الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا
بعد..
فأرحب بكم في هذا اللقاء الذي نتباحث فيه مقدمات علم المقاصد.
في فصولٍ سابقةٍ تدارستنا شيئًا من علوم الأصول والقواعد الفقهية، واليوم بإذن الله
عزَّ وجلَّ نبتدئ في الكلام عن مقاصد الشريعة.
فنتكلم عن المراد بمقاصد الشريعة، وهل دراستها مهمةٌ؟ وما هي الآثار المترتبة على
دراسة هذا العلم وما هي طرائق تحصيل هذه المقاصد؟ وما هي أبرز الجهود التي بذلها
العلماء في هذه المقاصد؟
كما نتكلم عن أمور أخرى متعلقةٌ بمقدمات المقاصد كحكم تعلم هذه العلم، وأبرز
المدارس فيه، وتقسيمات المقاصد، والفرق بين المقاصد وغيرها مما له به اتصالٌ.
كل هذه الموضوعات نتدارسها -بإذن الله عزَّ وجلَّ- في يومنا هذا، وأمَّا بقية
اللقاءات القادمة فلعلنا -بإذن الله عزَّ وجلَّ- أن نخصص لكل لقاءٍ مقصدًا أصليًّا
من مقاصد الشريعة ليكون محورًا لكلامنا في كل لقاءٍ، بحيث نتعاطى مفهوم ذلك المقصد،
والأدلة الدالة على كونه من مقاصد الشريعة، وهكذا شروط كون ذلك الأمر من مقاصد
الشرع، وكذلك أيضًا تطبيقاتٍ عمليةً لذلك المقصد، وبعض العوارض التي قد تعرض لذلك
المقصد، ونحو ذلك من المسائل.
إذن لقاؤنا في هذا اليوم هو اللقاء الأول مِن لقاءاتنا في مقرر مَقاصد الشريعة الذي
نتدارس فيه المقاصد الكلية في شريعة رَبِّ العِزة والجلال، ويتبعه -بإذن الله عزَّ
وجلَّ- أحد عشر لقاء يكون في كل لقاءٍ منها دراسة مَقصدٍ مُستقلٍّ مِن مقاصد
الشريعة.
ما معنى مقاصد الشريعة؟
الشريعة في اللغة: المورد، مورد الماء الذي يَكثر وُرَّادُه وَتَكبر مساحته، فإذا
كان هناك ماءٌ عذبٌ نقيٌّ يتمكن كثيرٌ مِن النَّاس مِن الوُرود إليه سُمي شريعةً،
يقال: شرعوا في الماء، وأخذ الإنسان من ذلك الماء بالشرب منه.
وأمَّا الشريعة في الاصطلاح: فهي الأحكام أو الديانة السماوية التي أنزلها الله
-عزَّ وجلَّ- على أحد أنبيائه، وقد قال الله جلَّ وعلَا: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى
شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئ﴾ [الجاثية: 18،
19]، ثُمَّ بَين أنَّ الله ولي المتقين، أي: هو -سبحانه وتعالى- يتولى شئونهم متى
كانوا مُتَمَسكين بهذه الشريعة، سائرين عليها، تاركين السير على الأهواء.
وأمَّا المقصد في اللغة: فالمراد به: المُتجه إليه بأقل الطرق، وقد يُطلق على
استقامة الطريق، ومِن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ
وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾ [النحل: 9].
وأمَّا المراد بمقاصد الشريعة: فهي المعاني الكلية التي مِن أَجلها شُرعت الأحكام.
المعنى يُقصد به السبب والتفسير، وقولنا: الكلية، بمعنى الشيء العام؛ لأن المعاني
بعضها جزئيٌّ يتعلق بجزءٍ واحدٍ، وبعضها يتعلق بعموم أحكام الشريعة أو كثير من
أحكامها.
المعاني الكلية التي قصدها الشارع، يعني: راعاها وبنى الأحكام مِن أَجل تَحصيلها.
وحينئذٍ ينبغي بنا أن نفرق بين الشريعة وبعض المصطلحات التي يمكن أن يكون لها نوع
اتصالٍ بها.
اللفظ الأول: كلمة العلة، هل هناك فرقٌ بين المقصد الشرعي والعلة؟ أو لا يوجد هناك
فرقٌ؟
نقول: نعم هناك فرقٌ بينهما، فالمقصد الشرعي هو المعنى الكليٌّ، بينما العِلل يمكن
أن تكون لأحكامٍ جزئيةٍ.
ثُمَّ المقَصد أمرٌ يريد الشرع تحقيقه، بخلاف العِلل، فقد لا يريد الشرع تحقيقها
إنما هي أوصافٌ عُلقت عليها الأحكام.
مثال ذلك: السرقة علةٌ للتحريم وعلةٌ للقطع، هل يريد الشَّارع وجود السرقة؟
نقول: "لا" لا يريدها، وحينئذٍ لا نقول إنَّ العلة مقصودةٌ للشَّارع، وإِنَّما
المقصود للشَّارع هو: تعليق الحُكم بهذا الوصف.
إذن ما هو المقصد الشرعي هنا؟
من تقرير هذا الحُكم، هو حفظ المال.
إذن عندنا مَقصدٌ شرعيٌّ وهو المعنى الكليٌّ الذي راعته الشريعة في كثيرٍ من
الأبواب، ومِن أَجله قُرِّرَ هذا الحكم، ومن أجله عُلق هذا الحكم على هذا الوصف،
فحينئذٍ نتبين الفرق بين المقصد الشَّرعي وبين العِلة.
مِنَ الأمور التي نقررها مثلًا: أن الشريعة جاءت بمشروعية الزواج، وترتب على الزواج
عددٌ من الأحكام، مثل: وجوب نفقةٍ، فالزواج هنا هو العلة، لكن هناك مقصودٌ للشارع
مِن حفظ النفس، أو وجود الاستقرار في النفوس والطمأنينة، هذان مقصدان مِن مقاصد
الشَّارع تتحقق بمشروعية الزواج، لكنَّ الزواج عِلةٌ لعددٍ من الأحكام، مثل: وُجُوب
المَهر، وُجُوب النَّفَقة، وُجُوب المبيت، ثُبُوت النَّسب، إلى غير ذلك مِن
الأحكام.
لعل الفرق بين العِلل والمقاصد قد اتضح بذلك.
مِن الألفاظ التي لها نوع صلةٍ، لفظة الحِكَمْ، هناك معاني هي حِكمٌ يُراعيها
الشَّارع، مثال ذلك: المُسافر يَسقط عنه وجوب الصَّوم، ويجوز له الفطر، ما العلة في
هذا؟
العلة هي السفر.
ما الحكمة؟
المشقة، ولكن المشقة هنا وصفٌ غير منضبطٍ.
هل المشقة هي مقصودةٌ للشارع؟
نقول: لا هي ليست مقصودةً للشارع.
ما هو مقصود الشارع؟ التخفيف على العباد.
فالتخفيف هو المقصد، والسفر هو العلة، والمشقة هي الحكمة، فنفرق بين كلٍّ من هذه
المعاني.
إذا تقرر هذا فإنَّ دراسة المقاصد مهمة لعددٍ من الأسباب:
السبب الأول: أنَّ هناك مَن أَغفل دراسة المقاصد فخالف الحكم الشرعي في عددٍ من
المسائل لعدم مراعاته للمقصد الشرعي.
مثال ذلك: لو أنَّ إنسانًا مريضًا والصوم يؤثر عليه، فيأتي مَن يَأتي ولا ينظر إلى
مقصد الشريعة وبالتالي يُلزِمُه بالصوم فهو قادرٌ عليه لكنه يؤثر على شفائه،
فبالتالي يكون هناك إعناتٌ على العباد بسبب عدم مُراعاة المقصد الشرعي.
الشَّارع قَصَدَ أن يَبذل العبد الأسباب التي تُطيل حياته، ومِن ثَمَّ يتمكن مِن
عبادة الله -عزَّ وجلَّ- في مدةٍ أطول، فهذا مَقصدٌ شرعيٌّ، فعندما يصوم الإنسان أو
يترك التداوي، حينئذٍ يُخالف المقصد الشرعي، وقد يَأتي مَن يَأتي وَيَقول: الصوم
خيرٌ، صم، لكن حينئذٍ يُفوت مصلحةً أكبر وهي: بذل السبب لإطالة عُمره مما يؤدي إلى
تمكنه مِن أداء عباداتٍ أكثر في وقتٍ أطول، فحينئذٍ غفل عن المقصد الشرعي.
مثال آخر: يأتينا مَن يأتي ويظن أنَّ المشقة مقصودةٌ في العبادة، يقول: سأحج
ماشيًا، فيقال له: المشي ليس مقصودًا للشارع بحد ذاته، وإنما المقصود تحصيل التقوى،
وجعل القلب ينتظم معنى العبودية، فهذا المعنى ليس مقصودًا للشارع، ولكن مقصود
الشارع تحصيل التقوى.
بماذا تحصل التقوى؟
تحصل التقوى بعبودية الله وَذِكْرِه سبحانه، وتفريغ الوقت لطاعة رَبِّ العِزة
والجلال.
فمن ثم قد يأتي من يأتي ويخالف الحكم الشرعي ظانَّا أنَّ مَا فَعَلَه هو الحكم
الشرعي بسبب عدم مراعاته لمقاصد الشريعة.
الأمر الثاني الذي يُبرز أهمية دراسة الشريعة: هناك من تَفَلت من بعض الأحكام بدعوى
أنَّه يراعي مقاصد الشريعة، وبالتالي قد يؤدي ذلك إلى رَفع الشريعة بالكلية بدعوى
مُراعاة المقاصد، والسبب في هذا أنَّ هذا المُكلف لم يُراعِ الشروط والضوابط
المتعلقة بتطبيق المقاصد، فَمِن ثَمَّ طَبقها تطبيقًا خاطئاً مُخالفًا للطريقة
الشرعية.
وأُورِد لذلك أمثلةً:
إن شاء الله سيأتي معنى أسباب الخطأ في المقاصد.
قال قائلٌ: إنَّ الناس لا يجتمعون، أو يتمكنون من الاجتماع في الدول الغربية إلا
يوم الأحد لكون يوم الجمعة يوم عَملٍ، ومِن ثَمَّ نَرى أن تكون صلاة الجُمعة يَوم
الأحد مُراعاةً لمقصد الشرع في جمع الناس، والشريعة من مقاصدها الاجتماع.
فنقول: حينئذٍ لم يراعِ مقصدًا آخر وهو المحافظة على تَعاليم الشَّريعة، فأَدى به
ذلك إلى مخالفة مقاصد الشرَّع، ومِن ثَمَّ نقول: لو قُدِّرَ ذلك لأدى إلى الاختلاف،
حيث إنَّ كُل بَلدٍ سَيختار يومًا مخالفًا لليوم الذي تُصلى فيه صلاة الجمعة في
البلد الآخر؛ فيؤدي ذلك إلى اختلاف المسلمين من بلدٍ إلى آخر، بل يؤدي ذلك إلى جعل
صاحب الولاية سواءً كان مسلمًا أو غَير مُسلمٍ يَتَسلط على تغيير أحكام الشرع،
فبعضهم قد يجعل الاجازة يوم الأحد، وبعضهم يجعلها يوم الثلاثاء، وبعضهم يجعلها
الأربعاء، ومِن ثَمَّ تتغير أوقات صلاة الجمعة على هذه الدعوى.
فنقول: إنَّ مقصد المحافظة على الشريعة مِن التغيير والتبديل أعظم، ومِن ثَمَّ
فإنَّه لابد مِن مُراعاته.
كذلك من فوائد تعلُّم عِلم المقاصد أنَّه يجعل الإنسان يَعرف أَحكام النَّوازل
الجديدة، ويكون عنده تصورٌ ولو مبدئيًا بحكم النوازل الجديدة.
وأُعطي لذلك مثلًا:
مِن المسائل الحادثة في عصرنا مَسألة الاستنساخ، والمراد بالاستنساخ أخذ خليةٍ من
كائنٍ حيٍّ ووضع إنزيمات الانقسام عليها، بحيث تتشكل على هيئة إنسانٍ أو حيوانٍ
كاملٍ، فهل هذا جائزٌ أو لا يجوز؟
هذه نازلةٌ جديدةٌ، فنقول: مِن مَقاصد الشريعة تقرير نوع القرابة بين الناس.
فعندما نأخذ خليةً من إنسانٍ ونضع عليها إنزيم الانقسام حتى تُكَوِّن إنسانًا على
فرض إمكانية ذلك، فإننا حينئذٍ لا نستطيع أن نُميز درجة العلاقة والقرابة بين
المستنسخ والمستنسخ منه، هل هو أخوه أو هو ابنه، ومِن ثَمَّ يَقع النَّاس في حَرجٍ
من عدة أمور، مثل:
كيف نفعل في الميراث؟
ماذا نفعل في القرابة؟
هل أبناؤه يجوز لهم أن يتزوجوا من أبنائه باعتبارهم أبناء عمٍّ، أو هم أبناء أخٍ
لهم، وبالتالي لا يجوز لهم أن يتزوجوا منه، وهكذا.
فهنا بالنظر في مقاصد الشريعة تمكنا مِن مَعرفة الحُكم في هذه النازلة الفقهية.
هناك أيضًا فائدةٌ أخرى ألا وهي: إعطاء الطمأنينة للاجتهاد الفقهي، فعندما يجتهد
الفقيه سواءً كان مُفتيًا أو قاضيًا أو مُدرسًا فيتوصل إلى حكمٍ فقهيٍّ في المسألة،
ويكون ذلك الحكم مُتوافقًا مع المقاصد الشرعية فهذا يعطيه طمأنينةً لصحة اجتهاده،
وأمَّا إذا وجد أنَّ مَا تَوصل إليه باجتهاده يخالف مقاصد الشريعة فهذا يجعله يتوقف
ومن ثمَّ يزيد البحث في المسألة، ويبحث عن أدلةٍ أخرى لعل ذلك يكون سببًا من أسباب
وصوله إلى حُكم الله -عزَّ وجلَّ- في هذه المسألة.
أيضًا من فوائد معرفة مقاصد الشريعة معرفة أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد تفضل عَلينا
بهذه الشريعة، وبالتالي يكون هذا مِن أَسباب شُكرنا لله -عزَّ وجلَّ- الذي تفضل
علينا بأن جعل عندنا شريعةً محققةً للمقاصد.
هناك بعض الفقهاء يقول بنفي وجود المقاصد، ولكن هذه المقاصد منصوصٌ على كثيرٍ منها
في الأدلة الشرعية، بل بعضها قد تواترت النصوص بتقريره، مثلًا:
كون الشريعة محققةً لمصالح الخلق، هذا مقصدٌ شرعيٌّ، قد دل عليه نصوصٌ كثيرةٌ،
وأدلةٌ كثيرةٌ، هكذا كون اجتماع الكلمة من مقاصد الشرع، دل عليه نصوصٌ كثيرةٌ
متعددةٌ، وبالتالي فإن هذه المقاصد هي أمرٌ مقصودٌ للشرع، وقد تواترت الأدلة بإثبات
كونها من مقاصد الشرع.
قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]، فيه إشارةٌ إلى ثلاثة مقاصد.
الأول: التقوى، مقصدٌ شرعيٌّ.
الثاني: التعقل، استعمال العقول؛ لذا قال: ﴿ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾.
الثالث: كون الحياة مُستقرةً آمنةً في قوله: ﴿ وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾
أي: تحيون بسبب وجود هذا القِصاص فيأمن بعضكم بعضًا وتستقر نفوسكم.
وأشير بعد ذلك إلى شيءٍ من مميزات وخصائص القواعد أو المقاصد الشرعية.
الخاصية الأولى: أنَّ هذه المقاصد صادرةٌ من أدلةٍ شرعيةٍ، من كتاب الله عزَّ
وجلَّ، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه المقاصد أُخذت من الوحي، ولم تؤخذ
من العقول ولا من الاجتهادات، وإنما شأن الفقيه أن يستخرجها ومن ثم يُبين أنَّ هذا
المعنى من مقاصد الشريعة، بناءً على قيام الدليل عليه كما سيأتي.
وبالتالي من خصائص هذه المقاصد أنَّها ربانيةٌ، منسوبةٌ إلى الله جلَّ وعلَا؛ لأنها
واردةٌ في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: مِن خصائص مقاصد الشريعة: أنَّها عامةٌ لجميع النَّاس، في جميع البلدان،
وفي جميع الأزمان، وليست خاصةً بزمنٍ دون زمنٍ، أو بفردٍ دون فردٍ، وتَخلف المقصد
في بعض الجزئيات لا يعني انتفاء كونه من مقاصد الشرع، فقد يوجد مقصدٌ أعظم منه
فيترك المقصد الأقل مراعاةً للمقصد الأعلى، وهكذا.
كذلك من خصائص مقاصد الشريعة أنها باقيةٌ، لا تتبدل، ولا تتغير، ولا تقبل التحوير
ولا الاجتهادات في تغييرها وتغيير مراسمها، وبالتالي كان من مميزات وخصائص مقاصد
الشريعة أنها ثابتةٌ، لا يتمكن أحدٌ من إلغاء أحد مقاصدها، وذلك لثبوتها، أي: لا
يصح أن يأتي فقيهٌ ويقول: أنا ألغيت كون المعنى الفلاني من مقاصد الشرع؛ لأن هذه
المقاصد ثابتةٌ لا تقبل التغيير ولا التحوير.
وهكذا فهذه المقاصد قد جمعت المعاني الكلية التي يُحكم بها على أفعال العباد، فمن
أحاط بهذه المقاصد، وتبيَّن له المعاني الكلية التي قصدتها الشريعة، فحينئذٍ يتمكن
من الإحاطة بغالب مسائل الفقه، فهي تجمع بين أحكام الأفعال الظاهرة وأحكام الأفعال
الباطنة، وتشتمل على أحكام الأقوال، وأحكام الأفعال، وأحكام الاعتقادات والنيات،
ولذلك من خصائص مقاصد الشريعة، أنَّها تحكم على بواطن الإنسان، كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ
وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» .
ومِن هُنا فإنَّ مِن فَوائد دِراسة المقاصد، إحياء القلوب، والتنشيط لأداء العمل،
فعندما تعرف مقصد الشارع حينئذٍ ستنشط لأداء الأعمال والواجبات والتوجيهات الشرعية،
وفي نفس الوقت يُعرفك بالمعنى الذي قَصَدَه الشَّارع، فتعرف فضل الله عليك، فتشكر
الله -عزَّ وجلَّ- على هذه النعمة.
كذلك من خصائص مقاصد الشريعة، أنها تحقق المصالح، وأنها عادلةٌ ليس فيها ظلمٌ
لأحدٍ، ولا محاباةً لأحدٍ دون أحدٍ، فهذا شيءٌ من خصائص مقاصد الشريعة التي تجعل
الإنسان يهتم بهذا العلم.
كذلك من خصائص مقاصد الشريعة، أنها منضبطةٌ، معروفة الحدود والمعالم، ليست محلًا
للاجتهادات، كذلك هذه المقاصد متلائمةٌ مع حوائج الناس، وفي نفس الوقت هي متكاملةٌ،
وغير متناقضةٍ، لا يوجد بينها تناقضٌ، بل يكمل بعضها بعضها الآخر.
من خصائص مقاصد الشريعة مراعاة الحوائج الأساسية للناس، فما يحتاج إليه الناس من
الحاجات الأساسيةً فإنها مكفولةٌ لهم، ومن ذلك مثلًا:
- حاجة الإنسان إلى عبودية الله -عزَّ وجلَّ.
- حاجته إلى أكل طعامه.
- حاجته إلى قضاء وطره.
كل هذه يمكن تحقيقها، وإيجادها بوجود المقاصد الشرعية، وبالتالي فمراعاة المقاصد
الشرعية، يؤدي إلى الاستقرار والأمن وطمأنينة النفوس، يؤدي -كذلك- إلى استجلاب
الخيرات والمنافع التي يَنتفع بها كثيرٌ من الناس.
إذن هذه نماذج لخصائص مقاصد الشريعة، وليست هي كل الخصائص، بل هي -كما ذكرنا- نماذج
منها فقط.
أرجو أن يكون هذا مفهومًا.
فيه إشكالٌ أو سؤالٌ؟.. نعم تفضل.
{من فوائد المقاصد، ذكرتم التنشيط وماذا؟}.
التنشيط على أداء العبادات، يعني: إذا عرفت مقصد الشارع، وأنه يحقق مصلحتك، فحينئذٍ
تنشط، وتشكر الله عليه. أي: إذا عرفت لماذا شُرع هذا الحكم، نشطتَ في اتباعه والعمل
به.
وكنت قبل قليلٍ أشرتُ إلى أن بعض الناس نفى أن يكون للشريعة مقاصد، وبعضهم قد يأتي
بكلامٍ كبيرٍ ويقول: إن مقاصد الشريعة معناها أن الله -عزَّ وجلَّ- له أغراضٌ
وأهدافٌ، فيقال: نعم، الله له أهدافٌ يقصدها، وهي المقاصد، فيقول: هل معناه أنه
محتاجٌ؟ نقول: لا يلزم، فقد يكون الله -جلَّ وعلَا- هدف حاجة العبد وتحقيق مطالبه،
وحينئذٍ ليست الحاجة عائدةً إلى الله -سبحانه وتعالى، والله -جلَّ وعلَا- غنيٌّ
عنَّا وغنيٌّ عن عباداتنا، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ
الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]،
ولعل -إنَّ شاء الله- هذا المعنى سيأتي تقريره في مواطن أخرى.
بعض الناس يقول: هذه الشريعة فائدتها الابتلاء والاختبار ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلً﴾ [الملك: 2]، فنقول: هذا المعنى أحد المقاصد مِن تشريع الأحكام،
وبالتالي كأنك تقول: للشريعة مقصدٌ، ثم كون هذا المعنى من مقاصد الشرع، لا ينفي كون
غيره من المعاني من مقاصد الشرع، ولذلك فإن كون الابتلاء والاختبار من مقاصد الشرع،
لا ينفي كون المعاني الأخرى من مقاصد الشرع في تقرير الأحكام الشرعية.
وهذا له اتصالٌ بمسألةٍ عقديةٍ، وهي: ما هي فائدة التكليف؟
طائفةٌ تقول: فائدة التكليف هي الاختبار والابتلاء فقط، بينما آخرون قالوا: إنَّ
فائدة التكليف تحقيق مقاصد العباد في الدنيا فقط، وقال فريقٌ ثالثٌ: بل إن تقرير
الأحكام يكون لمقصد الابتلاء، ولمقصد تحقيق مقاصد الشرع، ولمعانٍ أخرى، بعضها يعود
إلى الله -سبحانه وتعالى، منها: رضاه عن الطائعين، وسخطه على غيرهم، ونحو ذلك، وهذا
القول الثالث هو أصوب الأقوال، وهو الذي تدل عليه النصوص الشرعية، وإذا كان هناك
بعض النصوص قد تشير إلى أحد هذه المعاني، فهذا دليلٌ على أن ذلك المعنى صحيحٌ، لكن
لا يعني أن غيره من المعاني ليس مقصودًا للشرع.
نتكلم بإذن الله عزَّ وجلَّ أيضًا عن أشياءٍ أخرى من مقدمات هذا العلم، ألا وهو
تاريخ عِلم المقاصد.
متى ابتدأ علم المقاصد؟
تقرير كون بعض المعاني من مقاصد الشريعة ثبت بنزول القرآن، ونزول الوحي على رسولنا
صلى الله عليه وسلم، ولذلك فنحن نجد جميع مقاصد الشريعة موجودةً في كتاب الله
-سبحانه وتعالى، وفي الأحاديث النبوية مَا هُو مُنبهٌ لهذه المقاصد الشرعية، فهي
موجودةٌ بوجود الوحي، وقد تقدم منها ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ﴿لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ﴾، فلما جاء عصر الصحابة وعصر التابعين -رضوان الله عليهم- أصبحوا
ينظرون في الأدلة الشرعية، فيستخرجون منها قواعد مقاصدية يبنون عليها أحكامهم
الفقهية.
ثم بعد ذلك ابتدأ عصر التأليف، فوجدت كتاباتٍ عند أهل العلم في فنونٍ شتى، منها ما
هو في الفقه، ومنها ما هو في الأصول، ومنها ما هو في الحديث، والناظر في الكتب
الفقهية والكتب الأصولية، يجد هناك إشاراتٌ للمعاني المقاصدية في هذه النصوص التي
كتبها العلماء، فحينئذٍ نعرف أن الكلام في المقاصد ليس أمرًا ناشئًا، بل هو من عصر
النبوة، ومن عصر الصحابة، ومن عصر أوائل التدوين، صحيحٌ أنه لا يوجد كتاب في تلك
العصور يستقل بالبحث في مقاصد الشريعة، لكنها موجودةٌ ومبثوثةٌ في كتب أهل العلم
الفقهية والحديثية والأصولية.
ومن ذلك مثلًا ما يتعلق بالحديث عن الضرورات الخمس، وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس،
وحفظ المال، وحفظ العِرض، وحفظ العقل، والعقل دائمًا يقدمونه، فهذه المقاصد نجد
أنَّ أهل العلم المتقدمين يذكرونها وينصون عليها في مؤلفاتهم الفقهية، ومؤلفاتهم
الأصولية، فبذور هذا العلم أو بذور تدوينه وكتابته من عصور الأئمة.
ولكن لم يُفرد التدوين في هذا العلم في تلك العصور؛ لأنهم يعتبرونه من الأمور
المتقررة، وقد يجعلونه مما لا يحتاج إلى تدوين؛ لكونه قد استقر في النفوس وثبت
فيها، وإن وجد كتاباتٍ يسيرةً أشارت أو قعَّدت لاختيار بعض المعاني لتكون مقاصد
للشرع المطهر.
استمر الحال على ذلك، ولم توجد مؤلفاتٍ في هذا العلم، حتى وُجِدَ القرن الثامن.
أين نبحث عن مقاصد الشريعة في كتب المتقدمين؟ وكيف نصل إلى معرفة مقاصد الشريعة في
تلك الكتب؟
عندنا عِلمان: علم الفقه، وعلم الأصول، وعندنا أيضًا علم التفسير، وعلم شرح الحديث،
في التفسير نجد عددًا من المعاني الكلية التي نَصَّ عليها الشرع، وهي مقاصد
للشريعة، وكذلك أيضًا في مباحث الفقه نجد أنهم يعللون بمعانٍ كليةٍ، تكون من مقاصد
الشريعة، وهناك في كتب الأصول، نجد أنهم يشيرون إلى هذا المبحث في عددٍ من المسائل
الأصولية.
المسألة الأولى فيما يتعلق بمسالك العلة، وطرائق تثبيت العلة، والأدلة التي يثبت
بها كون الوصف علةً، فإن هذا المبحث يجعل الإنسان يتوصل إلى المقاصد الشرعية
الواردة في الكتاب والسنة؛ لأنه قد أخذ دُربةً على معرفة كيف يكون الوصف علةً. إذن
هذا مبحثٌ.
كذلك من مباحث معرفة قواعد المقاصد، مباحث المناسبة، سواءً المناسبة المنصوصة، أو
المناسبة المستنبطة، فإنَّ مبحث المناسبة فيه تقريراتٌ وتقعيداتٌ متعلقةٌ بمقاصد
الشريعة.
وأيضًا من مواطن بحث مسائل مقاصد الشريعة، عند الكلام عن المصالح، ودليل المصالح
المرسلة، فإنَّ فيه إشارةً إلى العديد من المقاصد الكلية التي قصدها الشارع،
وبالتالي تكون طريقًا موصلًا لمعرفة هذه المقاصد.
هناك أيضًا مباحث سَدِّ الذرائع، وفيه إشارةٌ إلى أشياءٍ من مقاصد الشريعة، وكذلك
أيضًا في مباحث الحُكم، هناك ما يتعلق بالتحسين والتقبيح العقلي، وهناك ما يتعلق
بتحقيق المصالح بوجود الواجبات، والمندوبات، وفي بعض الأوقات في المباحات.
فإذن هناك مباحث متعددةٌ في أصول الفقه، يمكن لنا استخراج المقاصد منها.
{هل دوِّن هذا العلم حاليًا في الكتاب الخاص كفنٍّ، في غير هذه الكتب، يمكن الرجوع
إليها؟}.
نعم، بعد زوال عصور الأئمة الأوائل، الذين وُجِدَ في كتبهم الإشارات إلى المقاصد،
حاول بعض الناس أن يكتب كتاباتٍ مُستقلةً متعلقةً بتحقيق المقاصد، ومن أشهر هؤلاء:
الإمام العز بن عبد السلام، في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، حيث إنَّه
قد أشار فيه إلى كثيرٍ مِن المقاصد الشرعية، وبيَّن أحكامها؛ لأن هذا نموذجٌ
للتأليف.
من النماذج أيضًا للتأليف، ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ ابن القيم
-رحمهما الله تعالى، فقد أشار في عددٍ من الكتب، بل خُصِّصت بعض الكتب والمؤلفات
والرسائل التي كتبوها للبحث في موضوع المقاصد، وتقرير بعض المعاني الكلية، التي
راعاها الشرع عند تشريع الأحكام.
ومن المعلوم أن هذين الشيخين -ابن تيمية وابن القيم- لهما اجتهاداتٌ فقهيةٌ كثيرةٌ،
قد تخالف حتى مذهب إمامهم، ومذهب عددٍ من الأئمة -رحمهم الله تعالى، ولذلك فإن
تقرير هذه الأحكام مراعاةً للمقاصد، يجعل الإنسان يحتاط، ويتأكد أن ما وصل إليه من
الأحكام في محله.
يعني مثلًا: المُطَالِع لإعلام الموقعين، يجد هذا جليًا، المطالع لعددٍ من الرسائل
التي كتبها شيخ الإسلام ابن تيمية، يجدها تشير إلى هذا المعنى، بل تنص عليه، وتتوسع
في بحثه.
الجزء الثالث: مَا فَعله العلامة أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله تعالى، وهذا الفقيه
من فقهاء علماء المالكية، من أهل القرن الثامن، وقد ألَّفَ كتابًا أسماه:
"الموافقات"، حيث بَحَثَ في المجلد الأول: الحُكم، وفي الثاني: مَبَاحث المقاصد،
وفي الثالث: قواعد الاستنباط، والتعارض والترجيح، وأحكام الاجتهاد، والتقليد.
وبين مَبْحَث الأحكام، ومبحث الأدلة وضع بحثًا كبيرًا استوعب المجلد الثاني على
الطبعة القديمة في الكلام عَن مَقاصد الشريعة، وبيَّن أنواعها وأحكامها، ووضح طريقة
تحقيق النظر المقاصدي، وكيفية استثمار النظر المقاصدي في تنزيل الأحكام الشرعية على
الواقع، ولذلك كان هو أهم مَن كَتَب في المقاصد، وهو الذي لازالت كتاباته عمدةً في
هذا الباب.
وفي عصرنا الحاضر، وُجد اهتمامٌ بعلم المقاصد، حيث وجدت كتاباتٍ متعددةً في هذا
العلم، وقد أُخذ بعضها برسائل علميةٍ، والناظر إلى الجهود المعاصرة في باب المقاصد
يجد أنَّ لها أنواعًا:
فهناك مَن سعى إلى تحقيق كتب المقاصد، وهناك من قام بترتيبها وتهيئتها وتهذيبها
وتكميلها، وهناك من قام باستخراج أحكامٍ فقهيةٍ بناءً على النظر في المقاصد، وهناك
كذلك من حاول أن يضع رسائل علميةً في أحد هذه المقاصد.
إذن هناك تحقيقٌ وتأليفٌ، ودراسةٌ جزئيةٌ من أجزاء المقاصد، وجعلها صلب دراسة
الإنسان ومعرفته.
وكذلك هناك من اعتنى ببيان المقاصد من أجل حفظ هذه الشريعة، ومن أجل عدم حصول
التغيير والتبديل فيها.
وكذلك من فوائد معرفة مقاصد الشريعة: معرفة موافقة الأحكام بعضها لبعض، والقدرة على
قياس المسائل الجديدة النازلة على المسائل الفقهية المنصوصة التي يقررها أهل العلم.
يحضرني واقعةٌ وقعت لبعض أصحاب الولاية، أنَّه جَامَعَ في نهار رمضان، فجمع
الفقهاء، فقال كبيرهم في جواب سؤاله: "يجب عليك أن تصوم شهرين متتابعين".
ولما خرجوا، أي: الفقهاء قالوا لكبيرهم: "رحمك الله إنما يجب عليه عتق رقبةٍ، فإذا
لم يجد انتقل إلى الصيام".
قال: "الإماء عنده كثيرٌ، لو قررنا له هذا الحكم، لأعتق كل يومٍ وجَامَع في ذلك
اليوم". لكنَّه -أي: كبير الفقهاء- لم يلتفت إلى الخطاب بالتأثيم، وأنه يَلحقه إثمٌ
وحرج بسبب إقدامه على هذا الفعل. ولم يَلحظ -كذلك- أنَّه قد يكون مع تقليب هذا
الوالي النظر لا يعود إلى أولئك العلماء مرةً أخرى، ولا يثق فيما يُصدرونه من فتاوى
قد تكون مناقضةً لمقصود الشارع؛ ولذلك كان من أعظم فوائد مقاصد الشَّارع، تعرية
الفتاوى الشاذة، التي تخالف المعاني الشرعية. ومن هذا المعنى أمر الله -عزَّ وجلَّ-
بالرجوع إلى فقهاء الشريعة، الذين يعرفون مقاصدها، فيتمكنون من استيعاب الأحكام
بناءً على معرفتهم بالمقاصد، فإنَّ استيعاب الأحكام الفقهية واحدًا واحدًا، لا يعجز
عنه الناس، لكن إذا أحاط بقواعدها ومقاصدها، فإنَّ هذا يؤدي إلى كون الإنسان على
ثقةٍ مما يُصدره من فتاوى ونحو ذلك.
ومن الأمور التي ينبغي أن تُعرف هي أن المقاصد تعين الإنسان على معرفة الحكم
الشرعي، لكن لا ينبغي بالمتوسط، فضلًا عن المبتدئ أن يجتهد في استخراج مقاصد، ثم
بعد ذلك يبني عليها أحكامًا؛ لأن اجتهاده قد يكون خاطئًا.
ومن الأمور التي تتعلق بهذا، أن العبد متى عرف مقاصد الشَّارع، أَمَن في اجتهاداته
-بإذن الله عزَّ وجلَّ- من أن يكون هناك تناقضٌ أو تضادٌ في هذه الاجتهادات.
والفقهاء بالنسبة للنظر في المقاصد، يمكن للإنسان أن يقسمهم إلى ثلاثة أقسامٍ:
القسم الأول: من يعرف الجزئيات ويدركها، لكنه لا يعرف الكليات والمقاصد، فمثل هذا
في الغالب أهل تقليدٍ، وليسوا بأهل اجتهادٍ.
القسم الثاني: أن يحيط الإنسان بالأمرين معًا، المقاصد والجزئيات، فما تأتيه من
مسألةٍ، إلا ويربطها بمقاصدها، ويعرف أحكام جزئياتها، فهذا أعلى من الدرجة الأولى،
وقد وقع اختلافٌ في تقرير حكم اجتهاده، والجمهور على أنه يصح له أن يفتي، ويجوز أن
يُسأل.
القسم الثالث: من العلماء من تناسى الجزئيات والفروع، واستقرت في ذهنه الكليات مع
الأدلة، ففي هذه الحال، يكون الإنسان قد وصل إلى الدرجة العليا في باب الاجتهاد،
ومن ثمَّ يتمكن من الحكم على مثل هذه المسائل.
إذن نعرف شيئًا من مقاصد الشريعة ومميزاتها، ومن فوائدها أيضًا: القدرة على تحقيق
مناط الأحكام؛ لأن الأحكام لها أوصافٌ تثبت الحكم بها.
كيف نعرف هذه الأوصاف التي هي مناط الحكم؟
بطرقٍ، منها معرفة مقاصد الشريعة.
علم المقاصد، هو علمٌ ضروريٌّ بالنسبة لأهل الاجتهاد والفتوى، ولا يتمكن الإنسان من
استخراج فتوى صحيحةٍ، إلا بمعرفة هذا العلم، ولذلك كان تعلم علم المقاصد بالنسبة
للفقهاء المجتهدين، هو من فروض الأعيان، وأمَّا بالنسبة لغيرهم، كالعامة والمبتدئين
في الدراسة، فهؤلاء لا يحتاجون إلى معرفة المقصد، إلا من أجل تثبيت الإيمان في
قلوبهم، ودفعهم وحثهم على امتثال الأمر، فلو وجد هذا المعنى عند من لم يأت إلى
الفقهاء، فإنَّه يكون قد حقق المقصد الشرعي، وبالتالي القسم الثاني -وهم العامة- لا
يتعين عليهم معرفة مقاصد الشريعة، بل يكون من أبواب المستحبات، التي يستحب للإنسان
أن يدركها.
أَسأَلَ الله -جلَّ وعلَا- أن يوفقنا وإياكم إلى خيري الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا
وإيَّاكم هُداةً مهتدين، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يرزقنا جميعًا نحن ومن يشاهدنا
العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله
وصحبه أجمعين.