الدرس الثاني

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

10724 11
الدرس الثاني

مقاصد الشريعة

الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد..
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في تدارس مقاصد الشريعة، حيث سَبق معنا لقاء تحدثنا فيه عن مُقدمات هذا العلم، وعن التعريف به، وعن أهميته، وعن بيان حدوده، وعن بيان أثر معرفة مقاصد الشريعة، سواءً فيما يتعلق بتقرير الأحكام، أو في معرفة من يكون أهلًا للفتوى والفقه.
وفي هذا اليوم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- نتدارس في المقصد الأول من مقاصد الشريعة ألا وهو: "مقصد تحقيق العبودية لله عزَّ وجلَّ".
فهذا المقصد هو من أعظم المقاصد الشرعية التي يجب على العباد أن يقوموا بمراعاتها، وقد بَيَّنَ الله -عزَّ وجلَّ- أنَّ بعثة الأنبياء -عليهم السلام- قد جاءت بتحقيق هذا المقصد، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، ومن هنا كان أنبياء الله عليهم السلام يدعون أقوامهم لتحقيق هذا المقصد، فكل نبي يقول لقومه: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾، ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ﴾ [فصلت: 14]، في جميع قصص الأنبياء الواردة في كتاب الله عزَّ وجلَّ.
بل إنَّ خَلقَ الخَلقِ إنما جاء من أجل تحقيق هذا المقصد، مَا الدليل؟
قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ومِن هُنا فإنَّ أوَّل أَمر في القرآن يقرأه الإنسان في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- هو قوله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].
والناظر في آيات القرآن يجد أنها كلها لتحقيق هذا المقصد، كيف؟
- مرةً بإقامة الأدلة على وجوب عبودية الله وحده، وتحريم صرف العبادة لغير الله.
- ومرةً ببيان قصص الأنبياء الذين جاءوا بالدعوة إلى عبودية الله سبحانه وتعالى.
- ومرةً ببيان العبادات وبيان صفتها وتقرير أحكامها.
- ومرةً ببيان ثواب أهل العبادة، وبيان عقوبة من ترك العبادة.
ولذلك فهذا المقصد العظيم هو من أهم مقاصد الشريعة، وهو الذي تُبنى عليه الأحكام الشرعية.
والعبودية في لغة العرب فيها معنى التذلل والخضوع، ولذلك يقال: طريقٌ مُعبَّدٌ، أي: مُذللٌ تتمكن السيارات والحيوانات من المشي عليه بسهولةٍ ويسرٍ؛ لأنه قد ذلل الطريق لهم.
وأمَّا العبادة في الاصطلاح فتتضمن خمسة معانٍ رئيسةٍ، وهناك معانٍ تابعةٌ.
أول هذه المعاني: العبودية والذل، فإن العبد مطالبٌ أن يخضع لأمر الله سبحانه وتعالى.
والأمر الثاني: الخشوع والخوف من الله عزَّ وجلَّ ، كما قال عزَّ وجلَّ : ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، وكما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 39].
المعنى الثالث: الرجاء، بحيث يكون قلب الإنسان معلقًا بفضل الله، يؤمل في خيره وبره، يؤمل في ثوابه سبحانه وتعالى، وقد وصف الله -عزَّ وجلَّ- الأنبياء بأنهم يدعون الله خوفًا وطمعًا، الطمع: هذا هو الرجاء، ﴿وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَع﴾ [الأعراف: 56].
كذلك -أيضًا- من معاني العبودية التي تستكمل بها: "المحبة"؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ﴾ [البقرة: 165]، وقال عن المؤمنين: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54].
وهناك معنًى خامسٌ يتعلق باستشعار مراقبة رب العزة والجلال.
فهذه المعاني تستكمل معاني العبودية، فمن وُجدت عنده، فقد وُجدت عنده العبودية، وبعض الناس قد توجد في بعض أعمالهم بعض هذه المعاني دون الجميع، مثلًا: قد يؤدي حقوق الآخرين خوفًا من الله، لا رجاءً لفضله، ولا خضوعًا لأمره، وهكذا قد يقوم ببعض الصدقات رجاءً في وعد الله -عزَّ وجلَّ، ومن ثمّ فإنَّ الإنسان ينبغي عليه أن يستكمل هذه المعاني.
من المعنى الخامس أيضًا معنى الإخلاص، الذي يُراد به تأدية العبد العمل طلبًا لرضا الله وأملًا في الأجر الأخروي، فكثيرٌ من الناس قد يُخطئ في مفهوم الإخلاص، ويظن أنَّ المراد بالإخلاص إتقان العمل، وأداؤه على أحسن وجوهه، وهذا أثرٌ مِن أثر الإخلاص، وإنما الإخلاص الحقيقي هو أنك تؤدي العمل لله وحده تريد بذلك آخرتك.
إذن تحقيق العبودية هو مقصدٌ من مقاصد الشرع، وتحقيق العبودية يجري مع العبد في كل حياته، وكما تقدم فهناك معانٍ تابعةٌ تتضمنها العبودية مثل: "الشكر، الصبر".
شُكر الله -عزَّ وجلَّ- يتضمن معنى العبودية، وهكذا أيضًا الصبر، فإنك عندما ترضى بقضاء الله وقدره ترضى بأمر الله الكوني، وأمره الشرعي، فحينئذٍ تكون صابرًا محتسبًا، ومن ثم يؤدي هذا إلى تكميل معنى العبودية.
فهذه المعاني القلبية كلها تتضمنها معنى العبودية، وهذه المعاني القلبية تنتج أعمالًا بدنيةً وأعمالًا قلبيةً، وأعمالًا لسانيةً، يؤديها الإنسان ويتقرب بها إلى الله -عزَّ وجلَّ- ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، أَوْ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، شُعْبَةً، أَعْلاهَا شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ» قول، «وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» عمل، «وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» هذا من أعمال القلوب.
إذا تقرر هذا المعنى فإنَّ العبادة لها شرطان، لابد أن يكونا موجوديْن فيها، الأمور الخمسة السابقة هذه أركان داخل العبادة، وهذه شروطٌ لا تصح العبادة إلا بوجودها.
الشرط الأول: أن تكون العبادة لله وحده، لا تؤدى العبادة لغير الله، ولا يراد بها غير وجه الله سبحانه وتعالى، فإنَّ مَن أدى عبادةً لغير الله كانت تلك العبادة شركًا، قد تكون شركًا أكبر وقد تكون شركًا أصغر، ما الفرق بينهما؟
من فعل العِبادة عبادةً وقربى لغير الله كانت شركًا أكبر؛ لأنَّه عَبَدَ غَير الله، وَمَن أَدى العبادة لغير الله على جِهة الرياء والسمعة لا على جهة العبودية له، فهذا شركٌ أصغر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» .
وحينئذٍ ينبغي بنا أن نتدارس هذا الشرك، وأن نعلم أحكامه، وأن نعرف أقسامه، من أجل أن نتفاداه، ولا يقولنَّ قائلٌ إنَّ الناس عندهم عقولٌ، وأصبحوا يعرفون أن المخلوقات لا تنفع ولا تضر، وأن النافع الضار هو الله، فإنَّ الأوائل عندهم من الاهتمام وعندهم من العقل ما هو كثيرٌ، ومع ذلك لم يعصمهم من الوقوع في الشرك، وإذا كان أنبياء الله الذين لهم المكانة العليا والمنزلة الرفيعة يخافون على أنفسهم وعلى من معهم وعلى ذراريهم من الشرك، كيف لا نخافه على أنفسنا، ولذا قال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35].
ولذلك فهذا المقصد العظيم وهو مقصد العبودية لله وإفراده بالعبودية، يجعلنا نسد الطرق المؤدية لصرف العبادات لغير الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك مثلًا: تعظيم ما يمكن أن يُعبد على العصور وعلى مدى الأزمان الآتية، ولا يتصور الإنسان أن العبودية مجرد اعتقاد الضر والنفع، بل إذا صرفتَ شيئًا من الأعمال توجد فيه الأمور الخمسة السابقة فحينئذٍ يقال لك: إنَّك عبدتَ غير الله، وأنك أشركتَ، مثال ذلك: في بعض البلدان يتذللون بالمشي على ركبهم ليصلوا إلى من يريدون، يخافونه، ويرجونه، ويحبونه، ويخضعون ويذلون له، ويخلصون له، فنقول: هذه عبوديةٌ لغير الله سبحانه وتعالى تكون من أنواع الشرك الداخلة في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].
وأضرب لذلك أمثلةً:
يأتينا بعض الناس وهو يعبد أو يصلي أو يسجد لبعض المخلوقات، لماذا؟
يقول: هذا منزلته عاليةٌ عند الله.
فنقول: هل تعتقد أنه ينفع أو يضر؟
يقول: لا لكنه يُقربني لله.
نقول: هذه عبوديةٌ لغير الله؛ لأنَّه قد أشرك في توحيد الألوهية؛ ولذا قال الله عزَّ وجلَّ على لسان أولئك المشركين: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ﴾ [الزمر: 3]، وهم يؤمنون بوجود الله، ويؤمنون أنَّ الله هو النَّافع الضَّار، ويؤمنون أنه هو المتصرف في الكون، ويؤمنون أنَّه هو الذي يرزقهم، ومع ذلك يتوجهون إلى هذه الأصنام بعباداتٍ مِن جِنس دعائهم أو السجود لهم ليقربوهم إلى الله، فكان هذا من أسباب الحكم عليهم بأنهم من أهل الشرك؛ ولذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]، فما كان خالصًا لله فيقبله الله، وما كان من العبادات يصرف منه شيءٌ لغير الله -عزَّ وجلَّ- فإنَّ الله لا يقبله؛ ولذلك قال الله -عزَّ وجلَّ- في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» ، فيه نصوصٌ كثيرةٌ تدل على هذا المعنى.
وأضرب لذلك مثلًا: عبودية الدعاء، هذه يجب أن تكون لله -عزَّ وجلَّ-، فالدعاء عبادةٌ؛ لأنه يتضمن المعاني الخمسة، فيه خضوعٌ، وفيه رجاءٌ أن يجاب الدعاء، وفيه خوفٌ، وفيه استشعار لمراقبة رب العزة والجلال، وفيه أيضًا دلالةٌ على محبة الداعي لمن يدعوه.
فالدعاء عبادةٌ، ولذلك لابد أن تكون العبادة لله -سبحانه وتعالى، ولا يجوز صرفها لغيره -عزَّ وجلَّ، وقد قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]، فجعل الدعاء جزءًا من أجزاء العبادة.
وبين -عزَّ وجلَّ- أنَّ الدعاء حق خالص له، فقال: ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَد﴾ [الجن: 18]، وقال سبحانه: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117]، وكما قال تعالى مبينًا أن الداعين يُتبرأ منهم يوم القيامة من قبل المدعوين: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 5، 6].
فحينئذٍ نقول: إنَّ الدعاء عبادةٌ، كما ورد في الحديث ، ومِن ثَمَّ لابد أن يكون الدعاء لله وحده، ولا يجوز أن يُصرف لغير الله كائنًا من كان، ولو كان من الأنبياء، أو الملائكة، أو الأولياء، أو الصالحين، أو الأشجار، أو الأحجار، أو الأصنام، لا فرق، لأن فيه صرف عبادةٍ لغير الله عزَّ وجلَّ .
ومن هنا فَسَّر النبي صلى الله عليه وسلم حق الله على العباد بأن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا ، وأخبر بأن من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ومات على ذلك كان من أهل الجنة .
ومن هنا فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين هَديه وهدي المشركين في الحج، فكانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكًا تملكه وما ملك ، فهم يقرُّون بوجود الله، ويقرُّون أن أصل التلبية له، ويقرُّون أن هذه المعبودات التي تعبد من دون الله أنها مملوكةٌ مربوبةٌ لله، لكنهم يصرفون لها شيئًا من العبودية، ومنها التلبية، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء بتلبية التوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، فأفرد الله بالتلبية، ولم يجعل له شريكًا في تلبيته.
المقصود أنَّ هذا شرطٌ من شروط العبودية، وهو أن تكون العبادة لله وحده -سبحانه وتعالى- لا يصرف شيءٌ من العبادة لغير الله، ولا يقصد الإنسان بعباداته غير الله -عزَّ وجلَّ-.
والشرط الثاني من شروط العبادة أن تكون على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هديه، فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد جعل هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو المعرف للعباد لطريق عبوديتهم لله -عزَّ وجلَّ- فبعثه الله ليعرف الناس كيف يعبدون الله.
ومن هنا أمر الله عزَّ وجلَّ المؤمنين ألا يخترعوا عباداتٍ جديدةً من عند أنفسهم، بل يكونون في العبادة تابعين لهذا النبي الكريم، ولذا قال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، وقال عزَّ وجلَّ : ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِير﴾ [الأحزاب: 21]، وقال تعالى عائبًا على من سار في عبوديته على غير هذه الطريقة ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
وجاء في عددٍ من الأحاديث التأكيد على هذا المعنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» ، أي: مردودٌ غير مقبولٍ عند الله عزَّ وجلَّ .
ومن هذا المنطلق نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البدع، وقال: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» ، وأمرنا بالاقتداء بسنته والسير على طريقته، فالنجاة هي في التزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكل عبادةٍ جديدةٍ ليس على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فيقال لها بدعةٌ.
هل البدع منها ما هو محمودٌ ومنها ما هو مذمومٌ؟ وهل منها ما هو حسنٌ، ومنها ما هو قبيحٌ؟
نقول الفيصل في هذا الرجوع إلى النصوص.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»، كل: أداةٍ من أدوات العموم، لم يفرق بين بدعةٍ وأخرى، فمن جاءنا بالتقسيم، وقال: إنها تنقسم خمسة أقسامٍ، قلنا: يا أخي ما هذا؟
هذا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ».
قال: عندي أعمالٌ مبتدعةٌ مخترعةٌ جديدةٌ لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: هذه الأعمال على نوعين: إمَّا أن تكون من العادات، وليست من العبادات، فهذا أمرٌ عاديٌّ، ونحن نتكلم عن العبادات؛ لأن البدعة لا تكون إلا فيما يُقصد به التعبد لله، أمَّا ما يفعله الناس بأمورٍ دنيويةٍ أو لغير أمر العبادة، فهذا لا يدخل عندنا في باب البدع.
والشيء الثاني ما يكون وسيلةً إلى عبادةٍ، فهذا ليس مقصودًا لذاته، بالتالي ليس عبادةً مستقلةً يقال عنه بدعةٌ، قال: أنا أروح للمسجد بالسيارة، والسيارة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، نقول: هذا وسيلةٌ، الذهاب بالسيارة ليس مقصودًا بذاته، المقصود الصلاة بالمسجد، الصلاة بالمسجد أمرٌ مشروعٌ من عهد النبوة.
جاءنا واحدٌ وقال: البناء العلمي والأكاديمية الإسلامية هذه من البدع لأنها لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول له: هذه وسيلةٌ؛ لأن المقصود منها تعلُّم العلم وتعليمه الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» ، «وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ» .
ومن ثم فهذه وسيلةٌ لتحقيق الحكم الشرعي أو المقصد الشرعي، ومن ثم لا يحكم عليها بحكم لذاتها، لأنها مرةً قد تستعمل في شرٍّ، ومرةً قد تستعمل في خيرٍ، وبالتالي ليست مقصودةً لذاتها.
فإن قال قائلٌ: ورد عن عمر أنه قال: "نعمت البدعة هذه" فنقول: على فرض أنه يريد هذه البدعة التي تقصدون، نترك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسير على كلام غيره، ثم هو يريد بهذا المعنى اللغوي؛ لأن الناس في زمن النبوة كانوا يصلون التراويح في المسجد الواحد جماعاتٍ، هنا جماعةٌ، وهنا جماعةٌ، وهناك جماعةٌ، وكل جماعةٍ وحدها، فخمس جماعاتٍ ست جماعاتٍ في المسجد، وكل منهم يقرأ، فرأى عمر أن يجمعهم على إمامٍ واحدٍ، إذن صلاة التراويح موجودةٌ في وقت النبوة، وأداءها جماعة كان موجودا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يجتمعون على إمامٍ واحدٍ، يصلي الرجل ويصلي بصلاته الخمسة، وبصلاته الستة، بحسب أعدادهم، فأمرهم عمر أن يجتمعوا على إمامٍ واحدٍ، فليس هنا صلاةٌ جديدةٌ، ولا جماعةٌ جديدةٌ، وإنما فيه اجتماع الجماعات، وبالتالي فليست بدعةً بالمعنى الاصطلاحي الشرعي، وإن كانت قد تكون طريقةً جديدةً لكونها ليست هي المعهودة في عهد النبوة وإنما المعهود تفرقهم بجماعاتٍ فجمعهم على إمامٍ واحدٍ.
إذا تقرر هذا فإنَّ العبادة لابد أن تكون موافقةً للشرع في عددٍ من الأمور:
أولاً: أصل العبادة لابد أن يكون مشروعًا، فمن جاءنا بعباداتٍ جديدةٍ ليست معروفةً ولم تأتِ بها الشريعة، نقول: هذه من البدع، ومن أمثلة ذلك:
عبودية الله -عزَّ وجلَّ- بالرقص، نقول: لم يأتِ الشرع بهذه العبادة، لا يوجد في الشرع عبودية بالرقص، أو ضرب الطبول، نقول: هذا مخالفٌ، ويدخل فيه حديث: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» .
الأمر الثاني: الموافقة للشريعة في كيفية العبادة، الأول في أصل العبادة، والثاني في كيفية العبادة، فمثلا:
لو جاءنا إنسانٌ، وصلى صلاة الظهر خمس ركعاتٍ، ست ركعاتٍ، فنقول له: خلاف الهدي النبوي، قال: أنا زدتُ في العبادة، أتيتُ بزيادةٍ، والزيادة المفروض أن تُقبل، فنقول له: لابد من موافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كيفية العبادة.
لو جاءنا إنسانٌ وصلى صلاةً، وقدم السجود على الركوع، وقال: السجود أقرب ما يكون العبد من ربه، فأقدمه على الركوع، فنقول: هذا بدعةٌ، لأنه خالف صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكيفية، فقد كان يقدم الركوع على السجود، ويكون هذا الفعل فعلًا مبتدعًا، غير مقبولٍ عند الله -عزَّ وجلَّ.
وهكذا أيضًا لابد أن تكون العبادة موافقةً في عددها، لو جاءنا إنسانٌ، وقال: أنا أريد أن أصوم رمضان خمسةً وثلاثين يومًا، نقول: لا يُقبل هذا، لم لا يُقبل؟ نقول: لأنه خلاف الهدي النبوي الكريم في هذه العبادة من جهة العدد.
لو جاءنا إنسانٌ وتوضأ، فزاد في الوضوء أربع مراتٍ، خمس مراتٍ، نقول: خالفتَ هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وبالتالي يكون مردودًا، والفرق بين ما كانت البدعة فيه في العدد، وما يكون في الصفة، أن ما يكون في الصفة يكون مبطلًا لأصل العمل، بخلاف العدد، فإنه متى كان منفصلًا مستقلًا فإنه لا يُبطل أصل العمل.
الأمر الرابع: الموافقة في مكان العبادة، فإذا شُرعت العبادة في مكانٍ، فلا يجوز أن نعبد الله في مكانٍ آخر بنفس تلك العبادة، مثال ذلك:
الطواف بالبيت، عبودية الطواف شُرعت عند البيت الحرام، كما قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، العتيق يعني: القديم، فلو جاءنا إنسانٌ وقال: الطواف مشروعٌ، وبالتالي أنا أريد أن أطوف بالمسجد النبوي، نقول: بدعةٌ، ما يجوز، لماذا؟ أليس الطواف مشروعًا في دين الإسلام؟ قلنا: نعم ولكنك وإن وافقته في أصل الطواف، إلا أنك خالفته في مكان العبادة.
وكذلك مما يلزم موافقة الشرع فيه: الموافقة في زمان العبادة، فإن جاءت الشريعة بعبادةٍ في زمانٍ، فحينئذٍ لابد أن نوافق الشرع في ذلك الزمن.
مثال ذلك: الأضحية متى تُشرع؟ يوم عيد الأضحى، وأيام التشريق، لو جاءنا إنسانٌ وقال: أنا أريد أن أذبح ذبيحةً في شهر ربيع، أضحيةً، قلنا له: الأضحية في شهر ذي الحجة، قال: عبادة خيرٍ، فنقول: لا، هذه عبادة شرٍّ، ليست عبادة خيرٍ، مادُمتَ تنوي أنها أضحيةٌ، وتجعل هذا الوقت موسمًا للأضحية، فحينئذٍ لا يجوز لك ذلك.
ومن هذا ما ورد عن بعض العرب أنهم يجعلون ذبيحةً في شهر رجب، يسمونها العتيرة، فلمَّا جاء الشرع نهى عنها.
العتيرة ما هي؟ أضحيةٌ أو ذبيحةٌ في شهر رجب، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» ، ما الفَرَع؟
كانوا في الزمان السابق يذبحون أول نتاج البهيمة، ويسمى الفَرَع، أمَّا العتيرة فهي الذبيحة التي تُذبح في شهر رجب، فنُهي عن ذلك، لماذا؟ لأنه مخالفٌ لهدي نبي الله -صلى الله عليه وسلم.
إذن لابد من الموافقة للشريعة في هذه الأمور، ولا يجوز لنا أن نخالف الشرع في هذه الأمور.
هناك أشياءٌ تجعل الناس يبتعدون عن تحقيق عبودية الله -عزَّ وجلَّ؛ ولذلك جاءت الشريعة بالنهي عن هذه الأمور.
أولها: اتباع الهوى، فإنَّ اتباع الإنسان لرغباته وشهواته، يجعله يبتعد عن تحقيق هذا المقصد العظيم، مقصد العبودية لله -سبحانه وتعالى- ولذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿ولَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26]، وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23]، عاب عليه أنه اتخذ الهوى إلهًا.
هل هناك فرقٌ بين هذين المعنيين؟ اتخاذ الهوى إلهًا، واتباع الهوى؟
بعض أهل العلم قال: اتباع الهوى، ترك الشرع، وترك العبودية لله، مجاراةً للهوى، وأمَّا الآخر، فقال: تكون عباداته على وفق ما تهواه نفسه، لا على وفق ما أمر الله -عزَّ وجلَّ- به.
وهنا شيءٌ، وهو أن بعض الناس قد يوافق هواه ما جاءت به الشريعة، وقد ورد خبرٌ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يُؤْمِن أَحَدكُمْ حَتَّى يَكُون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ» ، لكن هذا الحديث ضعيف الإسناد جدًّا، لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وبالتالي لا يصح التعويل عليه.
لكن هناك من يكون هواه موافقًا للأمر، وهناك من يكون هواه مخالفًا للأمر، فالناس عندنا ثلاثة منازل:
المنزلة الأولى: من خالف هواه الشرعَ، فعمل بالهوى وترك الشرع، فهذا ضالٌّ، عاصٍ لله -عزَّ وجلَّ.
الثاني: من توافق هواه مع أمر الشارع، فعمله، فهذا يكون مأجورًا مُثابًا.
والثالث: من كان هواه مخالفًا للشرع، ومع ذلك سار على مقتضى الشرع، وترك هوى نفسه، فهذا بأعلى المنازل، لماذا؟ لأنه وجد عنده الداعي لترك الطاعة، ومع ذلك لم يستجب له، واستجاب لأمر الله -عزَّ وجلَّ.
وهذه قاعدةٌ، أنه إذا ضعف الوازع أو الطبع الداعي إلى الفعل، أوكل الناس إلى ما في فطرهم، وما في رغباتهم، بخلاف ما إذا قويت الرغبة، ومن هنا تجد أن الأمور المطلوبات الشرعية التي توافق هوى الناس، وتطلعاتهم، لا يشدد على الأمر فيها، مثلًا قضية الطهارة، تتوافق مع النفوس، ولذلك لم يشدد فيها، ولم يضع فيها عقوبةً، ولم يضع فيها تعزيرًا ولا تشديدًا، لأنها تتوافق مع رغبات النفوس، بخلاف مثلًا فعل الفواحش، فإنه قد قُررت فيه العقوبات، لأن الداعي لها موجودٌ في نوازع النفوس، وهوى النفوس تستجلبهم لفعل تلك الأعمال، وبالتالي جاءت العقوبات لهم لتردعهم عن اتباع أهوائهم بفعل هذه المنكرات.
ومن هنا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ، ذكر منهم: «أُشَيْمِطٌ زَانٍ»، الأشيمط هو كبير السن، فإن كبير السن، يضعف الداعي عنده، فإذا كبر سنه، ضعف ووجد عنده من الرغبة في الآخرة وتذكرها، ما لا يوجد عند صغير السن، فإذا كان مع ذلك يزني، فكان الداعي للمعصية قليلًا، ومع ذلك يفعل المعصية، ويتبع هواه، فحينئذٍ كانت عقوبته أشد.
قال: «وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ»، لأن طبيعة العائل أن يتذلل للناس، وأن يخضع لهم، فإذا كان عائلًا ومع ذلك يتكبر، استحق عقوبة أكثر.
و«ملكٌ كذابٌ» ، فإن الملوك لا يحتاجون إلى الكذب، ولذلك كانت عقوبتهم في الكذب أشد من عقوبة غيرهم.
ومر عليَّ في بعض التفاسير في تفسير سورة يوسف، أنه وجد عنده الداعي، لكنه تركه لله -عزَّ وجلَّ- في قصته مع امرأة العزيز، وبذلك كان أجره أكثر.
إذا تقرر هذا فلنعلم أنَّ اتباع الهوى يعد من الصوارف التي تصرف الناس عن عبودية الله -عزَّ وجلَّ-؛ ولذلك جاءت الشريعة في النهي عنها.
كذلك لما جاء الشرع بالتأكيد في مسألة تقليد الآباء والأجداد في ترك مقتضى العبودية لرب العزة والجلال، ولذا عاب الله على الذين يسيرون على طريقة آبائهم وأجدادهم، من غير النظر في مقتضى الأدلة التي تجعل الناس يحققون المقصود من خلقهم، ألا وهو عبودية الله -عزَّ وجلَّ- ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170].
وانظر في يوم القيامة ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرً﴾ [الأحزاب: 68]، فيه تذكيرٌ بهذا المعنى.
وانظر في قول الله -تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 165، 166]، فهنا عاب عليهم لكونهم في الدنيا قد اتبعوا كبراءهم وسادتهم وآباءهم وأجدادهم في ترك مقتضى العبودية لله -سبحانه وتعالى.
أيضًا من الصوارف، الاستجابة للولاية الظالمة الكافرة التي تجعل الناس يبتعدون عن الله وصفاته عن شرعه، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» فإنه وإن جاءت الشريعة بالسمع والطاعة لأصحاب الولاية، لكنهم إذا أمروا بترك عبودية الله -عزَّ وجلَّ- فإنهم لا يُطاعون في ذلك الجانب؛ لذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ» ، وقال: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» .
إذن هذه أمور قد تصرف الناس عن تحقيق هذا المقصد؛ ولذلك جاءت الشريعة بالتأكيد في التحذير من هذه الجوانب لأن لا تصرف الناس عن تحقيق هذا المقصد العظيم.
إذا تقرر هذا فإن باب العبودية ليس مقتصرًا في بابٍ دون بابٍ، العبودية ومقصد العبودية يشمل جميع أبواب الحياة بلا استثناءٍ، فمن أراد أن يحصره في جانبٍ من جوانب الحياة فقد أخطأ، وقد خالف شرع رب العزة والجلال، ولذا قال الله -تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 163]، ومن هنا فباب العبودية مستكملٌ لجميع أجزاء الحياة، سواءً كان في العبادات، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، اعتكاف، جهاد، أو كان في أبواب المعاملات، من الضوابط للمعاملات، لابد السير معها والالتزام معها، الربا لا يجوز، القمار لا يجوز، الغش والتدليس لا يجوز، وكذلك في أبواب الأنكحة، هناك ضوابط شرعيةٌ في هذا الباب لابد من التزامها، وهكذا في باب الحدود، في باب العقوبات، في باب الجنايات، في أبواب القضاء، لابد من التزام أحكام الشريعة في جميع مناحي الحياة.
والأعمال على نوعين: ما يتمحض أن يكون عبادةً مثل الصلاة والحج، فهذه لابد أن ننوي بها أنها لله لينيلنا الآخرة، نقصد بها أن تكون لله لننال الأجر الأخروي، والناس فيها على ثلاثة أصنافٍ: منهم من يفعلها لله لينال الآخرة، وهذا المأجور المثاب الموحد، ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ولَا أُشْرِكَ بِهِ﴾ [الرعد: 36] وآخر سورة الكف ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عملًا صَالِحً﴾ [الكهف: 110] أي يعبد الله عبوديةً صالحةً تكون لله وحده، وتكون على وفق ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- ﴿فَلْيَعْمَلْ عملًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً﴾ [الكهف: 110]، قال -تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].
الصنف الثاني: من عمل هذه العبادة لله لينال الدنيا، فليس له إلا الدنيا، كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورً﴾ [الإسراء: 18]، قال: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15، 16]، لماذا بطل؟ لأنهم لم يريدوا إلا الدنيا، فلما جاءوا إلى الآخرة لم يجدوا أجرًا، لأنهم لم يقصدوا الآخرة، قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» .
أما القسم الثالث: فهو من أدى هذه العبادات لمقصدٍ دنيويٍّ، فهذا شركٌ، إن كان قصد به العبودية لغير الله فهو شركٌ أكبر، وإن كان لم يقصد به العبودية وإنما قصد تحقيق أمرٍ دنيويٍّ ومكاسب تهواها النفس، فهذا شركٌ أصغر، تعلَّمَ العلم ليماري به السفهاء، أو ليجاري به الفقهاء، فنقول: هذا العمل لم يخلص لله -عزَّ وجلَّ-، وبالتالي لم يقبل منه «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» ليس كمثل القسم الأول الذي هاجر إلى الله ورسوله، فكانت هجرته إلى الله ورسوله.
بينما هناك أعمال قسمٍ آخر لا تتمحض أن تكون عبادةً، مثل الأخلاق الفاضلة، مثل الصدقة، مثل أيضًا ما يتعلق ببر الوالدين، مثل سداد الديون، فهذه الأعمال من نوى أنها لله وسيلةً لطاعةٍ من الطاعات، كان مأجورًا، أو لتحقيق أمرٍ شرعيٍّ، الله أمرك بوفاء الديون، تؤديه وفاءً تكون مأجورًا، الله أمر ببر والديك وبالنفقة على أبنائك، فأنت تفعله امتثالًا للأمر، فتكون مأجورًا، أما من فعلها للدنيا، فحينئذٍ ليس عليه وزرٌ ولكن ليس له أجرٌ، لأنه لم يقصد الأجر الأخروي، ويتمكن الإنسان من قلب جميع أعماله لتكون محققةً لهذا المعنى، فيقصد بنومه التقوي على طاعته، ويقصد بأكله تقوية بدنه على عبودية الله -سبحانه وتعالى، فيكون مأجورًا مثابًا على كل لحظةٍ يؤديها في هذه الأعمال.
إذن من خلال ما سبق عرفنا أنَّ مِن أعظم مقاصد الشريعة إقامة العبودية لله -عزَّ وجلَّ- وأنها هي التي من أجلها أرسل الرسل ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25] أي وحدوني بهذه العبادة ولا تصرفوها لأحدٍ سواي، وحينئذٍ نعلم أن هذا المقصد يجب علينا أن نسعى لتحقيقه في أنفسنا، في دعوتنا ندعو الناس عبوديةً لله -عزَّ وجلَّ- لا ليكون لنا مكانةٌ، ولا لننال ملكًا، ولا ليكون منزلةً، ولا لمقاصد ومكاسب سياسيةٍ، وإنما ندعو إلى الله لتصلح آخرتنا، لا لرفعة شأننا في الدنيا وإنما ليرضى الله -عزَّ وجلَّ- عنا، ونحصل على الأجر الأخروي فترتفع درجاتنا في جنات الخلد يوم القيامة.
وإن كانت هناك مصالح دنيويةٌ تحصل بتحقيق الشريعة لكنها ليست مقصدًا لنا، تأتي على جهة التبع، ففرق بين ما نقصد وبين ما يأتينا من آثارٍ لتحقيق مقتضى العبودية في الدنيا، «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سُئل عَن الثَّناء.
إذن اتضح لنا هذا المقصد العظيم وهو من أعظم مقاصد الشريعة، ألا وهو تحقيق العبودية لله -سبحانه وتعالى- فيكون الله المعبودَ وحده دون من سواه، وهذا هو معنى كلمة التوحيد التي يدخل بها الإنسان في دين الإسلام، لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله -عزَّ وجلَّ، وحينئذٍ نعلم أنه ليس المراد بهذه الكلمة أنه: "لا رازق"، أو "لا موجود"، كل هذه معانٍ خطأ، فإنَّ الإله في لغة العرب معناها المعبودٌ، وتأله أي: عبده، وبالتالي نعرف معنى هذه الكلمة، ومثله ما جاء في النصوص بأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو الإله في الأرض وفي السماء، أي: هو المعبود في الأرض وفي السماء.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لتحقيق مقصد العبودية لله -عزَّ وَجَلَّ- وجميع المسلمين، كما أسأله -عزَّ وجلَّ- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دنيه ردًّا حميدًا، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك