الدرس الثالث

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

10724 11
الدرس الثالث

مقاصد الشريعة

الحمد لله رب العالمين، نحمده على نعمه، ومن أعظم نعمه علينا أن هدانا لدين الإسلام، الجالب لخيري الدنيا والآخرة، فنحمده على هذه النعم، ونشكره أن دفع عنَّا النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد.. فتحدثت فيما مضى عن مقصدٍ من مقاصد الشريعة ألا وهو: تحقيق العبودية لله جلَّ وعلَا.
وأتحدث في هذا اليوم عن مقصدٍ آخر من مقاصد الشريعة ألا وهو: جلب المصالح ودرء المفاسد.
فإنَّ مِن المعًاني العظيمة الكلية والغايات الكبيرة التي وردت بها هذه الشريعة المباركة، جلب المصالح للخلق ودرء المفاسد عنهم.
وهذه القاعدة قد دَلَّ عَليها أدلةٌ شرعيةٌ كثيرةٌ، مِن ذلك قول الله جلَّ وعلَا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، فحصر هذه الرسالة المباركة في كونها رحمةً للعالمين.
ومن مقتضى كونها رحمةً أن تجلب المصالح وأن تدرأ المفاسد.
ويدل على ذلك أيضًا قول الله جلَّ وعلَا: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِين﴾ [المائدة: 3].
فإتمام النعمة بهذه الشريعة يقتضي أن تجلب الخير والمصلحة للعباد في دنياهم وفي آخرتهم.
ويدل على هذه القاعدة أيضًا قول الله تعالى: ﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 6].
ويدل على هذه القاعدة أيضًا قول الله جلَّ وعلَا: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ [المائدة: 4]، والآية التي بعدها ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ [المائدة: 5]، ومثلها آية الأعراف في وصف النبي صلى الله عليه وسلم حينما وصفه ربه بأنه يُحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.
ويدل عليه أيضًا مثل قوله جلَّ وعلَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172]، وقوله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، فمن مقتضى إباحته الطيبات لهم نستنتج أنَّ الله جلَّ وعلَا أراد الخير وأراد تحقيق مصالح العباد بهذه الشريعة المباركة.
ويدل على هذه القاعدة العديد من النصوص الشرعية، التي فيها تعليلٌ للأحكام بما يحقق مصالح العباد، مثل قوله جلَّ وعلَا: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 179].
ويدل على هذا المقصد العظيم استقراء أحكام الشريعة، حيث إنَّ الناظر في أحكام الشريعة يجد أنها تحقق مصالح العباد.
ويتعلق بهذا قاعدة وهي: "هل الأصل في الأحكام الشرعية أنها معللةٌ أو أنها تعبديةٌ؟"
وقد حُكي خلافٌ كثيرٌ في هذا ولكنَّ الناظر في النواحي التطبيقية لكلام الفقهاء يجد أنهم تقريبًا قد اتفقوا على أنَّ الأحكام الشرعية معللةٌ، وأنَّ هذه الأحكام مربوطةٌ بمعًانٍ وأوصافٍ تجعل الفقهاء يقيسون عليها ويلحقون بها مثيلاتها.
ومن هنا نقول: هذا البحث وإن كان بحثًا نظريًّا لكنه عند التطبيق لا يتناقض مع ما قررناه من كون جلب المصالح ودرء المفاسد من مقاصد الشريعة.
وقد يقول قائلٌ: نجد في بعض المسائل ما لا تتحقق معه المصلحة، وقد يُمثلون له بأن الشريعة منعت من التجارة في المحرمات مع أنَّ التجارة فيها تحقق بعضًا من المصالح، فيقال:
هنا قاعدةٌ أخرى وهي أنَّ الفعل متى كان فيه جانب مصلحةٍ وجانب مفسدةٍ، روعي فيه الجانب الأعظم، فالشريعة تُراعي الجانب الأعظم، فالتجارة بالمخدرات أو المحرمات فيها مفاسد كبيرةٌ أعظم من المنافع والمصالح التي يتوهم أنها تحصل بمثل هذا الفعل.
ولذلك لا يصح الاعتراض على هذه القاعدة المقاصدية بكون الشرع قصد جلب المصالح في مثل هذه الفروع؛ لأنها وإن لم تراع ما يظن أنه مصلحةٌ إلا أن ذلك لوجود ما هو معًارضٌ من المفاسد التي هي أكبر.
وهكذا قد يكون في المسألة قاعدتان تتنازع هذه المسألة، وبالتالي تلحق بالقاعدة التي تكون أقرب إليها، ومن ثمّ لا يظن أنَّ المصلحة لم تتحقق هنا، فضلًا عن أنَّه قد يظن وجود مصلحةٍ في بعض المسائل ولا يكون الأمر كذلك.
لأن بعض الناس قد يظن أن ما تهواه نفسه وما ترغبه هو المصلحة، وهذا ليس صحيحًا، فليست المصالح تابعةً لأهواء النفوس، وإنما المصالح أمورٌ حقيقيةٌ واقعيةٌ تتصف بها الأفعال والأشياء وليست مرتبطةً برغبات النفوس وأهوائهم.
ولذلك قال جلَّ وعلَا: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
وقال جلَّ وعلَا: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِير﴾ [النساء: 19].
وهكذا أيضًا في مراتٍ قد يدخل في هذا الباب من لا يحسن تقدير المصالح والمفاسد، فيظن أن الشريعة جاءت بنفي إحدى المصالح ويكون ذلك الفعل مفسدةً محضةً؛ لأنه لم يُنظر بنظرته الحقيقية.
وأعطيكم تمثيلًا تأصيليًّا لهذه المسألة، في مراتٍ يأتي من لا يعرف الأحكام الشرعية ولا الظروف التي تحيط بالحكم الشرعي، ومن ثمّ يظن أن الحكم الشرعي ضد تحقيق المصلحة، ولا يكون الأمر كذلك، مثال ذلك:
إذا وجد أن بعض الدول تُعطى المرأة المطلقة نصف ما عند بيت الزوجية، فيظن أن المصلحة تتحقق بهذا الأمر، ويغفل عن أن الشريعة جعلت نظامًا متكاملًا يخالف النظام الذي يقرر هذا الحكم، فإن الشريعة لا تجعل ذمة الزوجين واحدةً، بل تجعل ذمة الزوج مستقلةً، وذمة الزوجة مستقلةً، ثم تجعل النفقة في البيت على الزوج دون الزوجة، ولو كانت الزوجة غنيةً وكان الزوج فقيرًا فإن النفقة واجبةٌ على الزوج وليست واجبةً على الزوجة.
وهكذا قد يأتينا من يظن أن إعطاء الأخ أو الابن ضعف ما تأخذه البنت والأخت ليس مصلحةً، وليس عدلًا، ويغفل عن أن الشريعة قد جاءت ببناءٍ متكاملٍ يتناسب مع هذا الحكم، وذلك أن المرأة لا يُناط بها من الواجبات تجاه نفسها وتجاه بيتها وتجاه أبنائها مثل ما يجب على الرجل، فالمرأة لا تُطالب بنفقة بيتها الزوجي، ولا تُطالب بالنفقة على أبنائها، ولا تطالب حتى بالنفقة على نفسها ولو كانت غنيةً، بخلاف الزوج، فإنه يُطالب بكل ذلك، ولذلك ناسب أن يُعطى من الميراث هذا المقدار.
وهكذا في أحكامٍ شرعيةٍ متعددةٍ، كذلك في مراتٍ قد يظن أن المصلحة في فعلٍ، والشريعة لم تأتِ به، وسبب عدم إتيان الشريعة بتقرير ذلك الحكم الذي يظن أنه مصلحةٌ، أن المصلحة مرتبطةٌ بشرطٍ، أو تنتفي لوجود مانعٍ، فلا يلتفت إلى ذلك الشرط، ولا إلى ذلك المانع، فيظن أن الشرع لم يأت بتحقيق المصلحة في هذا الباب، ولا يكون الأمر كذلك، لماذا؟ لأننا لم نراع ذلك الشرط.
{أمثلة على المثل}
عندك مثلًا في أحكام الجنايات، لا يُطبق ما جاءت به الشريعة إلا بشروطٍ معينةٍ، وبالتالي لا تتحقق المصلحة إلا بهذه الشروط، أعطيكم مثالاً.
قد يأتي من يقول: إنَّ فتح الباب للعقود أمرٌ مصلحيٌّ تتحقق به مصالح الناس، وبالتالي لمَّا منعت الشريعة معاملة مثل: الربا، بالرغم من وجود التراضي بين الطرفين، إلا أنَّ هذا لا يحقق مصلحةً، فيقال له: بل هناك مصالح قد خَفيت عليك، وبالتالي شروط تحقق المصلحة في العقود تختلف هنا، ومن ثمّ لم تأت به الشريعة، ولذلك هذا الربا يستعمل لاستغلال أولئك الضعفاء، واستغلال أصحاب الحاجة بحيث يدفع لهم في الوقت الحاضر شيئًا من المال، ثم بعد ذلك يدفعون أكثر منه.
ثم إنَّ هذا يجعل النقود تنقلب لتكون سلعًا تحصل المتجارة فيها، وبالتالي تعطى النقود التي ليست سلعًا حاجيةً مثل ما تعطى السلع الحاجية، ومن ثمّ يوجد تعاملاتٌ وهميةٌ في النقود، لأن النقد ليس مرادًا لذاته، وإنما إرادته من كونه ثمنًا وقيمة السلع، فإذا كانت النقود قد جُعلت سلعةً في نفسها فحينئذٍ سيؤدي ذلك إلى انغلاق التعامل بالنقود وجعل النقود تدور دوراتٍ بدون أن يكون هناك سلعٌ.
وإذا كان هناك سلعٌ سيكون هناك عملٌ، وبالتالي سيكون هناك إنتاجٌ، وسيكون هناك زراعةٌ، وسيكون هناك صناعةٌ، أمَّا إذا جعل التعامل نقدًا بنقدٍ، فحينئذٍ لن يكون هناك أعمالٌ ولا حركات تجارية وبالتالي لا يحقق مصلحةً.
فإذن تقرير الشارع في هذه الأحكام إنما جاء بجلب مصالح العباد وتحقيق ما فيه نفعهم، والمصلحة هي المنفعة التي ينتفع بها الناس، وليس المراد بها أهواء النفوس ولا رغباتهم، ولا ما يحقق ما تطلبه نفوسهم.
ومن الأمور المتعلقة بهذا أن تقدير كون الفعل مصلحةً، هذا ناتجٌ من ذات الأفعال، فليس كون الأمر مصلحةً ناتجة عن عقولنا، فالعقول تكتشف ولكن لا تستحدث الإصلاح في الشيء، وهكذا أيضًا في الشرع، ليس استمداد صلاح الأشياء من الحكم الشرعي، وإنما الحكم الشرعي كاشفٌ لكون الأمر يجلب المصلحة أو لا.
ومن ثمّ نعلم أنَّ الشريعة قد جاءت بجلب المصالح ودرء المفاسد التي هي متقررةٌ قبل ذلك، ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام يقولون لأقوامهم: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَ﴾ [الأعراف: 56].
قد يقول قائل: لِم أوجد الله في الكون ما فيه مفسدةٌ؟
والجواب عن هذا: أن وجود المفسدة تتحقق به مصالح أكبر من تلك المفسدة، فإنه إذا وجدت المفسدة تقرَّب الناس إلى ربهم بنفيها، وكذلك يكون هذا من أسباب ظهور عباداتٍ جديدةٍ يتقرب بها الناس إلى الله، ويثابون بها.
ثم إن لله حِكمًا في العباد أكبر من تلك المفاسد، فمثلًا: المصائب التي تصيب الناس، هذه إن نظرت إليها بنظرةٍ جزئيةٍ تقول فيها مفسدةٌ، لكن إذا نظرت إليها بنظرةٍ كليةٍ وجدت أن مصالح تتحقق من خلالها ومن جرائها، مثل: وجود عبودية الرضا وعبودية الصبر، وتكفير السيئات، وعبوديةٌ بذل الأسباب لرفع تلك المصيبة، وبالتالي تتحقق بها مصالح كثيرةٌ دنيويةٌ وأخرويةٌ.
إذا تقرر هذا، فإن المصالح يمكن تقسيمها بتقسيماتٍ متعددةٍ، فهناك مصالح أخرويةٌ تتعلق بأمر الآخرة وإصلاح العبد لآخرته، وهناك مصالح دنيويةٌ، وإن كان كثيرٌ من الأعمال تتحقق بها المصلحتان معًا، فمثلًا: العدل تتحقق به مصلحة الدنيا، وكذلك هو مما يحقق المصلحة الأخروية.
وبعض الفقهاء يسمي النوع الأول مقاصد أصليةً، والنوع الثاني مقاصد تابعةً.
فما لا يكون للعبد فيه منفعةٌ مباشرةٌ في الدنيا يسميه مقاصد أصليةً، ويضرب له مثلًا في الصلاة، فإن مقصدها أخرويٌّ، وليس فيه مقصدٌ دنيويٌّ يقصده العبد مباشرةً، وإن كانت تتحقق بها مصالح دنيويةٌ، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، وهكذا تتحقق بها مصالح سواءً فيما يتعلق باجتماع الناس، وتفقد بعضهم لبعضهم الآخر، أو فيما يتعلق بتحريك البدن، وكل هذه مصالح تتحقق للناس، لكنها ليست هي الأمر الذي يُقصد أصالةً وإنما يقصد المصلحة الأخروية بتحقيق أمر الشارع واستجلاب رضا الرب سبحانه وتعالى.
وهناك مصالح تابعةٌ تكون المصلحة الدنيوية ظاهرةً وفي الغالب تكون هذه في أبواب المعًاملات، وفي أبواب الأنكحة، وفي أبواب الجنايات والحدود، فإن مصلحة العباد في تقرير الأحكام الشرعية في تلك الأبواب ظاهرة.
إذا تقرر هذا فإنه أيضًا يمكن تقسيم المصالح إلى مصالح حقيقيةٍ، ومصالح متوهمةٍ.
وبعضهم يقسمها تقسيمًا آخر: فيقال هناك مصالح معتبرةٌ وهي التي جاء الشرع باعتبارها، سواءً كان ذلك بواسطة النص أو بواسطة القياس، وهناك مصالح مرسلةٌ، هي التي لم يأت في الشرع تقريرها ولا إلغاؤها، وقد اختلف العلماء في وجودها، فبعض العلماء ينفي أن يكون هناك مصالح مرسلةٌ، ويقول: الشريعة قد استكملت المصالح ولا يمكن أن تكون هناك مصلحةٌ قد أغفلتها الشريعة.
وهناك قسمٌ ثالثٌ يسمونه المصالح الملغاة، والمراد به المصالح التي في مقابلة النصوص، فإنها مصالح ملغاةٌ، فما يُظن أنه مصلحةٌ في مقابلة النص فإنه لا يجوز اعتبارها، ولا يجوز بناء الحكم عليها، وذلك لأن الشرع قد أمر بتحكيم النصوص، ونهى عن ترك النصوص، ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132].
وحينئذٍ فما كان كذلك فإنه في حقيقة الأمر ليس مصلحةً، هذه يُتوهم أنها مصالح وليست مصالح حقيقةً ما دامت متعارضةً مع النص، إلا أنه في بعض المواطن قد يأتي من يُنزل النص في غير محله، فيظن أن المصلحة تناقضت مع النص، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون هذا ناتجًا من التوهم.
من الأمور التي تتعلق بهذا الجانب أو بالتقسيمات أن كثيرًا من العلماء يقسم المصالح إلى ثلاثة أقسامٍ:
مصالح ضروريةٌ، ومصالح حاجيةٌ، ومصالح تحسينيةٌ.
فالمصالح الضرورية هي التي يؤدي فقدها إلى هرجٍ في الدنيا، أو فوات نعيمٍ في الآخرة، ومن أبرز ما يكون من الضروريات، الضروريات الخمسة، وهي حفظ الدين وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العقل، وحفظ العرض أو النسل، فهذه ضرورياتٌ مهمةٌ، وقد دلَّ عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَ» .
ومن أجل هذا المعنى قرر العلماء أن المعتدي على هذه الضروريات، ترتب عليه عقوبةٌ حديةٌ كما وردت النصوص بترتيب العقوبات الحدية في هذه الأبواب.
تقرير العقوبة الحدية هذا، محافظةً لهذه المقاصد من جهة العدم، بينما هناك طرائق للمحافظة على هذه المقاصد من جهة الوجود، مثلًا ضرورة الدين جاءت الشريعة فيها بإيجاب الصلوات وإيجاب أركان الإسلام، جاءت الشريعة أيضًا بمشروعية صلاة الجماعة، جاءت الشريعة بالأمر بتعلم الإنسان للأحكام الشرعية التي تتعلق بعمله، ونحو ذلك، فهذه وسائل لحفظ هذه الضرورة من طريق الوجود.
أُنبه هنا إلى شيءٍ قد يحصل فيه الخلط، وهو أنَّ بعض الناس لا يُفرق بين الضرورة والضروري، فالضروري هذا أمرٌ مطلوبٌ، مثلًا حفظ الدين، حفظ العقل، هذا ضروريٌّ، هذا أمرٌ مطلوبٌ، بينما الضرورة هذه حالةٌ مخالفةٌ لحالة العادة المستقرة يترتب عليها التخفيف في بعض الأحكام الشرعية.
والعلماء لهم منهجان في ضبط الضرورة، فهناك من يقول: المراد بالضرورة، ما يحصل بفقده فوات حياةٍ أو فقد عضوٍ، بينما الصواب في تعريف الضرورة، أن يُقال: هي ما يحصل بفقده ضررٌ، ولا يقوم غيره مقامه.
والنوع الثاني من أنواع المصالح: الحاجيات، وهي التي يؤدي فقدها إلى العُسر وضيق الحال، مع إمكان استمرار الحياة بفقدها، وقد يمثل بذلك لمشروعية البيع، فإن الناس يحتاجون إليه، من أجل وصول ما يحتاجون إليه من السلع إليهم.
ويلاحظ هنا أن الأمر الحاجي لا يختص بمسائل العبادات، وقد يكون في العبادات، وقد يكون في المعًاملات، وقد يكون في الجنايات، وقد يكون في الأنكحة، ونفرق بين الحاجي والحاجة، فالحاجي مقصدٌ مطلوبٌ، بينما الحاجة أمرٌ يتنافى مع الحال المستقر، وبالتالي يستدعي مراعاته في الأحكام، والحاجة على الصحيح ما يلحق بفقده ضررٌ، ولكن غيره يقوم مقامه في دفع هذه الحاجة.
وأما النوع الثالث فهو التحسيني، والتحسيني يراد بها المصالح التي يحسن من ترتيب الحكم عليها أكمل الأحوال، وأحسن المناهج.
ومن أمثلة ذلك: ما جاءت به الشريعة من مشروعية الطهارة، ومن مشروعية إزالة النجاسات، ونحو ذلك.
وبالتالي نعرف أن هذه المقاصد التحسينية، لم يشدد الطلب فيها، ولم ترتب العقوبات على ترك الأمر فيها، استنادًا على كونها مما تستحسنه النفوس، ويوجد عندها دافع ذاتي إلى التزام هذه الأحكام.
وهناك بحثٌ كلاميٌّ عند العلماء في مصدر كون الشيء مصلحةً أو مفسدةً، ومتى يكون الشيء مصلحةً أو مفسدةً، فهناك من أسنده إلى الشرع كالأشاعرة، ومنهم من أسنده إلى العقل كالمعتزلة، ومنهم من قال: يُسند إلى اتفاق الناس، وما يصطلحون عليه، والصواب أن كون الشيء مصلحةً يعود إلى صفاتٍ ذاتيةٍ فيه، أو عربية، بحيث يوصف عليه بأنه مصلحةٌ أو مفسدةٌ.
مثال ذلك: الصدق مصلحةٌ أو مفسدةٌ؟
{مصلحة}.
من أين نشأ كون الصدق مصلحةً؟
تقول: بالشرع، نقول: خطأ، الشرع مبينٌ للحكم، فهو يطلب الصدق، لكن من أين عرفنا أن الصدق مصلحةٌ؟
{من العقل}.
نقول: لا، العقل اكتشفه، فرضنا لا يوجد عقولٌ، ولم يوجد خلق الإنسان، هل الصدق لا يكون مصلحةً؟ فالصدق مصلحةٌ قبل الشرع، وقبل وجود العقل؛ لأن الصدق فيه صفاتٌ ذاتيةٌ، تحصل المصلحة بوجود هذه الصفات.
إذا تقرر ما سبق، فإن كون الشيء من الضروريات، أو من الحاجيات، أو من التحسينيات، هذا بناءً على هذه الضوابط، والحاجيات مكملةٌ للضروريات، والتحسينات مكملةٌ للحاجيات، فلو قُدِّرَ أن مراعاة الحاجي سيترتب عليها تفويت الضروري، فحينئذٍ نقول: لا نراعي الحاجي؛ لأن المصلحة في الضرورة أعظم أن تراعى.
وأضرب لذلك مثلًا: مصلحة اجتماع الناس وتآلف الخلق، هذه مصلحةٌ ضروريةٌ، وجود إيمانٍ يضبط أحوال الناس، وجود دولةٍ تضبط أحوال الناس، ويستقرون فيها، هذه مصلحةٌ ضروريةٌ، يأمن الناس، وتستقر أحوالهم، ويمنع الظالم من الظلم، إلى غير ذلك، مما يكمل هذا الأمر المصلحي الضروري، أن يكون صاحب الولاية عادلًا تمام العدالة، وأن لا يقع منه أمرٌ مخالفٌ للشرع، فهذا تكميليٌّ، فلو أدى مراعاة التكميلي إلى الإخلال بالضروري، قلنا: نراعي الضروري، ولو أدى ذلك إلى عدم مراعاة الأمر التكميلي.
لماذا لا تصلي في المسجد؟ قال: الإمام يلبس ملابس غير جيدةٍ، ماذا نقول؟ نقول: مصلحة الجماعة مصلحةٌ حاجيةٌ، بينما لبس أحسن الثياب في الصلاة من الإمام هذا تحسينيٌّ، وبالتالي التحسيني تكملةٌ للحاجي، فلو راعينا التحسيني في هذه المسألة؛ لأدى ذلك إلى إلغاء الحاجي، فنقول: مراعاة الحاجي هنا أولى من مراعاة التحسيني؛ لأنه مكملٌ له.
{... عن الإمام.. ليس من الصحابة هو...}.
نحن لا نريد أن ندخل في التفاصيل؛ لأن الموازنة بين كل مسألةٍ والمسألة الأخرى، يترتب عليها معرفة، هل هو حاجيٌّ؟ أو تحسينيٌّ؟ أو هو ضروريٌّ؟ وبالتالي لابد من مراعاة هذا الجانب، وعندنا ضابط أخذناه قبل قليلٍ، ويمكن للواحد أن يطبقه على جميع المسائل، قد يحتاج البحث في كل مسألةٍ نريد أن نطرحها إلى اجتهادٍ وتفكيرٍ، وبالتالي يحصرنا في تطبيقات مسألةٍ واحدةٍ، ولذلك لا نريد أن ننحصر في مثل هذه التطبيقات.
من الأمور التي تتعلق بهذا الأمر: هو أنه في بعض المسائل يناط النظر في المصلحة لبعض المكلفين، وفي مراتٍ يكون الحكم المصلحي مقررٌ من قِبَل الشارع، مثلًا في أبواب العقود، ما يحل منها، وما لا يحل، جاءت الشريعة بتقرير الأحكام، فنهت عن بيع الغرر، نهت عن الربا، نهت عن العينة، نهت عن بيع الملامسة، عن بيع المنابذة، إلى غير ذلك من أنواع البيوع المنهي عنها، فهذه العقود التي نهى الشارع عنها، نعلم أنها مفسدةٌ، إذا نظرنا وجدنا أنها كذلك، وبالتالي نقول في هذه المسائل التي هي مفاسد، أو هذه الأنواع التي هي مفاسد، نقول: هذه جوانب جزئيةٌ، بينما الأمر الكلي، هو حل العقود وجوازها.
من الأمور التي تتعلق بجانب مراعاة المصالح والمفاسد: مراعاة المصلحة الجزئية، والمصلحة الكلية، والمصلحة الشخصية، هناك بعض الأمور مصلحةٌ شخصيةٌ، فإذا تعارض جانب المصلحة الشخصية، مع جانب المصلحة العامة، فحينئذٍ تُراعى المصالح العامة، ومن ذلك مثلًا فيما لو كان الناس يحتاجون إلى فتح طريقٍ يمر ببيت بعض الناس، فبالتالي نقول: إننا نأخذ هذا البيت، وندخله في الشارع، في الطريق، فإن قال: كيف تلحقون الضرر؟ قلنا: مصلحة الجماعة مقدمةٌ على مصلحة الفرد هنا، ثم هناك تعويضٌ عن هذه المصلحة الشخصية، فيقرر له الضمان، وقيمة بيته الذي سيؤخذ منه، من أجل المصلحة العامة.
ومن الأمور التي تتعلق بهذا، وسبق أن أشرت إليه: أن بعض الناس يعتقد أن ما هو مفسدةٌ، يكون مصلحةً، مثل أولئك الذين يدفعون الرشوة، يأتي ويدفع الرشوة، ويقول: أنا أريد مصلحتي، لا يعلم أنه بذلك جلب مفسدة له ولغيره؛ لأن الناس متى تعودوا على دفع الرشاوي، أدى هذا إلى استمراء الناس لهذا الأمر، وبالتالي يوجد من يأخذ مالًا بغير حقه، ويتسلط هؤلاء المرتشون على بقية من يماثل هذا الشخص، لكن لو قررنا أن الحكم الشرعي عدم جواز دفع الرشوة في هذه المسائل، حتى ولو كان فيه حبسٌ لحق الشخص مدةً، فنقول: لا يجوز دفع الرشوة؛ لأن هذا يُجَرِّئ هؤلاء على حبس معاملات النَّاس من أجل أخذ هذه الرشوة، والواجب الإبلاغ عنهم، والتعاون مع الجهات من أجل القبض على من يكون كذلك، من أجل أن يأمن الناس من مثل هذا التعاون.
{هذه المسألة -تقديم الرشوة- هذا أمرٌ منتشرٌ جدًّا، ومؤسفٌ، فالآن لو لم تقدم الرشوة في بعض الأمور قد تُحرم من حقك، ففي هذا المجال ماذا عليَّ أن أقوم به؟}.
أولًا: ينبغي أن يكون وصفنا للمنكر وصفًا بغير الانتشار؛ لأنه إذا قيل إن هذا المنكر منتشرٌ، لا يترتب عليه حكمٌ شرعيٌّ، بل قد يترتب عليه استمراء النفوس له، وعدم نفرتهم منه، وإقدامهم عليه، ولذلك علينا أن لا نصف المنكرات بالانتشار، أو بفعل أكثر الناس له؛ لئلا يتجرأ الخلق عليه، وهناك مصالح أعظم من كون أمثال هذا المرتشي يُكشف عنه، ويُبيَّن حاله.
صاحب العمل قد يأتيه موظفٌ لديه، ويوهمه بأن هذا المسئول يريد رشوةً، والموظف الذي عند صاحب العمل هو الذي يريد أن يأخذ هذه الرشوة، ويريد أن يأكلها، ثم يحصل فيه تلاعب، يأتيك أشخاصٌ مجهولون، لا يُعلم ما حقيقة حالهم، فيدعون أن لهم قدرةً على إصلاح أحوال الناس، وبالتالي يأخذون هذه الرشاوي، وفي المقابل أيضًا قد يوجد موظفٌ يمنع الناس حقوقهم، حتى يؤدي إليه الرشوة، فيقال: إذا أديتَ له الرشوة جرَّأته، وجعلته يقوم بالإقدام على منع حقوق الناس، ليأخذ رشوةً منهم، ويترتب على ذلك أن أحوال الناس تفسد، وبضاعةٌ يؤتى بها بمائةٍ، لا يتمكن الإنسان من جلبها إلا بمائةٍ وعشرةٍ، بسبب هذه الرشاوي، وبالتالي ترتفع الأسواق، وتقل الأعمال، وإذا رُشِيَ موظف، فإن غيره من الموظفين سيتجرأ على مثل هذا الفعل.
ولذلك على الأمة أن تقف وقفةً حازمةً في هذا الباب، حتى ولو كان الإنسان وحده، وهنا أمرٌ لابد من تقديره، يتعلق بباب المصالح والمفاسد، ألا وهو: أن كون الفعل تحصل فيه بركةٌ، تعود بالنفع الكبير، إنما يحصل بموافقة أمر الشارع، صحيح قد يأتي إليك مالٌ، لكن ليس فيه بركةٌ، فيكون وبالًا عليك، ويكون مما يؤدي إلى لحوق المفسدة بك، وفي المقابل أيضًا قد يمتنع الإنسان عن مثل هذا الأمر، فيؤدي إلى رضا الله عنه، وحينئذٍ يدر عليه الأرزاق.
القاعدة الشرعية: من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، وشاهد هذا في آياتٍ ونصوصٍ كثيرةٍ منها: قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 2، 3]، أي كافيه، وبالتالي إذا مكنا لمثل هذه الأعمال، فإننا حينئذٍ نكون قد نشرنا هذه المنكرات في مجتمعًاتنا.
ومثلت له بأمثلةٍ، بعض الناس الذين يعملون في بعض المطاعم الخارجية، يأتيك ويقول: أنا رزقي متوقفٌ على هذا المحل، وهذا المحل لا أستطيع أن أعمل فيه إلا بتقديم الخمور، فنقول له: جاء الشرع بتحريم هذا الباب، ونهى عن التجارة والخمور، ولَعن في الخمر عشرةً، منها: حاملها، والمحمولة إليه، وبالتالي نقرر أن هذا الفعل حرامٌ، ولا يجوز للإنسان أن يفعله.
قال: تفوت مصلحتي، نقول: هذه المصلحة مصلحةٌ متوهمةٌ؛ لأن المال الذي يأتي من طرقٍ محرمةٍ، مالٌ منزوع البركة من جهةٍ، ومالٌ مفسدته أعظم من مصلحته، ونحن نشاهد أن كثيرًا من الناس يبذلون أموالًا طائلةً لهم، فيما لا ينتفعون به، بل ما فيه مضرةٌ لهم، وما ذاك إلا لكونهم قد استجلبوا على أنفسهم أموالًا من طرقٍ مشبوهةٍ.
ولذلك وجود الوسيلة في يد الإنسان، لا يعني تحقق المقصد، المال وسيلةٌ، لكن المقصد هو وجود حوائجك، فقد يوجد عندك نقدٌ، لكن حوائجك لا تستطيع أن تصل إليها، ومن هنا يخشى الإنسان على نفسه من هذه المحرمات؛ لأن هذه المحرمات تجعل الإنسان لا ينتفع بالطيبات في الدنيا، ولذلك قال الله -تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾، الفساد في المأكولات والمزروعات ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: 41]، وقال: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30]، ولذلك لابد أن نراعي هذا الجانب.
ومن الأمور المتعلقة بهذا: أن هناك بعض الأفعال في أصلها مصلحةٌ، لكن قد يقترن بها قرائن تغير حكمها، فتكون مفسدةً لوجود تلك القرائن، مثلًا: رعاية الأم لابنها في باب الحضانة مصلحةٌ، لكن فيه مرات تكون الأم مجنونةً، فرعاية الأم لابنها في هذه الحال ليس من المصلحة، لماذا؟ لوجود أمرٍ مقترنٍ بهذه المسألة، ألا وهو جنون الأم.
وكنتُ ذكرت قبل قليلٍ من أنواع الأحكام، أن بعض الأحكام تأتي الشريعة بتحقيقه، وبالتالي يكون مصلحةً، وبعض الأحكام تأتي الشريعة بإناطته بالمكلف، فالمكلف هو الذي يختار ما هو مصلحةٌ.
مثال ذلك: في باب ولاية النكاح، ولي النكاح يختار للمرأة الأكفأ، الذي هو محققٌ لمصلحتها هي، لا لمصلحته هو، النظر في كونه مصلحةً أو ليس بمصلحةٍ، هذا نظرٌ للولي، وهكذا في تصرفات الأئمة في كثيرٍ من المسائل، الملك أو غيره، ينيط الشارع هذه المسألة بنظر صاحب الولاية، وصاحب الولاية يجتهد، فيقرر أن هذا الجانب فيه مصلحةٌ، وهذا الجانب فيه مفسدةٌ، فيلاحظ أن تقرير المصلحة هنا مناطٌ بصاحب الولاية هنا، مثله في باب تربية الأبناء، أو في باب طريقة التعليم بالنسبة للمدرس، فإذا جاءنا شخصٌ، وقال: إن هذه الطريقة غير مناسبةٍ، وبالتالي لا تسمعون له ولا تطيعون، نقول: لا، ولو كانت غير مناسبةٍ في نظرك، ولا تحقق المصلحة في نظرك، لكن صاحب الولاية متعبدٌ بأن يعمل باجتهاده هو، وبما يرى أنه مصلحةٌ بحسب نظره، لا بحسب نظرك، وأنت وظيفتك نصحٌ وإرشادٌ، ودلالةٌ، وبيانٌ للأوجه الأخرى، التي قد تخفى على صاحب الولاية، وأما مناط الأمر فهو إلى اجتهاد صاحب الولاية، ولذا قال الأئمة: تصرف الإمام على الرعية، منوطٌ بالمصلحة، بما يرى أنه محققٌ للمصلحة، بحسب اجتهاده هو.
وهكذا مثلًا لما تأتي نزاع في مسألة الحضانة بين أبٍ وأمٍ، نقول للقاضي: اجتهد، من الأصلح؟ ما هو الأصلح للمحضون؟ وبالتالي النظر في الجانب المصلحي مقررٌ أو مسنودٌ إلى نظر القاضي.
إذن قررنا هذه القاعدة المصلحية العظيمة، القاعدة المقاصدية، وهي أن الشرع جاء باستجلاب المصالح، ودرء المفاسد.
هناك قاعدةٌ تُذكر في هذا الباب، وهي قاعدة: درأ المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح، بينما هناك من يقول: إنَّ اعتناء الشارع بالمأمورات، أعظم من اعتنائه بالمنهيات.
يقول: المأمورات فيه عشر حسناتٍ، والمنهيات فيها واحدةٌ، فإذا تعارض عندنا مأمورٌ ومنهيٌّ، بحيث إما أن تفعل المأمور والمنهي، أو أن تترك الجميع، فيقول: تفعل المأمور، ولو ترتب على ذلك فعل المنهي، وهذا في حالة تساويهما، أما إذا كان أحدهما أرجح من الآخر، فحينئذٍ نعتمد الجانب الأرجح، ونوليه الحكم ما نولي غيره.
{بناءً على هذا الشرح، نقول: كيف نضبط تقرير المصلحة في أمرٍ ما؟ ذكرنا أن الشرع هو الذي يقرر المصلحة}.
ليس الشرع هو الذي يقرر المصلحة، الشارع كاشفٌ، والعقل كاشفٌ، والمصالح هي صفاتٌ ذاتيةٌ موجودةٌ في الأشياء قبل وجود العقول، وقبل نزول الشرائع، فحينئذٍ هذه صفاتٌ ذاتيةٌ، وهذه كواشف تكشفه، لا تنشئه.
أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يوفقنا وإياكم للخير، جلب الله لكم المصالح، ودرأ الله عنكم المفاسد، أنتم وكل من يشاهدنا، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، اللهم اجعلهم من عبادك الصالحين، وحزبك المتقين، وأوليائك المفلحين، اللهم يا حي يا قيوم، ارزقنا جميعًا علمًا نافعًا، وعملاً صالحًا، ونيةً خالصةً، اللهم يا حي يا قيوم، أصلح أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجمع كلمتهم على الحق، اللهم ألف ذات بينهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم وفقهم إلى العودة إلى دينك عودًا حميدًا، كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يصلح ولاة أمور المسلمين، وأن يكون معينًا لهم في الحق، مقربًا لهم سبيله، وأسأله -جلَّ وعلَا- أن يجعل هذه الأكاديمية، وهذه اللقاءات، لقاءاتٌ نافعةٌ، يحصل بها نشر العلم في الأمة، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك