الدرس الرابع

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

10724 11
الدرس الرابع

مقاصد الشريعة

الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد.. فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في برنامج البناء العلمي في الأكاديمية الإسلامية نتدارس فيه مقصدًا من مقاصد الشريعة، ألا وهو مقصد التخفيف والتيسير.
هذه الشريعة المباركة جاءت بالتخفيف على الناس، وتسهيل الأحكام عليهم، مع مراعاة المقاصد السابقة من مقصد العبودية، ومقصد تحقيق المصالح.
ويلاحظ أنَّ التخفيف الذي وردت به الشريعة على نوعين:
- تخفيفٌ يشتمل على جميع أحكامها، فكل أحكام الشريعة من هذا الجانب، سهلةٌ يسيرةٌ، قال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185].
فدلَّ هذا على أنَّ أحكام الشريعة كلها سهلةٌ، يسيرةٌ، ويدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ».
فهذه قاعدةٌ من قواعد الشريعة، أن الشريعة قد جاءت بالأحكام السهلة الميسرة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]، فكما أنه ميسرٌ في تذكره وذكره، هو ميسرٌ في العمل به وتطبيقه.
- والنوع الثاني من أنواع التيسير الذي جاءت به الشريعة: التيسير على المكلف بمراعاة ما ينوبه من الظروف، والأقدار التي تصيبه.
وحينئذٍ يخفف الشرع عن المكلف بأن يجعل الواجب على غيره، ليس واجبًا عليه، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» .
ومثله أيضًا في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: 101].
وفي الآية التي بعدها في تقرير أحكام صلاة الخوف أيضًا، مثالٌ آخر.
وهذا التخفيف الطارئ، الأول يقال له التخفيف الأصلي، والثاني يقال له التخفيف الطارئ.
هذا التخفيف الطارئ على أنواعٍ متعددةٍ:
- فيه مرات قد يكون التخفيف بالإسقاط، إسقاط ما كان واجبًا على غيره، ومن أمثلة ذلك، المرأة الحائض يسقط عنها واجب الصلاة، والمجنون يسقط عنه وجوب الصلاة والصوم والحج.
ومثله أيضًا من عجز عن الحج سقط عنه وجوب الحج.
- ومن أنواع التيسير الطارئ: التقليل من العبادة، ومن أمثلة ذلك المسافر لا تجب عليه الصلاة أربعًا وإنما خفف في حقه فجاز له أن يقصر الصلاة.
- وكذلك من أنواع التخفيف الطارئ، التقديم والتأخير، ومن أمثلة التأخير قضاء صوم رمضان للمريض والمسافر، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184].
وكذلك أيضًا في مرات التقديم، كما في تقديم المسافر للصلاة المجموعة إذا صلاها في أول الوقت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينتقل في سفره قبل الزوال، أخَّر الظهر مع العصر، وإذا بقي إلى الزوال قدم العصر مع الظهر، فهذا تخفيفٌ في التقديم.
وهكذا أيضًا قد يكون التخفيف عن المكلف بكون ذلك الواجب إنما يلزم بدله، ومن أمثلة ذلك: من عجز عن الرقبة في الكفارات، انتقل إلى الصيام لشهرين متتابعين في كفارة القتل وكفارة الظهار، وانتقل إلى الإطعام أو الكسوة في كفارة اليمين، فهذا تخفيف إبدالٍ.
وكذلك تخفيفٌ متعلقٌ بوجود التخيير على المكلف، بحيث يُخير المكلف بين عددٍ من الواجبات، كما في عدد الكفارات التي فيها تخفيفٌ، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]، فخُير بين هذه الأمور الثلاثة، فهذا تخفيفٌ على المكلف.
وكما في كفارة أو فدية الجزاء في الصيد، بالنسبة للمحرم، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ [المائدة: 95]، فهنا تخيير المكلف بين هذه الخصال.
وحينئذٍ ينبغي أن ننتبه إلى أننا إذا قررنا أن الشريعة قصدت التيسير على العباد، فلابد أن نلاحظ أن هذا التيسر باعتبار حقيقة الأمر، لأنه في مراتٍ قد ينخدع بعد الناس ويظن أن أحد الأقوال يكون التيسير، وهو التسهيل على المكلفين، ويكون بضد ذلك، كما في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ [الحجرات: 7]، أي: للحقتكم المشقة، العنت هو المشقة.
فكونهم يظنون أن بعض الأمور هو الأفضل لهم والأسهل لهم والأيسر لهم، لكن يكون الأمر بضد ذلك.
كما قررنا في جانب المصالح، لأن بعض الناس قد يظن أن بعض الأفعال مصلحةٌ، ولا يكون مصلحةً، ولعلي أضرب أمثلةً قد يظن بعض الناس أن في أحد الأقوال فيها التسهيل والتيسير ويكون الأمر بضد ذلك.
المسألة الأولى: في إيجاب الحج على المرأة التي لا تجد محرمًا، فإن العلماء قد اختلفوا في هذا على قولين:
قال أحمد وأبو حنيفة: لا يجوز للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرمٍ ولو إلى الحج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» ، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فالقول الثاني في المسألة أنَّ المرأة التي لا تجد محرمًا، إذا وجدت رفقةً مأمونةً، وعند بعضهم إذا وجدت امرأةً ثقةً تُسافر معها جاز لها السفر.
وإذا نظرنا إلى هذين القولين: قد يظن بعض الناس أنَّ التيسير هو في القول الثاني؛ لأنه تيسيرٌ لها وتمكينٌ لها من الذهاب إلى مكة وأداء الفريضة، ولكن الحقيقة أنَّ التيسير والتسهيل هو في القول الأول؛ لأن أصحاب ذلك القول يُسقطون عنها الوجوب، فيقولون: لا يجب عليها الحج ما دامت لا تجد المحرم الذي تُسافر معه، وبالتالي يُسقطون الوجوب عنها، ويعذرونها في ذلك، بخلاف أصحاب القول الآخر الذين يقولون: تسافر مع الرفقة المأمونة أو مع النساء الثقات، فإنهم لا يعذرونها.
ثُمَّ أصحاب القول الأول الذين قالوا بعدم وجوب الحج عليها قالوا: يكتب لها أجر الحج تامًّا، لماذا؟ لأنها إنما امتنعت عن الحج بسببٍ شرعيٍّ، فكتب لها الأجر كاملًا كما هي قاعدة الشريعة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحً» ، وفي الحديث الآخر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من تبوك قال لأصحابه: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» .
وفي رواية: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» ، فمن حبسه العذر فإنه يكتب له أجر العمل كاملًا، متى كان قاصدًا لأداء العمل.
فهذه المرأة التي لا تجد المحرم يكتب لها أجر الحج كاملًا، فيكون التسهيل والتيسير هو فيما يظنه الناس بضد ذلك.
ومثل هذا في مسألةٍ مشهورةٍ، ألا وهي مسألة تارك الصلاة، ما حكمه؟
قال الجمهور: يبقى على إسلامه، وقال أحمد: نحكم بكفره.
لو كان الإنسان عنده نظرٌ مجردٌ قد يقول إنَّ قول الجمهور أسهل، وأيسر على النَّاس، وأخف في العقوبة، لكن إذا تأملت في حقائق الأمور وجدت أنَّ القول الآخر هو الأيسر، وهو الأسهل؛ وذلك لأنَّ أصحاب هذا القول يقولون: إذا ترك الإنسان الصلاة مدةً طويلةً لم يجب عليه قضاؤها. على سبيل المثال: عندنا شخصٌ ترك الصلاة أربع سنين أو خمس سنين، جاءه الشيطان وأزاغه ومنعه من أداء الصلاة فأكرمه الله -عزَّ وجلَّ- بعد ذلك بالهداية، وعاد إلى الصَّلاة، فهل يُطالب بقضاء ما مضى؟.
إن قلنا بمذهب أحمد أي: بكفره، لم يجب عليه قضاء تلك الصلوات التي فاتته في هذه السنوات الأربع، وأمَّا على مذهب الجمهور فإنَّه يَلزمه القضاء ولو طالت المدة.
فانظر -أيضًا- إلى هذا الشخص الذي ترك الصلاة، قد يكون في هذه المدة ترك الصيام أيضًا، فعلى مذهب الجمهور يَلزمه قضاء هذا الصيام، وعلى مذهب أحمد فلا يلزمه قضاء الصيام الذي فاته.
وإن كانوا يُرغبونه في الإتيان بنوافل الصلاة ونوافل الصيام من أجل أن يتدارك ما فاته من الأجور.
فالمقصود أنَّ النظر العقلي المجرد لا يُعول عليه في الحكم، وعلى كون المسألة من مسائل التسهيل والتيسير، وإنما يُلتفت إلى الحكم الشرعي، فما أثبته الشرع وورد فيه الدليل فحينئذٍ نجزم بأنه هو حكم الله -عزَّ وجلَّ- وهو الأسهل والأيسر.
إذا تقرر هذا نقول: هل يصح لنا أن نجعل التيسير سببًا من أسباب ترجيح أحد القولين على الآخر؟
قال الجمهور: لا يصح ذلك؛ وذلك لأنَّ المعول عليه هو صحة الدليل، فالقول الراجح هو السهل اليسير ولو ظننا أنَّه بضد ذلك؛ ولذلك نجد كثيرًا من الناس في عددٍ من المسائل يظن أن قولًا هو الأيسر والأسهل، ويكون الأمر بخلاف ذلك.
ومن هذا المنطلق فكون الإنسان يختار ما رجحه الدليل فحينئذٍ يكون قد اختار ما هو الأيسر والأسهل على العباد.
قد يقول قائلٌ: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمً» .
فقد يقول قائلٌ: كيف يكون الشيء إثمًا، ويكون أيسر الأمور؟ "ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا"، إذا وجد أنه إثمٌ تبين له أن ذلك القول الذي هو الإثم ليس هو الأيسر والأسهل، بل يكون الأيسر والأسهل هو الذي يقابله مما يسلم من الإثم.
إذا تقرر هذا فإن التخفيف والتيسير الذي يبنى على أسباب، هذا له أسبابٌ متعددةٌ، مثلًا:
* السفر من أسباب التخفيف، يخفف فيه في قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر من الصوم، وترك الجمعة، والمسح على الخفين ثلاثة أيامٍ بلياليهن.
قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184].
والسفر الذي يعلق به الحكم للعلماء في ضابطه أقوالٌ متعددةٌ، منهم من جعله أربعين كيلو، ومنهم من جعله ثمانين، ومنهم من جعله مائةً وعشرين، ومنهم من ربطه بالعرف، ومنهم بالوقت إذا سافر يومًا وليلةً.
وكل واحدٍ من هذه الأقوال له دليله، والترجيح بين هذه الأقوال يعلم في مسائل أو كتب الفقه.
وحكم السفر إنما يثبت بمفارقة الإنسان للبلدان، ما دام لم يفارق بلده فإنه لا يعد مسافرًا، لأن اسم السفر مأخوذٌ من الإسفار وهو الوضوح والبيان، ولا يتضح الإنسان إلا عند مغادرته لعمران بلده.
* السبب الثاني من أسباب التخفيف: المرض، فإن المريض خَفف عنه الشارع عددًا من الأحكام، وسهَّل عليه من مثل: جواز الصلاة جالسًا، وعلى جنبٍ، ومن مثله فطر شهر رمضان، ومن مثل سقوط الجمعة والجماعة، ومن مثل الانتقال من الوضوء إلى التيمم، ونحو ذلك، وكذلك فيما يتعلق بعدم تعين الصوم عليه على جهة الأداء، وإنما قد يتعلق الوجوب بذمته.
فهذه أحكامٌ شرعيةٌ خَفف فيها الشرع بسبب المرض، عذر المرض.
متى يكون المرض عذرًا يرخص بسببه؟
في ثلاثة أحوالٍ:
الحال الأول: إذا كان المرض يزيد بفعل العبادة، حينئذٍ يخفف عن المكلف.
الحال الثاني: إذا كان فعل العبادة يؤخر الشفاء، كما لو كان يمنعه من تناول الدواء، أو نحو ذلك، فحينئذٍ يجوز له ترك هذه العبادة.
الحال الثالثة: إذا كان فعل العبادة يؤدي إلى جعل الإنسان يتألم، فحينئذٍ نقول: إذا كان ألمًا فيه مشقةٌ خارجةٌ عن المعتاد فإنَّه يرخص على المكلف فيها.
* كذلك من أسباب التخفيف النسيان، فإنَّ الناسي لا يؤاخذ حال نسيانه، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» .
* وهكذا من أسباب التخفيف الإكراه، فمن أكره على شيءٍ فحينئذٍ لا يلحقه مأثمٌ، قال جلَّ وعلَا: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْر﴾ [النحل: 106].
والنوع الثالث من أنواع الأمراض التي تخفف الأحكام بسببها إذا كان المرض يؤلم الإنسان ويحس به في جسده ففي هذه الحال يجوز له الترخص برخص المرض، ومن أمثلة ذلك: ما لو كان في الإنسان قرحةٌ، وكان يتألم، متى خلت المعدة من الطعام، فنبيح في هذه الحال تناول الطعام.
ومن أسباب التخفيف النقص، فإذا كان عند الإنسان نقصٌ، فإنه حينئذٍ يخفف عنه، فالعاجز عن القيام يصلي قاعدًا.
* والنوع الخامس: النقص، فمن نقص في شيءٍ مما آتاه الله العباد، فإنه يخفف عنه في الواجبات بقدر ذلك، ولذلك يسقط عن المُقْعَد من الواجبات ما لا يَسقط عن السليم المعافى.
وهكذا هناك أمورٌ أخرى من أسباب التخفيف كالعسر ونحو ذلك، فهذه أسبابٌ للتخفيف.
وأيضًا من أسباب التخفيف -ما ذكرناه قبل قليلٍ- وهو الإكراه، متى يكون الإكراه سببًا للتخفيف؟
الإكراه إمَّا أن يكون على مُقتضى الأمر الشرعي، وإمَّا أن يكون على خلافه، فإذا توافق الإكراه والأمر الشرعي، فحينئذٍ يلزم المكلف فعله للأمرين، أي: للأمر الشرعي ولمقتضى الإكراه.
مثال: جاءه وقال له صلِّ وإلا ضربتك، فحينئذٍ يُصلي لا إشكال، ولكن هل تصح صلاته؟
قال الجمهور: تصح صلاته مَتى نَوى أنها لله، وقال بعض المعتزلة: لا تصح؛ لأنه إنما صلى للسيف أو خوفًا من الضرب.
لعل القول الأول أرجح متى صحت نيته، فإنَّ من فسدت نيته ولو لم يكن عنده مَن يُكرِهُه، لم تصح صلاته، ومن صلى رياءً وسمعةً، أو من صلى لغير الله؛ فحينئذٍ لا تصح هذه الصلاة، هكذا هنا.
أمَّا إذا كان الإكراه على خلاف مقتضى الشرع، ففي هذه الحال نقول: لا يُستباح المحظور أو لا يترك مقتضى أمر الشارع للإكراه إلا بشروطٍ معينةٍ.
مِن هذه الشروط: ألا يكون مقتضى أو موجب الإكراه أخف من أثر الإكراه، قال: خذ أموال هؤلاء وإلا ضربتك بيدي، هذا إكراهٌ لكن الضرب باليد خفيفٌ، ومن ثم لا يجوز له أن يفعل ذلك، ويترك الإكراه في هذه الحال.
من الشروط كذلك المتعلقة بهذا الباب: ألا يكون لمقتضى الإكراه أثرٌ أسوأ من فعل ما أُمر بتركه، فإذا جاءه وقال له: اقتل عشرةً وإلا قتلناك، قلنا: لا يجوز لك أن تقتل العشرة، حتى ولو أدى ذلك إلى حتفك.
وبالتالي نعلم أنَّ الإكراه لا يقتضي التخفيف مُطلقًا، وإنما له شروطٌ معينةٌ معتبرةٌ.
هكذا في باب النسيان، وأنبه هنا إلى مسألةٍ في باب النسيان، ألا وهي من نسي الواجب أو الشرط لزمه إعادته، مثل:
صلى بدون وضوءٍ فلما فرغ من الصلاة تذكر أنَّه على غير وضوءٍ، إذن يعيد الصلاة.
إذن هنا الترك بسبب النسيان، ومع ذلك أُمر بالقضاء.
متى يكون النسيان مُسقطًا؟
نقول: إذا كان النسيان في المبطلات والمناهي يسقط فيه الإثم والحرج، ولا يلزم الإنسان التبعة، بخلاف ما إذا كان النسيان في المثبتات من الأحكام والشروط والأركان، ففي هذه الحال نقول: لا يصح العمل به.
مثال ذلك: صلى ونسي الركوع، لا تصح صلاته؛ لأن الركوع في هذه الحال ركنٌ، والأركان لا يُعفى عند وجود النسيان فيها بما يخل بها.
إذن هذا ما يتعلق بأسباب التخفيف.
{أمَّا النسيان في رمضان، إنسانٌ نسي في رمضان فأتى أهله، أو نسي فأكل وشرب}.
ماذا تقولون؟ هل يخرج عن القاعدة؟
قلنا: إذا كان النسيان في ركنٍ أو شرطٍ، فحينئذٍ لا يصح الفعل مع وجود هذا النسيان، ويطالب بالقضاء، مثل: صلى بدون وضوءٍ ناسيًا، يعيد أم لا يعيد؟
يعيد، لكن لو قُدِّرَ أنه فعل منهيًا عنه في أثناء الصلاة، فهل تبطل الصلاة بالكلام؟
لو تكلم ناسيًا لا تبطل الصلاة بذلك، لماذا؟
لأن هذا الجانب المانع في المبطلات.
هكذا في مسألة الأكل والشرب في نهار رمضان، من أكل أو شرب في نهار رمضان فليُتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه، كما ورد في الخبر ، لماذا؟
لأن الطعام هنا مبطل، فلم يؤثر النسيان فيه، وهذا قول الجمهور، خلافًا لمذهب الإمام مالك، فالمالكية يقولون: من أكل أو شرب ناسيًا بطل صومه، وعند كثيرٍ منهم يجب عليه أن يصوم شهرين متتابعيْن، أي: عليه الكفارة المغلظة، هذا مذهب كثيرٍ من المالكية.
{الطلاق بالإكراه}.
نعم، إذا أُكره على الطلاق، tهذا الإكراه على نوعين، انظر للشروط السابقة.
لو جاءه وقال له: "طلِّق وإلا رفعت صوتي عليك"، هذا إكراهٌ، ولكن نقول: مقتضى الإكراه أعظم من أثره، وبالتالي نقول له: لا تطلق؛ لأنه لو طلق لوقع طلاقه، بخلاف ما لو هُدد بالقتل من شخصٍ يَغلب على ظنه أنَّه يفعل ما هَدد به، وأنه قادرٌ على ذلك، فحينئذٍ نقول: هنا إكراهٌ معتبرٌ، وبالتالي لا يقع الطلاق به على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» .
{ذكرتم هناك التخفيفات والتسهيلات التي أتت بها الشريعة، ماذا يُقال عن الذي يبتعد عن التسهيلات والتخفيفات إطلاقًا، ويعتقد أنه بذلك أخذ الاحتياط في دينه}.
نقول: هناك بعض الناس يظن أنَّ الأفضل في الدين هو التشديد على النفس، وترك التيسير، فنقول: هذا ليس مقصدًا من مقاصد الشارع، فالشارع لم يقصد الإعنات على المكلفين، ولا إلحاق المشقة بهم، ويدل على هذا النصوص السابقة، التي دلت على هذا المقصد، أي: مقصد التيسير، وبالتالي هذا فهمٌ خاطئٌ.
وقد يقول قائلٌ: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أجركِ عَلَى قَدْر نَصَبك» ، يعني: على قدر تعبكِ، فنقول: هنا المشقة أو التعب ليس مقصودًا لذاته، لم يقصده المكلف، وإنما وقع في طريق العبادة، على جهة التبع، فبالتالي هنا لم يقصد الشارع الإعنات ولا المشقة، ومن ثمَّ أولئك الذين يقصدون الإشقاق على أنفسهم، قد خالفوا الهدي النبوي في ذلك؛ ولذلك أَمَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عمرو، لما كان يصوم النَّهار ويقوم الليل، بأن يخفف، وقال له: «فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّ» ، وفي الحديث الآخر، الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّو» ، ومن ثمَّ يتذكر الإنسان هذه الوقائع والحوادث، ويعلم أن التيسير هو المقصود للشارع، وأمَّا التعب والنَّصب، فليس مقصودًا له.
مثال ذلك: هل حج النبي صلى الله عليه وسلم على قدميه؟
لا، بل حج على راحلته، وهي أسهل المركوبات في ذلك الزمان، فاختار في الوسيلة الأسهل والأيسر، وأمَّا في الحكم الشرعي فيعمله، وهو يعتقد أنَّ هذا هو الحكم الشرعي، وهو الذي يحصل به التيسير والتخفيف على المكلفين.
إذن تذكرون الحديث الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، فوجد حبلًا، فقال: نْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ

« مَا هَذَا الْحَبْلُ؟»، قالوا: فلانة، إذا تعبت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حُلُّوهُ» فكوا الحبل «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ» وفي حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ يَنْعَسُ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ» . وهذا يدل على أن التيسير مقصودٌ للشارع.
وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا لذلك بالمُنبتِّ، وهو الذي يسير ويسرع في مشيه، قال: «فإِنَّ الْمُنبَتَّ لا أرضًا قطعَ، ولَا ظهْرًا أبْقَى» ، كلما ركب على دابةٍ هزلت وطاحت وسقطت من التعب، وفي الأخير لا يصل إلى نهاية طريقه، بخلاف مَنْ تَأَنى في سيره، فإنَّه بهداوة نفسه وطمأنينتها يصل إلى مُراده.
حينئذٍ نعلم أنَّ المشقة ليست مقصودةً للشَّارع، وأنَّ التَّعب والإنعات ليس مقصودًا للشارع، لكن لو قُدر وقوعه في طريق العبادة، فحينئذٍ يعظم أجر الإنسان به، ويكثر ثوابه.
وَرَدَ أنَّ بَني سَلَمَة أرادوا أن ينتقلوا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم حول المسجد، من أجل أن يكون هذا أسهل في تنقلاتهم، فأمرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في أمكنتهم ، فقال بعض الناس:إن هذا من توجيههم إلى ما فيه مشقةٌ وتعبٌ، وهذا خطأٌ، إنما وجههم لمعنًى آخر، وهو أنه خشي أن تعروا المدينة، بحيث تكون في إحدى جهاتها ليس فيها من يدفع العدو، فيتمكن العدو من دخولها.
ودَلَّ هذا على أنَّ التَّعب ليس مقصودًا لذاته، وعلى أنَّ المشقة الحاصلة ليست مقصودةً، ولا مرادةً في هذا الباب.
هذه القاعدة المقاصدية ترتب عليها عددٌ من التطبيقات الفقهية المنتشرة في أبواب الفقه، وهناك تطبيقاتٌ قواعديةٌ لهذا المقصد، فمن تلك القواعد:
قاعدة: لا واجب مع العجز، فمن عجز عن شيءٍ، فإنه يسقط وجوبه عنه، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]، ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 233]، ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 233]، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَ﴾ [الطلاق: 7]، وهناك نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدل على هذا المعنى، ومنها الأحاديث السابقة «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» .
كذلك من القواعد المقاصدية المتعلقة بهذه القاعدة: قاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع، فالشريعة فيها أنه إذا تضيقت الأمور على المكلف، فإن الأحكام الشرعية توسع له.
ومن أمثلة هذا: أن امرأةً خرجت في الحج مع زوجها، فمات زوجها في الطريق، نقول: لا تكمل الحج، ضاق الأمر بوفاة زوجها، فيتسع الحكم الشرعي، ولا نطالبها بإيجاد المحرم في هذه الحال.
كذلك من القواعد المتعلقة بهذه القاعدة: قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، فالضرورة التي فيها شدةٌ على المكلف، تكون سببًا من أسباب التخفيف والتسهيل، ويدل على هذه القاعدة عددٌ من النصوص، منها قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: 119].
ومن ذلك أيضًا في النصوص: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: 115]، الآية الثانية: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 3]، فيه نصوصٌ كثيرةٌ، كلها تدل على أنَّ الضرورات تبيح المحظورات.
وينبغي لكم أن تفرقوا بين الضرورات والضروريات، كيف؟
الضرورات مشقةٌ وضررٌ على المكلف، تقتضي التخفيف، أمَّا الضروريات فمعنًى كليٌّ قصده الشارع، تتحقق به المصالح الكلية، مثل: حفظ الدين، حفظ المال، هذه ضرورياتٌ، أمَّا ما هو ضرورةٌ مثل: ما لو خشي على نفسه من الهلاك، فحينئذٍ هذا ضررٌ عليه، وبالتالي نقول: الضرورات تبيح المحظورات.
وهذه القاعدة، الضرورات تبيح المحظورات لها شروطٌ، ومن شروطها: أن تكون الضرورة حقيقةً لا متوهمةً، فإن كانت مجرد ظنونٍ، لا قيمة لها.
ومن شروط هذه القاعدة كذلك: أن يكون المحظور أقل من الضرورة، ما لو كان المحظور أكثر، فحينئذٍ لا تُستباح المحظورات بالضرورات.
ومن ذلك أيضًا أن تكون هذه الضرورة لا يمكن دفعها بطريقٍ آخر.
إذن هذه قاعدةٌ مهمةٌ، لابد من الالتفات إلى شروطها، حيث إنَّ بعض الناس يأتي إلى هذا اللفظ العام، فيطبقه بدون مراعاة شروطه، وبالتالي لا يقرر الحكم الشرعي.
وتلاحظون في هذا الباب الفرق بين الضرورة والحاجة:
الضرورة يُراد بها على الصحيح ما يَلحق بفقده ضررٌ، ولا يقوم غيره مقامه، وبينما الحاجة هي ما يلحق بفقدها ضررٌ، لكنه قد يوجد أشياء تقوم مقامها.
وفي هذا الباب أذكركم بالتفريق بين بابي الغذاء والدواء، فباب الغذاء يُستحل حال الضرورة كما تقدم، بخلاف باب الدواء، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» ، فمن جاءنا يريد تناول دواء، يَرد الجسم من حالة الاعتلال، إلى حالة الاعتياد، فنقول: هذا علاجٌ، وبالتالي لا يجوز استباحة المحظور فيه.
ويبقى هناك مسائل مترددةٌ، مثال ذلك: في حقن الدم، يأتيك من يقول: هو دواءٌ، وبالتالي لا يجوز، ومنهم من يقول: هذا غذاءٌ يتغذى به البدن، ومن أمثلة ذلك: الأجهزة، أو الأدوات التعويضية التي تكون في البدن، مثل: بعض الناس يؤخذ له صماماتٌ من خنزيرٍ، وتوضع في قلبه، فنقول:
لو كان استخدام هذه الصمامات من باب الدواء، فلا يجوز؛ لتحريمها ونجاستها، ولو كان استخدامها من باب الغذاء، فهو جائز.
كما تقدم فالدواء قد نقل الجسم من حالة الاعتلال إلى حالة الاعتياد، وبالتالي تأثيره مؤقتٌ، بخلاف الغذاء، ولذلك الذي يظهر أنَّ هذه الصمامات من باب الغذاء، وليست من باب الدواء.
رتب على هذه القاعدة -قاعدة الضرورات تبيح المحظورات- عددٌ من القواعد، مثل:
قاعدة الضرورة تقدر بقدرها، فإنَّ مَن استباح محظورًا بسبب الضرورة، فلا يجوز له أن يتناول من المحظور، إلا بقدر ما تندفع به الضرورة.
جائعٌ يخشى على نفسه من الهلاك؛ لأنه في مسغبةٍ، فوجد ميتةً، نقول: يأكل منها، لكن لا يزيد عن مقدار حاجته.
هناك قاعدةٌ رتبها بعض الحنفية، يقولون: الاضطرار لا يبطل حق الغير، بعض أهل العلم قال: إلا إذا كان ناشئًا عنه، يعني: الاضطرار لا يبطل حق الغير الناشئ من غيره.
مثال ذلك: شخصٌ قتل جملًا؛ لأنه مضطرٌ لغيره، فهل يجب عليه ضمانه؟
نقول: هنا صورتان: إن كان الاضطرار ليس ناشئًا من الجمل، فحينئذٍ يجب عليه الضمان، جائعٌ في مسغبةٍ، فبالتالي ذبح جملًا لغيره، ما يجوز له، هل يجب عليه الضمان؟
نقول: الاضطرار هنا لا يُسقط حق الغير؛ لأن الاضطرار ليس ناشئًا من ذلك الجمل، بخلاف ما لو كان هناك رجلٌ جاءه جملٌ هائجٌ، يريد أن يقتله، فالآن هو مضطرٌ إلى ذبحه، فهل يذبحه أو لا؟
نقول: نعم يذبحه؛ لأن الاضطرار يبيح المحظور، وهنا الاضطرار ناشئٌ من الجمل، وبالتالي نقول: الاضطرار يُبطل حق الغير في هذه الصورة؛ لكون الاضطرار ناشئًا من ذات الملك، فبالتالي لا يجب عليه دفع قيمة الجمل الذي قتله؛ لأنه مضطرٌ إليه اضطرارًا ناشئًا من ذلك الجمل، ولذا فلم يجب عليه ضمانه.
إذن هذه بعض القواعد المتعلقة، أخذنا قاعدة: "إذا ضاق الأمر اتسع"، وقاعدة: "لا واجب مع العجز"، وقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات".
أيضًا من القواعد المقاصدية، التي تتعلق بهذا الباب، قاعدةٌ مأخوذةٌ من قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرً﴾ [الشرح: 5، 6]، وبعض أهل العلم يعبر عنها بقاعدة: "المشقة تجلب التيسير".
ومن الأمور التي تتعلق بهذه القاعدة: أن حال الاضطرار لا نحتاج فيه دليلًا إلى القول باستباحة المحظور، بخلاف مسائل الحاجة، فإننا لا نستبيح المحظور بها، إلا عند قيام الدليل على ذلك.
{ما الفرق بين الرخص وبين التخفيف؟}.
التخفيف أكبر وأعم من الرخصة، فالرخصة أن يكون المعنى والعلة التي من أجلها ثبت الحكم لازالت موجودةً، ومع ذلك انتفى الحكم.
مثال ذلك: لماذا حرم أكل الميتة؟
لنجاستها، فلما يأتينا مضطرٌ إلى أكلها، هل تنتفي النجاسة بذلك؟
نقول: لا باقيةٌ، لكن الحكم تغير، فهذا يسمى رخصةً، وهو أيضًا من التخفيف.
الثاني إذا كان المعنى الذي من أجله ثبت الحكم ارتفع، فيرتفع الحكم معه، فهذا يسمى تخفيفًا، لكنه لا يُسمى رخصةً.
مثال ذلك: رجل مستيقظ تجب عليه الصلاة، فلما جُنَّ، أي: أصيب بالجنان صارت الصلاة غير واجبة في حقه، وبالتالي فالمعنى الذي أوجبنا عليه الصلاة عَاقه، فلما جُنَّ انتفى المعنى الذي من أجله ثبت الحكم، وبالتالي انتفى الحكم، فهذا يسمى تخفيفًا، ولا يسمى رخصةً؛ لأن الرخصة تعني وجود المعنى الذي من أجله تقرر الحكم بالمنع، لكن الحكم متخلفٌ.
أعطيكم مثلًا، في التيمم، هل التيمم تخفيفٌ؟ أو هو رخصةٌ؟
نقول: التيمم على نوعين: إذا كان التيمم عند فقد الماء، فحينئذٍ لا يُسمى رخصةً، وأمَّا إذا كان التيمم مع وجود الماء فإنَّه يُسمى رخصةً.
مثال ذلك: مريضٌ، فيه مرض الحساسية في الجلد، ولا يتحمل وضع الماء عليه، ماذا نفعل معه؟
نقول: يتيمم، فهنا ترك الوضوء، واستباح الصلاة بدون وضوءٍ، مع وجود المعنى الذي هو وجود الماء، فهذا يُعد رخصةً. وجد المعنى الذي اقتضى التحريم، ومع ذلك انتفى التحريم، لكن عند فقد الماء، لا يسمى رخصةً.
هناك أيضًا معانٍ قريبةٌ، تسمى مثلًا: عدم الاضطرار، أو تسمى ترك الاستحسان، كلها تتقارب مع موضوع الرخصة.
أيضًا من القواعد التي تتعلق بهذه القاعدة المقاصدية: ما يتعلق بالتخفيف في أحكام هذه الشريعة، فإن الله -عزَّ وجلَّ- قد خفف على هذه الأمة، قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، فهناك أغلالٌ وآصارٌ موجودةٌ في الشرائع السابقة، فلمَّا بعث الله -عزَّ وجلَّ- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خفف عن العباد، ورفع بعض هذه الآصار.
مثال ذلك: في مسألة القصاص، كانوا في السابق، إمَّا قصاصٌ، وإما عفوٌ، فقرر في هذه الملة التخفيف، فدخلت مسألة الدية ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: 178].
ومثلها أيضًا في عددٍ من الأحكام التي خفف الله فيها عن هذه الملة، ولم تكن عَلَى مَن سَبَقَ.
مثال ذلك: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: 146]، فهذه الآية فيها ذكر بعض المحرمات التي كانت على الأمم السابقة، فخفف الله -عزَّ وجلَّ- علينا في هذه الأمة.
وبذلك نعرف أهمية هذه القاعدة المقاصدية المهمة، قاعدة التخفيف التي راعتها الشريعة في أحكامها، فكانت سهلةً يسيرةً، في وسع الإنسان، وليست خارجةً عن قدرته، فهذه نعمةٌ من نعم رب العزة والجلال.
إن شاء الله لقاؤنا الآتي، سيكون عن مقصدٍ من مقاصد الشريعة، ألا وهو: حفظ الحقوق، فهو مقصدٌ عظيمٌ، وجاءت به الشريعة المطهرة، لعلنا -بإذن الله عزَّ وجلَّ- أن نتكلم عنه في لقائنا القادم، أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يوفقكم لخيري الدنيا والآخرة، وأن يجعلكم هداة مهتدين، وأن يرزقكم العلم النافع، والعمل الصالح.
اللهم وفق كل من شاهدنا لما تحب وترضى، واجعل أعمالهم على البر والتقوى.
اللهم أصلح أحوال أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم، اللهم ردهم إلى دينك ردًا حميدًا.
اللهم ارزقهم التوبة النصوح، اللهم اغفر لهم ذنوبهم، وكفر عنهم سيئاتهم.
اللهم يا حي يا قيوم، نسألك أن تجمع كلمتهم، وأن توحد صفهم، وأن تحقن دماءهم، وأن تكفيهم شر أعدائهم، كما أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكانٍ، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتقى والصلاح والسعادة.
اللهم وفق ولاة أمرنا، اللهم وفق ولاة أمرنا لكل خيرٍ، واجعلهم هداةً مهتدين.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك