويًّا له لإنجاز هذا العمل، وبالتالي فالمعالجة التي جاءت بها الشريعة لمعالجة النفوس في باطنها، كما تعالج الأعمال الظاهرة يجعل هناك من المعاني ما يكون مؤثرًا على هذه النوازل الفقهية.
من الأمور التي تتعلق أيضًا بهذا الجانب: أن الشريعة المباركة من خصائصها أنها كما تهتم بالفرد، تهتم بالمجموع، تهتم بالدول، فليس التفاتة الشريعة للناس لجانب دون جانب آخر، والناظر في الفلسفات العالمية يجد أنها تنقسم إلى ما يكون أساس اهتمامه للمجموع، مما يجعله يلغي النظر للأفراد كما في الشيوعية وما ماثلها من الأفكار والمناهج، فبالتالي يحبط الإنسان؛ لأنه لا يجد دافعاً ذاتيًا له يجعله يقدم على ما يفيد المجموع، وفي المقابل هناك من يكون اهتمامه وسعيه لملاحظة أحوال الفرد، مما يجعله يغفل عن كثير من أحوال المجموع، فيؤدي ذلك إلى عدد من الجرائم وعدد من التجاوزات التي تكون من الأفراد؛ لأنهم يلاحظون أنفسهم ولا يلاحظون المجموع، والناظر في النصوص الشرعية يجد أنها كما تخاطب الفرد تخاطب المجموع، فمثلاً إذا نظرت في قوله -عز وجل-: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَان﴾[آل عمران: 103]، يجد أن الخطاب هنا للمجموع، وبينما في مواطن أخرى هناك مخاطبة للأفراد، وبالتالي يحصل توازن في إصلاح أحوال الفرد مع إصلاح أحوال المجموع.
كذلك من خصائص الشريعة المباركة: أنها لا تقتصر في خطابها للأشخاص على الفعل المتعلق بهم فقط، بل تخاطبهم بأفعالهم التي تتعلق بأفعال الآخرين، ومن أمثلة ذلك مثلاً: ما جاءت به الشريعة من الترغيب في الإحسان إلى الآخرين، وما جاءت به الشريعة من توجيه الآخرين، ودعوتهم إلى ما فيه صلاح أحوالهم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾[فصلت: 33]، وكما في قوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 195]، وكما في قوله -جل وعلا-: ﴿وَأَحْسِنُو﴾، وكما في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى﴾[النحل: 90].
وأيضًا مما يتعلق بهذا الباب، أن الشريعة وإن رغبت الإنسان في بذل الخير والإحسان وحسن التعامل مع الآخرين، إلا أنها لن تجعل الآخرين على درجة واحدة، بل فاوتت بينهم بحسب منزلتهم من الإنسان، ففرقٌ بين الوالدين ومن كان بعيداً، فرقٌ بين ذوي القرابة ومن كان بعيداً، ولذا مثلاً قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»، وجاءت النصوص بالتأكيد على حقوقهم، وهكذا مثلاً جاءت الشريعة بالعناية بأولئك الضعفاء والمساكين، ومن هنا جاءت النصوص تؤكد على حقوق هؤلاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعيفينِ الْيَتِيمِ والمرْأَةِ»، وانظر أيضًا لقوله -جل وعلا: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُور﴾[النساء: 36].
ولَمّا ذكر الله -جل وعلا- صفات البر وأهل البر، ذكر أن من صفاتهم: ﴿وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: 177]، فجعلت لكل واحد من هؤلاء من الحقوق ما يتناسب مع حاله، فهذه مميزات تدلك على فضل الله -عز وجل- علينا بهذه الشريعة؛ ولذلك نجد أن الأمة كلما تمسكت بهذه الشريعة صلحت أحوالها الدنيوية مع صلاح أحوالها الأخروية.
وهنا أشير في مناسبة هذا الحديث إلى أمر، ألا وهو: أن بعض الناس يدعو إلى جعل الإنسان يُعنى بالمصلحة العامة ويرغب منه أن يتناسى المصلحة الخاصة، وهذا فيه نظر، فإن الدوافع النفسية للاستجلاب المصلحة الخاصة كبيرة عظيمة، ولذلك جاءت الشريعة بترغيب الإنسان بتحقيق مصلحته الخاصة الأخروية التي يمكن تحقيقها من خلال تقديم النفع والخير للآخرين، ومن ثَمَّ عندما يكون هناك التفات من الناس لآخرتهم، يكون ذلك من دوافعهم لاستجلاب الخيرات لهم ولغيرهم.
وضربت لك مثلاً بقضايا البحوث وقضايا المخترعات الحديثة، فإن الإنسان عندما يتطلع إلى أن يكون له الأجر العظيم في الآخرة وينال درجة رفيعة ويحصل له الأجور المتتابعة والثواب الجزيل بسبب استخدام الآخرين له، يكون ذلك دافعاً ذاتيًا له من أجل إنجاز تلك البحوث وإكمال تلك المخترعات ليستفيد منها الآخرون، فكانت هذه الشريعة بهذه الخصائص التي أوردت نماذجها من أعظم الأسباب التي تجعلنا نفيد في موضوع النوازل ونستفيد منها، وفي نفس الوقت ندرأ ما قد يكون منها من آثار سيئة سلبية، وتجعلنا نضبط التعامل مع هذه النوازل.
إذا تقرر هذا فإن العلماء لهم منهجان في تعرف حقيقة النوازل الفقهية، وقبل هذا نذكر معنى النوازل، فإن النازلة مأخوذة من الفعل نزل، والأصل في هذا أن يكون هناك تدرج من الأعلى والأرفع إلى ما هو أدنى، ولذا قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِير﴾ [الفرقان: 1]، فإن الله -عز وجل- قد أنزل كتابه من عنده إلى العباد على هذه الأرض، فأنزله رب العزة والجلال بأمره جبريل أن ينزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وهكذا في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾[الحديد: 25]، وقد ذكر العلماء أن المراد بذلك إنزاله من رؤوس الجبال وأعالي المواطن إلى خافضها، والنازلة في لغة العرب تطلق في مصطلحاتهم على الحادثة الكبيرة والواقعة المدلهمة، فإن ما كان أمراً شديداً وكان له صفة عموم يسمونه نازلة، ولذا قد يطلقون النازلة على الأمر الشديد الذي ينزل على الفرد، كما يطلقونه على ما ينزل على الجماعة؛ ولذا ورد في الحديث فيمن يجوز لهم السؤال، قال: «ورجل نزلت به نازلة»، يعني وقعت فيه وقعة شديدة، ثم قال: «اجتاحت ماله»، أي أخذت ذلك المال ولم تبقي عنده شيئًا منه.
وأما الفقه: فإن الفقهية منسوبة إلى الفقه، والعلماء في تعريف الفقه لهم منهجان: منهم من يقول: إن الفقه مطلق الفهم، ومنهم من يقول: إنه الفهم الدقيق وفهم أسرار الأشياء، وأنت تعرف مثل قوله -عز وجل-: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ﴾ [هود: 91]، وهكذا في قوله تعالى: ﴿وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].
وأمَّا الفقه في الاصطلاح عند العلماء: فإنه يطلق على معانٍ متعددة، منهم من يطلقه على الأحكام الشرعية ككل، سواءً كانت تفسيراً أو كانت عقيدة أو كانت أحكام أفعال العباد أو كانت تأصيلاً، ويستدلون على هذا بما ورد في النصوص من استخدام لفظة الفقه في مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، ومثله في قول الله -جل وعلا-: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
وهناك اصطلاح آخر يستعمل الفقه في الأحكام العملية، سواءً كانت قطعية أو كانت ظنية، ومن أمثلة هذا مثلاً: استخدامات الفقهاء في اصطلاحاتهم في التأليف، فإننا نجد كتب الفقه، وهناك كتب عقيدة، وهناك كتب تفسير، وهناك كتب حديث، كتب الفقه هذه تُعنى بأحكام الأفعال في أحكام العمليات سواءً كانت قطعية أو ظنية، ولذا نجد في هذه الكتب أحكام قطعية، مثل: وجوب الصلاة، مثل: حل البيع، وفي نفس الوقت نجد أحكامًا ظنية، لكن العامل المشترك بينها أنها تبحث في أحكام الأفعال، أفعال بني آدم؛ ولذا قالوا في تعريف الفقه: بأنه معرفة أحكام الأفعال المستنبطة من أدلتها الشرعية، وهناك منهج ثالث، لكن لابد أن تلاحظ أنه في كتب المعتقد أو في كتب الفقه قد يُبحث خلاف هذا المنهج لأسباب خاصة.
يعني مثلاً إذا كانت أحكام المعتقد تُعنى بالأحكام القلبية والعقدية وأحكام الفقه تعنى بالأحكام العملية، إلا أننا نجد أن هناك أمورًا تبحث فيهما تخالف هذا المنهج، مثلاً البحث في أمور النيات في كتب الفقه، لو استعمل الماء ناويًا به رفع الحدث، أو ناويًا استباحة الصلاة، ما حكم ذلك؟ هل النية مشترطة في الوضوء وفي الغسل وفي التيمم؟ أو ليست بمشترطة؟ هذه كلها أحكام قلبية لكن وجد لها داعي يدعو إليها، ألا وهو تعلق ذلك بالأحكام العملية.
وهكذا في كتب العقيدة، نجد أنهم في مرات يبحثون في مسائل عملية من أجل سبب خاص، مثلاً: عندما نجد أن في كتب الفقه يبحثون مسألة المسح على الخفين، هذه من المسائل العملية ومع ذلك يبحثونها في كتب العقيدة، لماذا؟ لوجود المخالف فيها من أصحاب الفرق الأخرى، ليس فيها مخالف من أهل السنة ولا من أكثر الطوائف، وإنما وجد خلاف فيها من بعض الفرق العقدية، ومن ثَمَّ احتاجوا إلى بحثها في كتب العقيدة من أجل التمييز بين أصحاب تلك العقيدة وغيرهم.
وهناك منهج ثالث فيما يتعلق بتعريف الفقه: ألا وهو جعل مصطلح الفقه يختص بالمسائل الظنية أو بما لا يعلم من الدين بالضرورة، وهذا منهج في تعريف الفقه ذكره بعض العلماء وصاروا عليه في بعض اصطلاحاتهم.
وهناك منهج رابع أو اصطلاح رابع في اسم الفقه: ألا وهو إطلاقه على الملكة التي توجد عند الإنسان للنظر في الأدلة تمكنه من استخراج الأحكام منها، والملكة يراد بها الصفة الراسخة في النفس التي تؤهل صاحبها لأداء عملٍ ما، يعني ما يسمونه الآن باكتساب المهارات، هذا المنهج يجعلنا نفرق بين من هو فقيه وبين من ليس بفقيه، إذا قيل هذا فقيه فالمراد به المصطلح الرابع الذي ذكرته قبل قليل، وهو أن يكون عند صاحبه ملكة تؤهله لاستخراج الأحكام من الأدلة، وهذه الملكة مذكورة في مثل قوله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيل﴾[النساء: 83].
وفي هذا إشارة إلى أهمية وجود الفقهاء في الأمة، ولذلك النظر في مبحث النوازل ومعرفة المنهج الشرعي في هذا الباب يؤكد على أهمية وجود العلماء، وإذا كانت الأمة قد اشتملت على أعداد كثيرة من المنتمين لهذا الدين وصلوا بالمليارات، فمعناه أن الحاجة إلى تعدد الفقهاء وكثرتهم أشد، فإن الناس تتعدد عليهم النوازل وتحدث لهم في حياتهم وقائع كثيرة، ويكون عندهم من الجهل بأحكام الشريعة ما يستدعي منهم مراجعة الفقهاء، ومن هذا المنطلق: فإن كثرة الفقهاء دليل خير وتعافي مهما اختلفوا ومهما وجد عندهم من اختلافات فقهية في المسائل التي ترد عليهم، بل إن وجود ذلك الاختلاف من أسباب انتشار المناقشة والتدارس فيما بين هؤلاء العلماء من أجل أن يصلوا إلى أحكام الشريعة.
وهنا أؤكد على جانب: ألا وهو الحق في المسائل الفقهية في واحد، وحكم الله في هذه الوقائع واحد وإنما يعذر الناس ويعذر الفقهاء إذا اختاروا غير ذلك القول؛ لأنهم قد بذلوا ما في وسعهم، ويدلك على أن الحق في الوقائع والنوازل الجديدة واحدة وأن حكم الله فيها واحد عدد من النصوص القرآنية والنبوية، فإن النصوص التي وردت بإثبات ذلك الحق جعلته شيئًا واحدًا ولم تجعله شيئًا متعددًا، ويدل على ذلك عدد من النصوص القرآنية والنبوية، فإن الله -جل وعلا- لما ذكر في سورة "الأنبياء" قصة سليمان وداود، قال: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْم﴾[الأنبياء: 79 ]، فمعناه أن الحكم الموافق لشرع الله واحد فهمه سليمان -عليه السلام-.
وهكذا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر واحد»، كما ورد في الصحيحين، فإنه يثبت وجود الخطأ ووجود الصواب في اجتهادات الفقهاء وأصحاب الولاية.
وهكذا أيضًا ما ورد في حديث بريدة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أرسل جيشًا أو سرية أمرهم بعدد من الأشياء، قال: «وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري هل تصيب حكم الله فيهم أو ل»، وفي بعض الروايات «فإنك إن تخفر ذمتك وذمة أصحابك خير من أن تخفر ذمة الله تعالى».
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث الذي يتكلم عن حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، فإن بني قريظة لما غدروا وخانوا ولم يلتزموا بالصلح الذي بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وظاهروا مشركي قريش في غزوة الأحزاب، كان بذلك انتقاض الصلح معهم، فلما فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، أمر أصحابه أن يذهبوا إلى بني قريظة، فحاصرهم أياماً ثم أنهم طلبوا النزول على حكم سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، فجاء فحكم فيهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات »، فدل هذا على أن حكم الله في القضايا واحد وما عداه فليس صوابًا وحق، والقول بأن الحكم واحد يعني يتوافق مع ما جاءت به الشريعة من مشروعية الترجيح بين الأقوال عند حصول الاختلاف فيها، فإنه لو كانت الأقوال كلها من الحق، فإنه حينئذٍ لا حاجة لوجود الترجيح بين هذه الأقوال والاجتهاد فيما بينها، ولذلك لو قيل بأن كل واحد من الأقوال حق، لما كان هناك فائدة من الاجتهاد، ولما كان هناك فائدة من الترجيح بين المفتين في الوقائع التي تقع في الناس.
وهكذا من الدلائل على كون الحق في أحد الأقوال، أن القول بتعدد الحق يؤدي إلى الاضطراب ويؤدي إلى تنقل الناس بين حال وحالٍ أخرى، وبين قول وقول آخر، مما يجعل الناس يتركون الرغبة في اتباع الشرع والعمل به إلى العمل بما يحقق أهوائهم ويتوافق مع مقاصدهم، فيكون ذلك من أسباب مخالفة ما جاءت به الشريعة من إخراج الإنسان عن داعية هواهم إلى طاعة ربه ومولاه -سبحانه وتعالى-، وقد تواترت النصوص بأمر الإنسان بترك إتباع الهوى، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾[ص: 26].
إذا تقرر هذا الأمر، فإن الأشاعرة يخالفون في هذه المسألة ويرون أن الحق متعدد، وأن حكم الله تابع لاجتهادات المجتهدين، وأنه لا يوجد في المسألة حكم لله -جل وعلا- قبل اجتهاد المجتهد، وهذا القول ترده النصوص السابقة ويؤدي إلى مفاسد مخالفة لمقاصد الشرع في هذا الباب، ولذلك جاءت الشريعة بالتأكيد على وجوب الاجتهاد والعمل بما يغلب على الظن أنه شرع رب العزة والجلال، كما في قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾[الزمر: 55]، وبالتالي يكون هذا من أسباب وجود الاجتهادات الفقهية في النوازل التي تحدث في حياة الناس.
والناظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي واقع الأمة يجد أنه كلما ضبطت هذه الوقائع والنوازل بشرع رب العزة والجلال، أدى ذلك إلى عزة الأمة، وإلى انتصارها، وإلى توفر رغد العيش عندها، وإلى صلاح أحوالهم، وإلى اجتماع كلمتهم، وقهرهم لأعدائهم بخلاف ما كان من شأنهم أن يقدموا على النوازل بدون معرفة أحكام الله -عز وجل- فيها.
ومن هنا نذكر بتلك النصوص التي تبين أن العقوبات تنزل على الأمة عندما تخالف شرع رب العزة والجلال، ولا تعمل بدين الله فيما يرد عليها من الوقائع والنوازل، كما في قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[النحل: 112]، وكما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾[الشورى: 30]، وكما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾[الأعراف: 94]، ثم ذكر أنهم لما جاءتهم أقدار الله -جل وعلا- قالوا قد أصاب آبائنا السراء والضراء، فكان ذلك سببًا من أسباب نزول عذاب الله -جل وعلا- بهم بغتة وهم لا يشعرون.
ومن هذا المنطلق، فإن هذا الحديث يؤكد علينا أن نستجلب رضا رب العزة والجلال، وخيرات الآخرة وثوابها وخيرات الدنيا بتحقيق مقاصد الشريعة في دراسة النوازل الفقهية وبيان الحكم الشرعي فيها، وجعل الناس يسيرون على مقتضى ذلك الحكم.
ولعلي أشير إلى معنى آخر في هذا الباب، قد لا يلتفت إليه كثير من الناس، ألا وهو أن هذه الشريعة كما جاءت بجعل الناس يحبون جلب الخير لأنفسهم ولمن بينهم وبينه مودة وإيمان، جاءت أيضًا بترغيب الناس في استجلاب الخير للآخرين ولو كانوا من أعدائهم، ولذا عندما نستشعر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ»، يكون المعنى واضحاً فيما يتعلق بأهل الإيمان، لكن عندما ينطلق ذلك إلى أعدائنا من غير المسلمين أو من الذين يحاربوننا، فنحن نتمنى أن يكونوا مسلمين، نتمنى أن يكونوا ممن يرضى عنهم ربهم العزة والجلال، ونتمنى أن يكف الله أذاهم عنا ليكون ذلك من أسباب قلة أوزارهم في الدنيا، فيكون هذا من الرغبة في الخير للآخرين حتى لو كانوا من أعدائنا.
ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما يأتيه من يأتيه أن يدعوا على أولئك الأعداء، يدعو لهم، فلما جاءه من جاءه قال: ادعوا الله على قريش، فإنهم فعلوا وفعلوا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»، ثم قال: «إنِّي لَمْ أُبْعَثْ مُعَنِّتًا وإنَّما بُعِثْتُ مُعلمًا هَادي»، ولما جاءه الطفيل بن عمرو أو غيره، وقال بعد أن دعا قبيلته دوس إلى الإسلام فلم يستجيبوا له، قال: يا رسول الله ادعوا عليهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وأْتِ بهِمْ»، فيه نصوص كثيرة من هذا المعنى، بل أنك تجد أن قريشاً كانت تقتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك إذا نزلت بهم مصيبة جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفزعون به.
فلمَّا جاء ثمامة بن أثال، فقام بقطع الميرة عن أهل مكة، جاءت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه الله والرحم في أن يكاتب ثمامة من أجل أن يسمح بالميرة من البر ونحوه بالوصول إليهم.
وهكذا لَمَّا دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على قريش فقال: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»، كان يريد بذلك تحقيق مصلحتهم ليضعفوا عن القيام بما يعملونه من الصد عن دين الله -عز وجل-، وعباد الله -سبحانه وتعالى-، فلما جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد مدة وطلبوا منه أن يدعوا لهم، دعا لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله -جل وعلا- عليهم الأمطار في وقائع كثيرة وحوادث متعددة، ومن ثَمَّ قد يكون من خصائص هذه الشريعة أن التصور المبدئي الذي يكون في النفوس قد لا تتوافق معه هذه الشريعة، بل تتعمق في الوقائع لتشاهد فيها المعاني الدقيقة وما يترتب عليها من آثار، وإذا كان من خصائص الشريعة أنها تلاحظ الآثار المترتبة على الأفعال، ومن هنا جاءت نظرة الشريعة في مآلات الأفعال وجاء ما جاء في الشريعة من سد ذرائع الفساد وفتح ذرائع الخير والصلاح.
{أحسن الله إليكم معالي الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين، لعلنا بإذن الله نكمل ما بقي من هذا الموضوع في حلقات قادمة، شكر الله لكم وبارك فيكم وحفظكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك