الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في اللقاء الثالث من لقاءاتنا في دراسة القواعد الفقهية، وكنا فيما مضى
أخذنا لمحةً عامةً عن هذه القواعد وذكرنا أن القواعد تنقسم إلى قواعد كبرى، وقواعد
كليةٍ.
وأن القواعد الكبرى تكون مما لها فروعٌ في جميع أبواب الفقه، بينما القواعد الكلية
لها فروعٌ من أبوابٍ مختلفةٍ لكن ليس من جميع أبواب الفقه.
وذكرنا أن القواعد الكبرى خمس قواعد، ودرسنا في المحاضرة الماضية القاعدة الأولى
وهي قاعدة الأمور بمقاصدها.
وفي هذا اليوم بإذن الله عزَّ وجلَّ نتدارس القاعدة الكبرى الثانية وهي قاعدة
اليقين لا يزول بالشك، أو لا يزال بالشك.
ويبقى عندنا ثلاث قواعد من القواعد الكبرى، هي قاعدة المشقة تجلب التيسير، وقاعدة
الضرر يزال، وقاعدة العادة محكمةٌ.
إذن عندنا في هذا اليوم بإذن الله عزَّ وجلَّ تدارس قاعدة: اليقين لا يزال بالشك.
نريد أن نعرف معنى هذه القاعدة، وبالتالي نتدارس المعاني معاني الكلمات الثلاث.
ما هو معنى اليقين؟
اليقين في اللغة يراد به الاستقرار، يقال: يقن الماء بمعنى استقر.
وأما في الاصطلاح فهو جزم القلب وطمأنينته واستقراره.
أعطونا أمثلةً لليقين، المؤمنون يوقنون بالدار الآخرة، قال تعالى: ﴿وَبِالآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 4]، كذلك نحن نوقن بالله، ونوقن باستحقاقه للعبادة وحده
دون سواه، نوقن بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نوقن بأن الله قد أوجب
علينا خمس صلواتٍ، إلى آخر ذلك.
الكلمة الأخيرة كلمة الشك، الشك في اللغة بمعنى التداخل.
وأما في الاصطلاح: فيراد به التردد بين أمرين لا مزية لأحدهما، أو أكثر من أمرين.
من يمثل بشكوك؟
{أن يشك الإنسان هل هو على طهارةٍ أو ليس على طهارةٍ}
هذا جيد، تردد بين كونه في طهارةٍ، أو كونه على غير طهارةٍ.
ما هو المعنى الإجمالي في هذه القاعدة؟
المراد بها أن حكم اليقين وأثر اليقين لا نزيله بمجرد ورود الشك عليه، واليقين أمرٌ
مستقرٌ في القلب، لكن أنت كنت متوضئًا في الصباح بيقينٍ، والآن شككتَ، هل أحدثت أم
لم تحدث، فحينئذ نقول أثر اليقين أو حكم اليقين لا يزول بالشك الذي يطرأ بعد ذلك.
هذه القاعدة تبين لنا ما يسمى بمراتب الإدراك.
مراتب الإدراك، أنواعٌ:
أخذنا اليقين، وأخذنا الشك، الثالث الظن.
الظن ترددٌ بين أمرين، لكن أحدهما أرجح من الآخر.
إذن غلبة أحد المترددين على إدراك الإنسان، أو على اعتقاد الإنسان.
يبقى عندنا أيضًا الوهم، والمراد به هنا: الاحتمال المقابل للراجح.
عندما تظن، أنت كنت قبل قليلٍ في الغرفة وشاهدت فلانًا، فالآن يحتمل أنه لا يزال
باقيًا، ويحتمل أنه قد ذهب، لكن الأغلب أنه لا زال موجودًا، فهذا يسمى ظنًّا،
احتمال ذهابه هذا يسمى وهمًا.
هذه مراتب الإدراك.
مراتب الإدراك أيضًا يمكن تقسيمها باعتباراتٍ أخرى، من جهة موافقة الواقع، فهناك
صدقٌ، وهناك كذبٌ مخالفٌ للواقع، أليس كذلك؟.
وكذلك أيضًا يمكن تقسيم الإدراك بحسب البناء على الدليل، هل بنيته على دليلٍ؟
فالمبني على دليلٍ يقال له علمٌ، ويقابل العلم هناك جهلٌ، فهناك الجهل، والجهل على
نوعين:
جهل بسيطٌ بمعنى عدم إدراك الأمر، ما الذي وراء هذا الجدار، لا نعلم، هذا جهلٌ
بسيطٌ.
وهناك نوعٌ آخر يسمى الجهل المركب، والمراد به أن يكون ظنك مخالفًا للواقع، تظن أن
وراء هذا الجدار بيتًا ولا يكون الأمر كذلك، هذا يقال له جهلٌ مركبٌ.
إذن القاعدة اليقين لا يزال بالشك، نضرب لها أمثلةً، ذكرت قبل قليلٍ من كان متيقنًا
في الصباح أنه محدثٌ، ثم شك هل توضأ، فحينئذٍ نقول: حكم اليقين ثابتٌ في الزمان
الأول، لا نزيله بشكٍ في الطهارة الذي جاء بعد ذلك.
عندنا شخصٌ يتيقن أن صلاة الظهر قد وجبت عليه، ثم شك هل صلاها أم لم يصلها، نقول:
بقاء الصلاة في ذمتك أمرٌ متيقنٌ، ولكن كونك أديتها هذا أمرٌ مشكوكٌ فيه، وبالتالي
يجب عليك أداء هذه الصلاة، لأن واجب الصلاة متيقنٌ، فلا نزيله بالشك في أداء هذه
الصلاة.
هذه القاعدة لها أدلةٌ كثيرةٌ، نذكر من أمثلة هذه الأدلة:
يقول رب العزة والجلال: ﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَناًّ وَمَا نَحْنُ
بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: 32].
وهناك نصوصٌ كثيرةٌ، عابت على أولئك الذين يظنون، كلمة الظن مرةً يراد بها اليقين
غير المستند إلى الحس، مثل قوله: ﴿يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ﴾
[البقرة: 46] ، ومرةً يراد بها كما يريد الأصوليون الاحتمال الراجح أو الأمر الراجح
من الأمرين المترددين، كما في قوله جلَّ وعلَا: ﴿إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ﴾ [البقرة: 230].
وقد مرةً يطلق عليه مجرد الوهم أو الشك، ومن أمثلته هذه الآية: ﴿إِن نَّظُنُّ
إِلاَّ ظَناًّ وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: 32].
أيضًا من الأدلة التي تدل على هذه القاعدة، حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه،
يقول عبد الله بن زيد: شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه الشيء في
صلاته هل ينصرف؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد
ريحً».
فهنا يقين الطهارة لا نزيله بالشك في الحدث، فهذا دليلٌ من أدلة هذه القاعدة، وهناك
أدلةٌ كثيرةٌ تدل على القاعدة.
ننطلق إلى أهمية هذه القاعدة، هل هي قاعدةٌ مهمةٌ، ومن أين انبثقت أهمية القاعدة.
القاعدة لأهميتها ثلاثة أسبابٍ أو أربعة:
السبب الأول: كثرة فروع القاعدة.
والأمر الثاني: دخولها في جميع الأبواب بلا استثناءٍ.
والثالث: كثرة القواعد المندرجة تحتها.
وسبق أن قلنا بأن الفروع الداخلة في هذه القاعدة على ثلاثة أنواعٍ، إذن الاختلاف في
القاعدة أو في فروع القاعدة ثلاثة أنواعٍ كما ذكرنا سابقًا:
الأول: اختلاف في ذات القاعدة، كما اختلفوا في الأصل في اللحوم هل هو الحل أو
الحرمة.
ومرةً يقع الاختلاف في الفرع هل هو يتبع القاعدة الأولى أو يتبع القاعدة الثانية،
ومثلنا لك بالتهنئة، هل تتبع قاعدة الأصل في العادات الإباحة أو قاعدة الأصل في
العبادات التحريم.
وهناك قواعد أو فروعٌ يتفق على اندراجها في قاعدةٍ واحدةٍ، ويتفق على القاعدة، ولكن
يختلف في كيفية الاندراج، فيقع الاختلاف في حكم الفرع، ومثلنا له بالمطلق لزوجته،
وشك هل طلق ثلاثًا أو واحدةً.
فهذا الفرع بالاتفاق أنه تحت قاعدة اليقين لا يزال بالشك، وقد وقع الاتفاق على
القاعدة، ولكن اختلفوا في كيفية الإدراج، فطائفةٌ قالوا: بأن يقين النكاح لا نزيله
بطلاقٍ مشكوكٍ فيه، فنحكم بأنها واحدةٌ، وهناك من قال بأنه نحكم بأنها ثلاث طلقاتٍ
وهو مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وبالتالي قالوا: بأن هذا يعتبر ثلاث طلقاتٍ،
لأن اليقين تحريم حرمة وطء المرأة الأجنبية، فلا نزيله بنكاحٍ مشكوكٍ فيه.
هذا يجعلنا نبحث في موضوعٍ آخر: وهو موضوع الاستصحاب.
وهو من تطبيقات القاعدة، الاستصحاب ما هو؟ وهل هو دليلٌ من أدلة الشرع أو ليس من
أدلته؟
المراد بالاستصحاب: يمكن نقول: إبقاء ثبوت ما كان ثابتًا، وإبقاء نفي ما كان
منفيًّا.
وهذا مثل ما رأيتم أن القاعدة اليقين لا يزال بالشك مبنيةٌ على الاستصحاب، ويستصحب
اليقين السابق، وبالتالي خلاصة الاستدلال بهذه القاعدة استدلالٌ بدليل الاستصحاب.
دليل الاستصحاب هذا له أنواعٌ متعددةٌ.
هناك استصحاب الإباحة الأصلية.
إذا جاءنا طعامٌ جديدٌ، ما الحكم فيه؟ نقول الأصل فيه أنه مباحٌ حتى يأتي دليلٌ
يغيره، المكرونة ما كانت معروفةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا نقول؟ نقول
الأصل فيها الإباحة حتى يردنا دليلٌ يدل على المنع منها.
إذن هذا هو النوع الأول.
النوع الأول هذا يختص به الفقهاء، ليس لعامة الناس أن يستدلوا به، لماذا؟ لأنه قد
يأتي دليلٌ قد يغير الإباحة الأصلية، فالعامة لا يعرفون هذه الأدلة، وبالتالي هذا
الدليل أو هذا النوع خاصٌّ بالعلماء، بالفقهاء.
النوع الثاني: استصحاب البراءة الأصلية، ما معنى هذا الكلام.
الأصل في الذمة أنها بريئةٌ من الواجبات التي لله أو التي للآخرين للمكلفين، هذا
معنى استصحاب براءة الذمة، فلا نقول بثبوت واجبٍ، الأولى تنفي التحريم، والثاني
تنفي الوجوب.
استصحاب البراءة الأصلية، مرةً يكون في حق الله، ومرةً يكون في حقوق المكلفين، الذي
في حق الله هذا خاصٌّ بالفقهاء، ما تقدر تقول هذا ما بواجبٍ، إلا إذا كنت عارفًا
بالأدلة، من الذي يعرف الأدلة؟ هم الفقهاء، بينما براءة الذمة في حقوق المكلفين
يعرفها من له اتصالٌ بتلك القضية.
زيد ادعى أن له دينًا على عليّ، فيقول عليّ ليس علي دينٌ، فنقول الأصل براءة ذمة
علي حتى يأتي زيد بشهودٍ وبيناتٍ يثبتون كلامه.
النوع الثالث: استصحاب النص.
إذا جاءنا نصٌّ فالأصل أنه لا زال باقيًا ويستدل به، ولا نقول بعدم الاستدلال به
وأنه منسوخٌ، إلا إذا وردنا دليلٌ يدل على النسخ، وإلا فالأصل أن النصوص محكمةٌ
وباقيةٌ وغير منسوخةٍ.
النوع الرابع: استصحاب العموم.
الأصل في اللفظ الشرعي أنه يدل على جميع الأفراد الداخلة تحته، فإذا جاءنا إنسانٌ
وقال هذا الفرد غير داخلٍ، نقول له ائت بالدليل.
مثال ذلك: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر
أن تسافر إلا مع ذي محرمٍ».
هنا قال: «لا يحل لامرأةٍ»، لو جاءنا واحدٌ وقال: لكن يستثنى من هذا المرأة
الكبيرة، نقول الأصل: أن اللفظ عامٌّ، لأنه نكرةٌ في سياق النفي، فيدل على العموم،
فاستثناء المرأة الكبيرة يحتاج إلى دليلٍ.
قال واحدٌ: يستثنى من ذلك المرأة التي تكون مع رفقةٍ مأمونةٍ، أو مع امرأةٍ أخرى،
فنقول هذا يخالف عموم اللفظ، لأن الأصل في اللفظ العام أن يدل على جميع أفراده، فلا
نحمله على بعض الأفراد إلا بدليلٍ.
قال هنا: «أن تسافر» فهذا لفظٌ عامٌّ، لأن فيه تأويل مصدر، كان قال: سفر، فيكون
نكرةً في سياق النفي، فيدل على العموم، لو أتانا واحدةٌ وقال السفر بالطائرة، السفر
بالسيارة، السفر بالقطار، السفر بالسفينة، نقول هذه تدخل في عموم اللفظ، فلا يصح
لأحدٍ أن يستثني منها إلا بدليلٍ.
قال: «إلا مع ذي محرمٍ»، لو قال واحدٌ لا يحل لها أن تسافر مع عمها، نقول العم
محرمٌ، فيدخل في هذا اللفظ، فلا يصح استثناؤه إلا بدليلٍ.
النوع الرابع من أنواع الاستصحاب: استصحاب الوصف.
وهذا الذي نعرفه كثيرًا، استصحاب الوصف، يعني أن الوصف الثابت في الزمان الماضي
الأصل بقاؤه في الزمان الحاضر.
مثال ذلك: هذا قلمك، أنت بالأمس اشتريته، شهد فلانٌ وفلانةٌ أن هذا القلم قلمك، لكن
يمكن اليوم أنه ليس بقلمك، يمكن بعته، فنقول نستصحب الوصف: كان مملوكًا له في الزمن
الماضي فالأصل بقاء هذا الملك في زمننا الحاضر حتى يقوم دليلٌ يغير هذا الحكم.
ومثله في الوضوء، كان محدثًا في الصباح، فالأصل استصحاب هذا الوصف وأنه لا زال
محدثًا، وهذا يفيدنا كثيرًا في تطبيقات هذه القاعدة، وإن كان الجميع كذلك يفيدنا.
هناك أنواعٌ أخرى منها مثلًا: استصحاب حال الإجماع في محل النزاع، واستصحاب دليل
العقل، والكلام فيها يطول جدًّا.
القاعدة الكبرى ما هي؟ اليقين لا يُزول بالشك، هذه القاعدة يتبعها قواعد كثيرةٌ، من
هذه القواعد ما يكون متعلقًا باليقين، ومنها ما يتعلق بالشك، ومنها ما يكون متعلقًا
أو مأخوذًا من القاعدة ككل، ومن القواعد التي تتعلق باليقين، قواعد الأصل، مثل
ماذا؟ الأصل في اللحوم، الأصل في العبادات الحظر، والأصل في العادات الإباحة،
والأصل في المياه الطهارة.
هذه القواعد تسمى قواعد الأصل، متى نطبق قواعد الأصل؟
المسائل أربعة أنواعٍ:
النوع الأول: مسائل فيها دليل إثباتٍ، أو دليل إباحةٍ، مثلًا في الأرنب جاء في
الحديث، قال: أنفجنا أرنبًا فأكلناه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، إذن
فيه دليل إباحةٍ، قال: أُكل الضب على مائدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيه
دليل إباحةٍ، ذبحنا فرسًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكلناه.
النوع الثاني: مسائل فيها دليلٌ، أو دليل تحريمٍ فقط، حينئذٍ نأخذ بهذا الدليل،
فنقول بالتحريم أو النجاسة، مثال ذلك: جاءنا في الحديث أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- نهى عن لحوم الحمر الأهلية، ليس فيه دليلٌ، وإنما فيه دليل تحريمٍ، ما الحكم
في الحمر الأهلية؟ أنها محرمةٌ.
جاءنا أيضًا في عددٍ من الأحاديث قال: نهى عن كل ذي نابٍ من السباع، فيها دليل
تحريمٍ، نهى عن كل ذي مخلبٍ من الطير.
النوع الثالث: ما فيه دليل إثباتٍ ونفيٍ، يعني دليل إباحةٍ، ودليل تحريمٍ، ماذا
نفعل؟ نغلب جانب التحريم. مثال ذلك: جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال: «إذا أرسلت كلبك المعلم، فوجدت معه كلبًا آخر، فلا تأكل»، يعني لا تأكل من
الصيد «فإنك إنما سميت على كلبك»، هنا اجتمع فيه سببان، سبب إباحةٍ، وهو الكلب
المعلم، وسبب تحريمٍ، وهو الكلب الآخر، فغلَّبنا جانب التحريم.
جاءنا أيضًا في الحديث، قال: «إذا رميت بسهمك فوقع في الماء فلا تأكل»، عندنا سبب
إباحةٍ، وهو السهم، وسبب تحريمٍ، وهو الغرق، فغلبنا جانب التحريم.
مثالٌ آخر: البغل، أحد أبويه مباحٌ، فرسٌ، والآخر حرامٌ، وهو الحمار، فغلبنا جانب
التحريم، وقلنا لا يجوز أكل لحمه.
النوع الرابع: ما ليس فيه دليل إباحةٍ ولا دليل تحريمٍ، ماذا نفعل به؟ نأتي بقواعد
الأصل، إذن متى نأتي بقواعد الأصل ونستدل بها؟ في المسائل التي لا يوجد فيها دليل
إثباتٍ، ولا نفيٍ، لا دليل إباحةٍ، ولا دليل تحريمٍ.
الآن سننطلق إلى ذكر بعض القواعد التي تدخل تحت قاعدة اليقين لا يزول بالشك.
القواعد المندرجة تحت قاعدة اليقين لا يُزال بالشك.
القاعدة الأولى: الأصل في الأشياء الطهارة، لا نحكم على الشيء بأنه نجسٌ، حتى يثبت
فيه دليل نجاسةٍ، لماذا؟ لأن خلق الأشياء لنستعملها ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم
مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعً﴾ [البقرة: 29]، وبناءً على ذلك، لا يبيح لنا إلا ما
كان طاهرًا، فلا ننقل شيئًا من حكم الطهارة إلى حكم النجاسة إلا بدليلٍ، نأتي لها
بأمثلةٍ: جاء واحدٌ يصلي على سجادةٍ، قال يمكن أنها نجسةٌ، ماذا نقول؟ الأصل
الطهارة، لا نحكم عليها بالنجاسة، إلا إذا وجدت دليلًا، قال في البر، يريدون أن
يصلوا، قال واحدٌ أنا لا أصلي في البر، لماذا؟ يمكن هنا أحدث أحد الناس، يمكن بال
واحدٌ من الناس هنا، فنقول: الأصل الطهارة، لا ننتقل عنه إلا إذا قام الدليل.
وجدنا ماءً في إناءٍ، الأصل أنه طاهرٌ، لا ننقله من حكم الطهارة إلى حكم النجاسة
إلا إذا وجد الدليل الذي يدل على نجاسته. هكذا في الثياب، الأصل فيها الطهارة، لا
نحكم عليها بنجاسةٍ، حتى يقوم الدليل الدال على ذلك. هكذا في الأواني، الأصل فيها
الطهارة، لا نحكم عليها بخلاف ذلك إلا بدليلٍ.
القاعدة الثانية: قاعدة الأصل في الأشياء الحل، المراد بالأشياء هنا في الانتفاع
بالأشياء، إذن هذا هو المراد بالقاعدة.
في الأول يمكن أن نستدل عليه بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «وجُعلت لي الأرض
مسجدًا وطهورً»، قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ [النحل:
10].
ما الدليل على هذه القاعدة الأصل في الأشياء الحل؟ يعني الأصل في الانتفاع بالأشياء
هو الحل، ما الدليل؟
قوله -عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعً﴾ [البقرة:
29]، فلا ننتقل عن شيءٍ ونقول بأنه محرمٌ، إلا إذا قام الدليل على ذلك.
ما الفرق بين هاتين القاعدتين؟ الأصل في الأشياء الطهارة، والأصل في الأشياء الحل.
هنا الطهارة متعلقةٌ بذوات الأشياء، ثوبٌ، سجادةٌ، ترابٌ، أرضٌ، أوانٍ، ذوات، بينما
قاعدة الحل هذه تتعلق بالأفعال، لأن ما يطلق على الذوات أنها مباحةٌ، ما تقول
سجادةٌ مباحةٌ، تقول الصلاة على السجادة مباحةٌ، هذه متعلقةٌ بالأفعال، وهذه متعلقة
بالذوات، هذه في الطهارة، وهذه في الحل، هذه يستعملها الجميع، وهذه لأهل الفتوى
فقط، العلماء فقط، ليست لكل أحدٍ.
القاعدة الثالثة: الأصل في العبادات الحظر والتحريم.
العبادة تجمع عددًا من المعاني، هي ذلٌّ مع خوفٍ ورجاءٍ ومحبةٍ، الفعل الذي تجتمع
فيه هذه الأشياء يقال له عبادةٌ.
ما الدليل على أن الأصل في العبادات أنها على الحظر؟
قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7]، إذن ما
لم يأتكم به فلا تأخذوه. قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم
مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21] قول النبي -صلى الله
عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»، قول النبي -صلى الله عليه
وسلم: «كل محدثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ»، فيه نصوصٌ كثيرةٌ، كلها تدل على أن
الأصل في العبادات الحظر، وبالتالي لا يجوز لنا أن نخترع عباداتٍ من عند أنفسنا؛
لأن شريعة الله كاملةٌ، لا تحتاج من أحدٍ أن يكملها باختراع عباداتٍ جديدةً.
هذه القاعدة تتعلق بأشياءٍ، أولها أصل العبادة، ما تأتي لنا بعبادةٍ جديدةٍ، جاءنا
واحدٌ، قال: أنا عندي لكم عبادةٌ جديدةٌ، ما هي هذه العبادة؟ قال: نحبو على الأرض
تقربًا لله، أصل هذه العبادة ليس على طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا هديه،
فتكون بدعةً غير مقبولةٍ، ويكون حكمها الحظر.
هناك أيضًا كيفية العبادة، قال لنا واحدٌ: الصلاة هذه أُعدل فيها قليلًا، أقدم
السجود، يبدأ الواحد ساجدًا، ثم يركع، ثم يجلس، نقول: لا، كيفية العبادة، وطريقة
العبادة لابد أن تكون على وفق المأثور، لا يجوز لنا أن نخترع كيفية عبادةٍ جديدةً
من عند أنفسنا.
كذلك أيضًا في زمن العبادة، وفي مكان العبادة، الحج متى؟ الوقوف بعرفة في اليوم
التاسع من ذي الحجة، ما يأتي واحدٌ يقول: نقف أربع مراتٍ في السنة، هذا ابتداعٌ،
هكذا في مكان العبادة، عبادة الطواف قربةٌ لله -عزَّ وجلَّ-، أين شُرعت؟ على
الكعبة، ما يأتي واحدٌ يقول: نضع عبادة الطواف في أمكنةٍ أخرى، لأن مكان العبادة
هذا لابد أن يكون على طريقة الشرع، وهدي الشرع، هكذا أيضًا في عددها، جاء واحدٌ
وقال أجعل صلاة الظهر خمس ركعاتٍ وست ركعاتٍ، ماذا تقولون؟ يزيد زيادةً، والزيادة
خيرٌ، ماذا نقول؟ نقول: هذا ما ليس منه.
إذن هذه لابد أن تكون على وفق ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
القاعدة الرابعة: الأصل في الاعتداء التحريم، سواءً كان اعتداءً على مالٍ، أو على
دمٍ، أو على عِرضٍ، أو على أي حقٍّ من حقوق الآخرين، ما الدليل؟ قول الله -عزَّ
وجلَّ: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة:
190]، أي نوعٍ من أنواع الاعتداء؟ مثل ماذا؟ من يضربكم على رؤوسكم، نقول هذا
اعتداءٌ؟ حكم الاعتداء التحريم، أو سنأخذ أقلامكم، حكمه نقول هذا اعتداءٌ، والأصل
في الاعتداء التحريم، وهكذا أي نوعٍ من أنواع الاعتداء. سفك الدماء ما حكمه؟
اعتداء، ذكر في القاعدة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم
وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذ»، فيه نصوصٌ
كثيرةٌ كلها تدل على هذا المعنى، قال تعالى: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾
[الحج: 71].
القاعدة الخامسة: الأصل في الفروج، ما الأصل في الفروج؟
الأصل في الفروج، الفروج ذات، لذلك لابد أن نقدر هنا، مرةً نقدر العقد على، ومرةً
نقول الوطء، الأصل في الوطء التحريم ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾
[المؤمنون: 5- 7]، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «واستحللتم فروجهن بكلمة الله»
يعني عقد النكاح.
في العقد نقول: الأصل في العقد الحل والجواز، ما الدليل؟ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] ، معناه الباقي على الحل، ثم قال في
آخر الآية: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم﴾
[النساء: 24] الآية.
فإذن الأصل في الوطء التحريم، والأصل في عقد النكاح الحل والجواز.
القاعدة السادسة: الأصل في اللحوم، أنتم تعرفون أن الأصل معناه المسائل التي ليس
فيها دليل إباحةٍ، ولا دليل تحريمٍ، ما فيه دليل إباحةٍ يُحكم بالإباحة، وما فيه
دليل تحريمٍ يُحكم بالتحريم، وما اجتمع فيه دليل إباحةٍ، ودليل تحريمٍ، حكمنا
بالتحريم. هنا ما لا يوجد فيه دليلٌ نقول: الصواب من أقوال العلماء أنه على
الإباحة. لماذا قلنا إنه على الإباحة؟ هناك أدلةٌ، ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾
[المائدة: 3]، فدل ذلك على أن التحريم محددٌ، وأن ما عداه على الإباحة، ويدل عليه
أيضًا في الحديث أن عائشة قالت: يا رسول الله، إنه يأتوننا باللحمان، لا ندري أذُكر
اسم الله عليها، فهنا لم يُعلم دليل إباحةٍ، ولا دليل تحريمٍ، فقال النبي -صلى الله
عليه وسلم: «سموا الله أنتم وكلو»، فدل على أنها على الإباحة.
ذكرني هذا بشيءٍ، وهو بقوله -عزَّ وجلَّ- في سورة المائدة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا
أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ﴾ [المائدة: 3]، كم صنفٍ؟ عشر أصنافٍ، جاء بعض
الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: يا رسول الله، ماذا بقي لنا؟ كل شيءٍ
حرامٌ، فنزلت الآية: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ﴾ [المائدة: 4].
في هذه ملحظٌ، نقول: المحرم معدودٌ، والمباح غير معدودٍ، أكثر من المعدود، ثم فيه
معنى آخر، وهو أنه إنما حرم عليكم هذه الأشياء من أجل مصلحتكم لأنها ليست طيبةً،
ولذلك أبحنا لكم الطيب الذي تنتفعون به، وهذا النفس يأتي لبعض الناس، ويقول:
المشايخ كل شيءٍ حرموه علينا، علماء الشريعة ما يحرمون شيئًا إلا بناءً على ما
يرونه من دلالة النص الشرعي، والنص الشرعي إنما يمنع من الشيء إذا كان مضرةً
للعباد، ولذلك وصف الله -عزَّ وجلَّ- نبيه بقوله: ﴿يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157]، فيه نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدل
على هذا المعنى.
وبهذا نقف، ولعلنا نستكمل بقية القواعد المندرجة تحت قاعدة اليقين لا يُزال بالشك
في يومٍ آخر.
بارك الله فيكم ووفقكم الله للخير، كما أسأله أن يبارك لكل من شاهدنا، وأن يجعلهم
سعداء في دنياهم، وفي آخرتهم، اللهم املأ قلوبهم تقوى، وإيمانًا، وسرورًا، ورضًا،
كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين لكل
خيرٍ، وأن يكون مع المسلمين معينًا وناصرًا، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا
محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.