الدرس الخامس
معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري
إحصائية السلسلة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ، لقاءٍ خامسٍ من لقاءاتنا في شرح القواعد الفقهية، كنا
ذكرنا أننا سنبدأ في قاعدة: الضرر يُزال.
القاعدة الرابعة، وهي قاعدة: "الضرر يزال".
ما المراد بالضرر؟
الضرر يراد به الأذية، ويدخل في ذلك عددٌ من الأشياء، منها:
أولها: ما يلحق النقص، فكل أمرٍ يلحق النقص بغيره فهذا ضررٌ.
والثاني: ما يفوت المقصود من بعض الأشياء، فإنه يعد ضررًا.
وهكذا ما يفوت مصلحةً مقصودةً، فإنه يعد ضررًا.
ما حكم الضرر؟
يجب إزالته.
وهذا هو معنى هذه القاعدة: الضرر يزال، أي: يُدفع ويُرفع بما لا يتضمن ضررًا
مساويًا أو أكثر منه.
وبذلك نعلم أن دفع الضرر قد يكون بزوال الضرر بالكلية، وحلول مصلحةٍ محل ذلك الضرر،
فهذا مطلوبٌ، مأمورٌ به شرعًا، وقد يكون إزالة الضرر لضررٍ أقل منه، وهذا أيضًا
مطلوبٌ ومأمورٌ به في الشرع.
وقد يكون إزالة الضرر إلى ما هو أعظم منه، وأشد ضررًا منه، فهذا لا يطلب إزالته
لماذا؟
لأنه يترتب عليه ضررٌ أكبر.
وأما الأمر الرابع: فهو عند التساوي، بين الضرر الموجود والضرر الذي سيخلفه،
فحينئذٍ نقول: بقاعدة: "الدفع أولى من الرفع"، فإن بقاء هذا الضرر الموجود خيرٌ من
استجلاب ذلك الضرر المفقود الذي قد يترتب عليه أمورٌ أكبر منها، ولذلك قال الفقهاء:
"الدفع أولى من الرفع".
ما معنى الدفع والرفع؟
الدفع منع وقوع الشيء، والرفع معناه: إزالة ما وقع.
فكوننا نمنع مِن وقوع الشر والضرر قبل حصوله، هذا أولى من كوننا نرفعه بعد حصوله،
ولهذا قالوا: "درهم وقايةٍ خيرٌ من دينار علاجٍ"، أو بعكس ذلك.
هناك عنوانٌ آخر لهذه القاعدة قالوا عنه: "لا ضرر ولا ضرار"، أخذًا من حديثٍ واردٍ
بهذا اللفظ.
ما معنى ضرر؟ وما معنى الضرار؟
هناك اختلافاتٌ فقهيةٌ في تفسير الضرر والضرار، وأكثر العلماء على أنَّ الضرر هو
الأمر المبتدأ، وأما الضرار فهو مقابلة الضرر بضررٍ أكبر منه.
مثال ذلك: شخصان تقابلا، ضرب أحدهما الآخر في وجهه، فقام الثاني فضربه عشرين ضربةً،
الضربة الأولى ضررٌ، والعشرون ضربةً أو التسعة عشر ضرارٌ؛ لأنه قابل الضرر بما هو
أكثر منه.
وقد ورد في عددٍ من النصوص التأكيد على هذه القاعدة، وأن الشريعة تنفي الضرر وتمنع
من وقوع الضرر والإضرار بالآخرين، فالشريعة تأمر أبناءها بالإحسان إلى الناس،
والسعي فيما يحقق مصالحهم.
وحينئذٍ هذا نهي عن إلحاق الأذى والضرر بالآخرين، ويدل على هذه القاعدة عددٌ من
النصوص القرآنية، والنبوية.
فمن القرآن:
يقول الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِين﴾
[الأحزاب: 58].
ويقول الله -جلَّ وعلَا: ﴿لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ
لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، نفى المضارة.
وقال تعالى: ﴿وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾ [البقرة: 282]، ما معنى ﴿لاَ
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾؟ له معنيان، كلاهما مرادٌ.
الأول: أن الكاتب والشهيد لا يلحقون الضرر بغيرهما.
والثاني: أنه لا يجوز للآخرين أن يلحقوا الضرر بالكاتب والشهيد، ﴿لاَ يُضَارَّ
كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾ وهذا من بلاغة القرآن، أن تكون لفظةٌ واحدةٌ تدل على
معنييْن متقابليْن، وكلا المعنيين مرادٌ بالآية.
ومن أدلة القاعدة قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ
غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ [النساء: 12]، فنفى المضارة في الوصايا.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُو﴾ [البقرة: 231]،
أي: لا يُرجع الزوج زوجته من أجل أن يلحق الضرر بها.
في نصوصٍ كثيرةٍ كلها تنهى عن الإضرار بالآخرين، ومما يدل على هذه القاعدة استقراء
أحكام الشريعة، فإنَّ من استقرأ الأحكام الشرعية وجد أنَّ الشريعة تنهى عن إلحاق
الأذى والضرر بالآخرين، سواءً فيما يتعلق بالضرر البدني، فنهت الشريعة عن الاعتداء،
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ [البقرة:
190].
ونهت عن الضرر المالي، كما في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ
تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُمْ رَحِيم﴾ [النساء: 29].
ونهت الشريعة عن الإضرار بالفرد والإضرار بالأسرة، ونهت عن الإضرار بالمجتمع، فكل
هذا قد نهت الشريعة عنه.
وحينئذٍ نعرف أنَّ أحكام الشريعة قد جاءت بإقرار الصلاح والإصلاح، ونفي الضرر
والإضرار، فهذه قاعدةٌ في الشريعة عامةً.
قد يسأل أحدكم فيقول: ما الفرق بين قاعدة: "الضرر يزال"، وقاعدة: "المشقة تجلب
التيسير"؟
فنقول: الضرر هذا من فعل الناس، أثرٌ من آثار أفعال الناس، بينما المشقة أوصافٌ
لحقت بالمكلف اقتضت التخفيف عليه، فهنا فرقٌ بين المشقة وبين الضرر، فالضرر من
أفعال الناس بإلحاق الأذية بعضهم ببعضهم الآخر، بينما المشقة تكون بأوصافٍ تلحق
المكلف تكون سببًا من أسباب التخفيف عليه.
كذلك الضرر ما حكمه في الشريعة؟
محرمٌ، أما المشقة وصفٌ يأتي للإنسان ما يحكم عليه، لكنه سببٌ للتخفيف.
وبالتالي الضرر ما حكمه؟ يجب إزالته، والمشقة؟ يخفف على المكلف بسبب وجودها.
وهذه القاعدة: "الضرر يزال" لها فروعٌ كثيرةٌ في أبوابٍ متعددةٍ من أبواب الفقه، بل
جميع أبواب الفقه فيها فروعٌ من فروع هذه القاعدة.
فمثلًا في أبواب الوضوء، لا يجوز للإنسان أن يغتصب ماء غيره ليتوضأ به، وهكذا لا
يجوز أن يغتصب سجادةً لغيره؛ ليصلي عليها، وهكذا في جميع أبواب العبادات.
بل إن هناك أبوابًا كبيرةً عقدت في الشريعة من أجل تحقيق هذه القاعدة الضرر يزال،
أورد لكم ثلاثة نماذج أو أربعة نماذج.
النموذج الأول: كتاب الحدود، كل كتاب الحدود والجنايات إنما قرر في الشريعة من أجل
إزالة الضرر الواقع، ودفع الضرر المتوقع؛ لئلا يَعتدي الناس بعضهم على بعضهم الآخر.
النموذج الثاني: باب الخيار في البيع، هناك عددٌ من الخيارات التي تخوِّل أحد
المتبايعين فسخ البيع، لماذا فُسخ البيع؟ من أجل درء الضرر الواقع أو المتوقع، خيار
العيب مثلًا، خيار الغبن، كل هذه خيارات قررت في الشريعة من أجل إزالة الضرر الذي
يقع على العبد.
هكذا حتى في خيار المجلس أو في خيار الشرط، لماذا اشترط الخيار؟ ليدفع عن نفسه
ضررًا يتوقعه.
النموذج الثالث: أبواب الحجر، سواءً الحجر على السفيه، أو الحجر على المجنون، أو
الحجر على الصغير، أو الحجر على المدين والمفلس، كل هذه عُقدت من أجل إزالة الضرر،
فالحجر على السفيه والصغير من أجل إزالة الضرر المتوقع عليه هو، بينما الحجر على
المفلس من أجل إزالة الضرر الذي وقع من المفلس على غيره، فهذا الباب أصلًا معقودٌ
من أجل تقرير هذه القاعدة قاعدة الضرر يزال.
هل عندكم أمثلةٌ أخرى لأبوابٍ عُقدت على هذه القاعدة، مثلًا في باب فسخ النكاح،
وباب عيوب النكاح، ذلك الباب كله مقرر من أجل إزالة الضرر.
مثالٌ في باب الخلع، بحيث تطلب المرأة الخلع، مما قرر له هذا الباب إزالة الضرر
الواقع على الزوجة من قبل زوجها، فهذه أبواب بنيت على هذه القاعدة.
وهناك أبوابٌ دخلت القاعدة كمؤثرٍ أساسيٍّ، فمثلًا في باب الرجعة يشترط ألا تكون
الرجعة من أجل الإضرار بالزوجة، فإنه إذا أراد الإضرار بها لم يُجز له إمساكها،
﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُو﴾ [البقرة: 231].
وهكذا في العديد من الأبواب تدخل هذه القاعدة دخولًا أوليًّا، وإزالة الضرر قد يكون
برفعه بالكلية، وقد يكون بإحلال ما يماثله أو ما يكون أولى منه، وقد يكون بإزالة
آثاره.
نعطيكم أمثلةً:
مثلًا: شخصٌ اعتدى على آخر، فشخصٌ أخطأ فقطع يد غيره، فحينئذٍ نزيل الضرر، هل يمكن
نعيد اليد؟ ماذا نفعل؟
نزيله بإيجاب الدية، فهنا أوجدنا طريقةً من طرق إزالة هذا الضرر.
مثلًا: في باب التعزير، أولئك الأشخاص الذين حصلت منهم أفعالٌ مخالفةٌ للشريعة،
قررنا أن القاضي يقوم بتعزيرهم، فهنا فعلٌ ماضٍ، ومعصيةٌ ماضيةٌ، لكن هنا عقوبةٌ
بدنيةٌ قررت عليهم من أجل ألا يعاد إلى هذا الفعل مرةً أخرى، ومن أجل ألا يقدم
الآخرون على فعل هذا المنكر وهذه المعصية المخالفة للشريعة.
في عددٍ من الأبواب أيضًا هناك إزالةٌ من خلال إيجاد التعويض، مثلًا: في باب الغصب،
شخصٌ غصب سيارةً مملوكةً لغيره، ماذا يترتب عليه؟
باب الغصب كله مقررٌ من أجل إزالة الضرر المترتب على هذا الغصب، ما هي الأحكام؟
أولًا: يجب إرجاع العين المغصوبة إلى المغصوب منه، إلى المالك.
الثاني: يجب رد أجرةً لهذه العين المغصوبة في مدة الغصب، أخذ السيارة لمدة أسبوعٍ،
أجرتها في الأسبوع بالمبلغ الفلاني، يقوم بإعادة هذه الأجرة.
كذلك لو كان هناك نقصٌ حصل على هذه العين في هذه المدة، فإنه يجب ضمان هذا النقص،
وبالتالي يجب عليه التعويض عن النقص الذي حصل عليه.
ما هو التعويض؟ مثلًا جاءتها صدمةٌ، يجب على الغاصب أن يضمن هذه الصدمة، تقوم هذه
السلعة قبل حصول هذا العيب فيها وبعد حصول العيب، ويعطى المالك الفرق بينهما.
كذلك ما حصل من تغييراتٍ على هذه السيارة، يجب على الغاصب أن يقوم بإزالتها بدون
إلحاق ضررٍ بهذه العين المغصوبة، لو قدر أنه وضع عليها أشياءً، أو وضع عليها شبكًا،
أو وضع عليها زيادة شيءٍ من اللمبات، أو السرج، أو غيرها، فحينئذٍ نقول: إذا لم
يُرد المالك هذه الزيادة فإننا نطالب الغاصب بإزالة هذه الزيادات.
كذلك إذا كان هناك زيادةٌ ونماءٌ للعين المغصوبة، فإننا نطالب الغاصب برد هذا
النماء، مثال ذلك: لما اشترى السيارة قدر أنه أجرها لمدة يومٍ أو لمدة يومين،
فحينئذٍ هذه الأجرة تكون لمن؟ تكون للمالك، ليس للغاصب حقٌّ فيها؛ لأنها نماء ملك
المغصوب منه، نماء ملك المالك، وليست نماءً لمال الغاصب.
إذن هذه قاعدةٌ مقررةٌ في الشريعة، ولها فروعٌ كثيرةٌ في أبواب الفقه، ما من بابٍ
إلا وله فروعٌ، وهذه القاعدة تقرر مقصدًا عظيمًا من مقاصد الشريعة، من جلب المصالح
ودرء المفاسد.
ولذلك ترتب على هذه القاعدة عددٌ من القواعد، كلها مبنيةٌ على جلب المصالح ودرء
المفاسد.
جلب المصالح ودرء المفاسد يدل عليه نصوصٌ كثيرةٌ في الشريعة، ومن أمثلة ذلك قوله
-عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾
[الأنبياء:107]، ومن مقتضى كونها رحمةً أنها تجلب المصلحة للناس، ومن ذلك أيضًا
قوله -جلَّ وعلَا: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِين﴾ [المائدة: 3]، فمن إتمام النعمة أن
تكون الشريعة جالبةً لمصالح الخلق.
وقال الله -عزَّ وجلَّ- في وصف نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿يُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157]، وقال:
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾
[المائدة: 4]، وقال -جلَّ وعلَا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [الأعراف: 32].
فيه نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدل على أن الشريعة جاءت بالإصلاح والصلاح، لا بالفساد، قال
تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَ﴾ [الأعراف: 56]، ومن ذلك
إلحاق الأذية والضرر بالآخرين.
وحينئذٍ قد يسأل سائلٌ متى نعتبر الفعل مصلحةً، ومتى نعتبر الفعل مفسدةً، هناك
مناهج في هذه المسألة.
فهناك من يقول: المصالح والمفاسد يتبع فيها أمر العقل، فإن العقول هي التي تميز
المصلحة والمفسدة، بل قال بعضهم: إن الأمر لا يكون مصلحةً إلا إذا قرر العقل أنه
مصلحةٌ، ولا يكون مفسدةً إلا إذا قرر العقل أنه مفسدةٌ.
وهذا قول المعتزلة وطائفةٌ، وهناك من قال: لا، المرجع للشرع، فما اعتبره الشرع
مصلحةً كان مصلحةً، وما اعتبره الشرع مفسدةً كان مفسدةً.
وهناك من قال: مرجع هذا إلى الناس وما يتعارفون عليه.
وكل هذه المناهج الثلاثة مناهج خاطئةٌ، والصواب: أن المصالح صفاتٌ ذاتيةٌ تكون في
الأفعال، والشرع والعقل هذه معرفاتٌ تعرف بكون الفعل مصلحةً أو مفسدةً.
مثال ذلك: الصدق مصلحةٌ، والكذب مفسدةٌ، حتى قبل وجود الناس، وقبل حركة العقول،
وقبل نزول الشرائع، وقبل تعارف الناس، فهذه أفعالٌ لها صفاتٌ ذاتيةٌ يثبت الحسن
والقبح بناءً عليها.
وبالتالي نعرف أن الشرع والعقل كواشف تكشف لنا جوانب المصلحة والمفسدة في الأفعال.
على أن بعض الأفعال يكون أصله حسنًا، مصلحةً، ثم بعد ذلك يقترن به ما يجعله بضد
ذلك، فإن كون الفعل مصلحةً أو مفسدةً يعتبر بصفته في الخارج، أما الصفة الذهنية
المجردة فهذه، الشرع لا يحكم عليها، والناس العقلاء لا يحكمون عليها، يحكمون على ما
في الخارج، لأنه هو الذي يقع، وهو الذي يترتب عليه الحكم الصحيح.
إذا تقرر هذا فإن هناك العديد من القواعد التي تتبع هذه القاعدة، ويمكن تطبيق
القاعدة من خلالها، وتكون بمثابة شروطٍ لهذه القاعدة.
القاعدة الأولى: أن الضرر يُدفع بقدر الإمكان، إذا لم نستطع إزالة الضرر بالكلية،
فإننا نزيله بالقدر الذي نستطيعه، لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وبالتالي يجب علينا أن نسعى لدفع الضرر قبل وجوده،
فإذا وقع نسعى إلى إزالته بالكلية، إذا لم نستطع، أزلنا ما نستطيعه من ذلك.
ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأةٍ، فوجد أنها تنوح عند
قبرٍ، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن النوْح، فقالت: إليك عني فإنك لم تُصب
بمصيبتي، فلما رآها لم تدفع هذا الضرر الذي وقع عندها، حينئذٍ لم ينهها عن الأمر
الآخر، ألا وهو وقوفها على القبر.
القاعدة الثانية: من القواعد التي تندرج تحت هذه القاعدة، قاعدة الدفع أولى من
الرفع.
ما معنى الدفع؟ منع وقوع الضرر قبل حصوله ووقوعه، والرفع يراد به مضرةٌ واقعةٌ يراد
إزالتها ورفعها.
إذن الدفع متعلقٌ بالضرر المتوقع، والرفع متعلقٌ بالضرر الواقع، فحينئذٍ نقول دفع
الضرر المتوقع خيرٌ وأولى وأحسن من دفع أو رفع الضرر الواقع، ولذلك جاء في الحديث
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهدٍ بجاهليةٍ،
لهدمتُ البيت ولبنيتُه على قواعد إبراهيم».
فهنا ضررٌ متوقعٌ وهو عدم بناء البيت على قواعد إبراهيم، وهنا ضررٌ واقعٌ وهو ما قد
يكون في قلوب الناس من الشك والفتنة بسبب هذا الأمر، فدفعنا الأمر المتوقع ولو بقي
الأمر الواقع، الضرر الواقع أنها لم تبنَ على قواعد إبراهيم عليه السلام، ولكن
عندنا ضررٌ متوقعٌ وهو فتنة الناس وعدم تحمل عقولهم لهذا الأمر، وبالتالي نقول بأن
الدفع أولى من الرفع.
ولذلك ورد في الخبر ما أنت محدثٌ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنةً لهم،
وبالتالي إذا كان الحديث فتنةً، فإننا نتركه ونجتنب التحديث به، ونجد فيما لا يفتتن
الناس به مجالًا في تحديث الناس به.
من القواعد التي تندرج تحت هذه القاعدة: أن الضرر لا يزال بمثله، كما تقدم معنى أن
الضرر قد يزال بلا ضررٍ، وهذا مطلوبٌ، قد يزال بضررٍ أقل منه فهذا أيضًا مطلوبٌ،
وقد يزال بضررٍ أكثر منه، فحينئذٍ لا يجوز إزالة الضرر لأنه سيخلفه ضررٌ أكبر منه.
وهكذا إذا كان الضرر عند إزالته سيخلفه ضررٌ يماثله، فحينئذٍ نقول: الضرر لا يزال
بمثله، والضرر لا يزال بضررٍ أكبر منه.
ومن أمثلة ذلك، في باب القصاص، لو قدر أن امرأةً حاملًا، قتلتْ شخصًا، فحينئذٍ ثبت
عليها القصاص، لا نقول يُقتص منها؛ لأنه سيترتب عليه موت جنينها الذي في بطنها،
فنؤخر القصاص، لماذا؟
لأن الضرر، وهو القصاص أو القتل الأول، لا يزال بضررٍ أكبر منه؛ لأن الأول مات شخصٌ
واحدٌ، وهنا سيموت أشخاصٌ عدةٌ، منهم من لا جناية له في الأمر، ولا مدخل له في هذا
الأمر.
من القواعد التي تدخل في هذه القاعدة: قولهم: يُتحمل الضرر الخاص من أجل دفع الضرر
العام، هناك ضررٌ خاصٌّ، يختص بشخصٍ، بينما هناك أضرارٌ عامةٌ تتعلق بالمجموع،
فحينئذٍ نتحمل الضرر الواقع على شخصٍ واحدٍ، من أجل مراعاة مصلحة المجموع.
ومن أمثلة ذلك: لو كان عندنا في الطريق بيتٌ، اعترض الطريق، فإننا نقوم بأخذ هذا
البيت بعوضٍ، وندخله في الطريق، لماذا؟
قال: عليَّ ضررٌ، وهذا بيتي، وأريد بيتي، فنقول: يُتحمل الضرر الخاص من أجل درء
الضرر العام.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما إذا لحق بالناس شيءٌ من نقص المواد التي يحتاجون إليها في
مآكلهم، فحينئذٍ يحق منع التجار من ادخار الأطعمة، ويجوز إلزامهم ببيعها، ويمنعون
من الاحتكار، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئٌ»، وبالتالي
عندنا قال التاجر: أنا علي ضررٍ من إلزامي ببيع السلع التي عندي، مكِّنوني من
التصرف في سلعتي، إن أردتُ أن أبيعها الآن، أو أبيعها بعد ذلك، نقول: لا يجوز لك
ذلك، ويجب عليك بيع السلع، ولا يجوز الاحتكار، لماذا؟ لأنه يتحمل الضرر الخاص، من
أجل دفع الضرر العام.
ومن القواعد المتعلقة بهذا: أن الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف، فإذا تعارضت
مفسدتان، ولا يمكن تركهما معًا، لابد من فعل إحداهما، فحينئذٍ نرتكب المفسدة
الأدنى، من أجل درء المفسدة الأعلى.
ومن أمثلة هذه القاعدة: ما لو كان في بطن المرأة جنينٌ، خُشي على حياتها إذا بقي في
بطنها، فعندنا ضرران، موت الأم مع جنينها، يقابله إجهاض الجنين، وموت هذا الجنين،
فحينئذٍ نقول: ندرأ الضرر الكبير الأشد، ولو كان في ذلك ارتكابٌ للضرر الأخف، لكن
لو قال قائلٌ: إذا كان الجنين سيخرج مشوهًا، فنقول: حينئذٍ لا ضرر على الأم،
وبالتالي لا نُحل الإجهاض، لماذا؟ لأن الإجهاض هنا ضررٌ بالجنين، ولم يتعارض هذا
الضرر مع ضررٍ آخر.
ومن أمثلة هذه القاعدة أيضًا: ما لو كان هناك شخصٌ عنده ماءٌ، ووجد مضطرًا، ظمآن،
يحتاج إلى الماء، نقول: يجب على مالك الماء أن يبذله لذلك الظمآن، لماذا؟ لأن ضرر
فقد المال ضررٌ أخف، وهناك ضررٌ أشد، فنتحمل الضرر الأخف، من أجل درء الضرر الأشد.
كذلك من القواعد المتعلقة بهذه القاعدة: أنه تفويت أقل المفسدتين، من أجل تحصيل
أعلاهما.
لو تعارضتْ عندنا مصلحتان، لا يمكن أن نفعل المصلحتين معًا، ولزمنا أن نأخذ بإحدى
المصلحتين دون الأخرى، فحينئذٍ نأخذ المصلحة الأعلى، ولو كان في ذلك تفويتٌ للمصلحة
الأقل.
من أمثلة ذلك: عندنا شخصٌ مثلًا تعارض في وجهه مصلحتان، مصلحة خدمة نفقة أبيه،
ونفقة أخيه، ماذا يقدم؟ ينفق على أبيه؛ لأن مصلحته أعلى، وهكذا في باب الترتيب في
المصالح، مثلًا في باب الحضانة، هو الأولى بالحضانة، نقول: نفوت حق الحضانة على
الأبعد، مراعاةً للمصلحة الأكبر، في كون الأقرب، أو القربى هي التي تتولى الحضانة،
وهكذا في أبوابٍ كثيرةٍ، نراعي المصلحة الأعلى، ولو ترتب على ذلك تفويت المصلحة
الأقل، والشريعة قد جاءت بمثل هذا في مواطن كثيرةٍ، أحاديث التفضيل كلها من هذه
القاعدة، عندما يفضل بين عمليْن، ويقدم أحد العمليْن على الآخر، فحينئذٍ يدخل في
هذه القاعدة، قال: «أي العمل أفضل؟»، «أي العمل خيرٌ؟»، كل الأحاديث التي وردت في
هذا تدخل في هذا الباب.
من الأمور التي تتعلق بهذا أنه لابد أن نعرف أن تقديم المصالح ومعرفة ما هو الأعلى
منها، ليس أمرًا اعتباطيًّا، بل له قواعد، وله صفاتٌ، وله أبوابٌ في الترجيح،
يذكرها العلماء، ويفصلونها بتفاصيل كثيرةٍ، حينئذٍ يأخذون بالمصلحة الأكبر، أخذًا
من قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن
رَّبِّكُم ﴾ [الزمر: 55]، ونحو ذلك من النصوص ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18] أي أقواه وأرجحه، ومن ذلك عند تعارض
المصالح.
نأتي بأمثلةٍ وتطبيقاتٍ متعلقةٍ بالترتيب بين المصالح.
من أمثلة ذلك، مثلًا هناك:
مصالح ضروريةٌ، لو فاتت فترتب عليها فوضى في الحياة، أو تهارج فيها، أو فوت الدار
الآخرة، وهي المصالح الضرورية الخمسة، وهي:
"ضرورة الدين، وضرورة النفس، وضرورة المال، وضرورة العقل، وضرورة العِرض"، هذه هي
الضرورات.
وهناك مصالح حاجيةٌ، وهي التي لو قدر فقدها؛ لأدى ذلك إلى الضيق والحرج في حياة
الناس، ومن أمثلة هذا: عقود البيوع، عقود الإيجارات، لو قدر أن الشريعة منعت من
البيع، هل ستفوت الحياة؟ لن تفوت، لكن سيكون هناك ضيقٌ في الناس وحرجٌ، ومشقةٌ
شديدةٌ، من الذي يرضى ببذل ماله مجانًا بدون مقابلٍ، بالتالي لا يؤدي الإنسان عملًا
لغيره، فالمقصود أن هذه المصالح الحاجية في الرتبة الثانية.
هناك مصالح تحسينيةٌ، ومن أمثلة ذلك، مثلًا ما جاءت به الشريعة من أحسن الأخلاق،
وأفضل الأعمال، مثلًا الطهارات، هذه تحسينيةٌ، لو قدر أن الشارع لم يأمر بها، لم
يؤدِّ ذلك إلى فوات حياةٍ، ولا إلى ضيقٍ ومشقةٍ في الحياة، فهذه إذن قواعد
تحسينيةٌ، هذه في الرتبة الثالثة.
هناك أيضًا مصالح أصليةٌ، هي الأصل، وهناك مصالح تكميليةٌ، تكملها، وتكون رافدًا
لها.
أيضًا هناك مصالح كبيرةٌ، مثلًا مصالح عامةٌ، وهناك مصالح خاصةٌ، هناك مصالح
مؤقتةٌ، وهناك مصالح دائمةٌ، هناك مصالح دنيويةٌ، وهناك مصالح أخرويةٌ، وهناك
درجاتٌ في ترتيب هذه المصالح، وكل واحدٍ من هذه المصالح له أيضًا تقسيماتٌ ذاتيةٌ
فيما بينها. ولذلك ورد عن بعض السلف أنه قال: إذا عرض لك بلاءٌ، فقدِّم مالك دون
نفسك، فإن تجاوز البلاء، فقدم نفسك دون دينك، فهنا ذكر الترتيب لهذه المصالح
الضرورية، لبيان أن المصلحة الضرورية أيضًا ليست على رتبةٍ واحدةٍ، بل بعضها أعلى
من بعضها الآخر.
من القواعد التي تدخل في هذا الباب: قاعدة "درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح".
إذا كان هناك تفاوتٌ في المصلحة والمفسدة، فإنه يُراعى الأعلى، ولو كان في ذلك عدم
التفاتٍ للأصغر، يعني لو كان عندنا مصلحةٌ عظيمةٌ، ومفسدةٌ صغيرةٌ، فحينئذٍ نفعل
المصلحة الكبيرة، ولو في ثناياها المفسدة الصغيرة. من يمثل لهذا مثالًا؟ مثلًا في
الحدود، هناك مفسدةٌ على من يقام عليه الحد، لكن هناك مصالح كبيرةٌ جدًّا في إقامة
هذه الحدود، فبالتالي نقول بأن المصالح مقدمةٌ؛ لأنها هنا كبيرةٌ جدًّا، وهكذا لو
كان العكس، قد يكون هناك فيه مسائل، تكون المفسدة فيها عظيمةً، والمصلحة قليلةٌ،
فبالتالي ندرأ المفسدة الكبيرة، ولو كان فيها إزالةٌ لتلك المصلحة الصغيرة. ومن
أمثلة ذلك مثلًا، فيما يتعلق بانتزاع الملكية، فهناك مفسدةٌ كبيرةٌ، بعدم انتفاع
الناس من هذا الطريق، وهناك مصلحةٌ من بقاء الإنسان في بيته، قليلةٌ شخصيةٌ، فقدمنا
درء المفسدة الكبيرة، ولو تضمن ذلك عدم وجود المصلحة الصغيرة الجزئية.
هذه القاعدة قد يستدل لها بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمرٍ،
فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه»، فهذا في الأوامر، قال:
«ائتوا منه ما استطعتم»، وفي النواهي علقه بالانتهاء مطلقًا.
إذا كان هناك تفاوتٌ بين المصلحة والمفسدة، راعينا الأعلى، وإذا كان هناك تساوٍ،
فحينئذٍ نقول: درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح لهذا الحديث. وهناك قاعدةٌ أخرى
قريبةٌ من هذا المعنى تقول: اعتناء الشارع بالمأمورات، أعظم من اعتنائه بالمنهيات،
الحسنة إذا فعلها الإنسان، يناله عشر حسناتٍ، الحسنة بعشر أمثالها، أليس كذلك؟ كما
في آياتٍ من القرآن، والسيئة لا يُجازى إلا بمثلها، وبالتالي إذا كان عندنا حسنةٌ
وسيئةٌ، لا يمكن أن تفعل الحسنة إلا بفعل السيئة، فحينئذٍ نقول: افعل الحسنة، ولو
تضمن هذا وجود تلك السيئة، لماذا؟ لأن الحسنة بعشر أمثالها، والحسنات يذهبن
السيئات، وإذا تأملنا هذه القاعدة وجدنا أنها تؤثر على أحوال الناس كثيرًا كثيرًا،
مثال ذلك، قد يكون في مجلسٍ شيءٌ من المحرم، فعندما يأتي شخصٌ ويقول: أنا سأقدم،
أول ما سأقدم سأسمع هذا المحرم، لكنهم بعد ذلك إذا نهيتهم سينتهون، فنقول: إذا
حضرتَ ونهيتَ، فحينئذٍ سيجتمع عندك مأمورٌ وهو النهي، وأمرهم بعدم وجود ذلك المنكر،
وسماع ذلك المنكر، فنقول: اعتناء الشارع بالمأمورات، أعظم من اعتنائه بالمنهيات،
فإذا وجد هذا الصوت الذي ينهى عن هذا المحرم، فحينئذٍ سيوجد معلومةٌ عند الخلق أن
هذا الفعل محرمٌ، وإلا إذا تجرأ الناس على هذا المحرم واعتادوه، وتكرر في حياتهم،
فحينئذٍ سيكون أمرًا مألوفًا عند الخلق، وبالتالي لا ينكرون مثل هذا الفعل، ولذلك
في مسائل الوعظ، قد يأتينا بعض الناس، ويريد أن يعظ الناس بنهيهم عن فعلٍ من
الأفعال، فيذكر أن هذا الفعل منتشرٌ، أو يذكر أن فلانًا وفلانًا يفعلونه، وبالتالي
يكون قد جعل ذلك المنكر سهلًا على القلوب، يقول: مادام فلانٌ وفلانٌ فعله، ومادام
منتشرًا في المجتمع، نحن مثل أفراد مجتمعنا، ولكن السبيل في النهي عن مثل هذه
المنكرات، ليس بوصف المجتمع، أو بوصف أفرادٍ بذلك المنكر، وإنما ببيان حكم الله
-عزَّ وجلَّ-، وبيان العقوبات المترتبة على هذه المعصية، وهذا المنكر، لاحظتم هذا؟
ترى هذا يخفى حتى على كثيرٍ من الخطباء والوعاظ، فبالتالي ينبغي بنا أن نزيل الضرر،
إذن عبادة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أقيمت تحقيقًا لهذه القاعدة، الضرر
يزال، هكذا، المواعظ، وخطب الجمعة، والكلمات التي تُلقى، أقيمت لإزالة الضرر، في
باب النكاح، على كل واحدٍ من الزوجين ضررٌ، عندما لا يوجد عقد النكاح بينهما، فإذا
وجد عقد النكاح تحققت المصلحة، وزالت المفسدة، والمضرة، فكان هذا تطبيقًا لقاعدة
الضرر يزال. وإذا تأملتَ مثلًا في باب اللباس، تجد أن الشريعة جاءت بأحكامٍ كثيرةٍ
في هذا الباب، جلبًا للمصلحة، ودرءًا للمضرة والمفسدة، فتقرير هذه الأحكام تطبيقٌ
لقاعدة الضرر يزال.
وهذه القاعدة يمكن يعني كما تقدم أن أحكام الشريعة شاملةٌ لجميع وقائع الناس،
وبالتالي يمكن أن تكون هذه القاعدة شاملةً لجميع الأحكام، لأن ما من فعلٍ إلا وفيه
مفسدةٌ أو مصلحةٌ، بل الفعل الواحد في أغلب ما في الدنيا، يشتمل على الاثنين معًا،
فكل فعلٍ في الدنيا فيه جانب مصلحةٍ، وجانب مفسدةٍ، والحكم للغالب منهما، كما هي
قاعدة الشريعة، وكما ذكرنا في القواعد التي ذكرناها قبل قليلٍ.
أين يتمحض الخير والمصلحة؟
في الآخرة، في الجنة، في تلك الدار، لا يوجد إلا خيرٌ محضٌ، ليس معه مفسدةٌ البتة،
أما في الدنيا، فإنه ما من فعلٍ إلا وفيه الجانبان، جانب المصلحة، وجانب المفسدة،
والحكم للغالب منهما، ولذلك يقرر العلماء في الأمر بالمعروف أنه يلاحظ فيه قواعد
إزالة المضرة، هل يترتب على المنكر ضررٌ أكبر منه، أو ضررٌ أقل منه، أو يزول بلا
ضررٍ، أو يزول بضررٍ يساويه ويماثله؟
يعني: في باب قتال أهل البغي، باب السمع والطاعة لولاة الأمر، هذا مبنيٌّ على هذا
الباب، قاعدة الضرر يزال؛ لأن عدم الافتيات على صاحب الولاية، وعدم السمع والطاعة
لهم، يترتب عليه مفاسد كبيرةٌ، وبالتالي جاءت الشريعة بتقرير هذا المبدأ، مبدأ
السمع والطاعة، حتى للولاة العاصين، من أجل تحقيق مصلحة الشريعة في انتظام كلمة
الناس، وتآلفهم، واجتماعهم، وكونهم قوةً لا يتمكن الأعداء منهم، بحيث يكونون لقمةً
سائغةً في أفواههم، فهذه كلها أبوابٌ قررت وقعدت بناءً على هذه القاعدة، قاعدة
الضرر يزال.
أذكر في هذا واقعةً، أن شيخ الإسلام ابن تيمية وجد تلاميذه ينهون التتار عن شرب
الخمر، التتار في عهدهم الثاني، أعلنوا انتسابهم للإسلام، لكن عندهم مخالفاتٌ
كثيرةٌ، فجاء بعض تلاميذ الشيخ، فوجدوا هؤلاء التتار يشربون الخمر، فبدؤوا ينهونهم
عن شرب الخمر، فقال الشيخ: لا تنهوهم عن شرب الخمر، دعوهم يشربون الخمر، فإنهم إن
لم يشربوا الخمر، اشتغلوا بسفك دماء الناس، فهناك مفسدةٌ أعظم، وهو سفك الدم،
وبالتالي يتركون على هذا المنكر؛ لئلا يحصل المفسدة التي هي أعظم منها.
وهكذا يراعي الإنسان عندما عن فعلٍ سواءً كان فعلًا مفضولًا، أو كان فعلًا مكروهًا،
أو كان فعلاً محرمًا، إلى ماذا سيتوجه الناس متى تركوا هذه الأفعال؟ فإذا كانوا
سيتوجهون إلى ما هو أشد منها، وأعظم حرمةً منها، فعليه أن يتقي الله -عزَّ وجلَّ-،
وأن يصد عن هذا المنكر، وألا ينهى عنه، خشيةً من وقوع منكراتٍ أعظم مما ينهى عنه
الإنسان.
إذن هذه القاعدة، قاعدةٌ مهمةٌ، وتدخل في أبوابٍ كثيرةٍ جدًّا، وبعض العلماء أدخل
في هذه القاعدة قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وبعضهم يجعل هذه القاعدة الضرورات
تبيح المحظورات تابعةً لقاعدة المشقة تجلب التيسير، وقد ذكرنا هذه القاعدة،
وشرحناها في ما مضى، تابعةً لقاعدة المشقة تجلب التيسير.
وكما تقدم، هناك أحكامٌ فقهيةٌ كثيرةٌ، متعلقةٌ بهذه القاعدة، وفروعٌ لها، وما
أوردناه نماذج لهذه القاعدة.
أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن يرزقكم العلم النافع، كما
أسأله -جلَّ وعلَا- للمستمعين خيري الدنيا والآخرة، اللهم أبعد عنهم الضرر، ووفقهم
للخير والصلاح والإصلاح، اللهم يا حي يا قيوم، أصلح أحوال الأمة، وأعدهم إلى دينك
عودًا حميدًا، اللهم وفق ولاة أمورنا لكل خيرٍ، اللهم اجعلهم من أسباب الهدى
والتقى، واجعلهم أسباب خيرٍ وصلاحٍ، كما نسأله -جلَّ وعلَا- أن يبث العلم في الأمة،
وأن يكثر الفقهاء فيها، وأن يجعل علماء الأمة مصابيح هدى، يستنار بهم، ويعيدونها
إلى شرع رب العزة والجلال. هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
3821 1
-
6056 11
-
4720 10
-
5595 5
-
4168 23
-
5958 24
-
7130 24
-
8521 24
-
7489 11
-
10848 11
-
13220 11
-
16671 12