الدرس العاشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7830 11
الدرس العاشر

مقاصد الشريعة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فأرحبُ بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في مقرَّرات البناء العلمي، من خلال تحرير مقاصد الشَّريعة، وبيان المعاني الكليَّة التي جاء بها دينُ ربّ العزَّةِ والجَلَال.
واليوم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- نتحدَّث عن مقصدٍ آخرٍ من مقاصد الشَّريعة المباركة، ألا وهو: الاستقرار. فقد جاءت الشَّريعة بمجموعةٍ من الأوامر والتَّوجيهات والإجراءات لتُحقق الاستقرار، والاستقرار يُراد به ما يقابل الاضطراب والاختلاف، فإنَّ الاستقرارَ أمرٌ مطلوبٌ شُرِع على كافَّةِ الأصعدة، ووُضعت له كثيرٌ من الأحكام والوسائل من أجل أن نتمكَّن من الوصول إلى هذا الاستقرار.
والاستقرار على مراتبَ ومراحلَ متعددةٍ، فمن ذلك: الاستقرار النَّفسي، فإنَّ الشَّريعة قد جاءت بالكثير من الإجراءات والأحكام التي تؤدِّي إلى استقرار النُّفوس، ومثاله: الأمر باليقين في وعد الله -عزَّ وجلَّ- فأمرت الشَّريعة بوجود الاعتقاد الصَّادق والجازم بما ورد في الكتاب والسُّنة، ومن هنا قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، "لا ريب" يعني: لا شك، وما ذاك إلا لوجود اليقين الذي يُورث الاستقرار في النُّفوس.
وهكذا رفع الله -عزَّ وجلَّ- شأن أهل اليقين وأعلى منازلهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
ومن الوسائل الشَّرعيَّة لتحقيق استقرار النُّفوس: أمرت الشَّريعة باتِّخاذ الإجراءات التي تؤدِّي إلى طمأنينة النَّفس واستقرارها. مثلًا: ما ورد في قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. فذِكْرُ الله -عزَّ وجلَّ- سواءً بمعرفة أسمائه وصفاته، أو بالذِّكر اللساني، أو باستشعار قدرته -جلَّ وعلَا- ورحمته؛ هذا يورث النُّفوس طمأنينةً تجعلها مستقرةً.
وهكذا الإيمان بالقضاء والقدر، فإنَّ مَن آمن بقضاء الله وقدره فإنَّ نفسه ستستقر، فلن يوجد عند المرء جزعٌ، ولا تسخُّطٌ، ولا اضطرابٌ في نفسه؛ وإنَّما سيؤدي به هذا الإيمان إلى الاستقرار النَّفسي، وأداء العمل الذي يُناط به.
وكذلك أيضًا ما ورد في النُّصوصِ من الأمر بالصَّبرِ على أقدار الله المؤلمة، والأمر بالرضى عن الله، وعن ما يقدره -جلَّ وعلَا- على العباد، هذه كلها تُورِث الإنسان استقرارًا وطمأنينةً، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ولَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 126- 128].
وعندما يستشعر المؤمن أنَّ الله معه فإنَّه حينئذٍ ستستقر نفسه، مهما كاده الأعداء، ومهما مكر به الآخرون، ومهما حاول فيه غيره من محاولاتٍ تجعله لا يتمكَّن من تحقيق مراده، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ [الطارق: 15، 16]، ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيمْكُرُونَ وَيمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
وعندما يجزم الإنسان بتصديق موعود الله -سبحانه وتعالى- سواءً فيما يتعلق بالأرزاقِ، أو فيما يتعلق بالنَّصرِ على الأعداءِ، أو في مطالب النُّفوسِ الأخرى، فإنَّ ذلك سيجعله مطمئنَّ النَّفس، وعندما نجعل بين أعيننا قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله -عزَّ وجلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» ، حينئذٍ ستستقر نفوسنا.
وعندما نسمع موعود الله -جلَّ وعلَا- كما في قوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، وعندما نستمع لقول الله -جلَّ وعلَا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]، حينئذٍ تستقر نفوسنا، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3] تستقر نفوسنا وترتاح، وعندما نستمع لوعد الله -عزَّ وجلَّ- بإخراجنا من المضائق التي تُحدق بنا، إلى وعد الله بتسليمنا من شرور أعدائنا تستقر نفوسنا وتطمئن، ولا تضطرب ولا تختلف ولا تنازعها الهموم والغموم.
وهكذا عندما يوجد عند الإنسان اتصالٌ بربه، وابتهالٌ بين يديه، ودعاءٌ له -جلَّ وعلَا- مع يقين العبد بأنَّ الله يجيب دعوات الدَّاعين؛ فهذا يورث الإنسان طمأنينةً واستقرارًا في نفسه، كيف لا ونحن نسمع لقول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، وقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فهذا الدُّعاء يورثُ النَّفس طمأنينةً وسكينةً، خصوصًا إذا كان عند الإنسان إيمانٌ بأنَّ ما يقدره الله -عزَّ وجلَّ- سيكون لمصلحته وإن كرهته النَّفس، وإن كنا نرغب في ما سواه، قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 216]. وبالتَّالي نطمئن إلى أقدار الله -عزَّ وجلَّ- وما يقدره لنا ربّ العزَّةِ والجَلَال ولو كان مكروهًا لنفوسنا، فتستقر هذه النُّفوس، ولا يحصل عندها اضطرابٌ واختلافٌ.
وعندما يوجَد عند الإنسان توحيدٌ بإفراد الله بالعبادة، ويَصرف عباداته لربِّ العزَّةِ والجَلَال، ولا يخضع لأحدٍ سوى الله؛ فحينئذٍ يورثه ذلك طمأنينةً؛ لأنَّ خضوعه وخنوعه لربّ العزَّةِ والجَلَال وحده فلا يعبد إلا الله؛ فإنَّ ذلك يورثه طمأنينةً في قلبه.
وعندما نؤمن بأنَّ الله هو المتصرِّف في الكون، وأنَّه لن يقع في الكون شيءٌ مغايرٌ لمراد ربِّ العزَّةِ والجَلَال، وأنَّه سبحانه إذا أراد أمرًا فإنَّما يقول له كن فيكون؛ حينئذٍ تسكن نفوسنا وتطمئن، ولا يوجد عندنا اضطرابٌ، ولا تتنازعٌ فيها الأمور المختلفة المتقابلة.
وعندما يلاحِظ الإنسانُ أنَّ من الأوصاف الحميدة التي أُمر أهل الإيمان بها أن يكونوا على سكينةٍ، ويكون عندهم هدوءٌ في النَّفس كما في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنً﴾ [الفرقان: 63]، وكما في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَأْتُوا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ والوقارُ» ، فهذه الآيات تُورث النَّفس سكونًا واستقرارًا.
وهكذا إذا امتثل الإنسان للتَّوجيهات الإلهيَّة بالإعراض عن اللغو وعن الكلام الباطل، حتى ولو كان سبًّا للشَّخص واستنقاصًا لمكانته؛ فإنَّ هذا يُورث طمأنينةً في نفسه واستقرارًا، فعندما يقدح فيك مَن يقدح فلا تلتفت إلى قدحه، وابذُلِ الأسباب لتعريف النَّاس بحقيقة الأمر، ولا تهتم بشأنه، فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- معك وناصرك، فهذا سيورثك استقرارًا وسكونًا في نفسِك.
هذا الاستقرار أيضًا له أسبابٌ أخرى قد جاءت بها الشَّريعة، مثلًا: عندما يتَّصفُ الإنسان بصفة العفو، وكظم الغيظ، وعدم إنفاذ الغضب؛ هذا يجعله ممَّن تستقرُّ نفسه، وحينئذٍ لن يفكِّر في أخطاء الآخرين، ولن يعيد ويبدأ فيها، وإنَّما ينظر إلى مستقبله وبقية أيامه.
هكذا من الأمور التي تجعل الإنسان على استقرارٍ وطمأنينةٍ: أن يكون معتزًّا بانتمائه لدينه، وقد جاء الشَّرع بأمر المؤمنين أن يعتزُّوا بذلك، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]، فهذا يورثه هذا استقرارًا في نفسه، وفي المقابل لا يوجد عنده كسلٌ ولا يأس؛ لأنَّه يعلم أنَّ أزِمَّة الأمور بيد ربِّ العزَّةِ والجَلَال، فيكون عنده حُسن ظنٍّ بربِّ العزَّةِ والجَلَال.
إذا تقرر هذا، فإنَّ الاستقرار النَّفسي يجعل الإنسان يتمكَّن من التَّخلق بالأخلاق الفاضلة؛ لأنَّ نفسه مستقرةٌ، ويستطيع أن يفرِّق بين الخُلُق الفاسد والخُلُق الطيب، كذلك مَن كان عنده استقرارٌ نفسيٌّ فإنَّه لن يُقدم على فعلٍ حتى ينظر هل هو في مصلحته أو في مساءته، وبالتَّالي لن يُقدم إلا على ما يعود عليه بالنَّفع، فحينئذٍ يتمكَّن الإنسانُ من التَّخطيط لأعماله المستقبليَّة وترتيب الأمور، وما ذاك إلا لأنَّه مستقرٌّ نفسيًّا غير مضطربٍ.
والمستقرُّ نفسيًّا يرتاح الآخرون في التَّعامل معه، لأنَّه على كلمةٍ واحدةٍ، لا اضطراب عنده ولا اختلاف، فالمقصود أنَّ العنصرَ الأول من العناصر التي جاءت الشَّريعة بها في باب الاستقرار: أن تستقرَّ النُّفوس وألا تكون مضطربةً، فهذا أمرٌ مهمٌّ لابد أن نسعى إليه، وليس هذا خاصٌّ بالمكلَّفِ فحسب، بل إنَّ الشَّريعة جاءت بأمرِ المؤمنين أن يزرعوا هذا الاستقرار في نفوس الآخرين، فأمرت المؤمنين أن يدعوا غيرهم إلى هذه الأخلاق الفاضلة، والأسباب المؤدِّية إلى الاستقرار النَّفسي التي ذكرتها قبل قليلٍ.
وعندما يبتعد الإنسان عن عدوه الشَّيطان الذي يوسوس في قلبه، ويجعله مضطربًا متشكِّكًا، يكون حينئذٍ ممَّن استقرت نفسه، وعندما يوجد عند الإنسان التفاؤل الذي يجعله يندفع إلى العمل وأداء ما يريده من نتائجَ طيبةٍ؛ فهذا سببٌ للاستقرار النَّفسي، وعندما يكون في نفس الإنسان قوة، فهذه القوة تجعله يتمكَّن من أداء أعماله، ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: « الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» ، فهذا كله يورث ما ذكرته قبل قليلٍ من الاستقرار النَّفسي.
هكذا عندما توجد أخلاقٌ فيما بين النَّاس، فلا يوجد بينهم غِيبةٌ؛ لأنَّ الغِيبة تؤثِّر في نفسيات النَّاس وتجعلها تضطرب، وحينما لا يوجد بينهم نميمةٌ؛ فلن يوجد تنازعٌ، وإنَّما يوجد إصلاحٌ. هذا كلُّه يورِث استقرارًا نفسيًّا، فعندما نحقق هذه المعاني الشَّرعيَّة التي ذكرت لكم سيتحقق هذا المعنى. وهذه الوسائل التي ذكرتها نماذجٌ مما جاءت به الشَّريعة لتحقيق الاستقرار النَّفسي.
هناك نوعٌ آخر من أنواع الاستقرار، ألا وهو: الاستقرار الأُسَري الذي يكون في داخل الأسرة، سواءً كان بين الزوجين، أو بين الآباء وأبنائهم، أو بين الإخوان وبعضهم، فهذه معانٍ جاءت بها الشَّريعة.
جاءت الشَّريعة بجعل البيت المسلم مستقرًا هانئًا وديعًا، ولذا قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، إذا وُجدتْ هذه المودة والرَّحمة، سيتحقق لهذه الأسرة الاستقرار والطمأنينة، وتُبعَد عنها الاضطرابات.
ومما جاءت به الشَّريعة في هذا الباب: أنَّها عرَّفت كل واحدٍ من الزَّوجين بحقِّ الآخرِ من أجل أن يقوم به وألا يفرِّط فيه، فإذا وُجد قيامٌ بهذه الحقوق فحينئذٍ ستستقر الأسرة وتجتمع كلمتها.
فعُرِّفَ الأب بحقوق أبنائه، وعُرِّفَ الأبناء بحقوق آبائهم، وأمرت الشَّريعة بحسن التَّربية، وأمرت الأبناء بالبرِّ بوالديهم، ونهتهم عن العقوق، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]، جاءت نصوصٌ كثيرةٌ بأوامر وتوجيهاتٍ تجعل البيت المسلم مستقرًّا، فإذا وقع الاستقرار وتمكَّن؛ وُجِدَ الاستقرار في نفوس أهل البيت المسلم، وتمكَّن أصحابه من أن يُوجدوا عَلاقاتٍ طيبةً في ما بينهم، قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، وقال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228].
هكذا جاءت الشَّريعةُ ببيانِ المخارج التي يستطيع النَّاس أن يخرجوا بها من المشاكل الأسريَّة، فمتى وُجدت هذه المشاكل ورجعوا إلى الشَّرع؛ وجدوا هناك توجيهاتٍ تُعيد البيتَ إلى استقراره.
المقصود أنَّ الاستقرارَ الأُسري هذا مما يُحقق المقصد الذي جاءت به الشَّريعة من وجود الاستقرار والطمأنينة ويُنفى به الاضطراب.
هناك أيضًا وسائل متعددة في ما يتعلق بإيجاد الاستقرار الأُسري، مثلًا: أمرت الشَّريعةُ المؤمنين بأن يُحبَّ بعضُهم بعضًا، ومن أعظم ذلك: محبةُ أهل البيت الواحد لبعضهم، كما قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّو» ، ثم جاءت توجيهاتٌ تجعل النَّاس متى سلكوها وصاروا عليها وجد الاستقرار فيما بينهم، ووُجدت العَلاقات الطيبة في ما بينهم.
عندما توجد نفقةٌ، ويُعرف مَن الذي يجب عليه أن يُنفق، ومَن هو الذي يُنفَق عليه، ويعرف كلُّ واحدٍ الواجب عليه في هذا الباب، بهذا يحصل استقرارٌ، وتحصل طمأنينةٌ، ويبتعد عنهم النِّزاع والاختلاف والاضطراب، ومن ثَمَّ يكون البيت المسلم بيتًا هانئًا لا اضطراب فيه.
وهذه الوسائل كلها تُحقق هذا المعنى الشَّرعي الذي قصده الشَّرعُ، ألا وهو: وجود الاستقرار في البيت المسلم.
كذلك هناك استقرارٌ مجتمعيٌّ، فقد جاءت الشَّريعة بجعل المجتمعِ المسلمِ مستقرًا مطمئنًا مترابطًا، لا يوجد فيه اضطرابٌ واختلافٌ وتنازعٌ وتقابلٌ، وإنَّما يكون بمثابة اللُّحمة الواحدة، ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» . وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُؤمِنَ للمُؤْمِنِ كالبُنيانِ، يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا. وشَبَّكَ أصابِعَهُ» .
ومن هنا جاءت الشَّريعة مثلًا باستشعار الأخوَّة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وكما في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمُ أخو المسلمِ ، لا يظلِمُهُ ولا يخذلُهُ ، ولا يحقِرُهُ التَّقوَى ههُنا -ويشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ- بحسبِ امرئٍ منَ الشَّرِّ أن يحقِرَ أخاهُ المُسلمَ» ، وكما في النُّصوصِ التي بيَّنت حق المسلم على المسلم، فحديث: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ» ، وفي الآخَرِ: «ستٌّ» .
هذه الحقوق تُوجِد استقرارًا في المجتمع عندما يقوم النَّاسُ بها ويؤدُّونها، وبالتَّالي لا يوجد هناك اضطرابٌ وتنازعٌ في المجتمع المسلم.
وممَّا جاءت به الشَّريعة مثلًا: الأمر بتفقُّد النَّاس بعضهم لبعضٍ، كالأمر بالإحسان، أن يحسن النَّاس بعضهم إلى بعضٍ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، هذا الإحسان يجعل النَّاس يستشعرون معنى الاستقرار المجتمعي في المجتمع المسلم، ويورث استقرارًا وطمأنينةً، وبالتَّالي لا يكون هناك تنازعٌ واضطرابٌ.
أيضًا التزام الآداب الإسلامية، سواءٌ في ما يتعلق بالسَّلام، أو في ما يتعلق بمخالطة النَّاس بعضهم لبعضٍ، أو في ما يتعلق باختيار الأقوال الطيبة والألفاظ الحسنة في إفشاء السَّلام بينهم؛ هذا كله يورث استقرارًا مجتمعيًّا.
كذلك مما يورث الاستقرار المجتمعي: أن يتناصح النَّاسُ في ما بينهم، لكن على مقتضى القواعد الشَّرعيَّة، وبحسب الشُّروط المرعيَّة، فإذا وجدتَ على أخيك شيئًا أمسكته بيده في ما بينك وبينه، وأشرت إليه بإشارةٍ لطيفةٍ لما هو عليه، وبالتَّالي سيكون هناك استقرارٌ مجتمعيٌّ.
كذلك عندما يوجد إنصافٌ من بعض النَّاس لبعضهم الآخر داخل المجتمع، سيكون هناك استقرارٌ، لأنَّه لن يشعر أحدٌ منهم تجاه الآخرين بأنَّهم ظلموه، وأنَّهم أخذوا حقوقه، وبالتَّالي يجعل هذا الإنصافُ الاستقرارَ موجودًا ومنتشرًا في المجتمع.
من الأمور المتعلقة بهذا: الإيمان بالآخرة. عندما نؤمن بالحساب، وأنَّ ما فات في الدنيا لا يفوت في الآخرة، فهذا يجعل النَّاس يبتعد ما في قلوبهم من الغُلواء واللَّأواء، وهكذا أيضًا الإيمان بالقضاء والقدر، وأنَّ الله هو المتصرِّف في الكون، وأنَّه يرزق من يشاء، ويمنع من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، هذه الأمور تجعل النَّاس لا يحقدُ بعضُهم على بعضٍ، هذا آتاه الله رزقًا، وبالتَّالي لا أحسده ولا أحقد عليه، ولا أتمنى زوال ما عنده من النِّعم، ولا أسعى إلى مضرَّته بأي نوعٍ من أنواع المضرَّة، بل أتمنى له الزِّيادة في الخير، وأن يستعمل ما عنده من المال في ما ينفعه دنيا وآخرةً، فمثل هذا الأمر يُوجِد استقرارًا مجتمعيًّا.
هكذا أيضًا عندما يوجد تفريجٌ للكربات بين النَّاس، هذا يجعلهم يترابطون ويلتحمون، وبالتَّالي يوجد استقرارٌ مجتمعيٌّ.
ومن الأمور التي في هذا الباب أيضًا: إذا كان هناك صبرٌ من النَّاس بعضهم على بعضٍ، النَّاس ليسوا على طريقةٍ واحدةٍ، قد يحصل أذى، قد يحصل هناك استنقاصٌ من أحدٍ لأحدٍ، وبالتَّالي يؤمَر النَّاسُ بأن يصبِرَ بعضُهم على بعضٍ، وفي المقابل يُنهى أشد النَّهي عن الإيذاء، كما في قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينً﴾ [الأحزاب: 58]، وكما في النُّصوص الأخرى التي نهت عن الإيذاء بأي نوعٍ من أنواع الإيذاء.
هكذا حُسن الخُلق إذا وُجد في المجتمع المسلم، فسيؤدي به إلى أن يكون لُحمةً واحدةً وأن يكونوا مستقرين، ما يشعرون باضطرابٍ وتنافرٍ في ما بينهم، بل يكونوا لُحمةً واحدةً.
كذلك وفي المقابل هناك إجراءاتٌ على سبيل التَّحرُّر؛ لأنَّها تُبعد الاستقرارَ المجتمعي، مثلًا عندما يُمنع من البهتان، يُمنع من الكذب، يُمنع من الغِيبة والنَّميمة، هذه سلوكياتٌ تجعل النَّاس يضطربون ويختلفون ويتنازعون، ويبتعد عنهم الاستقرار المجتمعي، فهذه أوصافٌ نهى الشَّرعُ عنها لتحقيق هذا المقصد العظيم وإيجاد هذه الغاية.
مثلًا عندما نهى الشَّارعُ عن وجود الانتقام خصوصًا إذا زاد عن حده، فهذا من منطلق هذا الباب، كذلك لما نُهي عن الغشِّ، والغدرِ، والخيانةِ، وإخلافِ المواعيد، فهذه الأخلاق المنهي عنها إذا وُجدت أدَّت إلى تفرُّقِ النَّاسِ واختلافهم واضطرابهم، وإذا تركها النَّاسُ فحينئذٍ ستستقرُّ علاقاتهم، وسيجتمعون ويألفون، ويكون عندهم طمأنينةٌ في مجتمعاتهم.
كذلك أيضًا نُهي عن الطَّيشِ في التَّصرفات، بحيث يعقل الإنسان في تصرفاته، ولا يُقدم على فعلٍ حتى يعرف عواقبه وما هي آثاره في الدنيا والآخرة، وحينئذٍ يكون هذا من أسباب استقرار مجتمعاتنا.
ونُهيَ عن الأخلاقِ المرذولةِ مثل الكبرِ والتَّرفعِ على النَّاس، فإذا وُجدت في النَّاس أبعدت عنهم التآلف والاستقرار المجتمعي، ولذلك نُهي عن هذه الأوصاف كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، وفي هذا الحديث لما قالوا: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، فقال: «إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ»، فيه الإشارة إلى رغبة الشَّارع في التَّنظُّفِ والتَّطهرِ والتَّجمُّلِ، وهذه أمورٌ تجعل النَّاس ترتاح قلوبُ بعضِهم لبعضهم الآخر، وبالتَّالي يؤدي إلى استقرارٍ مجتمعيٍّ.
ثم عرَّف الكبر فقال: «الكبر بَطَرُ الحق»، أي: جحْدُه وعدم الاعتراف به؛ لأنَّ هذا الخُلق يؤدي إلى أن يضطرب النَّاس ويرفع الاستقرار المجتمعي.
ثم قال: «وغمط النَّاس» ، أي: احتقارهم واستنقاصهم، والنَّظرِ إلى ما يؤدُّونه من أعمالٍ على أنَّها قليلةٌ، وأنَّه لا ثمرة لها، وأنَّ هذه الأعمال ليس لها أثرٌ في حياة النَّاس، فهذا غمط للناس واستنقاصٌ لأمكِنَتِهم، فمرةً يستنقصه لقلة ماله، ومرةً يستنقصه لقلة وظيفته، ومرةً يستنقصه لعدم وجود عشيرةٍ عنده، إلى غير ذلك من أسباب التَّنقُّصِ، فهذه تؤدي إلى وجود اضطرابٍ في المجتمع وعدم استقرارٍ فيه، وبالتَّالي إذا وُجد الاستقرارُ المجتمعي؛ فإنَّ النَّاس سيلتحمون وسيتناصرون، وسيكونون متعاونين على ما فيه منفعتهم، وما يحقق مصلحتهم، وحينئذٍ سيؤدي ذلك أيضًا إلى جعْلِ النَّاس يُخطِّطونَ لمستقبل أيامهم على شكلٍ جماعيٍّ، والعمل الذي يكون بشكلٍ جماعيٍّ -أو بشكلٍ مرتبٍ ومهيأٍ- يكون له من البقاء ومن الأثر الحميد ما ليس للعمل المنفرد.
إذا وجد استقرارٌ مجتمعيٌّ حينئذٍ يتمكَّن النَّاس من البيع والشِّراء، فيثق النَّاسُ بعضهم في بعضهم الآخر، ويكون هناك حُسن تعاملٍ في ما بينهم، ويورث هذا آثارًا حميدةً كبيرةً في مجتمعاتنا.
هناك مَن يحاول أن يزعزع هذا الاستقرار المجتمعي، سواءً بإيجاد النَّميمة التي تُفرِّق النَّاس، أو بالغشِّ والبهتان، وبالتَّالي يؤدِّي ذلك إلى ألا يثق النَّاس بعضهم في بعضهم الآخر، وبالتَّالي علينا جميعًا أن نسعى في درء هذه الأعمال المؤدية إلى ارتفاع الاستقرار المجتمعي.
عندما يوجد استقرارٌ مجتمعيٌّ يكون هناك تداخلٌ في العَلاقات، سواءً العَلاقات الماليَّة، أو العَلاقات الاجتماعيَّة، أو غيرها من أنواع العَلاقات، فيوجد تعاونٌ، ويوجد يدٌ واحدةٌ في مناصرة الحق وأهله، وبالتَّالي يُورِث ذلك انقماع أهل الفساد وعدم تمكُّنِهم من الدُّخولِ في مجتمعاتنا.
عندما يوجد استقرارٌ مجتمعيٌّ، يتفقد النَّاس بعضهم بعضًا، ويصبح كل واحدٍ منهم يحرص على أن يناصح إخوانه؛ وبالتَّالي يدرأ ما قد يوجد عند ضعاف النُّفوس.
عندما يوجد استقرارٌ مجتمعيٌّ يتداخل النَّاس فيما بينهم، فيصبح بينهم زياراتٌ، ويصبح بينهم تآلفٌ وودٌّ، وبالتَّالي لا يكون هناك نجاحٌ للمحاولات التي يحاول بها بعضُ الأشخاصِ عزلِ بعض أفراد المجتمع؛ ليكون هؤلاء الأفراد خناجر في خاصرة مجتمعاتهم.
وهذا الاستقرارُ المجتمعيُّ أمرٌ مهمٌّ، وليس خاصًّا بفئةٍ دون فئةٍ، بل هو للكبار والصِّغار، للرِّجال والنِّساء، للقريب والبعيد، بحسب اختلاف أنواع المجتمعات، وهو نوعٌ من أنواع المقاصد الشرعيَّة التي جاءت بها الشَّريعة بزرع الاستقرار عند المسلمين.
هناك استقرارٌ آخر جاءت به الشَّريعة أيضًا، ألا وهو: الاستقرارُ السِّياسيُّ، والاستقرار الدَّوليُّ، فإنَّ الشَّريعة جاءت بجعل المجتمع المسلم وجعل الدَّولة المسلمة مستقرةً، فإنَّ الاستقرار يجعل النَّاس يؤدون أعمالهم ويقومون بالمهامِّ التي توكَل لهم، ويجعل النَّاس يتمكَّنون مِن أنواع الحِرَف، كالزراعةٍ وغيرها، فإذا كان هناك استقرارٌ سياسيٌّ ودوليٌّ؛ أَمِنَ النَّاسُ على أعمالهم وأنَّها لن تذهب سُدًى، فيكون هناك ازدهارٌ وتنميةٌ، وهناك اجتماعٌ وتآلفٌ، وتستقر أحوال النَّاس.
وقد جاءت الشَّريعة بالعديد من الوسائل لتحقيق هذا الاستقرارِ السِّياسِّ والدَّوليِّ، وسأضرب نماذجًا من الوسائل التي جاءت بها شريعتنا المباركة لتحقيق هذا الاستقرار السِّياسيِّ والدوليِّ.
فمن ذلك: جاءت الشَّريعة بالأمر بإيجاد القضاء، فإنَّ القضاء يُوصِلُ الحقوق لأصحابها، ويَفصِلُ في الخصومات التي تكون بين النَّاس، ويُوقِعُ العقوبات على المجرمين، ومن ثَمَّ تستقرُّ حياة النَّاس.
كذلك الحدود التي جاءت بها الشَّريعة تجعل الحياة مستقرةً، وتجعل الدَّولة مستقرةً؛ لأنَّ هذه الحدود وإن عوقب بها الواحد أو الاثنان، إلا أنَّ لها أثرًا على الأمَّة كلها وعلى أهل البلد كلهم، وذلك أنَّ هذه الحدود تجعل مَن يريد الجريمة يُحجِم عن تنفيذِ مُرادِه منها، وبالتَّالي تنتفي هذه الجرائم، ويصبح النَّاس يؤدون أعمالهم وهم آمنون، ومن ثمَّ تنفيذ هذه الحدود وإيقاعها له أثرٌ عظيمٌ على إيجاد الاستقرار في الدَّولة.
هكذا أيضًا مما جاءت به الشَّريعة: أن أمرت المؤمنين بالسَّمع والطَّاعة لأصحاب الولاية، كما قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]، وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ، فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ ، إِلا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ» ، بل تجاوز الأمر ذلك، فقال: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ» ، لأنَّ أخذ المال وضرب الظَّهر هذه مفسدةٌ جزئيةٌ، ولكن عندنا مفسدةٌ عامةٌ عندما لا يوجد سمعٌ ولا طاعةٌ، وحينئذٍ يوجد اضطرابٌ في أحوال النَّاس، ويبدأ كلُّ واحدٍ من النَّاس بتنفيذ هواه ومراده بدون النَّظر إلى ما يُصلح أحوالهم، وبالتَّالي لا يوجد استقرارٌ وطمأنينةٌ على مستوى النَّاس قاطبةً.
كذلك مما جاءت به الشَّريعة: أن جرَّمت الإرهاب وأنواع الاعتداء، سواءً كان اعتداءً خاصًّا، أو اعتداءً على أمورٍ عامةٍ، فهذا مما يورث الاستقرار.
وكذلك أيضًا مما جاءت به الشَّريعة: التَّشديد في أمور الفساد العام، فحرَّمت على الموظف أن يُفسد، وجعلت هذا مخالفًا لأمر الله -عزَّ وجلَّ- ورتَّبت عليه العقوباتِ الأخرويَّة ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77].
هكذا أيضًا مما جاءت به الشَّريعة: التَّحذير من الدُّخول في الفتن. والمراد بالفتن: الأمور المدلهمَّة التي لا يُدرى ما حقيقتها،كأن يدخل الإنسانُ لمناصرة شيءٍ لمجرد سماعه لقولٍ من إحدى الطائفتين بدون أن يُميِّز حقائق الأمور، فهناك أمورٌ موكولةٌ لأصحاب الاختصاص، فأهل الفتوى عندهم أمورٌ مختصةٌ بهم، وأهل الطب كذلك، وأصحاب الولاية عندهم أمورٌ مختصون بها، ويعرفون من خفايا الأمور ما لا يعرفه غيرهم من آحاد النَّاس، فعندما توجد محاولاتٌ لجعل النَّاس ينفرون من السَّمع والطَّاعة بتحريض النَّاس على الاجتهادات التي تُتَّخذ من قِبَل هذه الطوائف؛ فهذا مخالفٌ لما جاءت به الشَّريعة، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].
مما جاءت به الشَّريعة أيضًا: أن أمرت المؤمنين بالالتزام بالصُّلح، ورغَّبت في الدُّخول فيه، فصلحٌ يعقده صاحب الولاية يجب على مَن تحت يده أن يقوموا بالالتزام بذلك الصُّلح، قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ﴾ [الأنفال: 61، 62]، وبالتَّالي أمرت الشَّريعة بالتزام هذا الصُّلح، ولذا قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ﴾ [الأنفال: 72]، فالميثاق شديدٌ ويجب القيام به، ويحرُم على كل واحدٍ من أفراد الأمَّة أن يغدر، أو أن يدخل في أمرٍ يخالف صلحًا عقده صاحبُ الولاية.
وممَّا جاءت به الشَّريعة: الأمر بالسَّمع والطَّاعة في ما يتعلق بباب الجهاد، فلا جهادَ مشروعَ إلا بولايةٍ معتبرةٍ، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «الْإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ» ، لأنَّه إذا لم يكن للنِّاس ولايةٌ في باب القتال والجهاد، فحينئذٍ لن يعرفوا خفايا عدوهم، ولا كيف يخططوا أو يلتزموا بخططٍ تنفعهم وتكفيهم شر أعدائهم.
وكذلك مما جاءت به الشَّريعة في هذا الباب: أن حرَّمت الخروج على صاحب الولاية، وجعلته كبيرةً من كبائر الذنوب، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» ، وفيه نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدلُّ على هذا المعنى.
ومن ثَمَّ نلاحظ أنَّ الشَّريعة قد جاءت بالأمر بالاستقرار على جميع مستوياته، ابتداءً من الاستقرار النَّفسي، إلى الاستقرار الأسري، إلى الاستقرار المجتمعي، إلى الاستقرار السِّياسي.
وتلاحظون في هذا الباب أنَّ الأخلاق المرزولة وتنافر النَّاس يتنافى مع هذا المقصد، ومن هذا المنطلق جاءت الشَّريعة بتحريم أن يهجر المسلم أخاه «لا يَحِلُّ لرجُلٍ أن يَهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ ، يلتقِيانِ : فيُعرِضُ هذا ، ويعرِضُ هذا وخيرُهُما الَّذي يبدأُ بالسَّلامِ» .
نريد أمثلةً جاءت بها الشَّريعة لتكون وسائل على الاستقرار.
{مثالٌ في الحياة الأسرية: جعلت القوامة للرجل، وفي السَّفر جُعلت الإمرة لأحد المسافرين، كذلك في النَّاس عمومًا جُعل أمرهم إلى الخليفة، كذلك النَّاس في الصَّلاة جُعل أمرهم إلى الإمام، حتى لا يحصل الاختلاف، فيبقى النَّاس على استقرارٍ}.
نعم، إيكال الأمر إلى شخصٍ واحدٍ يُظن أنَّه أولى مَن ينظر في هذا الأمر؛ يُحقق الاستقرار في حياة النَّاس، وإلَّا لاضطربوا، فلو كان مثلًا في صلاة الجماعة كل واحدٍ منهم له صوتٌ، كل منهم له رغبةٌ، وأحدٌ يريد تقديم الإمام، وواحدٌ يريد تأخيره، فإذا أوكلنا الأمر إلى صاحب الاختصاص -وهو الإمام- فحينئذٍ يؤدي ذلك إلى وجود استقرارٍ في صلاة الجماعة، ما يضطربون في أداء أركان الصَّلاة لأنَّ عندهم إمامٌ، فتستقر حال الجماعة بوجود هذا الإمام.
هكذا في الأسرة، عندما تكون القوامة للزَّوجِ، ويكون المعتبر اجتهاده هو؛ سينظر إلى رغباتٍ من عنده، لكن في ما يعود على أمور الأسرة من النفع، وبالتَّالي يؤدي ذلك إلى جعل الأسرة تستقر، لأنَّ الأمر ينتهي إلى واحدٍ، هو سيشاور وسيأخذ الرأي، لكن الأمر سيكون معلقًا بواحدٍ، وبالتَّالي تستقر أمور الأسرة، ولا يحصل فيها تنازعٌ واختلافٌ.
وهكذا على مستوى الدَّولة، عندما يوكل الأمر إلى صاحب الولاية، يؤدي ذلك إلى استقرار النَّاس؛ لأنَّ كل واحدٍ من النَّاس له اجتهادٌ، وكل واحدٍ من النَّاس له نظرةٌ، هذا شجاعٌ يُغلِّب نظرة الشَّجاعة، وذاك بضد هذه الصِّفة فيسير على مقتضى صفته، فعندما يوجد إمامٌ يكون هذا الاجتهاد هو الاجتهاد المعتبر.
نعم هذا تطبيقٌ جيدٌ لهذا المقصد.
{الأمثلة على الاستقرار التي جاءت بها الشَّريعة: أن جعل هناك قصاصٌ، حيث قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179]، فهذا أيضًا سببٌ لاستقرار النُّفوس}.
جيد، هذا القصاص ينفي وجود التَّنازع بين القبائل وبين الأُسر، ويُزيل ما في النُّفوس من رغبةٍ في التَّشفي والانتقام، وبالتَّالي تَصلُح أحوال النَّاس وتستقر، هذا مثالٌ جيدٌ، بارك الله فيك.
{جزاك الله خيرًا يا شيخ، أيضًا من الأمثلة: أنَّ الشَّارع أمر بإكرام الجار، وعد إيذائه، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» }.
مثالٌ جيدٌ، يعني هذه الأخلاق الإسلاميَّة التي جاءت في حسن التَّعامل مع الآخرين، ومنهم الجار، تؤدي إلى استقرارٍ مجتمعيٍّ، وبالتَّالي يتحقق المقصود الشَّرعي في هذا الباب، جزاك الله خيرًا.
إذن هذه نماذج لتحقيق هذا المقصد العظيم، ألا وهو: الاستقرار. وما ذكرته قبل قليلٍ هو نماذج للوسائل الشَّرعيَّة التي جاءت بتحقيق هذا المعنى الذي تستقر به النُّفوس والمجتمعات، وبالتَّالي يتمكَّن النَّاسُ من التَّعاونِ والتَّعاضدِ، ويتمكَّن النَّاسُ من ترتيبِ الأمورِ والتَّهيئةِ لها والتخطيطِ لها القيام بها. يعني مثلًا في باب الدعوة إلى الله -عزَّ وجلَّ- هذه الدعوة لن يكون لها مجالٌ إلا إذا وُجد الاستقرار النفسي، بحيث يتمكَّن النَّاس من التفكير في كلام هذا الداعية، واستقرارٌ نفسيٌّ من الداعية نفسه، حينئذٍ سيتمكن من التَّخطيط والتَّرتيب وانتقاء الألفاظ، وإيجاد الحُججِ والبيِّنات التي تحقِّق أو توصل إلى ما يدعو له.
هكذا في ما يتعلق بالاستقرار المجتمعي، إذا كان النَّاس يتنازعون فهم سيكونون مشتغلين بما يحصل بينهم من نزاعاتٍ واضطراباتٍ، وبالتَّالي سيصرفهم عن دعوة هذا الداعي الذي يدعوهم إلى الله -جلَّ وعلَا.
وهكذا في باب الاستقرار الدولي، فإنَّ النَّاس إذا كانت بينهم حروبٌ ونزاعاتٌ، فحينئذٍ سيشتغل النَّاس بهذا الباب، وسيتعصب كل منهم لأصحابه وجماعته أو دولته، وبالتَّالي يؤدي بهم إلى ألا يقبلوا من الداعي إلى الله -عزَّ وجلَّ- ما يدعو إليه، ولذلك نشاهد مَن يُطبِّق المنهج الإسلامي، ويسعى إلى مراعاةِ مقاصد الشَّريعة، أنَّهم يسعون إلى إيجاد الاستقرار في الدِّول، والاستقرار على جميع الأصعدة، بخلاف مَن يخالف المقصود الشرعي -حتى ولو تسمى بالإسلام- فعندما يدعو إلى خلاف هذا المقصد الشرعي، فهو في الحقيقة لم يدعُ إلى ما جاءت به الشَّريعة، ولم يلتفت إلى المعاني العظيمة التي جاءت بها شريعتنا المباركة.
بارك الله فيكم، وجزاكم الله خيرًا، وجعلكم الله ممن يُحقق مقاصد الشَّرع، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يوفِّق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لكل خيرٍ، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتُّقى والصَّلاح، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يزرع الأمن النَّفسي والاجتماعي والأُسري والدَّولي والاستقرار في كافَّة المجالات، وأسأله -جلَّ وعلَا- أن يجعل مجتمعاتنا مستقرةً آمنةً، يحب النَّاس بعضهم بعضًا، ويساعد بعضهم بعضًا، يألفون ويؤلفون، وأن تُحقن دماؤهم، وأن تُصان أموالهم، وأن تُحفظ حقوقهم، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يُوفِّق ولاة أمور المسلمين في كل مكانٍ لكل خيرٍ، وأن يجعلهم من أسباب الاستقرار والأمن والطمأنينة، وأسأله -جلَّ وعلَا- أن يُبعد الاضطراب عن الجميع، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك