الدرس الخامس

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

10874 11
الدرس الخامس

مقاصد الشريعة

الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد..
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍنتدارس فيه شيئًا من مقاصد الشريعة، تقدم معنا مقدمةٌ في هذا العلم، والمقصد الأول في تحقيق العبودية لله عزَّ وجلَّ، والمقصد الآخر في استجلاب المصالح ودرء المفاسد، والمقصد الآخر من مقاصد الشريعة في التخفيف على العباد.
في هذا اليوم نتدارس -بإذن الله عزَّ وجلَّ- مقصدًا آخر من مقاصد الشريعة ألا وهو أداء الحقوق.
فإنَّ الشريعة قد أكدت على إيصال الحقوق لأصحابها، وأنه يجب أداء هذه الحقوق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطوا كل ذي حقٍّ حقه» ، وبالتالي يجب علينا أن نسعى لإيصال الحقوق وأدائها لأصحابها، ويحرم التهاون في ذلك أو التفريط فيه، أو التأخير في إيصال الحقوق لأصحابها.
والحق لا يُفهم أنه مقتصرٌ على الأمور المالية فقط، صحيح الأمور المالية فيها حقوقٌ يجب أداؤها لأصحابها، كما ورد في الحديث: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تؤدِّيَه» ، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ﴾[النساء: 58].
ولكن معنى الحقوق في الشريعة أكثر من أن نقصره على الحقوق المالية، والحقوق النقدية، بل هناك حقوقٌ كثيرةٌ، منها حقوق الاختصاص، وحقوق الانتفاع، بل في بعض المرات يكون من الحقوق ما يكون فيه معنى التكليف والوجوب، مثل: حقوق الزوج والزوجة، حق الحضانة، فهذه حقوقٌ ثابتةٌ في الشريعة.
والحق الذي يجب أداؤه لأصحابه يشترط فيه شرطان:
الأول: أن يكون ثابتًا.
وطريق ثبوت الحقوق إمَّا من طريق الشرع، حيث تأتي آيةٌ تثبت حقًّا لأحد على أحدٍ، وإمَّا أن يكون بواسطة العقود التي يتعاقدها النَّاس، وإمَّا أن يكون بواسطة الالتزام، كما في الضمان والكفالة، أو يكون عن طريق الولاية، فمن له ولايةٌ على غيره قد يثبت له حقوقًا على غيره، سواءً الإمامة العظمى، أو ولاية الوالد، أو ولاية ولي اليتيم، أو نحو ذلك.
واستيفاء الحقوق قد يكون بدافعٍ ذاتيٍّ من خلال خوف الإنسان من الله عزَّ وجلَّ، ورغبةً في إبراء ذمته، وقد يكون عن طريق القضاء، فالقضاء يُلزم ويوجب على من عليه حقٌّ أن يؤديه لأصحابه.
ولكن فيالمراتٌ قد يكون القضاء على خلاف الحق؛ لأن القاضي إنما يحكم بما ظهر له من أدلة، إمَّا عن طريق شهادة الشهود، أو ما تدل عليه البينات، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» ، فقوله هنا: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئً»كلمة حق، تثبتوجود الحق هنا، وهكذا في الحديث الآخر: «مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ» ، وهنا القاضي حكم بناءً على هذه اليمين.
ولكن وجود الحكم القضائي لا يعني قطع الحقوق من أصحابها، وبالتالي نعلم أنَّ القضاء طريقٌ من طرق استيفاء الحقوق، لكن قد يقع فيه مخالفةٌ لكون هذا القضاء بُني على أمورٍ ليست بصحيحةٍ، وبالتالي يجب إعادة الحقوق لأصحابها.
وكذلك يشترط في الحق لأدائه أن يكون مشروعًا، ولو كان هناك حقٌّ غير مشروعٍ، فحينئذٍ لا يثبت الحق فيه، كما لو وقع تعاقدٌ على أمورٍ محرمةٍ، حينئذٍ وُجد سبب ثبوت الحق، لكن ذلك ليس من الأمور المشروعة، وبالتالي نقول إنه لا يجب الأداء في هذه الصورة، بل لا يثبت فيه كونه حقًا؛ لأنه لم يثبت، لأنه غير مشروعٍ وغير متوافقٍ مع الشرع.
والحقوق أنا أريد أن أقسمها إلى:
- حقوقٌ لله عزَّ وجلَّ خالصة، مثل: العبادات من صلاةٍ وصيامٍ والوفاء بالنذور.
- حقوقٌ فيها جانب المكلَف، مثل: حق الحضانة، وحق الوالدين.لكن حقوق المكلفين لا تخلو من أن يكون فيها جانبٌ من كونه حقًّا لرب العزة والجلال.
- حقوق عامة بالنسبة للناس يجب أن تلاحظ وأن تؤدى، من ذلك مثلًا: تحريم الاعتداء على ممتلكات الآخرين، هذا حقٌّ، ولا يجوز لأحدٍ أن يعتدي على ملك غيره؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: « .. فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» ، هكذا المحرم على كرامة الإنسان، لا يمتهن حيًّا وميتًا.
كذلك من حق الإنسان أن يكون هناك عدلٌ في التعامل معه، حيث يكون هناك مساواةٌ مع من يماثله، لا يوجد هناك تمييزٌ بين الناس، ومن هذا المنطلق جاءت الشريعة بتحريم التكبر.
وجعلت من أنواع التكبر جحد حقوق الآخرين، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمَطُ النَّاسِ» ، بطر الحق أي: جحد الحق وعدم القبول به، وغمط الناس أي: احتقار الآخرين؛ لأنَّ من حق الآخرين أن نحفظ لهم كرامتهم ومنزلتهم التي يؤهلون لها.
كذلك هناك حقٌّ للمسلم على المسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» ، فهذه يجب أداؤها لأصحابها، ولا يجوز التفريط فيها، وإن لم تكن حقوقًا ماليةً، كرد السلام، وتشميت العاطس، وزيارة المريض، واتباع الجنائز، هذه حقوقٌ يجب أداؤها.
نلاحظ أيضًا أن هناك حقوقًا في تصرفات الإنسان المباحة، بحيث لا يمنع من شيءٍ منها إلا إذا كان متعارضًا مع مصلحةٍ أعظم منها، فمثلا: لك الحق في اللباس تلبس ما ترى أنه يتناسب مع حالك، وما يكون محققًا لمصلحتك.
لكن قد يكون اللباس متعارضًا مع مصلحةٍ أخرى، كاللباس العاري مثلًا، فهذا قد يترتب عليه مفاسد؛ ولذلك منعت الشريعة من إظهار هذا اللباس في المجامع العامة.
كذلك أيضًا تلاحظون أن الحقوق ليست مقتصرة على الأمور الظاهرية، الحقوق في الإسلام وصلت إلى شيءٍ لم يصل إليه بقية الدساتير والأنظمة، ولهذامثلًا: ما يتعلق بشعور الإنسان، جعلت فيه حقًّا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّو» ، إذن المحبة هذا حقٌّ ثابتٌ جاء في الشريعة.
وفي الحديث الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، محبة الخير للآخرين هذه من الحقوق التي جاءت بها الشريعة، ولا يوجد شيءٌ من الدساتير ولا من الأنظمة ولا من القوانين قرر مثل هذه الحقوق التي وردت بها الشريعة.
كذلك ما أشرنا إليه قبل قليلٍ من الحقوق من احترام الآخرين وتقديرهم، والقيام بواجبات تجاههم من رد السلام تشميت العاطس عيادة المريض اتباع الجنائز، إجابة الدعوة.
من الأمور التي جاءت بها الشريعة فيما يتعلق بالحقوق أن أوجبت على كل واحدٍ من المسلمين أن ينصح إخوانه، ينصحهم بلا فضيحةٍ، بينه وبينهم، يعرفهم بما يرى أنه الصواب وأنه الأفضل في حقهم، إن قبلوا وإن ردوا، لكن بيان الحق وتوضيحه ونشر هذه النصيحة هذا مبدأٌ شرعيٌّ جاء من أداء الحقوق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال صلى الله عليه وسلم:«لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» .
وهكذا جعلت الشريعة الحقوق متبادلةً في كثيرٍ من أمورها، هناك حقٌّ للزوج وهناك حقٌّ للزوجة، يجب على كل واحدٍ منهم أن يقوم بالحق، وليس هذا الحق على جهة المقابلة، أنت تؤدي هذا الحق لله، حتى ولو يقم الطرف الآخر بأدائه.
هناك حقٌّ لصاحب الولاية، وهناك حقوق للرعية، فلو فرض أن الرعية لم يقوموا بالحق الواجب عليهم لا يخول هذا صاحب الولاية أن يترك الحق الواجب عليه تجاه الرعية، وبالعكس، لو كان الوالي لا يقوم بالحقوق الشرعية التي جاءت بها الشريعة من حقوق الرعية، لا يعني أن يفرط الرعية في حق هذا الوالي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسمع وأطع لإمامك، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» .
هكذا أيضًا من الحقوق التي جاءت بها الشريعة الحقوق المتعلقة بالتواصل، مثل بر الوالدين، مثل صلة الرحم، مثل أيضًا إكرام الضيف، مثل الاجتماع والتآلف بين الناس.
أيضًا مسألة حفظ اللسان، بحيث لا تتكلم في عيوب الآخرين، هذا من حق إخوانك عليك، بل من الحق أنه إذا تُكلم في أحدٍ أمامك أن ترد عن عرضه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
هكذا من الحقوق التي جاءت بها الشريعة توقير أصحاب الفضل، وكبار السن، ومن له قدمٌ وسابقةٌ في الإسلام، سواءً كان من دعاة دين الله، أو من العلماء، أو كان من حفظة كتاب الله عزَّ وجلَّ، أو كان ممن يحسنون إلى الخلق، ويبذلون من أموالهم في إصلاح أحوال الناس، فهؤلاء لهم فضلٌ وبالتالي لهم حقٌّ على الناس أن يقدروهم ويحترموهم، وفي هذا فائدةٌ أخرى ألا وهي اقتداء الآخرين بهم.
كذلك مما يتعلق بالحقوق حق الناس فيما بينهم أن يعيشوا بسلامٍ، وبأمانٍ، يأمن بعضهم من بعضهم الآخر، فهذا من الحقوق التي جاءت بها الشريعة المطهرة.
فهذه نماذج لبيان أن الحقوق ليست أمورًا ماليةً فقط، بل هناك حقوقٌ أعظم من الحقوق المالية، كما تقدم معنا.
من الحقوق المحافظة على شعور الآخرين، كونك تحافظ على شعور الآخرين، لئلا يحزنوا، لئلا يقلقوا، لئلا يخافوا منك، هذا جاءت به الشريعة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ» من أجل أن ذلك يحزنه.
ولهذا جاءت الشريعة بالدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وحسن التعامل مع الآخرين واختيار الألفاظ الطيبة والتصرفات الحسنة، كما قال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُواًّ مُّبيِن﴾[الإسراء: 53].
فعندما نختار الأقوال الطيبة نكون قد أدينا حق الإخوة، وبالتالي نفوت الفرصة على عدونا الشيطان الرجيم.
هكذا أيضًا في حسن الظن بالآخرين، عندما نحسن الظن فيهم، ونحملهم على أحسن المحامل في تصرفاتهم، نكون بذلك قد أدينا حقًّا شرعيًّا، قال الله جلَّ وعلَا: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْض﴾[الحجرات: 12]، والآية التي قبلها: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ﴾[الحجرات: 11].
كما تقدم أن هذه الحقوق لها مصادر، محل اتفاقٍ، إما تكون من قبل الشارع، إذا كانت هذه الحقوق من مصدر متفقٌ عليه حينئذٍ ينتفي التنازع.
لكن إذا جاءك من يقول: إن الحقوق إنما تثبت بالأعراف، يأتي من ينازع، هل هذا عرفٌ معتبرٌ أو لا؟ وهل وقع العرف على اعتبار هذا الأمر من الحقوق أو لا؟ ومن ثمَّ يقع الاختلاف والتنازع، ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل﴾[النساء: 59].
من الأمور التي نلاحظها -كما ذكرت قبل قليلٍ- أن الحقوق كلها مرتبطةٌ بحقوق الله عزَّ وجلَّ، فأنت من باب تعظيمك لحق الله وتعظيمك لحرمات الله، تؤدي الحقوق التي تكون للمكلفين، فالله الذي خلقك والله الذي رزقك، والله الذي أهلك الأمم الماضية، والله الذي يتصرف في الكون كيف يشاء، لابد أن تراعيه ليستمر في فضله وبره ولتنجو إذا كنت بين يديه يوم القيامة، ومن ذلك أن تؤدي الحقوق إلى أصحابها.
فهناك دافعٌ ذاتيٌّ يجعل الإنسان يؤدي الحقوق لأصحابها، ألا وهو هذا الضمير، وهذه المخافة من رب العزة والجلال وهذا الرجاء في أمور الآخرة، فإنها تجعلك تؤدي هذه الحقوق لأصحابها.
وتلاحظون هنا أنه ليس كل ما يهواه الإنسان يكون حقًّا له، بل لا يكون له من الحقوق إلا ما جاء في هذه المصادر السابقة.
من الأمور التي جاءت بها الشريعة المطهرة أنه عند التفريط في الحقوق تشرع العقوبات، وقد تكون عقوباتٍ تعذيريةً، وقد تكون عقوباتٍ حديةً، وقد تكون العقوبة بأخذ الحق وإعطائه جبرًا على من امتنع منه.
من الحقوق التي تتعلق بالإنسان أن له الحق في الكسب المشروع، وله الحق في التصرف في ماله، ولا يمنع الإنسان من شيءٍ من التصرفات إلا بمقتضى شرعيٍّ، يأتي به الشرع لمصلحته هو أو لمصلحة من له حقٌّ عليه، كأصحاب الديون.
أورد نموذجًا غريبًا من الحقوق، ألا وهو حق الأسرار، جاءت الشريعة بوجوب كتم الأسرار، ومنعت من أن ينشر الإنسان أسرار غيره.
حتى لو جلستَ مع شخصٍ في مجلسٍ وحدثك بحديثٍ، لا يجوز لك أن تنقل هذا الحديث إلا إذا أذن لك، أو غلب على ظنك أنه يجيز نقل هذا الحديث ونشره، وإلا فالأصل أنه لا يجوز نقل هذه الأحاديث.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المجالسُ بالأمانةِ» .
من الأمور أيضًا التي تتعلق بالحقوق ما يتعلق بصاحب الحق، فإن صاحب الحق له أن يطالب بحقه، وله أن يتقدم للقضاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالً» .
كذلك من الحقوق التي جاءت بها الشريعة حق تكافل المجتمع بعضه مع بعضٍ، فهناك حقٌّ للمجتمع وحقٌّ للضعفاء على الأغنياء، وحقٌّ للفقراء على أصحاب الأموال، كما قال جلَّ وعلَا: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[المعارج: 24، 25]، والآية الثانية: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[الذاريات: 19].
فهؤلاء لهم حقوقٌ يجب أداؤها.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ» ، فهؤلاء أوجب لهم الشرع حقًّا وألزم بأداء الحق لهم.
كذلك من الحقوق ما يتعلق بالحق في الزجر عن المعاصي لصاحب الولاية، ولا يقول إنسانٌ أنا حرٌّ أتصرف في نفسي بما أشاء، لأن المعصية الظاهرة لا يقتصر ضررها على صاحبها.
كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾[الأنفال: 25]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتأخذن على يد السفيه ولتأطرنَّه على الحق أطرًا، أو لتدعونَّ الله ثم لا يستجاب لكم» .
فأوجب الشرع هنا زجر العاصي عن معصيته، وعدم تمكينه منها، إذا كانت ظاهرةً.
ومن الحقوق أن ذلك العاصي لا تنشر معصيته، ولا يبين للخلق أنه من أصحاب المعاصي، بل يجب الستر عليه، ومن ستر على مسلمٍ ستره الله يوم القيامة.
وعندما يقتصر الناس في أحاديثهم بالكلام على الأفعال الحسنة، حينئذٍ تنتشر هذه الأفعال الحسنة، لكن عندما يتحدثون عن الأفعال السيئة وفلانٌ فعل وفلانٌ فعل، تستمرئها النفوس ومن ثمَّ تفعلها وتقدم عليها.
ولذلك علينا أن نتقرب إلى الله عزَّ وجلَّ بحفظ ألسنتنا، لا نذكر معايب أحدٍ؛ لأنَّ هذا من الغيبة، والغيبة محرمةٌ؛ ولأن هذا يترتب عليه مفسدة استهانة القلوب بتلك المعاصي وانتشارها في الخلق، وبالتالي يكون هذا من أسباب انتشار المعاصي في الناس.
صحيح قد ينهى الإنسان عن المعصية، يقول هذا الفعل حرامٌ، هذا الفعل عقوبته شديدةٌ، هذا الفعل رتبت عليه العقوبات التالية، لكن ما يقال فلانٌ يفعل هذه المعصية؛ لأنه لا يترتب عليها أثرٌ إيجابيٌّ، بل يترتب عليها أثرٌ سلبيٌّ.
كما تقدم هناك حقوقٌ خاصةٌ، وهناك حقوقٌ عامةٌ، هناك حقوقٌ لكل واحدٍ ولكل فردٍ، مثل: المحافظة على سمعته، والحفاظ على أسراره، وهناك حقوقٌ خاصةٌ نتيجة علاقةٍ خاصةٍ، الجار له حقٌّ خاصٌّ، الزوج والزوجة لهما حقان خاصان، الأب، القريب، فهذه حقوقٌ خاصةٌ يجب على الإنسان أن يراعيها وأن يهتم بها.
كما تقدم مثلًا: حتى الفقراء، الفقير له حقٌّ، إذا لم تعطه فقابله بالمقابلة الحسنة وكلمه بالكلام الحسن، ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُور﴾[الإسراء: 28]، قد نزلت في الضعيف والمسكين والفقير إذا لم تعطه مالًا ولم تتصدق عليه، فحينئذٍ تعامله بالمعاملة الحسنة.
وصاحب الحاجة إذا كان محتاجا حقيقة فإنه محق، ويستحق أن يعطى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَعْطِهَا فَإِنَّهَا مُحِقَّةٌ» ، وورد في الحديث الآخر: «فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ» .
والمقصود أنَّ هناك حقوقًا تتعلق بأفرادٍ خاصين، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» ، هذه نصوصٌ واضحةٌ.
وليست الحقوق لأصحاب القدرة على المحاجة والمخاطبة فقط، بل هي قد تثبت للمجنون، فالمجانين لهم حقوقٌ، والأطفال لهم حقوقٌ، فالطفل على سبيل المثال: له حقوق في الحياة، يجب على الوالد أن يختار الأم المناسبة لأطفاله، يثبت لهم النسب، وهناك حق الحضانة، وهناك حق الرضاعة، وهناك حق النفقة، وهناك حق التعلم، فهذه حقوقٌ ثابتةٌ لهم، ولو كانوا صغارًا، ما يجوز أن يُتركوا في طعامهم، في لباسهم، يجب أن يُنفق عليهم في هذا.
إذن في الشريعة إثباتٌ لحقوق الأبناء على والديهم، كما أن للوالدين حقوقًا على أبنائهم، كذلك هناك حقوقٌ فيما يتعلق بتكوين الأسرة، هناك حقوقٌ في الاكتساب، هناك حقوقٌ فيما يتعلق بالميراث.
من الأمور التي تلاحظ في الشريعة: أنَّ الحقوق ليست خاصةً بحقوق الإنسان، بل هناك حقوقٌ لله، وهي من أعظم حقوق الله -عزَّ وجلَّ- أن تُجعل العبادة له وحده -سبحانه وتعالى؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟»، ثم فسره بقوله: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً»، ثم قال: «أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» ، هذه حقوقٌ ثابتةٌ، مقرةٌ في الشرع.
ولا يقتصر هذا أيضًا على هذا الجانب، بل هناك حقوقٌ لكل من يخالطهم الإنسان، فحتى البهائم لها حقٌ على الإنسان؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإبل: «وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَ» ، ولذا لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- جملًا متأثرًا، قرب منه -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ» ، تجيعه،أي: تقلل له الطعام ، وتدئبه يعني: تكثر العمل الذي تطالبه به. هذا في بهيمةٍ، ولذا انظر للحديث الآخر، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»
وانظر للحديث الآخر الذي فيه «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَ» .
إذن هناك حقوقٌ فيما يتعلق ببيئة الناس، ولو كانت أمورًا من الجمادات، فالأشجار لها حقٌّ علينا، حيث نهى عن قطعها، ونهى عن البول والغائط تحتها.
وكذلك الطريق أثبت له حقًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» ، لما وجد جماعةً كانوا جالسين في الطريق، فنهاهم عن الجلوس في الطرقات، فقالوا: مالنا بدٌّ من الجلوس فيها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ»، إذن الطريق له حقٌّ علينا.
سبق أن سألت عن المقاصد، بماذا نستفيد منها في حياتنا؟
فنقول: هناك معانٍ نثبتها، وبالتالي نقرر مسائل جديدةً بناءً عليها، فلما جاءنا الشرع بأداء الحقوق لأصحابها، ووجدنا أن الشرع منع من بعض الأفعال في الطريق، من أجل إعطاء الطريق حقه، ثم وردتنا مسائل جديدةٌ في حياتنا، قلنا: إنها يُحكم عليها بذلك المقصد، من إعطاء الطريق حقه، فمثلا لو جاءنا إنسانٌ يؤذي في الطريق، يسد الطريق بسيارته، أو بمخلفات بنائه، أو يظهر الأصوات العالية، أو يسرع في الطريق، بما يثير الخوف والرعب في قلوب الناس، حينئذٍ نقول: إنه لم يعط الطريق حقه، وبالتالي لم يحقق المقصد الشرعي في هذا الباب المتعلق بأداء الحقوق.
الحقوق التي ذكرت، تدلك على أن الأمور ليست متعلقةً بحق الإنسان فقط، هناك من يتكلم في حقوق الإنسان في زماننا، ويكثرون الحديث فيه، وقد يعتب بعضهم على بعض العلماء، أو بعض الأحكام الفقهية، ويدعي أنها مخالفةٌ لحقوق الإنسان، والناظر فيما يُدعى أنَّه من حقوق الإنسان، يجد أنَّ ما يدعونه من حقوق الإنسان على ثلاثة أنواعٍ:
نوعٌ من حقوق الإنسان حقيقة، فهذا النوع قد جاء به الشرع، لكن جاء به على أكمل وجوهه، وأعلى درجاته، وجاء به لتحقيق ذلك المقصد من خلال جميع الوسائل المؤدية إليه.
مثال ذلك: نتفق على أن العدل من حقوق الإنسان، الشريعة قد جاءت في هذا الباب بأكمل درجات العدل ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾[النحل: 90] وقال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة: 8]، ولكن جاءت الشريعة في تحقيق العدل بما لم تأت به الشرائع والقوانين الأخرى، سواءً من وسائل إثبات الحقوق في باب العدل، أو في كيفية التعامل مع المتخاصمين، أو في سرعة البت بينهما بما يقضي على النزاع المتكون عندهما، فهذه كلها جاءت بها الشريعة؛ لتحقيق هذا المقصد، وهذا الحق من حقوق الإنسان.
نوعٌ آخر مما يسمى بحقوق الإنسان، ولكنه في الحقيقة ليس من حقوق الإنسان، بل حق الإنسان يتنافى معه.
مثل: يأتيك من يدعي أن من حق الإنسان الحرية الجنسية، ومثل هذا يترتب عليه من المفاسد ما الله به عليمٌ، سواءً في ما يتعلق بتفكك المجتمع، وعدم ترابطه، لما يحدث من وجود أبناء الزنا، ولما يحدث من الشقاق والنزاع، ولما يحدث من كون الرجل يأتي إلى المرأة، ثم بعد ذلك يهملها، ولا يقوم بمتابعتها ورعايتها، بخلاف تقرير حق الزوج وحق الزوجة، فإنه حينئذٍ تثبت به الحقوق، وتستقر به أحوال المجتمع.
كذلك من النواحي الصحية، نجد من انتشار الأمراض، بهذه الأمور، التي تسمى حقوقًا للإنسان، وهي في الحقيقة مؤديةٌ إلى مفاسد الله أعلم بمقدارها وما تصل إليه.
وهناك ما يُجعل من حقوق الإنسان وهو يتضمن معنى حقٍّ، ومعنى باطلٍ، وبالتالي لابد من تمييزه، ومعرفته.
مثال ذلك: في المساواة، يجعلون من حق الإنسان المساواة، ثم بعد ذلك يدخلون في هذا المساوي ما الله به عليمٌ، هذا المبدأ -المساواة- لابد أن يُنظر فيه، إن كانت المساواة بين متساوييْن فهو مطلوبٌ، وإن كانت المساواة بين مختلفيْن، فهذا ليس من العدل، وليس من حقوق الإنسان.
لو كان طلابٌ في قاعةٍ، فأخذ واحدٌ منهم الامتياز، هل من حق الجميع المساواة بذلك الطالب، أي: هل نعطي هذه الدرجة (الامتياز) لجميع من في القاعة من الطلاب؟
نقول: لا، هذا ليس من حقهم، وليس من العدل، بل فيه جورٌ، وفيه مخالفةٌ لأننا نهدف أن نجعل الناس تسمو هممهم، لنيل أعلى الدرجات العلمية؛ ولو فعلنا غير ذلك لثبطت هممهم لأنهم بذلك يضمنون درجات على أعلى المستويات، وبالتالي لن يُعطوا الفرصة لأنفسهم في اكتساب المعلومات.
من الأمور التي نلاحظها: أن حقوق الإنسان ليست مقتصرةً على حياته، بل هناك حقوقٌ جعلها الشارع بعد ممات الإنسان، ومن أمثلة ذلك، مثلًا: أن يُكَفن وأن يُصلى عليه، وأن يُدفن، هذه حقوقٌ من حقوق الإنسان، كذلك من حقوق الإنسان الميت أن تُستر معايبه، ما يظهر فلان كان يفعل كذا، أو كان عنده من المعاصي كذا، بل من حقه أن تُذكر محاسنه.
كذلك من حقوق الإنسان أن تنفذ وصيته، يعني: هذا ماله وبالتالي ينفذ ما أوصى به.
ومن حق الإنسان أيضًا أن يوصل ماله إلى ورثته، وهذا فيه جانب حقٍّ إلهيٍّ، وفيه جانبٌ للميت؛ لأن هذا من تكريم قرابته، وهذا يجعلك تستشعر التنظيم الفقهي البديع الذي جاءت به هذه الشريعة، حيث نظمت أحوال الإنسان في جميع حالاته، بلا استثناءٍ، بما يترتب عليه تحقيق مصالح العباد.
من المسائل أيضًا: ما جاءت به الشريعة من بر الوالد بعد وفاته، لما سأل الرجل النبي -صلى الله عليه وسلم: هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ فقال: «وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَ» ، قال: من ذلك: َصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، بل قال: «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ» ، صحابة الأب، وأصدقاء الأب، يوصلون ويبرون برًا بالوالد، فهذا من حق الوالد.
ومن الأمور التي نلاحظها في هذا الجانب: أن من أعظم ما يدفع الناس للقيام بالحقوق الواجبة عليهم: ما يتعلق بالإيمان بالدار الآخرة، فإن الناس متى آمنوا بذلك، وجزموا به، وعلموا أنهم سيقفون بين يدي رب العزة والجلال، وسيحاسبهم على أعمالهم كلها، فإن هذا يدفعهم إلى أداء الحقوق لأصحابها؛ ولذا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» .
وجاء في الحديث، قال: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» ، حتى بين البهائم يقتص لهم يوم القيامة، مما يدلك على أن العبد متى آمن بالآخرة، وزاد في قلبه استشعار وقوفه بين يدي رب العزة والجلال، فإن هذا يدفعه إلى أن يعطي الحقوق لأصحابها.
من الأمور التي تتعلق بالحقوق: هناك حقوق للجماعة على الفرد، ليست الحقوق خاصةً بفردٍ وفردٍ، بل هناك حقوق لمجموع الأمة على الفرد، حق الجماعة هناك حقوق للجماعة، مثلًا أن نسعى في تحسين أحوال الناس في استقرار أمورهم، أن نسعى في استجلاب ما يحصل الخير والنفع للناس، فإن هذا مما يحقق مصلحة الجماعة، وهو حق للجماعة على الفرد، قد لا يكون هناك شخصٌ بعينه صاحب هذا الحق، لكنه لمجموع الناس، مثل: ترك نقل الإشاعات، والأحاديث التي لا يتأكد من صحتها.
هل يجب ترك نقل هذه الأحاديث، لماذا؟
لأن هذا يؤثر على الجماعة، ومن هنا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُو﴾[الحجرات: 6]، ومن هنا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» وكذلك حديث«مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» ، فالمقصود أن من المقاصد العظيمة التي جاءت به الشريعة المباركة: أن تؤدى الحقوق لأصحابها، إما خوفًا من الله، أو بالأمر والنهي من صاحب الولاية، من طريق القضاء الشرعي، الذي يوصل الحقوق لأصحابها.
{بالنسبة للحقوق، ذكرتم أن الصبي له حقٌّ علينا، وكذلك المجنون، فبالنسبة للمجنون، هو الشاذ، كيف يكون له حقٌّ}.
المجنون له حقٌّ، من تلك الحقوق:
- أن يُعطى طعامه الذي يأكل منه.
- أن يولى عليه في ماله من يصلح هذا المال، وينفق عليه بما يحتاج إليه.
- أن يكف أذاه عن الآخرين، وكذلك يكف أذى الآخرين عنه.
- أنه إذا احتاج إلى التزويج فيزوج
- أن يخاطب بالخطاب الحسن، والكلام الطيب، فهذه كلها حقوقٌ للمجنون.
إذن ما من فردٍ من أفراد المجتمع، إلا وله حقوقٌ، بل كل شيءٍ في مجتمعاتنا، حتى في البهائم، وحتى في الجمادات لها حقوقٌ، جاءت بها الشريعة، مثلًا: مما جاءت به الشريعة:
النهي عن الإسراف، فهذا حقٌ شرعيٌّ في المال، ما يأتينا إنسانٌ ويقول: هذا مالي، أتصرف فيه كيف أشاء، لكن الله منعك من ذلك، ومن حق المال عليك أن تحفظه، فلا تنفقه إلا في ما يعود بالنفع، بدون إسرافٌ، وتبذيرٌ.
من جاءنا وكان يبذل ماله في قمارٍ، نقول له: ما يجوز لك ذلك.
هكذا أيضًا في ما يتعلق حتى بالوسائل الجديدة، التي استحدثت في حياة الناس، لها حقوقٌ، يجب القيام بها، فالجوال مثلًا: له حقٌّ علينا، بحيث لا نتلفه، لا نستعمله في محرمٍ، لا نجعله سببًا من سبل إزعاج الآخرين، كل هذه حقوقٌ له.
هكذا أيضًا في السيارة، هكذا في الطائرة، هكذا في وسائل التواصل الاجتماعي، هناك حقوقٌ متعلقةٌ بها، يجب أن نراعيها، بعضها لذاتها، وبعضها لمن نتعامل معه بواسطتها، فلابد من ملاحظة أن أداء الحقوق في الشريعة، ليس مقتصرًا على الآدميين فقط، بل هو للجميع.
{جزاك الله خيرًا يا شيخ، لو واحد الجار ما يؤدي الحقوق، وأنت كلمته في إيفاء هذه الحقوق، ولم ينتبه، فكيف تتعامل معه؟}.
هناك حقوقٌ للجار، يجب القيام بها، ليس قيامنا بحقوق الجار على جهة المجازاة والمتابعة له، عندما يفرِّط الجار في الحق الواجب عليه، لا يعني هذا أن تفرط أنت في الحق الواجب عليك تجاه جارك، ثم هناك وسائل جاءت بها الشريعة من أجل استجلاب الحق، منها: تحريك واعظ القلب، بمخافة رب العزة والجلال، لأداء أو لجعل هذا الجار يؤدي الحق الواجب عليه.
مثلًا بعض الناس قد يؤذي جيرانه، بالأصوات التي يرفعها، قد يؤذي جيرانه بالاطلاع ما يكون داخل هذه البيوت، قد يؤذي جيرانه كونه يرفع البنيان على الجيران، قد يؤذي جيرانه بحجب النور عنهم، هذا كله من أنواع الأذى.
هناك وسائل من أجل استجلاب الحق، منها مثلًا: نصيحته، منها: تكليم الآخرين من أجل أن يبذل الواجب الشرعي فيما يتعلق بحق الجار.
هناك حديثٌ يذكره بعض أهل العلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر من تأذى من جيرانه، أن يُخرج متاعه في الطريق، فلما شاهد الناس هذا الرجل أخرج متاعه، وعلموا أن السبب من جاره، بدءوا يتكلمون في هذا الجار أو يدعون عليه، فجعل ذلك الجار يعود إلى جاره، ويطلب منه أن يعيد متاعه إلى داخل بيته، وتكفل له بأن يمتنع من إيذائه .
وأنت تعلم ما ورد في النصوص، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ" قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "جَارٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: "شَرُّهُ"» ، وفي الحديث الآخر: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ» ، ومن الحديث الآخر: «مَازَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» .
فيه نصوصٌ كثيرةٌ، كلها تدل على حق الجار، ومنه الآية التي في سورة النساء، قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورً﴾[النساء: 36]، انظر أوصى بالجميع بأداء حقوقهم، حتى ما ملكت اليمين، ما يكون في ملك الإنسان، كانوا في الزمان هناك مماليك، وكانوا يقسون عليهم، فأمر الشرع بحسن معاملة هؤلاء المماليك، وجعل لهم حقًا على مالكهم، ولذا قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾، ثم قال: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، يعني أن تحسنوا إليهم، وقال -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» ، هذه نماذج من تحقيق هذا المقصد العظيم، مقصد أداء الحقوق لأصحابها.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله إلى الخير، وأعانكم على تحقيق هذا المقصد بأداء الحقوق لأصحابها، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك