الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعد.. فأرحب بكم في لقاء جديد وأخير من لقاءاتنا في تعرف القواعد الفقهية، وسبق
أن ذكرنا أنَّ القواعد الفقهية منها ما هو قواعد كبرى يدخل في جميع أبواب الفقه،
وهي خمس قواعد، ومنها ما هو قواعد كلية تدخل في كثير من الأبواب دون جميعها، ومنها
ما هو ضابط يختص بباب واحد من أبواب الفقه.
وقد يختص بكتاب كامل، وقد يختص بباب جزئي، مثلاً ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه،
يختص بباب الرهن فقط.
وقد تقدم معنا ذكر بعض القواعد الفقهية المتعلق بالمعاملات المالية، وبإذن الله -عز
وجل- في هذا اليوم سنذكر عددًا من القواعد المتعلقة بهذا الباب وبغيره من الأبواب.
من القواعد التي تتعلق بالمعاملات المالية أنه لا يحل تصرف إلا بعد معرفة حكمه، لا
يحل للمكلف تصرف إلا بعد معرفة حكمه، كثير من الناس يبيع ويشتري ويتصرف ويوكل ولا
يستشعر معرفة الحكم الشرعي في هذا الفعل الذي يفعله.
وهكذا قد يتقرب العبد لله -عز وجل- بعبادات بناء على أنه شاهد آخرين فعلوها، فحينئذ
نقول له: لا يجوز لك أن تقدم على هذا الفعل حتى تعرف حكم الله -عز وجل- فيه.
فإنه لا يجوز للإنسان أن يفعل الفعل وهو لا يعلم هل هو مما يسخط الله -عز وجل- أو
هو مما يرضيه -سبحانه وتعالى.
وقد دَلَّ على هذه القاعدة عدد من الأدلة، وهي:
منها: النصوص التي جاءت بالأمر بتعلم الأحكام الشرعية.
ومنها: ما ورد من النصوص بالأمر بطاعة الله -عز وجل- وطاعة رسوله -صلى الله عليه
وسلم، لا يتمكن الإنسان من طاعة الله ولا من طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى
يعرف حكم الله، وقد حكى جماعات من العلماء الإجماع على أنه لا يجوز للمكلف أن يقدم
على فعل قبل أن يعرف حكم الله فيه.
وقد حكى هذا الإجماع عدد من العلماء منهم أو من أوائلهم الإمام الشافعي -رحمه الله
تعالى.
وقد ورد أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يمر بالسوق، فيسأل
الموجودين عن أحكام البيع والشراء، فمن وجده يعرف الحكم الشرعي أبقاه، ومن وجده لا
يعرف أحكام البيع والشراء، أقامه من السوق حتى يتعلم أحكام البيع والشراء.
ومن المعلوم أنَّ الأحكام الفقهية تنقسم إلى قسمين: فروض أعيان، وفروض الأعيان
تتعلق بكل شخص بحسبه، فقد يجب على إنسان أن يعرف من الأحكام الشرعية ما لا يجب على
إنسان آخر، ومن أمثلة ذلك مثلا: أحكام الزكاة تجب معرفتها بالنسبة لمن لديه مال تجب
الزكاة فيه، وأمَّا الفقير فإنه لا تتعين عليه معرفة هذه الأحكام؛ لأنها لا تتعلق
بعمله وإن كانت في حقه من فروض الكفايات، إذ يجب على الأمة أن يكون فيها علماء
يعرفون حكم الله -عز وجل- فيما ينزل بالأمة من النوازل والمسائل.
إذن هذه قاعدة متعلقة بحكم الإقدام على فعل قبل معرفة حكمه.
ومن القواعد التي ذكرها العلماء قاعدة" "المشغول لا يشغل".
يعني أن من اشتغل بشيء أو أن أي عقد أو عين اشتغلت بشيء فلا يجوز أن نشغلها بأمر
مضاد له، ومن أمثلة ذلك: ما لو رهن أرضًا في دين عليه، هل يجوز أن يرهنها مرة أخرى
لشخص آخر؟
نقول: لا يجوز، لماذا؟
لأن المشغول لا يشغل، فهذه العين مشغولة بالرهن الأول، فلا يجوز إشغالها برهن آخر
إلا برضا أصحاب الحقوق.
وهكذا لو وقف أرضًا هنا اشتغلت الأرض بكونها موقوفة، فهل له أن يبيعها بعد ذلك،
نقول: لا يجوز؛ لأن المشغول لا يشغل.
وبعض العلماء قد تجاوز هذا فقال: إنه لا يصح أن يحج عن شخص واحد في سنة واحدة أكثر
من حجة، "زيد" من الناس جدك من الرجال الصالحين والذين يرغبون أن يحج عنهم، هل يجوز
أن توكل اثنين ليحجا عنه، كثير من العلماء يقولون: لا يصح هذا؛ لأن الحج في السنة
الواحدة لا يمكن أن يفعل من الشخص الواحد إلا مرة واحدة، فهكذا بالنسبة لوكيله.
من القواعد المتعلقة بهذا قولهم: "الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود".
وهذه تنفعكم عند طلبكم للعلم، عندما تشتغلون بأمور أخرى مغايرة للتعلم فحينئذ كأنكم
بذلك تعرضون عن المقصود أليس كذلك!
إذا كان عندك كتاب علم خير مثل هذا الكتاب الجامع، ثم بعد ذلك أصبحت تشتغل بأمور
توافه، إما ألعاب أو حديث في مجريات سياسية، أو متغيرات أو حينئذ هذا اشتغال بغير
المقصود بالتالي يكون إعراضًا عن المقصود.
إذا وجب عليك صيام يوم أو وجب عليك الصلاة، فاشتغلت بعمل آخر في وقت الصلاة، نقول:
"الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود" وبالتالي: يأثم الإنسان به.
مثلا: لَعِبْ الكُرة في الأصل مُباحٌ ولا يأثم الإنسان به، لكنه إذا كان يترك
الصلاة من أجل أن يلعب الكرة، من أجل كونه يلعب الكرة، في هذه الحالة نقول: إنه قد
اشتغل بغير المقصود ومن ثم أعرض عن المقصود.
من القواعد أيضًا التي يذكرها العلماء قولهم: "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب
بحرمانه"، وبعضهم قيد القاعدة فقال: من استعجل أمرًا بغير طريق شرعي عوقب بحرمانه.
وهذه القاعدة لها أمثلة كثيرة، من أمثلتها مثلا: في الميراث لو قتل الوارث مورثه
فإنه لا يرث منه، لماذا؟
لأنه استعجل شيئا قبل أوانه فحينئذ قلنا: إنه يُعاقب بحرمانه.
هكذا أيضًا من القواعد الفقهية ما ذكروه بقولهم: "لا إنكار في مسائل الاختلاف".
الأحكام الشرعية بعضها مجمع عليه، أو دل عليه دليل قاطع، فحينئذ يجوز الإنكار على
مخالفه، وهناك مسائل ليست من مسائل الاتفاق بل هي من مسائل الاختلاف.
مسائل الاختلاف تشرع النصيحة فيها، ولا بأس من المناظرة، والنقاش العلمي فيها، لكن
لا يصح إلزام المخالف بقول مُغاير لاجتهاده.
إذن هذه القاعدة "لا إنكار في مسائل الاختلاف" هذه تتعلق بأصحاب الولاية، بمعنى
أنهم لا يلزمون الناس بأقوالهم أو اجتهاداتهم في مسائل الاختلاف إلا إذا كان هناك
مصلحة شرعية تترتب على هذا الأمر.
إذن هذه القاعدة: لا إنكار في مسائل الاختلاف لابد أن يلاحظ أن لها عددا من الشروط.
الشرط الأول: أن مجال تطبيق القاعدة في التغيير والإلزام، وأما التناصح والإرشاد أو
المناظرة والجدال فليس مرادا بهذه القاعدة، لا زال الناس يتناصحون ويتناقشون في
مسائل الاختلاف.
الأمر الثاني من ضوابط هذه القاعدة: ألا يكون الاختلاف شاذًا، فإن الاختلاف الشاذ
لا قيمة له، ويجوز الإلزام للشخص بترك اجتهاده المخالف للدليل القاطع.
ومن أمثلة ذلك: مثلا لو جاءنا شخص وقال في بعض المسائل التي فيها دليل قرآني: إنه
يوجد خلاف وبالتالي أنا لا أقول بمقتضى النص.
مثال ذلك: أجمع الصحابة ومن بعدهم على أن بنت الابن تأخذ السدس مع البنت التي تأخذ
النصف، فهذه مسألة إجماعية، فلو جاءنا إنسان وقال: أنا أريد أن أخالف وبنت الابن
تسقط أو تأخذ نصفا آخر أو نحو ذلك، فحينئذ نقول: هذا الاجتهاد لا يدخل معنا، لكونه
يقول: أنا مخالف، فنقول: هذه المسألة فيها دليل قاطع وبالتالي يجوز إلزام المخالف
بما يخالف قوله واجتهاده لوجود الدليل القاطع.
كذلك من شروط القاعدة: ألا يكون هناك مفسدة تترتب على العمل بالقول الآخر، ومن
أمثلة ذلك: مثلا في المباحات أن تأتي لإشارة المرور وتقف، الأصل في المرور والعبور
في الشارع الحل والجواز، ولكن ولي الأمر قرره بناء على أنه يرى أن تنظيم هذا الأمر
يحقق المصلحة الشرعية.
من القواعد المتعلقة بهذا قول العلماء: "الخروج من الخلاف مُستحب".
إذا وجد شخصان أو عالمان أحدهما يقول بالجواز والآخر يقول بالمنع، فقام العالم
الأول فترك ذلك، واجتنبه، رغبة في ألا يلحق ذمته شيء بيقين، فإنه وإن رأى جوازه إلا
أنه وجد أن هناك خلافًا في المسألة، وبالتالي رغب أن يتيقن في إبراء ذمته فقلنا له:
يستحب لك أن تخرج من الخلاف.
ويشترط لهذه القاعدة عددا من الشروط:
الشرط الأول: ألا يكون الخلاف شاذًا، الخلاف الشاذ لا قيمة له، ولا يشرع الخروج
منه.
الشرط الثاني: أن يمكن الخروج؛ لأن هناك مسائل متقابلة، واحد يقول: هذا الفعل واجب،
والآخر يقول: حرام، كيف ستخرج من الخلاف؟ لن تستطيع أن تخرج من الخلاف.
ومن أمثلة هذا: في قراءة الفاتحة بالنسبة للمأموم في الصلاة الجهرية، بعض العلماء
يقول بوجوبها، وبعضهم قال بتحريمها والمنع منها، وحينئذ لا يمكن أن تأتي بفعل
يتوافق مع جميع الأقوال، لن تتمكن من الخروج من هذا الخلاف.
وهكذا يشترط لهذه القاعدة ألا يوقعك هذا الخروج في خلاف أكبر منه.
هذه القاعدة قد دل عليها نصوص كثيرة، منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «دع ما
يريبك إلا ما لا يريبك»، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين والحرام
بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».
عندنا الآن حمى وحول الحمى مراتع محال للرعي، فمن قرب من الحمى فإنه لا يأمن أن
تدخل بعض بهائمه في الحمى.
وهناك من الأدلة على هذه القاعدة الخروج من الخلاف مستحب، العديد من النصوص الدالة
على الترغيب في التنزه عن الأمور المشتبهة، والأدلة التي جاءت بالأمر بالتزام جانب
التقوى، ونحو ذلك.
يمكن تأتون لنا بمثال للخروج من الخلاف.
عندك مثلا متروك التسمية، هل التسمية واجبة عند التزكية، أو مستحبة؟
فأنت الآن معك سكين تريد أن تذبح، قلت لك: سَمِّ، فرددت وقلت: "لا"، ذهب بعض
العلماء إلى أنَّ التسمية ليست بواجبة، سأذبح بدون تسمية، فنقول له: اخرج من
الخلاف، إذا قلت: باسم الله لا يضيرك ولا ينقصك وتخرج من الخلاف بيقين.
هكذا هناك أفعال مختلف فيها من أفعال الحج أو الصلاة هل هي واجبة أو مستحبة، فإذا
جاءنا إنسان وقال: أنا أريد أن أخرج من الخلاف، قلنا: افعله، وتكون حينئذ قد خرجت
من الخلاف، فيه صور كثيرة تدل على هذا المعنى.
ننتقل إلى قاعدة أخرى، من القواعد قولهم: "النفل أوسع من الفرض"
فالفروض أوجبها الشارع وجعلها محدودة مقصورة على شيء معين من أجل ألا يتوسع الناس
في إيجاب واجبات لم تجب في الشرع، ولذا ورد في الحديث أن أعظم المسلمين جرمًا في
المسلمين رجل سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته.
وهناك نصوص كثيرة تدل على هذا المعنى.
من يمثل لنا بمثال النفل أوسع من الفرض؟.
في النفل صلاة النفل يجوز أن تجلس في الصلاة، في صلاة الفرض لا يجوز، لابد من
القيام، طيب صلاة الجنازة، لابد من القيام لماذا؟ واجبة أو مستحبة؟ صلاة الجنازة
فرض كفاية، إذن واجبة، وبالتالي ما يأتينا واحد يقول: أبغي نصف أجر صلاة الجنازة
وسأجلس.
نقول: لا يحق لك ذلك، لماذا؟
لأن هذا من فروض الكفايات، وفروض الكفايات لا يتوسع فيها، من الواجبات.
من القواعد أيضًا المتعلقة بهذا المعنى قول بعضهم: "الجواز الشرعي ينافي الضمان".
فإذا أجاز لك الشارع أداء فعل فنتج عنه إتلاف أو إفساد فحينئذ لا يجب عليك الضمان،
وهذه قد تتجاوز حتى في قضايا الحدود، مثلا شخص وجب عليه حكم شرعي بالجلد، فجلد
جلدًا متوافقًا مع الشرع فمات، هل يجب على الجلاد الدية، أو يجب على القاضي؟
نقول: القاعدة أن الجواز الشرعي ينافي الضمان، الحق قتله.
لكن في بعض المرات قد يكون هناك جواز شرعي فلا ينافي الضمان؛ لأن الجواز جاء لمصلحة
ذلك الفاعل وذلك الشخص، وأظن أننا ذكرنا هذا فيما مضى ومثلنا له بمن ركبوا في سفينة
وخشي عليها من الغرق.
من القواعد الشرعية المتعلقة بأبواب المعاملات المالية: أنه لا يجوز التصرف في مال
الغير إلا بإذنه، هذه أموال يخشى على الإنسان من تعديه عليها.
من القواعد أيضًا قولهم: "الساقط لا يعود".
من أمثلته مثلا: لو أبرأه بالدين، قال اليوم: سامحتك، وجاء من الغد فقال: أنا لن
أسامحك إلا إذا أعطيتني نصف المبلغ، ففي هذه الحال "الساقط لا يعود".
كثير قواعد من القواعد السابقة متعلقة بالأبواب المالية، هناك قواعد تتعلق
بالمعاملات بالعبادات وهناك قواعد تتعلق بالجنايات، وهناك قواعد تتعلق بالأطعمة،
أورد أمثلة في ذلك.
مثلا في باب المعاملات هناك قاعدة تقول: "الإيثار في القرب مكروه"، عند كثير من
علماء الشافعية، مثلا الصف الأول الآن مكتمل والصف الثاني بدأ المصلون يصطفون فيه.
ففي هذه الحال قاعدة هي، جاء أحد الأشخاص وتأخر وقدم غيره، قال أنا أوثر، جمهور
العلماء يقولون: "الإيثار في القرب مكروه"؛ لأنه يشعر في عدم الرغبة في العبادة
والطاعة، وبالتالي يكون كأن هذا زهد في عبادة الله -جل وعلا- ومن هنا قال كثير من
الفقهاء أن الإيثار في القرب مكروه، بعضهم يقول مكروه، بل أن هناك طائفة قالوا لا،
بل هو مستحب، لأنه ينال أجرين: أجر الإيثار وأجر الآخر، يعني ما فعل الآخر من
الطاعة يكون للأول لأنه يكون سبب في فعلها، ولذلك قال بعضهم بأن الإيثار يمنع منه،
في المقابل قال طائفة آخرون أن الإيثار في القرب ليس مكروهاً وليس ممنوعاً منه،
والسبب في هذا قالوا إذن هناك الجمهور يقولون الإيثار في القرب مكروه، وهناك طائفة
يقولون أن الإيثار في القرب مستحب، لأنه ينال به الإنسان أجر الإيثار وينال به أجر
الشخص الأول.
من الأمور أو من القواعد التي يقررها العلماء، إذن هذه القاعدة تتعلق بالعبادات،
القواعد السابقة تتعلق بالمعاملات المالية، هناك قواعد تتعلق بالحدود، هناك قواعد
تتعلق بالجنايات، مثلاً من القواعد في الحدود، "تدرأ الحدود بالشبهات"، فهذا اللفظ
قاعدة من القواعد الفقهية المتعلقة بأبواب الحدود، وقد دل عليها عدد من النصوص
الشرعية المرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والشبهات قد تكون بالنسبة
للفاعل، وقد تكون بالنسبة للآلة، وقد تكون بالنسبة لمحل الجناية، وبالتالي الكل
مشمول بهذا اللفظ إلا أن بعض الاحتمالات التي لا قيمة لها، والتي لا يلتفت إليها
أصحاب العقول السليمة، فإنها غير مؤثرة ولا تسقط الحدود بها.
من أمثلة ذلك: عندنا شاهدان شهد على إنسان بأنه فعل موجب الحد، الأصل أننا نطبق
عليه الحد، أننا نقوم بتطبيق الحد عليه، لكن وجدنا أن له مسيرة قديمة افتضح وعرف
عنهما الكذب فيها وعن أحدهم، فحينئذ نقول هذه الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
من القواعد التي تتعلق بهذا قولهم: "الرخص لا تناط بالمعاصي"، ومن أمثلة هذا: قول
بعضهم إذا سافر شخص من أجل فعل معصية، الجمهور يقول: لا يحق له أن يترخص برخص
السفر، سافر ليأكل أموال الناس بالباطل، سافر ليزني، قالوا: لا يجوز له السفر
وبالتالي لا يجوز له أن يترخص برخص السفر فيه، لأن الله -عز وجل- قال: ﴿فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: 173] هذا باغ وبالتالي قالوا لا تناط
الرخص بالنسبة له.
هنا أيضاً ملاحظة فيما يتعلق بالرخص، أن الرخص لا تناط بالشكوك، لابد من التأكد
منها، من الأمور التي تتعلق بمسائل الرخصة أنه ينبغي بالإنسان أن يتعلم أحكام الرخص
قبل أن يأتي إلى المكان الذي يطلق فيه حكم تلك الواقعة.
من القواعد التي تتعلق بهذا، الفعل المتعدي أفضل من القاصر، المراد بالمتعدي الذي
يتجاوز نفعه للآخرين، والقاصر هو الذي يقتصر على فعل الإنسان في نفسه، أيهما أولى
أن يدعو إلى الله أو أن يصلي صلاة نافلة؟ نقول يدعو إلى الله، لأن هذا نفع متعد،
وبالتالي لا تدخل في القاعدة التي معنا، الرخص لا تناط بالمعاصي أو بالشكوك.
من القواعد في هذا قولهم، المتعدي أفضل من القاصر، المراد بالمتعدي ما يتجاوز نفعه
للآخرين، بينما القاصر ما يقتصر على المكلف فقط بدون أن يكون هناك امتداد له عند
الآخرين، فأيهما أفضل؟
نقول: الفعل المتعدي أفضل من القاصر، هكذا أيضاً إذا تعارضت مصلحتان وفضيلتان،
وكانت إحداهما متعلقة بظرف العبادة زماناً أو مكاناً، والأخرى متعلقة بذات العبادة،
فحينئذ نقول نراعي الفضيلة المتعلقة بذات العبادة، ونجعلها أولى من الأخرى.
من أمثلة هذا: مثلاً في الطواف هناك تعارض إما أن تقرب يكون هناك زحام لا تستطيع
معه الرمل، وإما أن تبعد فتستطيع الرمل لكنك تتأخر، فحينئذ نقول: هنا تعارضت
فضيلتان، فالفضيلة الأخرى هي فضيلة ليست متعلقة بذات العبادة، وإنما متعلقة بظرفها
المكاني، بخلاف فضيلة ..، إذن عندنا طواف قريب وطواف بعيد، الطواف القريب لن يكون
بالرمل، والطواف البعيد يكون برمل، أيهما أفضل؟
الطواف البعيد، بعض الناس مثلاً يذكر الله إذا بعد عن الناس، وإذا قرب منهم
أشغلوهم، بدأ يفكر في هذا وفي هذا، فنقول الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أفضل من
الفضيلة المتعلقة بظرف العبادة زماناً ومكاناً.
من القواعد أيضاً قولهم: الفرض أفضل من النفل، هذا هو الأصل، والفرض مقدم على
النفل، ولكن هذه القاعدة لها مستثنيات، فمثلاً في باب الصيام ست شوال لا يجوز أن
تصومها حتى تكمل صوم رمضان، بينما هناك من يقول بأنه يجوز أن تصام، في المقابل
أيضاً هناك أيام أخرى، يوم عرفة، يوم التروية، هذه أيضاً يستحب صومها، الأيام
البيض، فهذه هنا تعارض عندنا شيئان، فرض صيام القضاء ونفل، ومع ذلك قدم في هذه
الصورة النفل على الفرض.
من القواعد أيضاً أن الواجب لا يترك إلا لواجب، هذه قاعدة تدل على أن الشارع إذا
أجاز للإنسان أن يترك واجباً من أجل واجب آخر، فحينئذ نقول له الواجب لا يترك إلا
لواجب، فيكون الفعل الآخر واجباً.
من أمثلة ذلك: في صلاة الخوف، جاءتنا الشريعة بترك بعض الواجبات في الصلاة، من جهة
نظمها، من جهة أركانها، فهنا ترك الشارع بعض الواجب من أجل تحصيل مصلحة الجماعة،
فيدلنا ذلك على أن الجماعة في الصلاة من الواجبات.
إذن هذه قواعد متعلقة بأبواب مختلفة، فبالتالي يجب علينا أن نلاحظ تطبيقات هذه
القواعد، مثلاً: في قاعدة المتعدي أفضل من القاصر، قد تتزاحم عندك عبادتان، لكن
إحداهم سيترتب عليها أن تستمر في الطاعة، والثانية ستفعل الطاعة في الوقت لكن قد
تترك تلك الطاعة بعد ذلك، فحينئذ نقول الفعل الذي يرتب عليك أثار بعده هذا أولى،
لذلك جاء في بعض المسائل التي تتعلق بهذا المعنى، صلاة الجماعة ترك من أجلها ترتيب
الصلاة وبعض نظم الصلاة، فدل هذا على أن صلاة الجماعة من الواجبات.
أعطيكم مثل: نحن نقول المتعدي والقاصر، عندنا شخص تعارض عنده عملان، صلاة ودرس علم
أو موعظة، فأيهما يقدم؟ عنده صلاة وعنده موعظة، هذه الصلاة التي سيؤديها عمل فاضل،
فدرس العلم أفضل أو تلك الصلاة أفضل؟ نقول درس العلم أفضل، لأنه سيترتب عليه آثار
بعد ذلك، وسيترتب عليه وجود يقين في قلبه ورغبة ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي
ستترتب عليه، وبالتالي قدمنا أحد الفعلين على الآخر لوجود تلك الآثار المترتبة
عليه، وهذا لعله -إن شاء الله- من الواضح لديكم.
هذه كلها القواعد التي أشرنا إليها قبل قليل، وتكلمنا عنها هذه تسمى قواعد، وهناك
في المقابل ضوابط تكون في أبواب مختلفة، بعضها ضوابط تكون في باب واحد، وبعضها
ضوابط في أبواب المعاملات، وبعضها في أبواب العبادات، وهذه الضوابط منها ما هو متفق
عليه، ومنها ما يقع فيه خلاف.
أضرب لكم عدد من الأمثلة: الخلع هل هو فسخ أو طلاق؟
اختلف العلماء، الجمهور قالوا: طلاق، والحنابلة قالوا: فسخ.
إذا قلنا: إنه فسخ فإنه يترتب عليه عدد من الأحكام، منها مثلاً: هل يحتسب الخلع في
عدد مرات الطلاق أو لا يحتسب؟
إذن هذا في أبواب النكاح، مثلاً عندك في أباب المعاملات، الإقالة هل هي بيع أو فسخ؟
أنا اشتريت منك سلعة وبعد أسبوع قلت أرغب نوقف هذه المعاملة، هذا يسمى الإقالة،
الإقالة هل تعتبر بيعاً أو تعتبر فسخا؟ إذا قلنا أنها بيع سيترتب عليها أحكام،
مثلاً نراعي مسائل الربا، نراعي شروط البيع، بينما إذا قلنا إقالة لم نلتفت إلى
شروط البيع ولم نلتفت إلى تخليصها من مشابهة الربا.
أيضاً مثلاً من القواعد الإغماء، هل هو جنون أو نوم؟ بحيث مثلاً يترتب عليه مسائل،
إذا استيقظ من الإغماء هل يقضي الصلاة الماضية التي كانت عليه في الإغماء أو لا
يقضي؟ إن قلنا الإغماء جنون فإنه لا يقضي، وإن قلنا الإغماء نوم فإنه يجب عليه أن
يقضي لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا
ذكره» لا كفارة لها إلا ذلك، ومن هذا المنطلق نقول بأن النائم يؤمر بإعادة الصلاة
أو بأداء الصلوات التي فاتته في أثناء نومه، بخلاف المجنون فإنه رفع عنه القلم،
المغمي عليه ما رأيكم؟ الحنابلة يقولون الإغماء نوم، وبالتالي يجب على المغمى عليه
قضاء الصلاة ولو كانت لعشر سنين، بينما الشافعية والمالكية قالوا الإغماء جنون،
وبالتالي لا يقضي الصلوات التي فاتته ولا الصيام، الأولون قالوا الإغماء يجوز على
الأنبياء والجنون لا يجوز على الأنبياء، والآخرون قالوا بأن النائم يمكن إيقاظه
بخلاف المغمى عليه، هناك من توسط وقال إن كان الإغماء ليوم وليلة فأقل فهذا نعتبره
.. المقدار، بخلاف ما لو زاد عن ذلك، فإننا نعتبره جنوناً، فبالتالي لا يطالب
بالقضاء، هذا مذهب فقهاء الحنفية.
من المسائل أو الضوابط المختلف فيها، هل الجمعة فرض مستقل أو هي بدل عن صلاة الظهر؟
الحنابلة يقولون: هو فرض مستقل، لما ورد في الحديث، فرضت صلاة الجمعة ركعتين تمام
غير قصر، فيه نصوص كثيرة تدل على هذا المعنى، قالوا يدل عليه أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- كان يؤديها قبل الزوال، صلاة الجمعة، وذهب آخرون إلى أن صلاة الجمعة بدل
من صلاة الظهر، أو هي ظهر مقصور وهذا مذهب الشافعية، وترتب على هذا الخلاف عدد من
المسائل، مثلاً هل يجوز جمع العصر مع الجمعة؟
لأن الجمع إنما ورد بجمع العصر مع الظهر، فإن قلنا الجمعة ظهر مقصورة جاز جمع العصر
معها، وإن قلنا هي فرض مستقل، لم يجوز لأن النص لم يأتي بالجمع، والأصل عدم جواز
الجمع لقول الله -عز وجل- ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَّوْقُوتً﴾ [النساء: 103].
ومن المسائل المتعلقة بهذا لو أن صلى صلاة الجمعة بنية الظهر، فهل تجزئه أو لا
تجزئه؟ قالت طائفة نعم تجزئه، لماذا؟ قالوا لأن الجمعة بدل عن الظهر، والآخرون
قالوا لا تجزئه، لماذا؟ عندهم أن الجمعة فرض مستقل، هل يجوز أن تؤدى الجمعة قبل
الزوال؟ أيضاً له صلة بهذا، إن كانت ظهراً مقصوراً لم يجوز، وإن قلنا بأنها فرض
مستقل وجاء النص بجوازها، فحينئذ نقول بالجواز.
إذن مبنى الخلاف في مثل هذه المسائل، هو الخلاف في قاعدة هل الجمعة فرض مستقل أو هي
بدل عن صلاة الظهر؟
إذن أخذنا عدداً من القواعد في هذا المقرر، وتبين لنا شيء من فوائد تعلم هذه
القواعد، ومناهج العلماء في دراستها، كما أخذنا القواعد الكبرى وفصلنا في كل واحدة
منها، ثم بعد ذلك ذكرنا عدداً من القواعد الكلية التي ليست بكبرى، وذكرنا أحكامها.
أسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم الهداة المهتدين،
كما أسأله -سبحانه- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يوفقهم لطاعته، وأن يعيدهم لدينه، كما
أسأله -جل وعلا- للمؤمنين اتحاد كلمة واجتماع قلوب وتألف فيما بينهم، وأسأله -جل
وعلا- أن يصلح أحوال الجميع، اللهم انشر العلم في الأمة، اللهم انشر العلم في
الأمة.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.