الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعد، فأرحب بكم في لقائنا الثاني من لقاءاتنا في القواعد الفقهية.
أخذنا في لقائنا السابق مقدمةً عن هذا العلم، وتعريفًا عامًّا به، في هذا اليوم
-بإذن الله عزَّ وجلَّ- نأخذ القاعدة الكلية الكبرى، من القواعد الفقهية، ألا وهي
قاعدة: الأمور بمقاصدها.
تقدم معنا أن القواعد الكبرى خمس قواعد، هي:
قاعدة الأمور بمقاصدها، وقاعدة: اليقين لا يزول بالشك، وقاعدة: المشقة تجلب
التيسير، وقاعدة: الضرر يزال، وقاعدة: العادة محكَّمة.
عندنا اليوم هذه القاعدة (قاعدة الأمور بمقاصده)، ما معنى الأمور؟ جمع أمرٍ، بمعنى
الشأن، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: 97]، وتصدُق على
الأفعال، والأقوال، وجميع أحوال الإنسان، وقولنا: بمقاصدها، مقاصد يعني الأهداف
التي يسعى الإنسان إليها، والمراد هنا النية.
ما هي النية؟ النية عزم القلب، عندما نعقد معنًى في القلب، فحينئذٍ يكون نيةً، أما
إذا كان هناك مجرد خواطر ترد على الإنسان، هذه لا يقال لها نيةٌ، وأما إذا كان هناك
مجرد رغبةٍ، ولم يكن هناك عزمٌ لأداء الفعل، فهذا لا يسمى نيةً، إذن النية عزم
القلب، لا الوساوس، ولا الرغبات.
النية قاعدةٌ مهمةٌ في الشريعة، ولذلك جاءت النصوص بالتأكيد على مكانة القلب، وعظم
منزلته، ومن هنا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «ألا إن في
الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجلد كله، ألا وهي القلب»،
ولذا كان من أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على
دينك»، وكان من دعاء الراسخين في العلم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنَ﴾ [آل عمران: 8]، وهذا يدلك على أهمية هذه القاعدة.
إذن من أين تنبثق هذه القاعدة؟
تنبثق من عددٍ من الأمور:
أولاها: أهمية النية وأمور القلب، بدلالة الأحاديث السابقة.
الأمر الثاني: تأكيد النصوص على أهمية النية، ولذلك اهتم العلماء بمباحث النية،
وقال طائفةٌ من أهل العلم بأن حديث النية يدخل في جميع أبواب الفقه، قال بعضهم: بأن
حديث النية ثلث العلم.
الأمر الثالث: كثرة الفروع الفقهية المندرجة في هذه القاعدة، وهذه الفروع من جميع
الأبواب. من يذكر لنا أبوابًا، أمثلةً؟ مثلًا في باب الطهارة.
{أن النية شرطٌ لصحة الوضوء}.
شرطٌ لصحة الوضوء، شرطٌ لصحة الغسل، شرطٌ لصحة التيمم.
{شرطٌ لصحة الصلاة}.
هكذا قطع النية في الصلاة مؤثرٌ، في الصيام كذلك، في باب الزكاة، زكاة التجارة
قائمةٌ على مبحث النية، ونية التجارة، في أبواب الحج، حتى في أبواب المعاملات، هناك
أبواب الحيل، ومعاملات الحيلة، الحيل الربوية، كلها مبنيةٌ على هذا الجانب، هكذا في
أبواب الأنكحة، في باب الجنايات، ما الفرق بين القتل الخطأ والقتل العمد؟ القتل
الخطأ الذي يوجب القصاص، والعمد الذي فيه الدية، والذي يوجب القصاص هو متعلقٌ
بالنية.
الأمر الرابع: دخول القاعدة في جميع الأبواب الفقهية.
قلنا قبل قليلٍ تأكيد النصوص على أهمية النية، في مثل ماذا؟ من يأتينا بنصوص من
القرآن؟
{قول الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ﴾ [البينة: 5]}.
مخلصين له الدين، ممتاز، كذلك في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن
نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]، كذلك: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ
عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا
سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [الإسراء:
18، 19]، ومثل قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا
يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ
وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16]،
﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران:
152]، ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾
[الأعلى: 16، 17]، وغير ذلك.
إذن هناك أدلةٌ من القرآن كثيرةٌ تدل على هذه القاعدة، كذلك هناك نصوصٌ كثيرةٌ من
السنة، أشهرها حديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت
هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا نصيبها، أو
امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه». نصوصٌ نبويةٌ أخرى.
مثلًا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لكن جهادٌ ونيةٌ»، هناك أحاديث كثيرةٌ
تؤكد على موضوع النية وتعرف بها، ولذلك النية عليها مدار تصحيح الأعمال، وعليها
كذلك المعول في ترتيب الأجر والثواب على العمل، ولذلك كانت هذه القاعدة من أهم
القواعد الشرعية، والتي تجعل الإنسان يحوز الأجور العظيمة، والجزاء والثواب الكبير.
ننتقل إلى جزئيةٍ متعلقةٍ بهذه القاعدة، ما هي هذه الجزئية؟
ما شُرعت النية لأجله.
النية شُرعت لثلاثة أمورٍ، أولها: الإخلاص، ونية التقرب لله -عزَّ وجلَّ-، إذن
شُرعت النية ليكون عندنا نية التقرب لله، وابتغاء الآخرة، ومن ثم يكون هناك فرقٌ
بين التوحيد والشرك من خلال هذه النية.
إذن هذا الأول فيه التمييز بين التوحيد والشرك، وفيه التمييز بين ما يؤجر عليه، وما
لا يؤجر عليه.
الأمر الثاني: التمييز بين العبادة والعادة، هناك شخصان يذهبان إلى دورتي مياهٍ
متقابلتين، فيغتسلان، أحدهما لماذا تغتسل؟ قال: لأصلي صلاة الجمعة بهذا الاغتسال،
والآخر نقول له: لماذا تغتسل؟ قال: لأتنظف وأُذهب عني الرائحة التي وجدت في، ولم
ينو التقرب لله، فحينئذٍ هذا عادةٌ الثاني، والأول عبادةٌ.
اثنان نزلا في البحر في وقتٍ واحدٍ، أحدهما ينوي رفع الحدث الأكبر والجنابة،
والثاني لم ينو شيئًا، فحينئذٍ لما خرجا تذكرا الجنابة، قال أحدهما: الحمد لله،
نويتُ رفع الحدث بذلك، ونويتُ استباحة الصلاة، ورفع الجنابة، فارتفعت الجنابة،
الثاني لم ينو، وبالتالي قلنا بأنه يلزمه الاغتسال، قال: نحن اغتسلنا سويًا، بينكما
فرقٌ في النية.
الثالث: التمييز، بين رُتب العبادات، تدخل صلاة الفجر في المسجد فتصلي ركعتين تنوي
بهما سنة الفجر، ثم بعد ذلك تقيم وتصلي ركعتين، هنا ركعتان وهنا ركعتان، الأولى
مستحبةٌ، وهي سنة الفجر، والثاني فريضةٌ، يسقط بها الطلب، لماذا حصل هذا الفرق؟
بالنية، بواسطة النية، صلاة الظهر تماثل صلاة العصر في الصورة، أربع ركعاتٍ، وأربع
ركعاتٍ، لا يُجهر بالقراءة، فرقٌ بينهما في النية، المسافر يصلي صلاة الظهر ثم يصلي
صلاة العصر في وقتٍ متقاربٍ، ركعتين وركعتين، ما الفارق بينهما؟ النية، لماذا؟ لأن
مما شرعت النية له التمييز بين رُتب العبادات.
هذا يجرنا للحديث عن شيءٍ آخر، وهو أنواع الناس في النية.
هناك نوعان من الأعمال، أحدهما ما يتمحض أن يكون عبادةً، ما معنى يتمحض؟ أعمالٌ لا
تُفعل إلا على جهة العبادة، أو ما يفعله الإنسان بنية العبادة، مثل ماذا؟ الصلاة،
ما يأتي واحدٌ يقول هذه الصلاة تدريبٌ، تمرينٌ، لا، الصلاة عبادةٌ، أي فعل يفعله
الناس على أنه عبادةٌ يدخل هنا في هذا القسم.
الناس في هذا القسم على ثلاثة أصنافٍ:
الصنف الأول: من يفعلها لله لينيله أجر الآخرة، مثل صلى لله يريد أجر الآخرة، ما
حكمه؟ مؤمنٌ، موحدٌ، مأجورٌ، مثابٌ، أليس كذلك؟
النوع الثاني: من يفعلها لله لينيله الدنيا، يريد أمرًا دنيويًّا فقط.
هذا يصلي، لماذا تصلي؟ قال: لكي يساعدني الله في الحياة، بعض الناس تقول له: لماذا
تصلي؟ قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ
عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾
[طه: 132]، الصلاة يرزقنا الله بسببها، إذن هو صلى لله، لكن لم يرد الآخرة، أراد
الدنيا، ما حكمه؟ لا ثواب له، لماذا؟ لأنه لم ينو الأجر الأخروي، إن جاءه شيءٌ في
الدنيا، وإلا فليس له في الآخرة شيء.
القسم الثالث: من يفعلها لغير الله، فهذا مشرك، شركٌ أكبر أم أصغر؟ على نوعين، إن
كانت عبوديةً لغير الله، هذا أكبر، وإن كانت ليست عبوديةً فهذا أصغر، واضح هذا
التقسيم؟ نعيد الكلام فيه؛ لأنه مهمٌّ، وعند التطبيق كثيرٌ من الناس يغفلون عنه،
كيف؟
من يفعله لله لينيله أجر الآخرة، مثال ذلك في قوله: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن
نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]، هذا الفاعل مثابٌ، لله يريد الآخرة. أما الثاني
الذي أراد الدنيا، يقول ما لي إلا الدنيا، لأنه لم يرد الآخرة، النبي -صلى الله
عليه وسلم- يقول: «إنما الأعمال بالنيات» وهذا لم يرد الآخرة، أراد الدنيا،
وبالتالي ليس له إلا أجرٌ دنيويٌّ.
نأتي بمثالٍ: صلاة الاستسقاء، لماذا تصلي صلاة الاستسقاء؟
الناس ثلاثة أصنافٍ:
واحد يصليها لله؛ لينيله الآخرة، يقول أنا أريد رفعة الدرجة في الجنة بهذه الصلاة،
صلاة الاستسقاء، يثاب.
الثاني: لماذا تصلي صلاة الاستسقاء؟ قال: لله؛ لينزل المطر، ليس له أجرٌ أخرويٌّ؛
لأنه لم ينو الأجر الأخروي، إن أنزل الله له المطر تحقق مراده الدنيوي.
الثالث: قال: صليت ليراني الناس، يصبح شركًا أصغر، لم يفعله على جهة العبادة، فعله
لغير الله.
نأتي بمثالٍ آخر: في عبودية الدعاء، يرفع يديه، يدعو، اثنان متجاوران، لماذا تدعو؟
قال: أدعو لأن الله أمرني، ولأن الله يرضى عني إذا دعوت، وقد قال الله -عزَّ وجلَّ:
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]، فأنا أدعو
عبوديةً لله، فهذا من القسم الأول؛ لأنه يريد الآخرة، الثاني قال: لماذا دعوتَ؟
قال: أنا دعوتُ لكي أُرزق، لكي أنال أمرًا دنيويًّا، وظيفةً أو شهادةً، فعلها لله،
لكن لينال الدنيا، فبالتالي ليس له أجرٌ أخرويٌّ، ولذلك فرَّق، قال: ﴿فَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 200- 202]، أما الثالث
فرفع يديه ليصوَّر، لكي يصوروه وهو رافعٌ يديه، رياء، قالوا: رفع يديه يدعو غير
الله، يقول: يا ولي، يا نبي، يا فلان، فحينئذٍ توجه بالعبودية لغير الله، والله
-عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 5، 6] وقال تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ فلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].
أيضًا من أمثلة ذلك مثلًا في الذكر، أذكار الصباح والمساء، واحدٌ لماذا تذكر الله؟
قال: ليذكرني ربي، وترتفع درجتي عنده ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]،
القسم الأول، مثابٌ، مؤمن، موحدٌ، قال الثاني: لماذا تذكر؟ قال: لأُحفَظ من كيد
السحرة، وكيد الشياطين، وكيد الحسدة، وشر الحسدة، فحينئذٍ من القسم الثاني، ما له
ثواب أخروي، يُحفظ في الدنيا، لكن ما نوى الآخرة، والنبي -صلى الله عليه وسلم-
يقول: «وإنما لكل امرئٍ ما نوى»، والثالث: ذكر غير الله.
الثاني: أعمال لا تتمحض أن تكون عبادةً، الأول فهمتموه؟ ترى الناس عندهم غفلةٌ
كثيرةٌ في هذا الباب، والثاني أيضًا عند الناس فيه غفلةٌ كثيرةٌ.
{من فعلها بقصد ما عند الله -عزَّ وجلَّ-، في أذكار الصباح بقصد الحفظ}.
بعض الناس يقول: أنا أذكر الله ليُحفظ من السحرة، لئلا يضلوني عن الطريق المستقيم،
وبالتالي أغفل عن الله، وعن ذكره، وعن طاعته، فكان عند نيته التحصين ينوي صلاح
الآخرة، فكان مأجورًا، فنحن نستطيع أن نقلب حياتنا في عباداتنا، لتكون كلها طاعات
لله -عزَّ وجلَّ- من القسم الأول.
الثاني: أفعالٌ لا تتمحض أن تكون عبادةً مثال ذلك: الأكل لا يتمحض أن يكون عبادةً،
الناس فيه على قسمين:
- منهم من يفعلها عادةً أو بدون نية التقرب، ما حكمه؟ لا أجر له.
- والثاني: من يفعلها طاعةً لله لينال الآخرة، هذا مأجورٌ، موحدٌ مثابٌ.
نأتي بأمثلةٍ لهذا القسم الثاني، أحدٌ منكم عنده أمثلةٌ؟، تفضل.
{مثل من أكل الطعام ليتقوى به على العبادة}
عندنا أكل الطعام، واحدٌ فعلها عادةً، أو بدون نية التقرب لله، له أجرٌ؟ ليس له
أجرٌ، الثاني فعلها طاعةً لله، فعلها ليُقوِّي بدنه على طاعة رب العزة والجلال،
فكان كل حبة رزٍّ في ميزان حسناته يوم القيامة، كل لقمةٍ يدخلها في جوفه تكتب له،
هكذا من يأتي لنا بمثالٍ آخر؟
النوم، نقول من نوى بنومه التقوي على طاعة الله من صلاة الفجر وصلاة الليل كان
مأجورًا مثابًا.
{إتيان الأهل}
إتيان الأهل.
{السفر}
طيب.. التروك، ما معنى التروك؟ واحدٌ ترك المعصية، لم يعد يمنع عينه من مشاهدة
النساء الأجنبيات في التليفزيون أو في وسائل التواصل، قلنا لماذا تركت؟، قال والله
فعلتها عادةً، ما أريد أشاهد، مليتُ، أو تثير عندي شهوةً، والثاني قال: أُطيع الله،
لأن الله أمرني بغض بصري.
قلنا الثاني ترك شرب الخمر، لماذا تركت شرب الخمر؟ قال والله ما أدري، كل المجتمع
تاركين شرب الخمر، فحينئذٍ يكون من القسم الثاني، ليس له أجرٌ، بينما من فعلها
طاعةً لله لينال الآخرة، فإنه حينئذٍ يكون مأجورًا، مثابًا عند الله جلَّ وعلَا.
ولذلك على الإنسان أن يحرص أن يستحضر النية في كل حياته، كلنا عندنا نفقاتٌ لأهل
البيت، واحدٌ يأتي بأدوات المدرسة، وواحدٌ يأتي بالملابس، وآخر مأكولات، انوِ بهذا
التقرب لله، لأن الله عزَّ وجلَّ أمرك بالنفقة على أهل بيتك، ولذلك قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «نفقة الرجل على أهل بيته يحتسبها تكون له صدقةً»، وقال: «إنك لم
تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرتَ عليه».
من أمثلة هذا مثلًا، سد الديْن، لماذا تسدد الديْن؟ قال: والله فلانٌ فعل الجميل
معي، وبالتالي أنا أسدد له، ما نوى إلا وجه صاحبه، ما نوى التقرب لله والله أمره
بأداء الأمانات إلى أهله، بينما قال الآخر سددتُ طاعة لله.
صلة الرحم، من وصل رحمه ينوي بذلك التقرب لله، كان مأجورًا مثابًا، واحدٌ يصل رحمه
قال أنا أريد طول العمر وزيادة الرزق، نقول ليس لك إلا ما نويتَ، أنت ما نويتَ
الأجر الأخروي.
ننتقل إلى جزئيةٍ أخرى متعلقةٍ أيضًا بالنية، هل النية شرطٌ أو ركنٌ؟
قبل هذا محل النية، قلنا قبل قليلٍ، القلب، قلنا إن النية هي عزم القلب، وبالتالي
فمحل النية هو القلب.
واللسان، التكلم والتلفظ باللسان هذا ليس نية، النية في القلب، ما حكم هذا التلفظ؟
جمهور أهل العلم يقولون لا يجوز هذا التلفظ، لماذا؟ لأن ليس هدي النبي صلى الله
عليه وسلم، وليس فعل صحابته، واللغة العربية مفهوم النية فيها ما في القلب، أما ما
في اللسان فلا يسمى في اللغة نيةً، يسمى لفظًا وكلامًا، أما في القلب فيسمى نيةً.
الإمام الشافعي يقول بأن التلفظ بالنية مباحٌ، لكن العبرة بما في القلب، والجمهور
يخالفونه، يقولون لا، التلفظ بالنية غير مباحٍ، ولا يجوز.
عرفنا إذن الخلاف في هذه المسألة.
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الاكتفاء بالقلب، وعند الأئمة جميعًا بما فيهم
الإمام الشافعي أن من اقتصر على ما في القلب أجزأه ذلك، ولا حرج عليه في هذا الأمر.
بعض الناس يقول عندنا في بعض الأشياء هناك تلفظٌ بالنية، كما في التلبية، لبيك
اللهم حجًّا، نقول هذا ليس تلفظًا بالنية، هذا تلبيةٌ، ولذلك يكررها، النية في
القلب أن يجزم بالدخول في النسك، نيةً، ولذلك ما يقول نويتُ أن أدخل في النسك، أو
نويتُ أن أحج، وإنما يقول: لبيك اللهم حجًّا، بمثل التكبير الذي يكون في أوائل
الصلاة، أن تقول: الله أكبر، هل هذا تلفظ بالنية، نقول ليس هذا تلفظًا بالنية.
من الأمور التي تتعلق بهذا المبحث، أنْ نبين أنَّ النية لها مضاداتٌ، عندك أشياءٌ
تؤثر على النية، مثل ماذا؟
- أولًا: قطع النية.
كيف؟
إذا نويتَ قطع العمل، حينئذٍ انقطع هذا العمل، في أثناء الصلاة صلى الركعة، وبعد
تمام الركعة نوى قطع الصلاة، ما عاد يكمل صلاته، تبطل صلاته، لم يفعل شيئًا، أراد
أن يكمل الصلاة، نقول لا انقطعت الصلاة، لماذا؟ لأنه لابد أن تكون النية مستحضرةً
مع العبد في جميع صلاته، وهذا يجرنا على شيءٍ، وهو وقت النية.
- متى يكون وقت النية؟
النية تكون في الغالب مقارِنةً لأول العمل، بداية صلاتك تنوي، لو تقدمتْ بزمنٍ
يسيرٍ لا بأس بشرط استصحاب حكمها، ما ينوي قطعها، الشارع في الصيام أجاز أن تكون
النية من الليل كله، هناك خلافٌ فقهيٌّ بين العلماء في وقت النية للصيام، تعرفون
الصيام هناك صيام فرضٍ وصيام نفلٍ، صيام الفرض، الجمهور يقولون لابد من أن تكون
النية بالليل، لحديث: «لا صيام لمن لم يبيت النية».
الإمام أبو حنيفة أجاز أن تكون النية قبل الزوال، وفي صيام النفل للعلماء ثلاثة
أقوالٍ:
مالك يقول: لابد من تبييت النية.
والإمام أبو حنيفة قال: لابد أن تكون قبل الزوال.
وعند أحمد: تجوز بأي جزءٍ من النهار، لكنه يقول: لا يكون له من الأجر إلا في الوقت
الذي نوى فيه الصيام.
واضح الخلاف الفقهي في هذه المسألة.
إذن الأمر الأول مما يؤثر على النية: قطع النية.
الأمر الثاني من المؤثرات: التردد.
النية عقدٌ جازمٌ في القلب، فإذا كان هناك ترددٌ فهذا ينافي النية، وبالتالي يحكم
بأنه لم يحصل هناك عزمٌ ولا نيةٌ.
مثال ذلك: شخصٌ يسافر في رمضان، ما يدري أصوم ولا ما أصوم، أصوم ما أصوم، ثم أذن
الفجر، نقول: أنت مفطرٌ، لماذا؟ لأنه كان مترددًا في نيته.
كذلك من المؤثرات: الانتقال لما هو أعلى.
مثال ذلك: يصلي نافلةً، فأراد أن ينقلها إلى فريضةٍ، نقول: بطلت نيته، وانقطعت
الصلاة.
أو مساوٍ، يصلي صلاة الظهر، صلى ركعةً تذكر أنه قد صلى، قال إذن أنقلها للعصر، نقول
لا، الانتقال في النية لا يصح، نقل النية.
من الأمور المتعلقة أيضًا بهذا: إذا كان هناك تشريكٌ في النية بما لا يقبل التشريك.
أتانا واحدٌ وقال: صلاة الظهر كم ركعةٍ؟ أربع، أليس كذلك، صلاة العصر أربع، المسافر
يصلي ركعتين ركعتين، أنا سأصلي ركعتين بنية أن تكون عن الظهر وعن العصر، تشريكٌ في
النية، ماذا نقول؟ ما يصح، طيب هل تقع عن الظهر أو تقع عن العصر؟ لا عن الظهر ولا
عن العصر.
واضح هذا، إلا فهناك أعمالٌ ليس مرادةً لنفسها، وبالتالي تقبل التشريك، مثلًا تحية
المسجد ليست مرادةً لنفسها، وإنما المراد أن يصلي الإنسان قبل أن يجلس، ففي هذه
الحال، نقول يجوز التشريك بين نية الفجر ونية تحية المسجد، بين نية سنة الفجر وتحية
المسجد، لأن تحية المسجد ليست مقصودةً لذاتها، مثلها مثل صلاة الاستخارة، ليست
مقصودةً لذاتها، بالتالي يمكن أن تشرك بين نية صلاة استخارةٍ ونية صلاة سنةٍ
مستحبةٍ.
انتهينا من هذا، طيب..
ما هي الأعمال التي تدخلها النية؟
عندنا 1- الواجبات، ماذا تقولون؟ لا تصح إلا بنيةٍ، ولا يؤجر عليها إلا بنيةٍ.
2- المستحبات: كذلك.
3- المحرمات.
كيف؟ في الترك، وفي الفعل: من فعل المحرم غير ناوٍ أنه محرمٌ، لا يعلم أنه محرمٌ،
فإنه حينئذٍ لا يأثم، كذلك في الترك -كما ذكرت- من نوى ترك المحرم طاعةً لله كان
مأجورًا.
4- المباح: نفس الشيء كما ذكرنا قبل قليلٍ في الأكل والنوم، إذا جعل المباح وسيلةً
لطاعةٍ كان مأجورًا، وبالتالي تدخل النية في المباحات.
5- الألفاظ الكلام: نقول نعم هناك تأثيران في الأجر وفي الصحة، معنى الصحة أن يترتب
على الفعل آثاره.
العبد يؤجر على اللفظ متى نوى به التقرب إلى الله، إذا أمرتكم صلوا طاعةً لله،
وأريد رضى الله كنت مأجورًا مثابًا، هكذا في الصحة، الألفاظ فيما يتعلق بالصحة على
نوعين:
ألفاظٌ صريحةٌ، وألفاظ كنايةٍ.
نأتي مثال الطلاق ولا عقد البيع، ولا الهبة، هناك ألفاظٌ صريحةٌ مثل لفظة هي طالقٌ،
هذا صريحٌ حينئذٍ يقع، بدون أن نلتفت إلى النية، وهناك ألفاظ كنايةٍ لا يقع الطلاق
بها إلا إذا نوى إيقاع الطلاق بها، مثل اذهبي لأهلك، هل يقع به الطلاق؟ نقول إن نوى
الطلاق وقع، وإذا لم ينو الطلاق فإنه لا يقع.
من الأمور التي تتعلق بمباحث النية، ما يتعلق بأثر النية في اليمين.
النية يكون لها تأثيرٌ في ألفاظ اليمين، مراتٍ يقول والله لن أسلم على فلانٍ، ماذا
يريد؟ يريد قطيعته، طيب لو كلَّم بدون سلامٍ، نقول يحنث بذلك، لأنه وإن لم يتلفظ
بلفظ السلام، لكنه يريد أي مكالمةٍ بينه وبينه.
مراتٍ يقول والله لن آكل اللحم، ويريد بلفظة اللحم، لحم الغنم فقط، فحينئذٍ لو أكل
إبلًا أو أكل دجاجًا فإنه لا يحنث، ومثله في تعليق الطلاق، قد تغير النية في
اليمين.
يبقى هنا شيءٌ وهو: هل العبرة في النية بنية المتكلم أو بنية السامع؟
بعض الناس تفعل توريةً في الكلام، يسوون توريةً في الكلام، فهل العبرة بنيتي ولا
بنيتك يا أيها السامع؟
ماذا نقول؟ نقول هذا على نوعين:
الأول: في مجلس القضاء أو في اليمين، هذا على نية السامع.
وأما في غير ذلك فهي على نية المتكلم.
مثال ذلك: قال: أنا مسافرٌ، يريد أنه سيسافر بعد أسبوع، ما قال أنا مسافرٌ غدًا،
ففي هذه الحالة الآن توريةٌ، هل هذا في مجلس القضاء أو في اليمين، وبالتالي نقول
على نية المتكلم.
لذا ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في المعاريض لمندوحةً عن
الكذب».
ومثله ما لو كان مظلومًا، أما في مجلس القضاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«يمينك على ما يُصدِّقُك به صاحبك».
آتيكم مثالًا في هذا الأمر، جاءنا شخصٌ له ديْنٌ على آخر، فطلبناه للقضاء، طلبنا
المدين للقضاء، فقال: والله ما له عندي شيءٌ، ماذا تفهمون؟ نفيٌ، راجعناه قلنا كيف
اتق الله، قال: أنا صادقٌ، والله مالُه عندي شيءٌ، فأنا صادقٌ في يميني لم أحنث،
ماذا تقولون؟ نقول لا يقبل منه، لماذا؟ لأن هذا مجلس القضاء، «يمينك على ما يصدقك
به صاحبك»، على حسب نية السامع، ليس على حسب نية المتكلم.
من القواعد المتعلقة بهذا الأمر، كيف نستحضر النية في العمل؟
قبل أن تقدم على أي عملٍ أنظر ما هو حكم الله فيه؟ إذا أردت أن تبيع، اعرف ما حكم
الله، مباحٌ كيف تجعله وسيلةً إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ، إذا استطعت أن تعرف أحكام
الله، قبل الأفعال قبل أن تقدم عليها فإنك حينئذٍ تتمكن من استحضار النية في هذه
الأعمال.
من القواعد: يقولون العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.
مثال ذلك: لو قلتُ بعتك هذه السيارة لمدة أسبوعٍ بألف ريال، ماذا نقول؟ إيجارةً
محددةً، انتفاع لمدة أسبوعٍ، وإن كان اللفظ بيعًا، لكن المقصد والمعنى هو إيجارةٌ.
قال: وهبتك هذه السيارة على أن تعيدها عليَّ بعد أسبوعٍ، تصير عاريةً، ليست هبةً.
لو قال: أعرتك هذا البيت بألف ريال، تملكه ويملكه ذريتك من بعدك، بيع، الهبة ما
فيها مقابلٌ.
إذن هذا لمحةٌ عامةٌ عن هذه القاعدة، ونتشرف بكم إن شاء الله في الدرس القادم،
نتدارس قاعدة اليقين لا يزال بالشك.
وفقكم الله لخيري الدنيا والآخرة، وجعلكم الله من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم،
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم
الدين.