الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في لقاء جديد من لقاءاتنا في شرح القواعد الفقهية، نتناول بإذن الله عزَّ
وجلَّ في هذا اللقاء عددًا من القواعد الكلية.
تقدمت معنا القواعد الكبرى، وأخذنا في اللقاء السابق قاعدتيْن من القواعد الكلية
هما قاعدة: التابع تابع، وقاعدة: إعمال الكلام أولى من إهماله.
القاعدة الأولى التي نأخذها في هذا اليوم قاعدة: ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
ما حرم، مأخوذٌ من التحريم، والتحريم هو ما نهى عنه الشارع نهيًا جازمًا، التحريم
نهي الشارع الجازم عن فعلٍ من الأفعال.
ما حكم المحرم؟
أنه يأثم فاعله، ومن تركه تقربًا لله فإن له الأجر والثواب.
ما معنى هذه القاعدة؟
ما حرم أخذه حرم إعطاؤه، أن المكاسب التي لا يجوز للإنسان أن يأخذ المال بواسطتها،
يحرم عليه أن يعطي المال فيها.
وكذلك ما حرم أخذ الجزاء أو الثواب عليه، حرم إعطاء الجزاء والثواب عليه، إذن هذه
القاعدة ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
من يمثل لنا؟
{الاتجار بالمال الحرام، الربا حرامٌ }
الربا حرامٌ، يحرم أخذه فيحرم إعطاؤه، الرشوة يحرم أخذها ويحرم إعطاؤها.
أخذ الأجرة على الأفعال المحرمة حرامٌ، فكذلك إعطاء الأجرة عليها يكون من المحرمات.
ما الدليل على هذه القاعدة؟
هناك أدلةٌ: منها قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، ومن أعطى في
الحرام فهو يعاون على الكسب الحرام.
كذلك ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود، حُرمت
عليهم الشحوم، فجمَّلوها، فباعوها، وأكلوا ثمنه»، فلما حرم عليهم أخذها وأكلها حرم
عليهم بيعها والتصرف فيها بأي نوعٍ من التصرفات.
ثم قال: «إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه».
وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التجارة في المحرمات، وفي
الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرةً، ذكر منها المشتري والبائع،
إذا حرم الأخذ حرم الإعطاء، وهكذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خمرٍ لأيتامٍ،
هل تباع؟ أيتامٌ مساكين عندهم خمرٌ، هم لن يشربوا الخمر، لكن يريدون بيعها، فنهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لماذا؟ لأنه لما حرم تناولها حرم أخذ الثمن
والعوض عليها.
ويدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه
وشاهديه»، فلما حرم أخذ الربا حرم إعطاؤه، وهكذا في الحديث الآخر: «لعن الله الراشي
والمرتشي»، الراشي دافع الرشوة، والمرتشي هو الآخذ للرشوة.
إذا تقرر هذا فإن المحرمات تلاحظون أنها يمكن تقسيمها بتقسيماتٍ مختلفةٍ.
هناك محرماتٌ تحرم على الجميع، وهناك محرماتٌ تحرم على البعض دون البعض، كيف
محرماتٌ تحرم على البعض؟ نعم هناك بناءً على أمر الشارع.
مثال ذلك:
محرماتٌ تحرم على الجميع: من أمثلتها مثلًا آنية الذهب والفضة، الخمر، الخنزير، هذه
محرمٌ على الجميع، بالتالي لا يجوز بيعها، ولا إهداؤها، ولا الاستفادة من ثمنها،
ولا التصرف فيها، الميتة الدم، كلها تدخل في هذا.
النوع الثاني: محرماتٌ تحرم على البعض دون البعض: مثال ذلك: ثوب الحرير، يحرم على
الرجال ويباح للنساء، حُلي الذهب والفضة، يجوز للنساء ولا يجوز للرجال.
هذا النوع يجوز بيعه ، يجوز حتى للرجال بيعه ويجوز إهداؤه، ويجوز أن يُملك، ولذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في
صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة»، معناه أنكم لا تتملكونها، وبالتالي
لا تتصرفون فيها بأي نوعٍ من أنواع التصرف، حتى الاتخاذ.
بخلاف ثوب الحرير، جاء للنبي صلى الله عليه وسلم ثياب حريرٍ، فأرسل إلى عمر بن
الخطاب منها بواحدٍ، فلبسه عمر وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي روايةٍ أنه
جاء كالمستنكر، كيف أهديتني هذا الثوب الحرير وقد قلتَ في ثوب عطارد ما قلتَ؟ لما
جيء إليه وقيل له البس هذا الثوب تتجمل به، قال: «إنما يلبس هذه من لا خلاق لهم في
الآخرة».
فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: «إني لم أهدها لكي لتلبسها، وإنما أهديتها لك
لتكسوه» تعطيها زوجتك فأرسل بها عمر رضي الله عنه إلى أخٍ له مشركٍ، لماذا؟ لأن
هذا النوع ليس محرمًا على الجميع، وإنما يحرم على البعض.
إذن محل القاعدة هو في النوع الأول الذي يحرم على الجميع، أما المحرم على البعض فلا
يدخل معنا في هذه القاعدة.
من فروع هذه القاعدة: مثلًا فيما يتعلق بالميتات بالخنازير بآنية الذهب والفضة، كل
هذه تدخل في هذه القاعدة.
هناك مسائل قد يقع الالتباس فيها:
المسألة الأولى: قد يكون هناك شاعرٌ، يهجو الناس، فيعطيه بعض الناس من أجل اتقاء
شره، هنا الشاعر لا يجوز له هذا الأخذ، لأنه إنما يأخذ بناءً على فحشه وإيذائه،
فأخذه لهذا المال محرمٌ.
لكن إعطاؤه أجازه بعض العلماء، وبعض العلماء قال: بأن هذا على سبيل الضرورة، لأن
عليهم ضررًا، فدفع إليه هذا المال من باب دفع الضرر الواقع عليهم، هذا ضرورةٌ،
وللضرورات أحكامٌ، وقد تقدم معنا قاعدةٌ: الضرورات تبيح المحظورات.
مثالٌ آخر في مسائل الرشوة، يأتيك بعض الناس لهم حقوقٌ لا يستطيعون تخليص هذا الحق
إلا بدفع مالٍ ليتخلصوا منه، ليصل إليهم حقهم، ففي هذه الحالة هل يجوز دفع هذا
المال؟ نقول هذا من باب الضرورات، نطبق عليه شروط الضرورة التي هناك.
1- لابد أن يكون الضرر متيقنًا.
2- ولابد ألا يكون هناك طريقٌ آخر لاستخلاص الحق غير هذا الطريق، إذا كان بالإمكان
إبلاغ الجهات الأمنية لتقوم بالقبض على هذا المجرم الذي يأخذ الرشوة، فإنه لا يجوز
للإنسان أن يدفع الرشوة.
ما حلت الرشوة في بلدٍ إلا أهلكته، بالتالي يجب على أهل الإسلام أن يتظافروا على
محاربة الرشوة، والوقوف في وجه ذلك المرتشي، والإبلاغ عنه، حتى ولو كان عليك ضررٌ،
قد تتضرر في المرة الأولى، وقد يمتنع ما يصل إليك حقك، لكنك بعد ذلك لن يجرأ عليك
أحدٌ، يخشون منك، وكذلك كل واحدٍ من الموظفين يخشى أن تلحقه اللائمة إذا أخذ
الرشوة، أو أن يبلغ عنه، بالتالي ينتهي هذا المرض.
من أمثلة هذا مسائل صلح الإنكار، لي عليك ألف ريال، طالبتك، ادعيتَ أنت في صلح
الإنكار ادعيتَ أن لك عليَّ ألف ريال، قلت لك لا لا يوجد، ولم آخذ منك شيئًا من
المال، فقلت سأشتكيك إلى المحكمة، وسأتعبك، وسأبهدلك، قلت تعال أعطيك رياليْن فكني
من شرِّك، أذهب للمحكمة، وكل يومٍ جلسةٌ، فهنا صلحٌ على إنكارٍ، الجمهور يقولون هذا
الصلح باطلٌ ولا يجوز، والحنابلة يجيزونه ولكنهم يقولون يحرم على ذلك الآخذ، طيب
هذا الدافع المعطي قالوا هذا ضررٌ عليه، فهو لدفع الضرر دفع هذا المال، بناءً على
قاعدة الضرورات تبيح المحظورات.
إذا لم يتمكن دفع ضرر هذا الشخص إلا بهذا الطريق، فحينئذٍ يقوم بدفع هذا المال، يجز
له، وإن كان الوقوف في وجهه، وعدم تمكينه، ولذلك ورد عن الأئمة الفقهاء عدد من
الحوادث لم يتساعدوا مع أولئك الذين يدعون عليهم بطريق العدوان والظلم.
ورد عن بعض الأئمة أنه كان عنده بئر زيتٍ، وقعت فيها فأرةٌ فتشكك فيه فألقاه كله،
ثم جاءه شخصٌ وادعى عليه في شيءٍ يسيرٍ من الزيت، فامتنع، وذهب معه إلى القضاء وحلف
اليمين بأنه ليس له حقٌ، يتقرب بذلك لله عزَّ وجلَّ لئلا يجرئ أمثال هذا على ادعاء
ما ليس لهم.
إذن هذه قاعدةٌ من القواعد الفقهية المقررة أن ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
ننتقل إلى قاعدةٍ أخرى، وهي قاعدة الغرم بالغنم، أو نعكسها نقول قاعدة الغنم
بالغرم.
نمثل لهذه بمثالٍ حتى يتضح لنا الحال، اشتريتُ منك سيارة، واشترطتُ أن لك الخيار
لمدة أسبوعٍ، قمتَ بتأجير السيارة في هذا الأسبوع، أو قمتَ بإركاب بعض الناس عليها
بأجرةٍ، مدة هذا الأسبوع، قبل نهاية الأسبوع قلتُ أعد إليَّ سيارتي، أعدتُ إليك
سيارتك وأخذتُ الثمن، قلت لن أعطيك الثمن كاملًا أنت أجَّرتها، في هذه المدة، سأخصم
قيمة الإيجار، نقول ليس لك حقٌ في ذلك، لماذا؟ لأنه لو تلفت السيارة في هذه المدة
تلفت في ضمان المشتري، كانت من ماله، فإذا كانت في ضمانه فما حصل عليها من غلةٍ أو
زيادةٍ تكون له في مقابل أنه لو تلفت السلعة لكان ضمانها عليه.
أو آتي بمثالٍ آخر، نأتي بمثالٍ آخر.
رجلٌ عقد على امرأةٍ، وجعل المهر عمارةً، إيجارها مليون ريال في السنة، وجلست
الزوجة عنده أربع سنين، ملَّت الزوجة منه، وطلبت الطلاق، أو طلبت الفسخ من القاضي،
فقام القاضي بفسخها، يترتب عليه أن تعيد جميع المهر له، لأن الطلاق ليس من الزوج،
وإنما بطلب الزوجة.
في هذه المدة كانت العمارة مؤجرةً، كل سنةٍ بمليون، كم سنةٍ؟ أربع سنين، أربعة
مليون، قال أعيدي إلي الأربعة مليون، ماذا نقول؟
نقول ليس لك الحق، لو تلفت العمارة في هذه المدة لتلفت في ملكها وضمانها، فإذا كانت
تتلف في ضمانها، فإن غنمها وزوائدها، وأجرتها تكون لها.
إذن الغرم ما هو؟
التبعات الواجبة على صاحب الملك، من ضمان، ونحوه.
والغنم هو المنافع والفوائد التي تحصل من العين.
ما هو المعنى الإجمالي للقاعدة:
نقول إن الحقوق الواجبة إذا كانت تثبت على شخصٍ في عينٍ فحينئذٍ الحقوق التي لها
تثبت له.
ويُستثنى من هذا ما لو كان متعديًا ظالِمًا، الغاصب مثلًا يجب عليه أن يعيد العين
المغصوبة ويعيد غلتها ومنافعها، قال: لو تلفت في ضماني، نقول نعم لكنك غاصبٌ، خلاف
من أخذ العين بإذنٍ شرعيٍّ من المالك أو من الشرع.
ما الدليل على القاعدة؟
ورد في الحديث أن رجلًا اشترى غلامًا فاستعمل هذا الغلام ثم وجد في الغلام عيبًا،
فرده على البائع، فامتنع البائع من القبول، فحكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم
بأنه يقبل، فقال: قد أخذ غلته، قد أخذ خراجه في هذه المدة، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: «الخراج بالضمان»، ما معنى الخراج؟ المنافع المترتبة على العين، وما
معنى الضمان؟ أنه لو تلفت السلعة تتلف في ملكه.
إذن الضمان المراد به التعويض عن الهلاك والنقصان.
ومما يمكن أن يستدل به لهذه القاعدة عددٌ من النصوص التي وردت في مثل هذه المسألة.
نمثل لهذه القاعدة بفروعٍ فقهيةٍ، من يمثل؟
إذن مثلنا بالإقالة، ما معنى الإقالة؟ فسخ البيع من المتبايعين بالرضا منهم، بعتك
سيارةً بألف بعد أسبوعٍ جئتك وقلتُ أنا محتاجٌ للسيارة، نريد إلغاء العقد، نلغي
العقد، طيب الأجرة التي حصلت في هذه المدة تكون للمشتري، لأنه لو حصل تلفٌ على هذه
السلعة في هذه المدة لتلف في ملكه، والخراج بالضمان، والغرم بالغنم، والغنم بالغرم.
من أمثلة هذه المسألة: ما لو ورث شخصٌ مالًا عينًا، فانتفع بها، ثم بعد ذلك تبين أن
هناك وصيةً بأن هذه العين تكون لشخصٍ آخر، فحينئذٍ نقول الغلة في هذه المدة تكون
له، للوارث، لماذا؟ لأنه لو تلتف السلعة تلفت في ضمانه فبالتالي يحق له تملك الغلة
والمنفعة والخراج.
ما هي شروط القاعدة؟
هناك شرطان.
الشرط الأول: أن تكون الغلة والخراج منفصلةً، الأجرة منفصلةٌ أليس كذلك؟، فبالتالي
لا تدخل معنا.
لو قدر أن شخصًا باع على آخر ناقةً، وبعد ثلاث أشهرٍ تبيَّن أن بها عيبًا، فردت
الناقة، نماء الناقة لمن؟
نقول هناك تفصيلٌ، النماء المنفصل كلبنها وما ولدت يكون للمشتري، مقابل أنها لو
تلتف لكانت في ضمانه، نماؤها المتصل كسمنها يكون للبائع.
الشرط الثاني: أن يكون سبب الملك أو وضع اليد مشروعًا، ما إذا كان محرمًا فحينئذٍ
لا نقول بهذه القاعدة، بل يجب على المالك بملك محرمٍ أو واضع اليد بسببٍ محرمٍ أن
يرد العين ويرد الغلة والمنفعة، مثل الغاصب، غصب منه السيارة، إذن ما هي الأحكام
المترتبة على الغصب؟
سرق السيارة لمدة شهرٍ، ثم أمسكناه، ماذا نقول له؟
يجب عليه أمور:
أولًا: رد العين المغصوبة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى
تؤديه».
وثانيًا: عليه أجرة السيارة في هذه المدة، الفرق بين أجرة المثل وبين الغلة، واضح
لكم، ما الذي يقدر الأجرة؟ نسأل أهل الاختصاص وأهل الخبرة كم مقدار أجرة المثل في
مثل هذه السلعة.
كذلك عليه إعادة العين المغصوبة على ما كانت عليه، لو غيَّر معالمها، لو صبغها، لو
قام بوضع أشياءٍ عليها، نقول لا، أعِدها على ما كانت عليه.
هكذا لو كان فيها تلفٌ يجب عليه ضمان التلف، صدمت السيارة المغصوبة، نقول عليه ضمان
هذا العيب وهذا النقص الذي حصل على هذه السيارة، لماذا؟ لأن وضع يده ليس بطريقٍ
مشروعٍ وبالتالي لا نطبق عليه قاعدة الخراج بالضمان، بل يعيد الخراج وفي نفس الخراج
عليه الضمان، ولا نمكنه منه.
إذن كم الأحكام التي قلناها قبل قليلٍ، أعيدوها..
- يعيد العين المغصوبة.
- يجب عليه أجرة المثل.
{أن يعيدها كما كانت}
- أن يعيد العين المغصوبة كما كانت، يعني إزالة أي تغييرٍ.
- كذلك ضمان المغصوب لو حصل عليه تلفٌ.
إذن ما هي الأشياء التي يمكن أن تكون من الغنم أو الخراج؟
هناك الغلة، أجرة وغيرها، هناك منفعةٌ مثل منفعة السكنى منفعة الركوب، عليه أن
يعيدها.
هناك أيضًا زياداتٌ عينيةٌ مثل ولادة الشاة ونحوها، أحد منكم يستحضر شيئًا من فروع
هذه القاعدة.
أعطيكم أمثلةً:
في الوديعة والعارية، أنا أعطيك السلعة وديعةً مَن المستفيد؟، أنا المستفيد، لما
طلبت منك قلت أعد إليَّ الوديعة، إعادة الوديعة إذا كانت تحتاج إلى حملٍ أو إلى
نفقةٍ في إرجاعها، على من؟
على المودِع المالك ولا على المودَع.
على المودِع، إذن هذه الكلفة والتبعة كانت على المدين هو المستفيد، بخلاف العارية،
فالعارية أنت تستفيد من العين المستعارة في هذا الوقت، وقت العارية، وبالتالي يجب
عليك أن تعيد العين المعارة إلى مالكها. لماذا؟ لأنه لما كانت المنفعة للمستعير،
وجب عليه التبعة، أما في الوديعة، ليس له منفعةٌ، في حفظ هذه الوديعة، وبالتالي ليس
عليه إعادتها.
مثالٌ آخر: كتابة عقود المبايعات، تكون على المشتري؟ أو على البائع؟ من المنتفع من
توثيق عقد البيع؟ المشتري، وبالتالي إذا كان هناك مكاتبٌ مثلًا تأخذ أجرة على توثيق
عقود البيع، فإن الذي يدفع هو المشتري، ومثله أيضاً في لو اشترى السعي، قيمة السعي
على من؟ الأجرة التي للساعي، على المشتري، هو الذي يدفع، إلا أن يوجد هناك تصريحٌ
بخلافه، أو يكون هناك عرفٌ مغايرٌ، لما كان هناك توثيقٌ، توثيقٌ لانتقال الملكية،
هذا المستفيد منه المشتري، وبالتالي هو الذي يدفع الأجرة.
إذن أجرة الكتابة غرمٌ، والانتفاع بتسجيلها باسمه، والتحقق من ملكيته لها، هذه غنم،
والغرم بالغنم.
من أمثلة ذلك: لو كان عندنا عمارةٌ، مملوكةٌ بين اثنين، احتاجت إلى إصلاحٍ، من الذي
يدفع أجرة الإصلاح؟ جميع الشركاء، بقدر أملاكهم؛ لأنهم ينتفعون بهذا الإصلاح،
فبالتالي وجب عليهم الاشتراك في الإصلاح بقدر أملاكهم.
مثالٌ آخر: في باب النفقة للقريب، متى يجب على الإنسان أن ينفق على قريبه؟ إذا كان
سيرثه، أنت عندك أخٌ فقيرٌ، هل يجب عليك أن تنفق عليه؟ نقول: ننظر، إن كان لو مات
سترثه، فحينئذٍ يجب عليك أن تنفق عليه، ولا يجوز تدفع زكاة مالك له، خشية أن تعود
الزكاة لك، أما إذا كنت لا ترثه، عنده ابنٌ مثلًا، وفي هذه الحال، لا يجب عليك
نفقته، ويجوز لك أن تدفع زكاة مالك إليه، فهنا النفقة على الفقير غرمٌ، والميراث
غنمٌ، وهما مترابطان، إن ثبت الميراث، وجبت النفقة، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ
مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 233]، يعني من النفقة، مثل النفقة.
أيضاً من المسائل: عندنا سفينةٌ فيها أمتعةٌ كثيرةٌ، وخُشي من غرقها؛ لكثرة
أمتعتها، فنقوم بإلقاء بعض الأمتعة، من الذي يضمن؟ نقول: جميع ركاب السفينة، لو قدر
أن صاحب المتاع ليس معهم، في الساحل، عليه دفعٌ؟ نقول لا يدفع، يدفع الذي استفاد من
إلقاء المتاع، هم ركاب السفينة لأن لا تغرق، وبالتالي وجب عليهم ضمان السلع الملقاة
في البحر، فعندنا غنم السلامة من الغرق وعندنا غرمٌ وهو ضمان البضائع الملقاة، فهذا
مقابل هذا.
إذن عندنا الخراج انتفاعٌ، والضمان عندنا يحصل به نقصٌ، كما أن الغرم نقصٌ والغنم
انتفاعٌ.
ننتقل إلى قاعدةٍ أخرى من القواعد الكلية، وهي قاعدةٌ تبدل سبب الملك يقوم مقام
تبدل الذات، كم أخذنا اليوم من قاعدةٍ؟
الأولى: ما حرم أخذه حرم إعطاؤه، والقاعدة الثانية: الغرم بالغنم
القاعدة الثالثة: تبدل سبب الملك يقوم مقام تبدل الذات.
الملك نسبةٌ بين شخصٍ وبين مالكٍ، هذه النسبة تخول الشخص للتصرف في المال، الشخص قد
يكون شخصًا حقيقيًّا وقد يكون شخصًا معنويًّا، الشخص الحقيقي هو الأخ، هذا شخصٌ
حقيقيٌّ يملك أم لا يملك؟ يملك، هذا شخصٌ حقيقيٌّ، وهناك شخصياتٌ معنويةٌ مثل بيت
المال، مثل الشركات، مثل المؤسسات، وزارات الدولة، تملك، شخصياتٌ معنويةٌ، هل يوجد
نظائر للشخصية المعنوية في الإسلام؟ نقول نعم، كثيرٌ مثلًا بيت المال من عهد
النبوة، يملك ويستدان باسمه ويتصرف في المال باسمه، سواءً في عهد النبي -صلى الله
عليه وسلم- أو في عهد الخلفاء، وبيت المال يتم بينه وبين الناس تعاقداتٌ وتعاملاتٌ،
مما يدل على أن بيت المال شخصيةٌ معنويةٌ مستقلةٌ، كذلك في مسألة الخلطة في زكاة
بهيمة الأنعام، الخلطة تسير المالين مالًا واحدًا مستقلًا.
مثال ذلك: أنت عندك عشرون من الغنم، وصاحبك عنده ثلاثون من الغنم، لا تجب الزكاة
على واحدٍ منكما لأن كل واحدٍ منكم لم يبلغ النصاب، لم يبلغ أربعين، فإذا ضممنا
الماليْن إلى بعضهم، أصبح المجموع خمسين، فحينئذٍ نقول إن هذا فوق النصاب تجب فيه
شاةٌ، وبالتالي انتقل الحكم من كونه لا تجب الزكاة إلى وجوب الزكاة، لماذا؟ لأن هذه
الخلطة أصبحت شخصيةً معنويةً جديدةً غير شخصية الملاك، ولذا قال: فإنما لو قدر أن
عندنا ثلاثة أشخاصٍ، كل واحدٍ عنده أربعون من الغنم، الأول أربعون، والثاني أربعون،
والثالث أربعون، لو كان كل واحدٍ منهم لوحده لوجبت عليه شاةٌ، الواجب ثلاثة شياهٍ،
لما اجتمعوا أصبح المجموعة مائةً وعشرين، المائة والعشرون لا تجب فيها إلا شاةٌ
واحدةٌ، وبالتالي كل واحدٍ فيهم لا تجب عليه إلا ثلث الشاة.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا يُجمَّع بين متفرقٍ، ولا يُفرَّق بين مجتمعٍ
خشية الصدقة»، فإذن هذه الخلطة سيرت الماليْن بمثابة المال الواحد وترتب عليه
أحكامٌ جديدةٌ.
إذن ما هي القاعدة؟
تبدل سبب الملك يقوم مقام تبدل الذات، المراد بالقاعدة أن التحريم في الأموال ليس
متعلقًا بذات المال، وإنما يتعلق بكيفية التصرف فيه في الغالب، ولذلك الأموال
المحرمة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما حرم لذاته -لذات المال- بأي طريقةٍ أو بأي وجهٍ، لا يتغير حكم ذلك
المال، مثال ذلك: الخنزير يحرم لذاته، بعناه، اشتريناه، أهديناه، كله حرامٌ، الميتة
كذلك، صيد المحرم كذلك، هذه محرمةٌ لذاتها، تقلبها وتغيرها بتغير الصفات لا يغير
حكمها الشرعي.
النوع الثاني: ما حرم لحقوق الآخرين، مثل المغصوب، المغصوب حرامٌ لحق المالك،
فبالتالي لا يجوز التصرف فيه، والتصرف فيه لا ينقل حكمه، إلا تصرف من مالكه، مثال
ذلك: ذهبت للسوق وجدت شخصًا يبيع سيارةً برخصٍ، قلت له لماذا تبيعها برخصٍ؟ قال أنا
سارقها، يجوز أن تشتريها منه؟ نقول لا، هنا قد يقول قائلٌ تبدل سبب الملك، نقول لكن
تحريم التصرف في هذه العين لتعلق حقوق الآخرين به، وبالتالي لا يغير حكمها.
النوع الثالث من أنواع المحرمات، الأول محرمٌ لذاته، والثاني محرمٌ لتعلق حقوق
الآخرين به، والنوع الثالث محرمٌ لكسبه، هذا النوع لا يتعلق التحريم بذات المال،
وإنما يتعلق التحريم بالذمة، يبقى الإثم في ذمته أما المال يبقى على طهارته، ومن ثم
نقول هذا المال إذا تبدل وتغير سبب الملك فيه، فحينئذٍ يتغير حكمه شرعًا، ويقوم
مقام تبدل الذات.
مثال ذلك: شخصٌ كسب أموالًا من الربا، هناك محرمٌ تحريم يتعلق بذمته، هذا التحريم
لا يتعلق بعين النقود التي كسبها، جاء لنا واحدٌ لو كان عنده أجيرٌ ينظف السيارة
عنده، وهذا الشخص غير راضٍ، قال خذ الأجرة مائة ريال، يبقى حرامًا لأنه مالكٌ من
ربا، نقول لا، هذا التحريم ليس لذات المال ولا لتعلق حقوق الآخرين به، وإنما حرم
لكسبه، بالتالي التحريم يتعلق بالذمة، يجوز له أن يعمل لديه، ما الدليل؟ عندنا
أدلةٌ كثيرةٌ، منها مثلًا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستجيب لدعوة اليهود
ويتعامل معهم، ومات ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ في شعيرٍ أخذه منه، اليهود لا
يتورعون عن الربا، يتورعون عن الربا وليس علينا في الأُميين سبيل، وقال -تعالى:
﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: 161]، ومع ذلك تعامل النبي
-صلى الله عليه وسلم- معهم، لماذا؟ لأن التحريم يتعلق بذممهم ولا يتعلق بعين المال.
الدليل الثاني، هناك أدلةٌ على القاعدة كثيرٌ، فهنا نقول تبدل سبب الملك، الأول
أخذه من ربا والثاني أخذه بقرضٍ أو ببيعٍ يقوم مقام تبدل الذات، الدليل الثاني: ما
ورد في حديث بريرة، بريرة -رضي الله عنها- كانت مملوكةً، واشترط أهلها أن تعطيهم
تسع أواقٍ فيعتقوها، فذهبت إلى عائشة -رضي الله عنها- تستعين بها، قالت عائشة: إن
جعل أهلك الولاء لي نقدتك لهم، عطيتهم إياها، اشتريتك ونقدتك، فذهبت إليهم ورفضوا،
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: « اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن
اعتق » كأن صحح عقد الشراء وأبطل الشرط، لأنه ينافي مقتضى العقد، على كلٍ بعد ذلك
بريرة بقيت عندهم، جاء في يومٍ هناك شخصٌ تصدق على بريرة بصدقة لحمٍ، فطبختها في
بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأكل الصدقة، فلما
دخل البيت قال عندكم طعامٌ، قالوا لا، قال: رأيت البرمة، القدر تطبخ فيه اللحم،
قالوا: هذا لحمٌ تصدق به على بريرة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «هو عليها
صدقةٌ وهو لنا هديةٌ» تهديه لنا، هنا هذا اللحم كان حكمه أنه صدقةٌ، وتبدل حكمه
بتبدل نوع التصرف فيه، فتبدل سبب الملك يقوم مقام تبدل الذات.
من أمثلة هذه المسألة قاعدة: لو كان هناك فقيرٌ أهدي إليه، فقيرٌ تصدق عليه أعطي
زكاةً، فقام بإعطاء هذه الزكاة زكاته تمرٌ، فقام بإعطاء شخصٍ غنيٍّ هذا التمر
هديةً، يجوز أم لا يجوز؟ يأخذه الغني أم لا يأخذه؟ يأخذه لأنه أصبح هديةً، تبدل سبب
الملك يقوم مقام تبدل الذات، جاءنا شخصٌ وقال الغني لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة،
نقول الآن هو يأخذ هديةً لا يأخذ صدقةً كما في حديث بريرة.
أيضًا من المسائل المتعلقة بهذا، من يغلب عليه المال الحرام، نقول المال الحرام هذا
تحريمه لذاته أو تحريمه لتعلق حقوق الآخرين به، فلا يجوز التعامل به، أما إذا كان
تحريمه لكسبه، فحينئذٍ يجوز التعامل معه، بعض الناس قد يتورع من التعامل مع مثل ما
كان كذلك، هؤلاء منزوعة البركة من أموالهم، فالبيع معهم لن يبارك فيه، وبالتالي
يترك التعامل معهم، لكن مسألة الجواز نقول يجوز، ومثله أيضًا ما لو كان هناك شخصٌ
يأخذ أجرة على الكهانة، الكهانة حرامٌ، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «من أتى
كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمدٍ» -صلى الله عليه وسلم-، المال
الذي قبضه تحريمه لعينه، لذاته أو لتعلق حقوق الآخرين به؟ نقول تحريمه لكسبه، هو
أهدى من، ونطبق عليها قاعدة تبدل سبب الملك يقوم مقام تبدل الذات، وبالتالي لو
جاءنا بعض المرابين ودفع مالًا لجمعيةٍ خيريةٍ، أو في بناء مسجدٍ، يجوز لهم يأخذون
أم لا يجوز؟ نقول التحريم هنا ليس لذاته ولا لتعلق حقوق الآخرين به وإنما لكسبه،
فيجوز لهم أخذه ولا يتعلق بهم شيءٌ من التحريم، التحريم في ذمة الأول، ومن ذلك
مسائل التطهير، من يريد أن يطهر ماله من محرمٍ، فيقوم فيتصدق به على مضطرٍ، وهنا
تبدل سبب الملك فبالتالي يجوز للمضطر أن يأخذه، ولا حرج عليه في ذلك.
وهذه تستدعي منا الحديث عن مسألة حكم العمل عند من يتعامل بالحرام، ومثله التعامل
أو الوظائف في البنوك الربوية، هذا الوظائف ثلاثة أنواعٍ: النوع الأول: من كان عمله
مباحًا ويجوز أخذ الأجرة عليه، ولا يستعان بعمله على الربا، فمثل هذا يجوز له العمل
ويجوز له أخذ الأجرة، هذا النوع الأول، من يعمل عند ذلك المرابي بعمل غير محرمٍ ولا
يعين على المحرم، فالعمل مباحٌ والأجرة مباحةٌ، لأنه يستوفي أجرةً مباحةً عن عملٍ
مباحٍ.
النوع الثاني: من يعمل في عملٍ ليس بمحرمٍ لكنه يعين على المحرم، فهذا يقولون لا
يجوز له العمل لقوله -تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
[المائدة: 2] ولكن يثبت له أجرة المثل.
النوع الثالث: من يعمل عملًا محرمًا، فهذا لا يجوز له العمل ولا تجوز له الأجرة،
لأن لا يجوز استيفاء الأجرة عن العمل المحرم، نمثل لذلك بأمثلةٍ، من يكتب عقود
الربا، عمله محرمٌ قد لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكاتبه، وبالتالي العمل
محرمٌ، الأجرة ما له حقٌّ فيها، ماذا يفعل؟ يحصيها على نفسه وبعد ذلك يخرجها في
أعمال الخير، ما يعيدها إلى الأول البنك، لماذا؟ لأن البنك استوفى أجرته ومنفعته،
مثل أيضًا أجرة البغي، وحلوان الكاهن، ما يعيدها إلى ولاية الأشخاص، فإنما يتخلص
منها ويطهر نفسه منها، كيف يطهر؟ يبحث عن مواطن الضرورة، أحسن ما يطهر به أن يبحث
عن مواطن الضرورات، لأن الضرورات تبيح المحظورات، من أمثلة الضرورات: أولئك الذين
تتوقف حياتهم على إجراء عمليات تحتاج إلى أجرةٍ ماليةٍ، هذا مضطرٌ فبالتالي إذا
دفعت له هذا المال المحرم في هذا السبيل، فحينئذٍ يكون هذا من باب دفع المال في
الضرورات ويكون تخلصًا، لكن لا ينوي به التقرب لله، ينوي أن يهرب ويخلص نفسه من هذا
السبيل.
مثال: من ينسخ الكتب أو يطبع طبعاتٍ مزورةٍ للكتب، ويأخذ أجرةً، أو ينسخ أشرطةً
وبرامج الحاسب الآلي، ما له حقٌّ هذا اعتداءٌ على أموال الآخرين، والعمل الذي يؤديه
عملٌ محرمٌ، وبالتالي الأجرة التي حصل عليها والثمن الذي حصل عليه محرمٌ، ماذا
يفعل؟ بعضهم يقول يعيده إلى صاحب الحق، لأنه هو المستحق فيه، وبعضهم يقول ينفق في
سبل الخير ومن أولًاها أبواب الضرورات.
إذن ما هي القاعدة؟
{سؤالي يتعلق بالذي يعمل في حراسة}.
نحن أعطيناك القاعدة، الأعمال ثلاثة أنواعٍ، عملٌ محرمٌ لا يجوز أخذ الأجرة عليه،
عمل ليس بمحرمٍ لكنه يعين على المحرم له أجرة المثل والعقد حرام، الثالث: من يعمل
عملًا غير محرمٍ ولا يستعان به على المحرم، فالعقد جائزٌ والأجرة جائزةٌ.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله إلى الخير، ورزقكم الله علمًا نافعًا وعملًا صالحًا،
هذا والله أعلم وصلى الله على نبيه محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.