الدرس الرابع

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

13138 11
الدرس الرابع

القواعد الفقهية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ، لقاءٍ رابعٍ من لقاءاتنا في شرح القواعد الفقهية، كنا ذكرنا فيما مضى أن القواعد منها قواعد كبرى، تدخل في جميع أبواب الفقه، ومنها قواعد كليةٌ تدخل في أبوابٍ كثيرةٍ، ولكن ليس في جميع الأبواب.
وهناك ما يُسمى بالضوابط، والتي تقتصر على فروعٍ من بابٍ واحدٍ.
وكنا قد أخذنا من القواعد الكبرى قاعدتين، وهما:
القاعدة الأولى: "الأمور بمقاصدها".
القاعدة الثانية: "اليقين لا يزال بالشك".
وبقي معنا ثلاث قواعد، نأخذ إحداها هذا اليوم، ألا وهي قاعدة: "المشقة تجلب التيسير".
إحدى القواعد الكبرى الكلية والتي تدخل في جميع أبواب الفقه، وبقي معنا قاعدتان، هما: "الضرر يزال"، وقاعدة: "العادة محكمةٌ".
ما المراد بالمشقة؟
المراد بها الضيق والحرج والعسر، والمراد بالتيسير: التسهيل والتخفيف.
والمراد بقولنا تجلب: أي: أنها تكون سببًا فيه.
فالمراد بالقاعدة: أن الضيق والحرج الذي يكون على العباد يكون من أسباب تخفيف الأحكام الشرعية عليهم.
من أمثلة هذا: في السفر يخفف الله -عزَّ وجلَّ- عن العباد وبالتالي لا يجب عليهم الصلاة في أوقاتها، بل يجوز جمع الصلاتين، ولا تجب عليهم تامةً، ويجوز قصرها، ويجوز المسح لثلاثة أيامٍ على الخفين، ويجوز للمسافر أن يفطر.
فهذه المشقة والضيق والحرج الذي على المسافر، كانت من أسباب التيسير عليه.

هل هذه القاعدة مؤصلةٌ في الشريعة؟
نقول: نعم، هناك أدلةٌ عديدةٌ تدل على القاعدة، من ذلك:
- قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286].
- وقوله سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
- وقوله جلَّ وعلَا: ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْر﴾ [الشرح: 5].
- وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
- وقوله: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
وهناك أيضًا أحاديث كثيرةٌ تدل على هذا المعنى، منها:
- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: « بعثت بالحنيفية السمحة ».
- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: « إن هذا الدين يسرٌ، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه ».
فيه نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدل على هذا المعنى.
كذلك يدل على هذه القاعدة استقراء الأحكام الشرعية.
ما معنى كلمة استقراء؟
الاستقراء البحث في الأحكام التفصيلية الجزئية نستنتج منها قاعدةً، بحثنا في طلاب المدرسة وجدناهم عندما يشرح لهم على اللوح على السبورة يفهمون الدرس، حينئذٍ أخذنا قاعدة أن الشرح على اللوح يزيد في الفهم.
فهذا يسمي استقراءً.
إذا نظرنا في الأحكام الشرعية وأخذنا مفرداتها وجدنا أن هذه الشريعة تقوم بمراعاة العباد عند حصول المشقة فتخفف عليهم عند ذلك.
لكن عندنا إشكالٌ وهو، متى نقول عن الفعل إنه مشقة؟
إذن عندنا الآن بحثٌ في ضابط المشقة.
المشقة بعضها لا تخلو العبادة منه، ولذلك قال -جلَّ وعلَا: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ﴾ [البقرة:45]، ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه مشقةٌ، وأن الجهاد فيه مشقةٌ، وهكذا بقية العبادات، هناك أعمالٌ كثيرةٌ فيها مشاقٌّ، بذل الإنسان لشيءٍ من ماله فيه مشقةٌ، وبالتالي نحن نحتاج إلى بيان المشقة التي يخفف عندها الشارع.
هناك من يدخل في اسم المشقة مخالفة رغبة الإنسان والهوى، فنقول: هذه ليست مشقةً يخفف عنها؛ لأن الشارع قد نهى عن اتباع الهوى، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26].
يأتينا واحدٌ ويقول: أنا أرغب أن أنام، كيف تطلبون مني أقوم لصلاة الفجر؟
نقول: هذا هوى، وبالتالي لا يجوز لك طاعة هواك في مخالفة أمر ربك ومولاك.

- الثاني من معاني المشقة: العسر
بحيث لا يتمكن الإنسان من فعل الشيء، ومما يدخل فيه الضرورة، فهذه الشارع يخفف عندها، قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: 119].
- الثالث من معاني المشقة: ما فيه نوع ضيقٍ، لكن ليس عسيرًا، فحينئذٍ نقول: هذا على نوعين:
ما ورد فيه دليلٌ أنه سبب تخفيفٍ فنقول به، وما لم يرد فيه أنه سبب تخفيفٍ فلا نقول بأنه من أسباب التخفيف، يقول الذهاب إلى المسجد، المسجد بعيدٌ عني أربعمائة مترًا، أو اثنين كيلو، نقول لم يأت الشارع بالتخفيف في هذا القسم، وبالتالي لا تكون هذه المشقة من أسباب التخفيف.
ننتقل إلى شيءٍ آخر وهو أن بعض الناس قد يتوسع في مفهوم المشقة، فيدخل فيها ما ليس منها، كما تقدم معنا هنا، وأضرب لكم مثلًا في صيام رمضان.
الشارع جاء بأن المسافر يفطر، لماذا يفطر؟ لأنه مسافرٌ، لأنك لو قلت: إن السبب المشقة، لجاءنا الخباز وقال: أنا أخبز للناس فطورهم، وأصالي من المشقة ما لا يصاليه ذلك الراكب للطائرة، وبالتالي فأفتوني بحل الفطر لي، فيأتيك البناؤون في العمائر الكبيرة، ويقولون: علينا من المشقة ما ليس على المسافر، فأفتونا بذلك، ويأتيك عمال المصانع، ويأتيك الموظفون، علينا تعبٌ ومشقةٌ في الذهاب والإياب، ومزاولة الأعمال، ويأتي الطلاب، ويقولون: علينا مشقةٌ، ويأتي الأساتذة ويقولون: علينا مشقةٌ، ويأتي لاعبو الكرة ،ويأتي الممثلون، ويأتي المصورون، إلى آخره، يبقى أحدٌ يصوم؟
ولذلك تتعطل الأحكام الشرعية، ومن ثَمَّ لم يُنط الشارع الحكم هنا بالمشقة، لعدم انضباط هذه الكلمة، عدم معرفة حدودها ومعالمها، وإنما ضبطه بأوصافٍ معينةٍ، وهذه يسمونها: أسباب التخفيف.
وهناك عددٌ من الأسباب سأورد له نماذجَ.
النموذج الأول: المرض.
فالمرض من أسباب التخفيف، من يأتي لنا بأمثلةٍ، أدلةٍ قرآنيةٍ تدل على أن المرض من أسباب التخفيف.
{﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: 185]}
﴿وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196].
«صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فجالسً».
﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّب﴾ [النساء: 43].
آية قصر الصلاة، ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ [النساء: 102].

متى يكون المرض من أسباب التخفيف؟
هناك ثلاث حالاتٍ:
الحالة الأولى: زيادة المرض فإذا كان المرض يزيد بفعل الواجب الشرعي سقط وجوبه.
مثال ذلك: من كان عنده مرضٌ وهذا المرض يزيد بالصيام، فنقول في هذه الحال: يجوز له الفطر.
الحالة الثانية: حالة تأخر الشفاء.
في هذه الحال يجوز للإنسان أن يتناول الرخصة، مثال ذلك: إذا لم يتناول الأدوية تأخر شفاؤه، فنقول: أفطر وتناول الأدوية.
الحالة الثالثة: عند وجود الألم.
واحد فيه قرحةٌ إذا لم يتناول الطعام أحس بالآلام في بطنه، فنقول له: يجوز لك أن تفطر.
فهذه حالاتٌ كون المرض سببًا من أسباب التخفيف.
مثلا جاءنا إنسانٌ في سنِّه ألمٌ، في ضرسه وجعٌ، قال: أريد أن أفطر، نقول: تعالَ، الصيام يزيد المرض؟ ما يزيد المرض. الصيام يؤخر الشفاء؟ ما يؤخر الشفاء. الصيام هو سبب وجود الألم؟ حينئذٍ نقول: لا لستَ من أصحاب التخفيف في هذه الحال، إلا إذا احتاج إلى تناول الدواء ليخفف ما فيه من الألم.

السبب الثاني من أسباب التخفيف: السفر.
ما هي رخص السفر؟
قصر الصلاة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: 101].
فطر الصائم، قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184].
كذلك المسح على الخفين: جاء في الحديث يمسح المسافر ثلاثة أيامٍ بلياليهن.
أيضًا الجمع بين الصلاتين.
أيضًا عدم وجوب صلاة الجمعة، الجماعة تجب، إن كانوا جماعةً يجب عليهم أن يجتمعوا فيصلوا.
متى يكون الإنسان مسافرًا؟
ما معنى السفر في اللغة؟
الإسفار هو: الوضوح والبيان، ولذلك يقال للمرأة: أسفرت عن وجهها، يقال: السفور، ما معنى السفور؟ كشف المرأة عن وجهها؛ لأنها أوضحته.
فالمسافر الذي ينتقل معناه اتضحت له البلدان واحدةٌ بعد الأخرى، ففي هذه الحال قلنا: إنه مسافرٌ.
متى يعد مسافرًا؟
إذا خرج بالخروج من عامر البلد، يعد ابتدأ السفر.
متى يكون مسافرًا؟
هناك أربعة أو خمسة أقوالٍ للعلماء في اعتبار الإنسان مسافرًا.
منهم من يقول: مسافة ثمانين كيلو.
منهم من يقول: وهذا رأي الجمهور: مسافة مائةٍ وعشرين إذا كان ما سيقطعه في سفره في الذهاب فقط هذه المسافة، جاز له أن يترخص برخص السفر.
والقول بمائة والعشرين مذهب الحنفية.
هناك من يقول: إنه بحسب العرف، فما تعارف الناس على أنه سفرٌ كان سفرًا، وهناك من يقول: بمدة يومٍ وليلةٍ فمن سافر ليومٍ وليلةٍ ولو كانت مسافةً قصيرةً يترخص، ومن كان سفره أقل من يومٍ وليلةٍ لا يترخص ولو قطع المسافة البعيدة، ومنهم من يقول مسافة أربعين كيلو مسيرة يومٍ.
إذن هذه أقوال للعلماء.
هل من وصل إلى المطار يترخص برخص السفر؟
الجواب: هل المطار خارج عامر البلد أو داخله؟ فإن كان داخل عامر البلد، فحينئذٍ لا يترخص، لم يسافر بعد، قد يترخص بأسبابٍ أخرى، قد يجمع لوجود الحرج عليه، لكن لا يقصر؛ لأن القصر لا يجوز أبدًا إلا في السفر.
المريض لا يقصر، قد يجمع، لكن لا يقصر، فالقصر فقط للمسافر.

السبب الثالث من أسباب التخفيف: النسيان.
ما الدليل؟
﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ﴾ [البقرة: 286]، قال الله: «قد فعلتُ».
في الحديث: « إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ».
ما هو النسيان؟
غفلة الذهن عما كان حاضرًا فيه.
النسيان على نوعين:
- نسيانٌ لواجبٍ.
- نسيانٌ لممنوعٍ أو محظورٍ.
النسيان لواجبٍ هذا يرفع الإثم، لكنه لا يُبرئ الذمة، ولا يُسقط الواجب من الذمة، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: « من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها لا كفارةَ لها إلا ذلك ».
بينما إذا نسي المحظور فإنه حينئذٍ لا يؤاخَذ، نأتي بأمثلة:
مَن صلى ونسي الوضوء، فنقول: الوضوء واجبٌ، يسقط عنه الإثم لصلاته بغير وضوءٍ، لكننا نُطالبه بصلاةٍ أخرى.
عندنا أكل ناسيًا وهو صائمٌ، فهذا النسيان لمحظورٍ، وبالتالي لا يُؤثر على صحة صومه على الصحيح.
نأتي بمثالٍ آخر: النجاسة في الصلاة على الثوب، قالت طائفةٌ: هو من نسيان الواجب؛ لأن الواجب هو طهارة الثوب، وبالتالي مَن صَلَّى وعلى ثوبه نجاسةٌ أُمِرَ بإعادة الصلاة.
وقال آخرون: بل هو نسيانٌ لمحظورٍ، وبالتالي مَن صَلَّى وعلى ثوبه نجاسةٌ فإنه لا يؤمر بإعادة الصلاة.
إذا عرفنا التقعيد في مثل هذه المسائل.

السبب الرابع من أسباب التخفيف: الإكراه.
ما معنى الإكراه؟
إلزام الإنسان بفعلٍ لا يريده.
والإكراه على نوعين:
الأول: إكراهٌ مُلجئٌ يزول معه الاختيار، كمن أُلقي من شاهقٍ، أُلقي من فوق الجدار فسقط على رجلٍ فمات الأسفل، نقول: هذا فعله كأنه لم يوجد، الضمان على الملقِي، لماذا؟ لأنه زال الاختيار بالكلية هنا.
الثاني: إكراهٌ غير ملجئٍ، يبقى معه اختيارٌ، فهذا قد يكون بالإكراه بالتهديد بالقتل، أو بإتلاف عضوٍ، أو بإتلاف مالٍ، أو بإتلاف قريبٍ، وهذا يشترط لاعتباره عدد من الشروط:
الثالث: أن يكون إكراهًا حقيقيًّا، ليس إكراهًا متوهمًا، الإكراه المتوهم لا قيمة له.
الرابع: أن يكون من قادرٍ، لو جاء طفلٌ صغيرٌ وقال: إن لم تفعل كذا قتلتك، ما له قيمةٌ؛ لأنه غير قادرٍ.

الخامس: يشترط فيه ألا يكون موجب الإكراه أشد من المحظور.
قال: ادخل مزرعة فلانٍ، وإلا قتلتك، المحظور أقل، إذن يستجيب ويدخل، لكن لو قال: اقتل عشرةً وإلا قتلناك، لا يجوز له؛ لأن المحظور هنا أشد من مقتضى الإكراه.
إذن هذه شروط الإكراه المعتبر، أيضًا أن يغلب على ظنه التنفيذ، لو غلب على ظنه أن المهدد لن ينفذ، فحينئذٍ هذا الإكراه لا يجيز الفعل الذي أُكره عليه.
إذا انتفى أحد هذه الشروط، فحينئذٍ الإكراه لا يؤثر على التكليف، وإذا اجتمعت هذه الشروط، فحينئذٍ نقول بأن التكليف يكون بفعل المحظور استجابةً لموجب الإكراه.

السبب الخامس من أسباب التخفيف: الخطأ
الدليل: ﴿أَوْ أَخْطَأْنَ﴾ [البقرة: 286]، قال الله: «قد فعلتُ».
الخطأ على نوعين، الخطأ خلاف الصواب، والخطأ خلاف العمد، هنا المراد به خلاف العمد؟ أم خلاف الصواب؟
خلاف العمد، لذلك عندنا في القتل ينقسم القتل إلى قتل عمدٍ، وقتل خطأٍ، وقتل شبه عمدٍ.
الخطأ يكون من أسباب التخفيف، ولذلك في قتل الخطأ لا قصاص، لكن تجد الكفارة والدية، لقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ﴾ [النساء: 92] الآية.
إذن الخطأ لا يُسقط حقوق الآخرين، يبقى، جاءنا واحدٌ وصدم آخر، قال: أنا صدمته خطأً، نقول: لا يسقط حقه، وكذلك الخطأ، لكن الخطأ في حق الله -عزَّ وجلَّ - يسقط به الإثم، ويتغير حكمه، فالأمر العمد غير الأمر الخطأ.
من أمثلة ذلك، مثلًا من أخطأ في أثناء صلاته، لو كان متعمدًا بطلت الصلاة، تكلم خطأً، فتبطل صلاته بذلك، إذن هذا من أسباب التخفيف.

السبب السادس من أسباب التخيف: الجهل
كذلك من أسباب التخفيف: الجهل، خصوصًا الذي لم يفرط فيه صاحبه، ولذلك في عددٍ من الصحابة لما ذُكر لهم أن امرأةً زنت، وأُتي بها، فقيل: إنها تقر بها إقرار من لا يعلم تحريمه، فدرؤوا عنها الحد، فكان الجهل من أسباب درء الحد.
وهكذا الجهل من أسباب نفي الكفارات، لكن ليس المراد جهل الكفارة، وإنما المراد جهل الحكم.
مثال ذلك: شخصٌ جامع في نهار رمضان جاهلًا، تجب عليه الكفارة أو لا تجب؟
نقول: جاهلًا ماذا؟ إن كان يجهل تحريم الوطء فلا تجب الكفارة، وإن كان يعلم التحريم، ويجهل الكفارة، فحينئذٍ تجب عليه الكفارة.
أيضًا في التكفير، قد يتكلم الإنسان بالكلمة الكفرية، التي لا تناقض أصل دين الإسلام، فيدرأ عنه حكم التكفير بناءً على أنه جاهلٌ.
إذن هذه من أسباب التخفيف.

نتكلم عن أنواع التخفيف.
النوع الأول: تخفيف الإسقاط:
هناك تخفيف إسقاطٍ، أيضًا يذكرون في الأسباب مثلًا النقص، ذكرت شيئًا قبل ذلك، من أمثلة الإسقاط: الحائض تسقط عنها الصلاة، فهذا تخفيف إسقاطٍ، عندكم أمثلةٌ أخرى؟
المجنون تسقط عنه الصلاة، العاجز عن الحج يسقط عنه وجوب الحج.
النوع الثاني: تخفيف البدل
هذا تخفيف بدلٍ، من أمثلته:
- التيمم، بدلٌ عن الوضوء.
- كفارة الإطعام بدلٌ عن كفارة العتق لمن لم يجد.
- كذلك في الصوم، الانتقال من واجب الصوم إلى واجب الإطعام لكبير السن العاجز عن الصوم تخفيف بدلٍ.
- أيضًا هناك كفارة اليمين ينتقل إلى الصيام.

النوع الثالث: تخفيف إنقاصٍ
مثل: قصر الصلاة، من لم يجد إلا نصف صاعٍ في صدقة الفطر، نقول: يتصدق به، هذه قدرته.
النوع الرابع: تخفيف تقديمٍ
كما في جمع الصلاتين، نقدم الصلاة الثانية مع الأولى، وكما في تقديم الزكاة، وإن كان البعض يقول: تقديم الزكاة جائزٌ للجميع.
النوع الخامس: تخفيف تأخيرٍ
مثل: تأخير صلاة الظهر للمسافر، تأخير صيام رمضان، القضاء بعده للمريض والمسافر، إلى ما قبل رمضان القادم.
هناك أيضًا أنواعٌ أخرى، لكن هذه أوضح أنواع التخفيف.

ننتقل إلى القواعد المندرجة تحت قاعدة: "المشقة تجلب التيسير".
القاعدة الأولى: "إذا ضاق الأمر اتسع"، وبعضهم يزيد: "وإذا اتسع ضاق".
مثال: عندنا امرأةٌ تريد أن تسافر إلى الحج، لابد من محرمٍ، سافرت مع زوجها، في أثناء الطريق توفي الزوج وقبروه، ضاق الأمر فاتسع، تكمل الحج؛ لأنه قد ضاق الأمر، لو كانت لازالت في بلدها، نقول لها: اجلسي ولك أجر الحج، لكن لما خرجتْ فضاق الأمر عليها، فحينئذٍ نقول: إنه قد اتسع الأمر.

ومن القواعد المتعلقة بقاعدة المشقة تجلب التيسير، قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات".
ما معنى الضرورات؟
الضرورة: ما يلحق بفقده ضررٌ، ولا يقوم غيره مقامه في دفع الضرر، لذلك تفرق بين الضرورة المأخوذ من الضرر، هذه مأخوذة من الضرر، فرقٌ بينها بين الضروري بالياء، الضروري ما يحصل بفقده اختلال الأحوال في الدنيا أو في الآخرة، الضروري، إنما الضرورة ما يلحق بفقده ضررٌ.
الضرورة تنقل المحظور من كونه محظورًا إلى كونه مباحًا، لكن بشروطٍ، أكثر الناس يضع هذه القاعدة في غير محلها، لماذا؟ لأنه لم يلتفت إلى الشروط، وبالتالي نقع في إشكالاتٍ. ما هي هذه الشروط؟
الشرط الأول: أن يكون الضرر حقيقيًّا، ما إذا كان الضرر متوهمًا فحينئذٍ لا يجوز استباحة المحظور.
مثال ذلك: واحد عنده لحم خنزيرٍ، وبطنه ممتلئةٌ، قال أنا ممكن آكل من لحم الخنزير، لأني يمكن أن أجوع، ماذا نقول؟ لا يجوز، الضرر ليس حقيقيًّا، متوهمٌ.
الشرط الثاني: ألا يندفع الضرر إلا بفعل المحظور، عنده لحمٌ مذكى، وعنده لحم ميتةٍ، قال: أنا مضطرٌ أنا جائعٌ، وصحيح جائعٌ، ولذلك سآكل من لحم الميتة، نقول: ما يجوز لك، لماذا؟ لأن عندك لحمٌ مباحٌ.
الشرط الثالث: ألا يتناول من المحظور إلا بقدر ما تندفع به الضرورة، عندنا لحم ميتةٍ ومضطرٌ، كل منها ما يدفع الضرورة فقط، وهذه يسمونها يقولون: الضرورة تقدر بقدرها.
الشرط الرابع: ألا يكون المحظور أعظم من الضرورة. يقول: أنا مضطرٌ إلى قتل فلانٍ لأبقى، في مسائل الإكراه، نقول: قتل ذلك الشخص أعظم، فبالتالي لا تستبيح هذا المحظور.
الشرط الخامس: أن يكون المحظور تندفع به الضرورة، مثال ذلك: عندنا مضطرٌ، عندنا ظمآنٌ، وعنده إناء خمرٍ، يشرب أو لا يشرب؟ لا يشرب، لماذا؟ لأن الخمر لا يدفع الظمأ، بل يزيد الظمآن ظمأً.
نطبق هذه الشروط الخمسة على مسألة مثلًا: زيارة كشف المرأة عند الطبيب الرجل، يجوز أن تذهب المرأة إلى الطبيب الرجل ليكشف عليها؟
طبِّق عليها، هذا محظورٌ، لو لم يكشف عليها الطبيب يصير فيه ضررٌ، لكن لابد من وجود الشروط، أن يكون الضرر حقيقيًّا، تكون مريضةً، ما تقول: أكشف يمكن يكون فيه مرضٌ، أجري الكشف الروتيني والعادي عند الطبيب الرجل، نقول: لا، هذا مما لا يجوز لك أن تكشف شيئًا من بدنك عنده؛ لأن الضرر هنا متوهمٌ وليس حقيقيًّا.
الشرط الثاني: ألا يندفع الضرر إلا بفعل المحظور، لو كانت هناك طبيبةٌ مسلمةٌ تقوم بعمل هذا الرجل، لا يجوز للمرأة أن تذهب للطبيب الرجل.
الشرط الثالث: ألا تتناول من المحظور إلا بقدر ما تندفع به الضرورة، هي في قدمها جرحٌ، تحتاج إلى نظر الطبيب، أو غرغرينة في قدمها، ما تكشف وجهها، ما تكشف شيئًا من بدنها، وإنما لا تتناول من المحظور إلا بقدر ما تندفع به الضرورة.
الشرط الرابع: ألا يكون المحظور أعظم من الضرورة، عندها ألمٌ يسيرٌ، أو جرحٌ يسيرٌ يمكن أن تضع عليه ضماداتٍ بنفسها، ما تحتاج إلى أن تذهب إلى الرجل، وأن يكون المحظور تندفع به الضرورة، لو أن في قدمها غرغرينة، ووجدت طبيب أنفٍ وأذنٍ وحنجرةٍ، نقول: هذا ليس مما يندفع به الضرر، وبالتالي لا تحل له.
في مقابل هذا هناك قاعدةٌ أخرى، وهي قاعدة: "هل الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة؟"
أولًا: ما هي الحاجة؟
الحاجة يلحق بفقدها ضررٌ، لكن يقوم غيرها مقامها، ولعلكم تستحضرون في باب الآنية، إذا تشعب الإناء جاز أن يتخذ له ضبةً من فضةٍ للحاجة، يمكن تلحيم الإناء بموادٍ أخرى، إذن انشعاب الإناء هذا ضررٌ، ويمكن تلحيمه هنا ضررٌ، ولكن يمكن دفع هذا الضرر بأمورٍ أخرى غير الفضة، مثل: الحديد أو نحوه، اللحام أو نحوه، فهنا الحاجة لا يستباح بها المحظور إلا بدليلٍ خاصٍّ، وهذا يسمى عند العلماء رخصةً.
مثال ذلك: بيع السَّلم يُباع فيه ما لا يملكه الإنسان، بيع ما لا يملك الإنسان هذا محظورٌ في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما لا تملك»، وفي لفظ: «ما ليس عندك»، وهنا نحتاج إلى بيع ما لا نملك في السَّلم، فهنا يلحق بفقده ضررٌ، لكن غيره قد يقوم مقامه، أي: من أنواع البيع الأخرى، ولكن جاء الدليل الشرعي بأن هذه الحاجة تبيح هذا المحظور، وبالتالي يجوز هذا فعل المحظور عند وجود هذه الحاجة.
إذن لابد من دليلٍ، قد يكون الدليل نصيًّا من كتابٍ أو سنةٍ، وقد يكون الدليل إجماعيًّا، وقد يكون دليلًا قياسيًّا.
أيضًا مما يتعلق بهذه القاعدة أن تلاحظوا أنواع المطلوبات، هناك ضرورةٌ، وهناك حاجةٌ فسرناهما، وهناك مطلوبٌ، وهناك رغبةٌ، وهناك شهوةٌ، وهناك أيضًا فضولٌ، فهذه أنواع المطلوبات، وكلٌّ منها له حكمه في الشريعة، وكل منها يأخذ حكمًا مستقلًا.
هذا أغلب ما يتعلق بهذه القاعدة، قاعدة المشقة تجلب التيسير، وأذكر أننا في المحاضرة الماضية كنا قد تركنا بعض القواعد التي تندرج ضمن قاعدة اليقين لا يُزال بالشك، وهي قواعد جيدةٌ، ويمكن أن تفيدنا، من ذلك، قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالمملوك في الزمان الماضي لزيدٍ، الأصل أنه لازال في ملكه، حتى يأتي دليلٌ يغيره.
ومن القواعد أيضًا: الأصل في الصفات الحادثة أو العارضة العدم، فإذا تنازع اثنان في صفةٍ حادثةٍ، فالأصل أنه موجودةٌ.. قال السيارة فيها عطلٌ، أو فيها خللٌ في الماكينة، هذا الخلل صفةٌ حادثةٌ، لا نثبتها إلا بدليلٍ، ببينةٍ.
من القواعد المتعلقة بهذا: أنه لا عبرة بالتوهم، الشيء المتوهم لا يناط به حكمٌ، ولا يُعلل به، ومن أمثلة ذلك ما ذكرنا قبل قليلٍ، في ما إذا كانت الضرورة متوهمةً، فإنه لا يُبنى عليها حكمٌ.
هكذا لا عبرة للظن البين خطؤه، سلم زيد يطلبني مالًا، وظننت أن علي وكيله، فسلمت له المال، فقال اذهب طالب عليّا، هذا خطؤك، هذا ظنٌّ قد بان خطؤه، لا عبرة به، ولا تؤاخذني به.
من أمثلته، ما لو أعطى زكاته لشخصٍ غنيٍّ يظنه فقيرًا، من القواعد لا يُنسب لساكتٍ قولٌ، ولكن السكوت في معرض الحاجة للبيان بيانٌ.
إن شاء الله في المحاضرة القادمة، نتناول قاعدة: "الضرر يُزال". بارك الله فيكم، وأسعدكم الله، ووفقكم الله لخيري الدنيا والآخرة، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك