الدرس الثامن

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

6056 11
الدرس الثامن

فقه النوازل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين مرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في سلسلة علمية بعنوان "فقه النوازل" يقدمها معالي شيخنا، الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بمعالي الشيخ، فأهلاً وسهلاً بكم}.
حيَّاك الله، وأهلًا وسهلًا، أرحب بك وأرحب بأحبتي من طلبة العلم، وأسأل الله -جل وعلا- لهم علماً نافعًا وعملاً صالحاً ونية خالصة.
{معالي الشيخ كان حديثنا في الحلقة الماضية عن طرائق دراسة النوازل، فهل تحدثنا مشكورين عن بقية هذا الموضوع}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد.
فكنت فيما مضى قد تحدثت عن شيء من دراسة النوازل من خلال الأدلة النصية كتاباً وسنة وإجماعاً، ولعلي في هذا اليوم -بإذن الله عز وجل- أتحدث عن دراسة النوازل في بقية الأبواب، ومن ذلك ما يتعلق بباب الاستصحاب، فإن دليل الاستصحاب من الأدلة الشرعية التي يمكن تطبيقها على ما يتناهى من المسائل فيما يتعلق بالنوازل الفقهية والمسائل المعاصرة.
والاستصحاب على أنواع متعددة، من تلك الأنواع ما يتعلق باستصحاب الإباحة الأصلية، فإن الأصل في الأشياء هو الإباحة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيع﴾[البقرة: 29]، ومن ثَمَّ فإنه إذا ورد على الناس شيء من الأمور غير العبادية فالأصل فيها هو الإباحة والجواز، ومن هنا فإن الحيوانات الجديدة التي لم تكتشف واللحوم التي بدأت تصنع في وقتنا الحاضر من أشياء أخرى مغايرة للحيوانات، وهكذا الأطعمة الجديدة التي بدأ الناس يصنعونها في زماننا الحاضر يمكن أن نعود ونحكم عليها من خلال قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة.
ومن المعلوم أن كلمة الأشياء هنا يراد بها الأفعال المتعلقة بالحوادث التي تحدث للناس والوقائع التي تحدث في حياتهم،
وهنا قاعدة وهي معرفة الأصل في الأبواب والاستثناء فيها: فإن معرفة الأصل في الأبواب وما يُستثنى منها يسهل على الناس فهم كثير من المسائل، ومن ذلك مثلاً في قوله -عز وجل-: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ.. الآية﴾[المائدة: 3].
فهذه الآية ذكرت عدداً من المحرمات ولَمَّا نزلت الآية جاء صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ما الذي أُحل لنا بعد ذلك؟ فلم يفهموا أن الأصل والقاعدة المستمرة هي الإباحة وأن هذه الأشياء المذكورة هي استثناء، ولذا نزلت الآية التي بعدها: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾[المائدة: 4]، والآية التي بعدها: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾[المائدة: 5]، ففيها إشارة إلى أن القاعدة هنا هي الإباحة وأن المنع استثناء؛ ولذلك عندما يلاحظ الإنسان القاعدة الأصلية في ذلك الباب يكون هذا من أسباب فهمه للمسألة.
ومن هنا مسألة نفهم أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يأتينا دليل يدل عليه، فلو جاءنا أشخاص واخترعوا عبادات في زمننا الحاضر وجعلوها من القُرب التي يتقرب بها لله -عز وجل-، لقلنا إن الأصل في هذا الباب هو المنع، وبالتالي نستصحب هذا الأصل.
ومن أمثلة هذا: تلك العبادات التي تقيمها بعض الفرق سواءً في نوع الذكر أو فيما يتعلق بإقامة حفلات يتقرب بها لله -عز وجل-، ومثله مثل ما يجعلونه في بعض الركضات التي تجعل كعبادة وقربة يتقرب بها لله -عز وجل-، وكذلك جرح بعض الناس لأعضاء في أبدانهم، فيجعلون ذلك من القربات، فمثل هذا كله نأتي فيه نطبق القاعدة وهي قاعدة الأصل في العبادات الحظر.
وكذلك من أنواع الاستصحاب أن يقال: استصحاب البراءة الأصلية، بحيث لا تجب على المكلف أي واجبات بدون أن يكون هناك دليل، فمن جاءنا بعبادة جديدة وأوجبها على الناس منعناه من هذه الإيجاب، وقلنا: إن الأصل هو استصحاب هذا الأصل، ألا وهو استصحاب البراءة الأصلية.
وهكذا فيما يتعلق مثلاً بمحظورات الإحرام أو باب نواقض الوضوء، فالأصل أنه لا يمنع الإنسان من شيء من حال الإحرام إلا إذا ورد دليل يدل على المنع من ذلك الأمر حال الإحرام، وهكذا في باب نواقض الوضوء، الأصل أننا لا نحكم بأن شيئًا من الأشياء ينقض الوضوء أو يفطر به الصائم إلا أن يردنا دليل.
ومن أنواع الاستصحاب: استصحاب الوصف، فالأصل أنَّ الأوصاف الثابتة في الزمان الماضي باقية في زمننا الحاضر، وبالتالي لا نحكم بتغير الحكم، ولذا من كان متوضئًا في الصباح، فالأصل بقاء وضوءه عند الظهر، وهذا أيضًا يمكن أن نستفيد منه في عدد من المسائل النازلة.
من أنواع الاستصحاب: استصحاب الدليل الشرعي بحيث لا نقول: إن الدليل ورد عليه نسخ إلا إذا ثبت ذلك النسخ، وهكذا نقول: إن الأصل في العموم شموله لجميع الأفراد الداخلة فيه حتى ولو كانت من المسائل النازلة ولا نستثني إلا ما ورد دليل باستثنائه بأن الأصل في الألفاظ العموم.
فالمقصود أن دليل الاستصحاب يمكن أن يكون منطلقاً للحكم على العديد من النوازل الفقهية.
كذلك من المنطلقات التي يمكن أن نحكم عليها بواسطته: دليل القياس، وهناك اختلاف فقهي في القياس، هل هو دليل مستقل أو هو قاعدة من قواعد فهم الأدلة وطريق من طرائق الاستنباط منها؟ فإن القائس لا يأتي بحكم مستقل بناءً على القياس وإنما يقول: إن ما ورد فيه النص يمكن استثماره بالحكم على أمثاله بمثل ما ورد النص به.
والقياس حجة شرعية وقد دل على حجيتها عدد من الأدلة في كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله، وليس السياق هنا في مجال إثبات حجية القياس الذي قال به جماهير أهل العلم خلافًا للظاهرية، وإنما المراد بيان أن القياس يمكن أن يحكم به على نوازل فقهية جديدة، والقياس يمكن أن يستدل به بطرائق متعددة على أحكام النوازل، وقبل أن أتكلم في هذا أقول: أن القياس قد يكون مرة موافقاً للنص، وبالتالي يكون ذلك المحل قد ثبت حكمه بالقياس وبالنص.
ومن أمثلة هذا: أنه ورد على الناس في زماننا هذا أنواع عديدة من أنواع المخدرات، هذه المخدرات نوازل جديدة يمكن أن نحكم عليها بواسطة النص كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ»، وكذلك يمكن أن نثبت حكمها بواسطة القياس، فإن الدليل الشرعي قد وردنا بتحريم الخمر في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة: 90]، فنقوم بقياس هذه المسائل الجديدة من مسائل المخدرات على الخمر في إثبات حكم التحريم، ويمكن أيضًا في إثبات حكم الحد المتعلق والعقوبة المتعلقة بذلك، في مرات تكون المسألة لا دليل نصي فيها وإنما يُؤخذ الحكم بواسطة القياس لعدم وجود الدليل النصي الذي يشمل بعمومه تلك المسألة التي طرأت على الناس حديثاً.
يلاحظ في باب القياس أن الناس والفقهاء مرة يعتمدون على النص ومرة يعتمدون على المعنى، يعني هناك من يلتفت إلى ذات اللفظ، وهناك من يلتفت إلى مقصود اللفظ، وبالتالي قد يقع نوع من الاختلاف في هذا الباب، وأنا أُذكر في هذا بحادثة صلوا العصر في بني قريظة، فإن طائفة أخذوا باللفظ، وقالوا: لن نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس، والآخرون قالوا: إنما أراد منا الاستعجال، ومن ثَمَّ صلوا على رواحلهم من أجل أن يحققوا المقصود وهو الاستعجال، فالتفتوا إلى المعنى ولم يلتفتوا إلى اللفظ، والآخرون التفتوا إلى اللفظ، هكذا في المسائل الجديدة قد يكون هناك تردد في حكم ناتج عن التردد في ملاحظة المعنى أو القصد.
وأنا أضرب لذلك بمثل: ألا وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بَشِّر الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فإن ظاهر اللفظ قوله: «الْمَشَّائِينَ»، وهذا مأخوذ من المشي، فظاهره ولفظه أنه في المشي، بينما المعنى هو الوصول إلى المسجد في هذه الأوقات، وبالتالي من وصل إلى المسجد بواسطة السيارة أو بواسطة الدِباب وهي من المسائل الجديدة، هل يدخل في هذا الحديث أو لا يدخل؟ فمن نظر إلى اللفظ قال: لا يدخل، ومن نظر إلى المعنى قال: إنه داخل، ولعل الأظهر هو النظر إلى المعاني والمقاصد، فإنها هي المقصودة بالألفاظ، وليست الألفاظ مقصودة لذاتها وإنما هي مقصودة لمعانيها.
لكن هنا ينبغي أن لا يؤدي ذلك إلى إبطال دلالات الألفاظ، فإن بعض الناس قد أتى إلى بعض الألفاظ وأصبح يبطلها بناءً على دعواه بأن مقصود الشارع ليس إعمال اللفظ على ظاهره؛ لأن القاعدة الشرعية في هذا الباب هي: الأصل أن الألفاظ الظاهرة مرادة ومقصودة وأنه لا يجوز صرفها عن معانيها ودلائلها إلا بدليل.
إذا تقرر هذا الأمر، فإن هناك من يلاحظ في هذا الباب استثناء بعض المسائل الواردة من النص بناءً على ما يزعمونه من تخصيص في المعاني والعلل، وهذه مسألة مشهورة عند الأصوليين وأكثر العلماء يقسمون الأحكام التي يُراد تخصيصها بعللها إلى قسمين:
القسم الأول: ما كانت علته منصوصة، إذا كانت العلة منصوصة فإنه يمكن تخصيص العموم بواسطة تلك العلة المنصوصة، ومن أمثلة ذلك مثلاً: ما ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، فإنه هذا تعني حرف التعليل وما بعده تعليل، فهنا نص على العلة، فقوله: «بَاتَتْ» لفظ مشعر بأنه في نوم الليل؛ لأن البيتوتة إنما تكون في نوم الليل، ولذلك قال طائفة من أهل العلم: هذا الحكم خاص بنوم الليل دون ليل النهار، لماذا؟ قالوا: لأن العلة هنا منصوصة، وبالتالي يقتصر الحكم عليها، فخصصنا الحكم العام بعلته المنصوصة، لكن إذا كانت العلة مُستنبطة فإنه حينئذٍ لا يصح لنا أن نعلل الأحكام بناءً أو نخصص الأحكام العامة بناءً عليها.
ومن أمثلة هذا مثلاً: ما ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن البول في المستحمي، فإن طائفة قالوا: إنَّ المستحمى في زمانهم كان من التراب، وإذا بال الإنسان فيه بقي البول في الأرض، قال بعضهم: إنه في زماننا أصبحت المستحمات تُبنى إما من البانيو أو البلاط أو من الجبس أو نحوها، قالوا: وهذه يمكن غسلها وإزالة عين النجاسة منها، ومن ثَمَّ رأوا تخصيص ذلك العموم في هذه المواطن، ولكن الحديث الوارد في الباب لم يُعلل، فالتعليل الذي ذكروه علة مستنبطة، والعلة المستنبطة لا يصح أن تعود على أصلها بالإبطال أو بالتخصيص، ومن ثَمَّ لا يقبل مثل هذا الكلام.
من الأمور التي أيضًا يقع فيها التردد بما يتعلق بأبواب القياس: أن القياس منه ما يثبت حكمه بواسطة العلة ومنه ما يثبت حكمه بواسطة نفي الفارق، فإذا وردتنا مسألة في زمن النبوة ووجدنا مسألة حادثة في عصرنا، نجزم بأنها مماثلة لتلك المسألة ولا فارق بينهما يؤثر في الحكم، فحينئذٍ نقوم بالإلحاق، ولذا مثلاً لو جاءنا من جاءنا وقال: إن الناس في زمن النبوة ينتقلون بين مشاعر الحج بواسطة الإبل وفي زمننا الحاضر وجدت السيارات وهي تماثل الإبل في المعنى، وبالتالي لا يوجد بينهما فرق مؤثر في هذا الحكم، ومن هنا نلحق السيارات بالإبل في جواز التنقل عليها في مواطن الحج، بينما في مسائل أخرى نحتاج إلى معرفة العلة التي من أجلها ثبت الحكم، وإذا لم نعرف العلة لا يصح لنا قياس المسألة الجديدة على تلك المسألة المنصوصة.
ولعلي أقرب هذا بمثال تقريبي، يعني مثلاً في الأذان كان المقصود بالأذان هو إيصال الصوت للناس لإعلامهم بدخول وقت الصلاة، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر مؤذنه فيصعد إلى المنارة من أجل ذلك، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»، في عصرنا الحاضر وجدت مكبرات الصوت، وهي يوجد فيها المعنى الذي من أجله قصد الأذان في ذلك الوقت من كونه أكثر في التبليغ وأندى في الصوت، ولذلك نقول: إنه لا بأس من استعمال مكبرات الصوت في تبليغ الأذان وهكذا أيضًا فيما يتعلق بالخطبة وما يتعلق بقراءة الصلاة ونحو ذلك.
من الأمور التي أؤكد عليها في هذا الباب: أنه لا بدَّ أن يلاحظ وجود المماثلة في المعنى العام بين النازلة الجديدة وبين محل الحكم السابق، ولذا لو كان هناك مغايرة فحينئذٍ نمنع ولا نقوم به الإلحاق، ومن أمثلة هذا مثلاً: وضع الصدى في مكبرات الصوت في المساجد، فإنه متى كان يترتب على ذلك زيادة حرف في وجود الصدى الذي يكرر الحرف، فحينئذٍ يمنع منه، لماذا؟ لأنه لم يعد هناك تماثل وكان هناك مخالفة بين الأصل الوارد في النصوص وبين المسألة الجديدة النازلة، ومن ثَمَّ لا يصح الإلحاق هنا لوجود الفارق بينهما.
هكذا أيضًا لا بدَّ أن نلاحظ أن هناك معنى مقصود بالشارع في أبواب القياس، فلا بدَّ من ملاحظته، يعني مثلاً في صلاة المسافر، أجاز الشرع للمسافر أن يصلي على راحلته صلاة النافلة، فحينئذٍ قلنا: إن السفر على الوسائل الحديثة من السيارة أو الطيارة يجوز للإنسان أن يصلي صلاة النافلة وهو جالس، لكن صلاة الفريضة لا يصح منه أن يؤديها وهو جالس، لماذا؟ لأنه يستطيع القيام، فلاحظنا المعنى في صلاة النوافل أن الشارع يتطلع إلى زيادة النافلة من المكلف، بخلاف الفريضة فإنه أوجب أن يؤديها الإنسان على كمالها وتمامها ومن ذلك الصلاة قائماً، ولذا لا يصح من الإنسان المسافر أن يصلي الفريضة وهو جالس مع قدرته على القيام، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدً»، فدل هذا على أنه لا يترك القيام في الصلاة إلا عن العجز عنه.
هكذا من الأمور التي لا بدَّ من ملاحظتها في هذا الباب: أن يكون الأصل المنصوص عليه معقول المعنى ليمكن أن يقاس عليه، فإنه إذا لم يكن معقول المعنى فلا يصح أن يقاس عليه.
وأضرب لك مثل في هذا: ما ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ»، فهنا النص على أن من مفطرات الصيام الحجامة لكننا لا نعقل المعنى الذي من أجله ثبت الحكم في الحجامة، ولذا لم يصح لنا أن نقيس أخذ الدم من بقية الدم في التحليل على الحجامة، لماذا؟ لأننا لم نعقل المعنى في باب الحجامة وبالتالي لم يصح لنا أن نقيس عليه هذه المسائل، ومثله مثلاً ما ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالوضوء من لحوم الإبل، فإننا لا نعقل المعنى الذي من أجله أوجب الشارع الوضوء بعد أكل لحوم الإبل، فمن ثَمَّ لا يصح لنا أن نلحق اللحوم الجديدة التي ترد على الناس بلحم الإبل في وجوب الوضوء بعدها أو في انتقاض الوضوء وذلك لأننا لم نعقل المعنى الذي من أجله ثبت الحكم في الأصل.
إذاً لا بدَّ من مُراعاة شروط القياس حتى يكون قياس النازلة الجديدة على المسألة المنصوصة قياساً صحيحاً.
وهنا أيضًا أشير إلى مسألة: وهي مسألة المخالف للقياس، هناك مسائل استثناها الشارع من مسائل القياس، وبالتالي فإننا نثبت في هذه المسائل المستثناة الحكم الوارد في الشرع، فهل لنا الحق في أن نقيس مسائل جديدة نازلة على تلك المسائل المنصوصة، وأضرب لك أمثلة.
يعني مثلاً: ورد في الحديث استثناء خزيمة بن ثابت في الشهادة بحيث تقبل شهادته وحده، فإنه لما اشترى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعيرًا من أعرابي وأنكر الأعرابي ذلك الشراء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من يشهد؟» فشهد خزيمة بن ثابت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كيف تشهد وأنت لم تحضر»، قال: أصدقك على خبر السماء ولا أصدقك في خبر البعير أو نحو ذلك، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادة رجلين، فحينئذٍ هل يصح لنا أن نقيس من يصدقون وليس لهم غرض في أبواب الشهادة، فتقبل شهادة الواحد منهم مثل شهادة رجال الشرطة أو شهادة رجال الحسبة أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الموكلون من قِبل الدولة، وبالتالي نلحقه بهم؟ هذا من محال البحث عند العلماء، والقياس على المستثنى من القياس محل اختلاف بينهم، فأجازه طائفة مطلقًا ومنعه آخرون، وأجازه طائفة فيما عُقل معناه وعُرف المعنى الذي من أجله استثني محل الاستثناء.
مثلاً قالوا: إن العرايا وهي بيع رطب بتمر مُستثناة من بيع المزابنة، ومن ثَمَّ ما كان يماثلها من بقية الفواكه نلحقه بالعرايا، مثل بيع التين المجفف بالتين المجني حديثاً أو المشمس أو غيرها من الفواكه، فهذه الفواكه متى قيل إنه يجري فيها الربا كما هو مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- في أن الربا يجري في المطعومات، وأما على قول من قال إن الربا لا يجري إلا في المكيلات، فهذه الأشياء ليست مكيلة وبالتالي لا يجري فيها الربا بخلاف التمر.
إذاً عرفنا القياس على ما يستثنى من القياس، وبالتالي فهمنا متى نطبق هذه القاعدة على مسائل النوازل.
هناك أيضًا لا بدَّ أن تلاحظ أن القياس في مرات قياس المسألة الجديدة النازلة قد يتوافق مع النص وقد يكون مما سكت عنه النص وقد يوجد تعارض بين القياس، قياس المسألة النازلة على مسألة منصوصة مع نص آخر لكن هذا النص الآخر لا يمكن أن يكون نص بدلالة صريحة وإنما يكون قد دل بدلالة العموم أو بنحو ذلك، وحينئذٍ ينشأ عندنا بحث مرده إلى مسألة حكم تخصيص العمومات بواسطة القياس، وهذه من مواطن الخلاف بين العلماء.
أيضًا من أمثلة ذلك مثلاً ما يتعلق بإثبات أوقات الصلوات بواسطة الساعة والتقويم، ومثله أيضًا في معرفة جهة القبلة بواسطة الجوال ونحوه، فلو جاءنا تعارض بين نص كما لو قال لك من تثق به أن جهة القبلة هذه الجهة، ثم بعد ذلك قمت بوضع الجوال فخالف الجوال إرشاد ذلك المرشد فهل حينئذٍ تعمل بهذه الإفادة الصادرة من ذلك الشخص الموثوق أو تعمل بالإشارة الناتجة من هذا الجهاز؟ وبالتالي لا بدَّ أن يُلاحظ هذا المعنى.
باب القياس قد يكون من الأبواب الطويلة التي يمكن أن يدخل معها لمعرفة أحكام كثير من النوازل، والقياس على أنواع: هناك قياس عكس، وهناك قياس طرد، وهناك قياس علة، وقياس دلالة، وبالتالي لا بدَّ من مراعاة هذه الأنواع من جهة ولا بدَّ من مراعاة شروط القياس، فإن القياس -كما معلوم- له أربعة أركان بكل ركن شروط لا بدَّ من وجودها قبل إجراء عملية القياس.
وهناك أبواب فيها نوازل كثيرة يمكن أن ننطلق منها من خلال أبواب القياس، يعني مثلاً في باب المفطرات، مفطرات الصائم، فنحن نجد في زماننا أن هناك العديد من المسائل النازلة المتعلقة بالمفطرات، وبالتالي يبقى التردد فيها.
ومن أمثلة ذلك: أخذ جزء من البدن وضع العملية الجراحية المتعلقة بالجلد، هكذا أيضًا المداواة بواسطة الإبر التي تصل إلى الجوف، هكذا ما يتعلق بأخذ إبرة الأنسولين بالنسبة إلى الصائم، كذلك مثلاً في استعمال بعض الأشياء الجديدة مثل المغذي ليغذي البدن، كذلك استعمال الحبة الدوائية التي توضع تحت اللسان من أجل معالجة القلب ونحو ذلك من المسائل، فهذه مسائل يمكن أن نقيسها على ما ورد في النصوص، وبالتالي يكون هناك معرفة لأحكام هذه النوازل.
وقبل أن ننطلق لهذا الباب لا بدَّ من معرفة العلل التي من أجلها ثبت حكم الإفطار، فهناك من يقول: أراد الشارع بالصيام إبقاء البدن ساكنًا، لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء إلا ما خرج بغير قصد واختيار، وبالتالي يقول بمنع أي تدخل فيما يتعلق بداخل البدن، بينما هناك آخرون يقول قائلهم: إن الصيام مما دخل لا مما خرج، الأولون يستدلون مثلاً بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن استقاءَ؛ فقد أفطَرَ»، وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فإنه يكمل صومه، والآخرون يستدلون بأثر عن ابن عباس في هذا الباب أنه قال: "الفطر مما دخل لا مما خرج"، وآخرون يقولون: المعنى الذي من أجله منع الشارع الصائم من تناول المفطرات كونها مغذية للبدن، وبالتالي أمنع ما هو مغذي، ولذا مثلاً هذه الإبرة التي قد توضع، الناس فيها على ثلاثة أصناف: منهم من يمنعها مطلقًا، يقول: هذا داخل للبدن فأمنعه، ومنهم من يقول: أفرق بين العلاجية بين الغذائية، ومنهم من يقول: أفرق بين ما يوضع في الوريد وما يوضع في الشريان، ومنهم من يقول: إن الإبر لا تفطر مطلقًا، وكل هذا نشأ من معرفة المعنى الذي من أجله يثبت حكم التفطير، ومن هنا لكل موطن من هذه أو لكل قول من هذه الأقوال إمكانية تخريج هذه المسائل عليها.
ومثل هذا أيضًا في أبواب محظورات الإحرام: فإنه تحدث للناس مسائل جديدة، وبالتالي يحتاجون إلى معرفة الحكم الشرعي، ولا يمكن معرفته إلا بمعرفة المعنى الذي من أجله ثبت الحكم، مثلاً: عندك في الرابطة الحزامية التي توضع على مواطن من البدن، هل يمنع منها المحرم أو لا يمنع، فمن قال: إن الإحرام يمنع المخيط والمحيط، قال هذه محيطة وبالتالي أمنع منها مُطلقًا، بينما قال آخرون: أنا أفرق في الحزام -أفرقها إلى قسمين- فما كان يلبس فإنه يمنع منه لكونه مخيط، وما كان لا يلبس وإنما يلف فأبيحه وأجيزه؛ لأنه ليس من المخيط، إذاً من أين نشأ هذا الخلاف؟ من الاختلاف في المعنى الذي من أجله ثبت حكم الحظر في المحظورات، محظورات الإحرام هل لكونها مخيطة فقط أو أيضًا لكونها محيطة، وهذا أيضًا في ما يتعلق باستعمال الطيب سواءً كان للمحرم أو للمرأة المحادة أو نحوها، فإن من راعى اللفظ في الأحاديث الواردة في هذا قال: أمنعهم من كل طيب، ومن قال إن هذه المسائل إنما يُراد بها المعنى وبالتالي أنا أمنع من الطيب الذي يشمه الآخرون بخلاف ما ليس كذلك، يظهر مثلاً ثمرة هذا في مثل الزعفران فهو نوع من أنواع الطيب، لكن إذا وضع في المطعومات فهل يمنع منه أو لا يمنع منه؟ فمن قال بأن المقصود المنع من الطيب مطلقًا، قال: بالمنع منه، واستدل عليه بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَلاَ تُمِسُّوه طيبً» في الذي مات محرم.
وهكذا أيضًا بينما الآخرون قالوا: بأن المنع هو ألا يجد الآخرون منه رائحة الطيب، ومثل هذه الأنواع مثل الزعفران في القهوة لا يثبت فيه مثل هذا الحكم، ومثل هذا أيضًا الصابون الذي فيه روائح عطرية هل يمنع المحرم منه أو لا يمنع منه؟ فمن التفت إلى الحديث «لاَ تُمِسُّوه طيبً»، قال: هذا الحديث فيه لفظ عام، فإن طيب نكرة في سياق النهي فيفيد العموم، والآخرون قالوا: إننا نخصصه بواسطة المعنى الذي من أجله ثبت الحكم.
من الأمور أيضًا المسائل التي يمكن أن نلتفت إليها في هذا الباب: مسائل التطبيقات المعاصرة في المعاملات المالية، فإنه لا بدَّ من ملاحظة أن هذه التطبيقات المعاصرة يمكن أن تقاس على ما ورد في النصوص، وبالتالي مثلاً لَمَّا جاءنا عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، هو عقد الإيجار في الزمن الأول وينتقل إلى أن يكون عقد بيع في الزمن الثاني بسداد جميع الأقساط، فهذا من العقود المعلقة، فهو في الزمن الأول عقد إجارة ينقلب بوجود معيار أو ضابط معين إلى أن يكون عقد بيع، فمن ثَمَّ يمكن تخريجه على تلك المسائل التي ورد فيها تعليق العقود، مثل تعليق العقد في بيع العربون، فإنه إذا قام بتسديد بقية الثمن أصبح بيعًا، وإذا لم يقم بذلك أصبح جزاءً بسبب تأخيره لهذا البائع عن بيع سلعته، هكذا أيضًا في مسألة بيع المكائن الذاتية، وهنا أشير إلى شيء: وهو أن هناك ما يتعلق بالتخريج على أقوال الفقهاء، فإن التخريج على أقوال الفقهاء فيه نوع قياس، لكنه ليس قياساً على محل ورد فيه النص وإنما هو قياس على محل ذكره الفقيه.
وبالتالي هذا التخريج يستعمل في رتبة معينة من أهل الاجتهاد، فما سبق يسمونه أصحاب التخريج، وكذلك قد يستعمله الباحثون المعاصرون في محاولة تعرف مذاهب الأئمة الأوائل للمسائل النازلة علينا.
وأضرب لذلك مثلاً: في عصرنا الحاضر انتشر مكائن البيع الذاتي، تضع نقودك وتضغط على ما تريد سواءً من مشروب أو مأكول أو نحو ذلك، فهذا لا يوجد فيه إيجاب ولا قبول، وبالتالي نرجع إلى مسألة المعاطاة التي يذكرها علماء الشريعة سابقًا، ومن هنا نشير إلى أن إثبات مذاهب الأئمة له طرق، إما أن يكون بنصهم على المسألة، وإما أن يكون ذلك من منطوق كلامهم الظاهر، وإما أن يكون بمفهوم كلامهم، وإما أن يكون بواسطة القياس على كلامهم، وهذا يسمونه التخريج، وقد يكون تخريجًا على أصل منصوص على علته، وقد يكون تخريجًا على قول لم ينص على العلة التي من أجلها ثبت الحكم، وهنا أيضًا من يثبت مذاهب الأئمة بواسطة أفعالهم التي وردت عنهم.
يعني أنا أورد لك من أمثلة هذا ما يتعلق بإرسال رسالة الجوال لإثبات طلاق الزوجة، فإن هذه المسألة يمكن أن نعيدها إلى مسألة ثبوت الطلاق بالكتابة.
من كتب طلاقًا ولم يتلفظ به هل يقع به الطلاق أو لا؟ الجمهور قالوا: يقع واستدلوا عليه بما ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ تجاوزَ اللهُ تعالَى لي عن أمَّتي ما حدَّثت بها أنفسَها ما لم تعمَلْ به»، قالوا: فالكتابة عمل يَثْبت به الطلاق، بينما آخرون قالوا: إن النصوص إنما وردت بتعليق الفرقة بين نطق لفظ الطلاق، وهنا لفظ الطلاق لم ينطق وبالتالي فإنه لا يقع به الطلاق.
يمكن تخريج مسألة الطلاق بالجوال وكتابة الطلاق بالجوال على تلك المسألة السابقة.
فالمقصود هناك أشياء قياسات يمكن أن نستدل بها على أحكام النوازل الجديدة، يعني مثلاً في عصرنا الحاضر توفرت المناديل عند الناس وأصبح يمكن أن يحصل الاستجمار بواسطتها، الأوائل لم يكن عندهم هذه المناديل وكانوا يستجمرون بالحصى أو الخرق أو نحوها، فحينئذٍ نلحق هذه المناديل لأنها في معنى النص، ولا يوجد فارق مؤثر بين هذه المناديل وبين ما ورد النص بإباحة الاستجمار به.
هذا شيء مما يتعلق بطرائق إثبات أحكام النوازل بواسطة القياس، ولعلي أنبه إلى مسألة أخيرة وهي: أن مسائل التجميل قد ورد عن الصحابيات فعلها، وبالتالي فإنه يمكن أن نقيس على تلك الوقائع الحاصلة في عهد النبوة ما لا يتناهى من مسائل التجميل الواردة في عصرنا، وبالتالي نقول: بجواز التجميل وجواز العمليات التجميلية ما لم يكن هناك ضرر أو تغيير عن خلقة الإنسان الذي خُلق الإنسان عليها، وكل تجميل وترتيب لهيئة الإنسان فإنه يكون جائزاً مباحاً، وقد يستدل على ذلك بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ».
فهذا شيء مما يتعلق بإثبات أحكام النوازل بواسطة الاستصحاب وبواسطة القياس.
{أحسن الله إليكم معالي الشيخ ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
بارك الله فيك وجزاك الله خيرًا، وأسأل الله -جل وعلا- أن يجعل هذه المَعلمة من معالم العلم سبب خير وسبب ظهور العلماء وكثرتهم في الأمة، هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طبية المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك