الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد،
فهذا هو اللقاء السابع من لقاءاتنا في مقرر القواعد الفقهية، نتدارسه في برنامج
البناء العلمي، في الأكاديمية الإسلامية.
إما حقيقةً أو حكمًا، هذا هو معنى التابع، ما معنى كون التابع تابعًا، هل أتينا
بشيءٍ جديدٍ؟ التابع تابعٌ، المبتدأ هو الخبر، نقول: نعم هناك معانٍ لهذه الكلمة،
وسأذكر خمسة معانٍ لهذه الكلمة، وهناك معانٍ أخرى، لكن أذكر أبرز هذه المعاني.
المعنى الأول: أن التابع لا يُفرد بحكمٍ، بل يكون مشمولًا بحكم ما هو تابعٌ له.
مثال ذلك: اشترى إنسانٌ من آخر بيتًا، ثم بعد ذلك أراد البائع أن يأخذ النوافذ،
وقال: أنا بعتك البيت ولم أبع النوافذ، ماذا نقول له؟
نقول: النوافذ تابعةٌ، والتابع تابعٌ، وبالتالي لا يفرد بحكمٍ، ومن ثم نقول: إذا
باع البيت دخل فيه توابعه.
مثال ذلك: باعه السيارة، أو أوصى له وصية بالسيارة، أوصى لابن جيرانهم بسيارته، جاء
أبناء المتوفى بعد وفاته، قالوا: سنأخذ الماكينة ونأخذ المراتب، ونأخذ المقود،
ونأخذ الإطار الاحتياطي، هو أوصى بالسيارة فقط، ولم يوصِ بهذه الأشياء، ماذا نقول؟
نقول هذه توابع، والتابع تابعٌ، ولا يصح أن نفردها بحكمٍ، بل تكون تابعةً لما هي
تابعةٌ له.
المعنى الثاني: أنه إذا سقط المتبوع سقط التابع.
ومن أمثلة ذلك: إذا أبرأه من البيت النوافذ والتوابع كلها، كذلك إذا اشترى منه
سيارةً يسلمها بعد ستة أشهرٍ ودفع له النقد، ثم قال أبرأتك، ثم قال أنا أبرأتك
بهيكل السيارة فقط، لم أبرئك بمراتبها ولا بإطارها الاحتياطي، نقول: سقط المتبوع
فيسقط التابع بسقوط المتبوع.
مثالٌ آخر: أقرضت زيدًا مائة ألف ريال، وأحضر لي كفيلًا هو خالد، فبعد ذلك أبرأت
زيدًا قلت: يا زيد هذه المائة ألف ريال هذه لك، ما حكم خالد؟ يبرأ؛ لأنه إذا سقط
المتبوع سقط التابع.
بخلاف ما إذا سقط التابع لا يلزم منه أن يسقط المتبوع، لو قلت للكفيل أبرأتك،
فحينئذٍ لا يسقط المتبوع وهو المدين.
من معاني كلمة التابع تابعٌ، أنَّ التابع لا يتقدم على المتبوع، إما أن يكون معه في
درجةٍ واحدةٍ أو يكون خلفه، التابع لا يتقدم على المتبوع، ولذلك إمام الصلاة يتقدم
على المأمومين، ولا يصح أن يتقدم المأموم على الإمام عند الجماهير، لماذا؟
لأن الإمام متبوعٌ والمأموم تابعٌ، والتابع لا يتقدم على المتبوع لأنه تابعٌ، هذا
من معنى كونه تابعًا.
كذلك من القواعد: أنه إذا فسد المتبوع فسد التابع.
مثال ذلك: ذهبت إلى القضاء بشهودٍ يشهدون أن هذا البيت ملكٌ لي، وبعد ذلك صدر الحكم
القضائي بأن البيت ملكٌ لي، ثم بعد ذلك أجَّرت البيت لمدة ثلاث سنواتٍ، بعد الثلاث
سنواتٍ، جاء الشهود وأكذبوا أنفسهم، وقالوا: نحن كذبنا في الشهادة والآن نحن نخاف
من الله ونخشى من عقوبته، فنحن كنا كاذبين في تلك الشهادة، ماذا نفعل؟
نلغي الحكم السابق ونعيد البيت لمالكه، بطلتْ الشهادة فبطل ما بُني عليها من ملكية
البيت، كذلك يبطل ما يتعلق بعقد الإجارة، الإجارة ما نفعل؟ نقول: نثبت إجارة المثل
وتكون هذه الأجرة مسلمةً للمالك.
فهذا الغاصب يأخذ من المستأجر الأجرة المسماة، ثم يقوم الغاصب بدفع أجرة المثل
للمالك، سواءً أجر أو لم يؤجر، قال أنا أجرتُ بناءً على أنها ملكي، قلنا سقط
المتبوع وهو الملك فيسقط التابع وهو عقد الإجارة، فسد المتبوع فيفسد التابع.
ومن أمثلة ذلك ما لو كان فسد الديْن كما في المثال السابق، تبين أنه لا يستحق
الديْن، فحينئذٍ تسقط مسئولية الكفيل، لأنه فسد المتبوع وهو المدين فيفسد التابع.
كذلك من القواعد المتعلقة بهذا أنها يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا.
فهناك أشياءٌ لو جاءت وحدها لم نجزها، لكن إذا كانت تابعةً فإننا نجيزها، مثال ذلك:
بيع الغرر، الغرر يبطل عقد البيع، لكن إذا كان هناك غررٌ تابعٌ ففي هذه الحال نقول:
إنه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها، أنت الآن تبيع البيت، ويشتري منك
البيت، هذا الشراء قد يكون فيه غررٌ، لكن ننظر، الغرر إن كان أصليًّا منع من صحة
البيع، وإن كان تابعًا فإنه حينئذٍ يغتفر.
ومن أمثلة ذلك يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها، لو باع شاةً حاملًا يجوز ولا
ما يجوز؟ طيب الحمل هذا باع الحمل وهو مجهولٌ، هنا كان تابعًا فحينئذٍ يغتفر في
التوابع ما لا يغتفر في غيره، لكن لو باع الحمل وحده، حينئذٍ نقول: لا يصح البيع؛
لأنه غررٌ، طيب كيف أجزتم بيع الحمل هناك ولم تجيزوه هنا؟ قلنا أجزناه هناك لما كان
تابعًا، ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها.
مثال آخر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، لو باع
ثمرةً قبل بدو صلاحها على أن تبقى حتى تنضج، قلنا: هذا بيعٌ باطلٌ لنهي النبي صلى
الله عليه وسلم عنه، لكن لو باع نخلةً عليها ثمرةٌ لم تنضج بعد، فحينئذٍ نقول: يصح
البيع، لماذا صححتموه وهناك قلتم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو الصلاح، ثم هنا بعتم
ثمارًا وتمرًا قبل أن يبدو صلاحها، لماذا؟
لأننا هناك كان تابعًا فأجزناه، ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها، لكن لما
بيع التمر وحده قبل أن يبدو صلاحه قلنا: إن العقد لا يصح.
يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع نخلةً قد أبرت فثمرتها
للمبتاع»، يعني: للمشتري، معنى لو باع النخلة بعد التأبير فحينئذٍ ثمرتها للذي
باعه، إذا باع الثمرة بعد التأبير قبل بدو الصلاح قلنا: يصح البيع، ولو اشترط
المبتاع قلنا: هذا شرطٌ صحيحٌ، إذن الحديث نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وفي
الحديث الآخر قال: «من باع نخلةً قد أبرت فثمرتها للذي باع إلا أن يشترط
المبتاع»،الذي هو المشتري، فلو اشترط المشتري الثمرة قبل بدو الصلاح قلنا يصح،
لماذا؟ لأنها وقعت تابعةً ويغتفر في التوابع ما لا يغتفر فيها غيرها.
مثال ذلك: هل يجوز أكل الحيوان غير المذكى؟
نقول: لا يجوز، لكن لو كان هناك جنينٌ في بطن الشاة، فأخرجناه؛ فحينئذٍ هل يلزم أن
يُذكى؟ نقول: لا يلزم، لماذا لم نزكه هنا؟ لأنه تابعٌ، ويغتفر في التوابع ما لا
يغتفر في غيرها.
أريد لكم مثالًا من عجز في السجود عن وضع يديه على الأرض وجب عليه أن يضع رأسه على
الأرض؛ لأن الوجه ليس تابعًا لليدين، لكن من عجز عن وضع جبهته على الأرض فحينئذٍ
يسقط عنه وضع اليدين على الأرض، لماذا؟
لأن اليدين في السجود تابعةٌ للوجه، وبالتالي إذا سقط واجب السجود على الوجه في
السجود فإنه يسقط واجب وضع اليدين على الأرض.
إذن هذه معانٍ من معاني قاعدة التابع تابعٌ، وهناك معانٍ أخرى، نذكر بها مرةً أخرى.
التابع لا يفرد بحكمٍ.
يسقط التابع بسقوط المتبوع، وهذا ما يعبرون عنه، إذا بطل الشيء بطل ما في ضمنه.
كذلك من القواعد: أن التابع لا يتقدم على المتبوع.
كذلك من القواعد: إذا فسد المتبوع فسد التابع، وبعضهم يقول في هذه القاعدة: ما بني
على باطلٍ فهو باطلٌ.
تلاحظون هذه القواعد الفقهية لا يقتصر الاستشهاد بها على المسائل الشرعية، بل حتى
في أعراف الناس وفي أنظمتهم تأتي هذه القواعد، ولذلك مثلًا: جاءنا شخصٌ وتقدم إلى
برنامج الدكتوراة في الجامعة وبدأ يدرس، وبعد مضي سنةٍ تبين أن شهادة الماجستير
التي جاء بها غير مقبولةٍ أو غير معترفٍ بها، أو مزورةٌ، فحينئذٍ نقول: ما بُني على
باطلٍ فهو باطلٌ، فنقول بإلغاء تسجيله في برنامج الدكتوراة.
هكذا في الوظائف، من جاء إلى الوظيفة العليا ولم يقم بإحضار متطلباتها، وبعد ذلك
تبين لنا أنه لم يحضر متطلبات الوظيفة، قلنا ما بني على باطلٍ فهو باطلٌ، وهكذا من
القرارات.
حتى مثلًا في التملك إذا صدر من غير الأهل وظن تملكه وتصرف فيه، بعد ذلك تبين
بطلانه لأنه لم يصدر ممن له حق الأهلية ففي هذه الحال نقول بني على باطلٍ وما بني
على باطلٍ فهو باطلٌ.
القاعدة الأساسية ما هي؟ قاعدة التابع تابعٌ.
هذه القاعدة لها أدلةٌ في الشريعة عديدةٌ، منها:
القضايا التي قرر الشارع فيها أن التابع تابعٌ، أو ما يسمونه دليل الاستقراء، وقد
ذكرنا عددًا من المسائل التي فيها أدلةٌ شرعية، جعل الشارع التابع تابعًا، ولم
يفرده بحكمٍ، واغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، وجعله يفسد بفساد أصله، ولا يفسد
الأصل المتبوع بفساد تابعه في مواطن عديدةٍ أوردنا نماذج منها. إذن هذا دليلٌ
استقرائيٌّ لأحكام الشريعة.
هكذا أيضًا ما ورد في قول الله جلَّ وعلَا: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ إلى أن
قال: ﴿أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ [النور: 31]،
فلما كانوا تابعين لم يفردهم بحكم.
هكذا ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجلان، قال أحدهما: إن ابني
كان عسيفًا عند هذا، فزنا بامرأة، فافتديت ابني بوليدةٍ، يعني جاريةٍ مملوكةٍ ومائة
شاةٍ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبرت أن ما على ابني الجلد، وأن على امرأته الرجم،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والشياة
فردٌّ عليك» لأن استلام هذه الأمور مبنيٌّ على صلحٍ باطلٍ، وما بني على باطلٍ يكون
باطلًا، فأمره بإرجاعه، ثم أمر بجلد ابن هذا الرجل، وقال: «واغدُ يا أنيس إلى امرأة
هذا فإن اعترفت فارجمه».
وفي هذا الحديث دلالةٌ على أنه لما سقط المتبوع سقط التابع.
وهناك نظائر كثيرةٌ في الشريعة تكون المسألة مرتبطةً فيها توابع، وبالتالي: إذا سقط
المتبوع سقط التابع، وإذا بطل المتبوع بطل التابع.
ويمكن أن نمثل للنصوص الواردة في هذا بما سبق أن ذكرناه في مسألة: "بيع الثمرة قبل
بدو الصلاح"، هذا لما كانت مستقلةً، وأما لما كانت تابعةً فإنه جعلها على وفق
الشرط، فهذا دليلٌ على أنه يختلف حكم الشيء حال كونه تابعًا عن حكمه إذا لم يكن
تابعًا.
ومثل هذا: ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «زكاة الجنين زكاة
أمه».
ويدل عليه مثلًا ما ورد من إجماع الأمة على أنَّ الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه
وسلم يشمل أمته، فالأمة تابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما كانت تابعة له، قلنا
التابع تابعٌ فيأخذ حكمه، ولما كان الحكم ثابتًا على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت
لأمته، لأن الأمة تابعةٌ في هذا.
وهذه القاعدة لها فروعٌ وتطبيقاتٌ كثيرةٌ، ومن أمثلة ذلك مثلًا في باب الصلاة إذا
سقط السجود على الوجه سقط وضع اليدين على الأرض، المسافر أو المجنون أو المغمى عليه
إذا سقط في حقه فرض الصلاة سقطت التوابع وهي سنن النوافل التي تكون معها، لماذا؟
لأن هذه توابع تسقط بسقوط متبوعها.
مثالٌ آخر: ابتدأوا بصلاة التراويح ليلة الثلاثين من رمضان، ثم رؤي الهلال أو جاءهم
الخبر بإثبات رؤية الهلال، فنقول: حينئذٍ ثبت أن الليلة من شوال، وصلاة التراويح
تابعةٌ للصيام، فلما لم يصم الغد لم يشرع صلاة التراويح جماعةً، لماذا؟ لأن صلاة
التراويح تابعةٌ لشهر رمضان.
هكذا أيضًا في باب الزكاة، التابع تابعٌ، مثلًا في صدقة الفطر، من كان تابعًا لشخصٍ
وجب عليه أن يخرج الزكاة صدقة الفطر عنه، شخصٌ عنده بنتٌ يجب عليه أن يخرج زكاة
الفطر عنها.
تزوجت أصبحت تابعةً لزوجها، في هذه الحال تجب زكاة الفطر على الزوج ولا تجب على
الوالد.
هكذا في باب النفقات، النفقات تابعةٌ للقريب الغني وبالتالي تثبت أحكامها بالنسبة
لها، وهكذا في أبواب البيوع، وقد تقدم معنا نماذج كثيرةٌ كانت فيها الأشياء التابعة
لها أحكام المتبوع.
في أمور النكاح أيضًا هناك عددٌ من الأمور المتعلقة بالتابع تابعٌ، إذا سقطت أهلية
الولاية عن شخصٍ في ابنته الكبرى، وثبت ذلك عند القاضي، بكونه مجنونًا، أو بكونه
فيه صفةٌ تمنع من استمرار الولاية في حقه، فحينئذٍ تكون البنت الثانية والثالثة
تبعًا للأولى فتسقط ولاية الأب عليهن.
هكذا من القواعد المتعلقة أو من الفروع ما يتعلق بالقصاص، هناك إذا سقطت الدية
معناه أن الكفارة تسقط، لترابطهما.
وهذا يذكرنا باللوازم فإنه إذا كان هناك تلازمٌ بين شيئين، فإذا أثبت أحد الحكمين
لابد أن يثبت الآخر، ولكن تلاحظون أن التلازم مرةً يكون من الجهتين، ومرةً يكون من
جهةٍ دون الأخرى.
إذا كان هناك أبٌ لابد أن يوجد هناك ابنٌ، وإذا وجد ابنٌ لابد أن يكون أبٌ، فهنا
تلازمٌ بين الجهتين.
لكن في مراتٍ يكون التلازم من جهةٍ واحدةٍ، إذا وجد سقفٌ فمعنى هناك أعمدةٌ، لكن لا
يلزم من وجود الأعمدة وجود السقف، فالتلازم هنا من جهةٍ واحدةٍ، هكذا في الأحكام
الشرعية، قد يوجد تلازمٌ بين المسائل، فإذا أثبتَّ شيئًا لزمك أن تُثبت ما يتعلق به
من المسائل.
ومن أمثلة مثلًا هذا، إذا قلت إن الخلع فسخٌ وليس بطلاقٍ، حينئذٍ يلزم عليه عددٌ من
الأحكام، هل يحسب في عدد الطلقات، أو لا يحسب؟، هكذا أيضًا هل ترث أو لا ترث؟ على
تفصيلٍ في ذلك بين الفقهاء.
إذن هناك تلازمٌ بين شيئين، إما من جهةٍ أو من جهتين، وبالتالي إذا أثبت حكمًا لابد
أن تثبت الحكم الموافق له في المحل الآخر.
واضحةٌ قاعدة التابع تابعٌ، فيها إشكالٌ؟ يمكن ننتقل إلى قاعدةٍ أخرى، نعم..
عندنا القاعدة الثانية قاعدة إعمال الكلام أولى من إهماله.
مثال ذلك: إذا تردد الكلام بين أن نعمله وأن نضع له معنى، فهو أولى من أن نهمله وأن
لا نعمل به، إذن إعمال الكلام بأن نضع له تفسيرًا وأن يكون له معنى يمكن تحققه،
وأولى من إهماله أي أفضل وأحسن وأقوى من ترك العمل به، وعدم اعتباره.
وأضرب لكم مثلًا لهذه القاعدة، لو أن شخصًا أوصى بعودٍ لأولاده، فهنا يحتمل معنيان،
عود المعازف وعود الطيب، ولو فسرناه بعود المعازف لأدى ذلك إلى إبطال الوصية، لأن
لا تجوز الوصية في محرمٍ، وإذا فسرناه بعود الطيب فحينئذٍ نقول تصح الوصية، أيهما
أولى أن نبطل الوصية بتفسيرها بالمعازف أو نصححها بتفسيرها بالطيب؟
نقول: إعمال الكلام أولى من إهماله، ما الدليل على ذلك؟ هناك دليلان:
الدليل الأول: أن هذا هو عادة العرب في كلامها، والشريعة قد وردت باعتبار قواعد
العربية.
الدليل الثاني: أن الأصل أن تترتب على الكلام آثاره، والشرع يرتب على الكلام الآثار
المتعلقة به، لأن هذا هو مقصود الشارع، ترتيب آثار الكلام عليه، ويحصل مقصود الشارع
في ترتيب الكلام عليه بإعمال الكلام، وبالتالي يكون إعمال الكلام أولى من إهماله.
مثال ذلك: قال له بعتك السيارة التي في الحوش، وجدنا في الحوش سيارتين، سيارةً لذلك
المتكلم وسيارةً أخرى لشخصٍ آخر، فإذا قلنا: كلامه مترددٌ فحينئذٍ يبطل العقد،
لماذا؟
لعدم العلم بالمبيع، وإذا قلنا: يحمل الكلام على سيارةٍ مملوكةٍ له يصح العقد،
القاعدة هي: إعمال الكلام أولى من إهماله، فنعتبر الكلام ونعمله ونصحح هذا العقد.
هذه القاعدة: "إعمال الكلام أولى من إهماله"، لها قواعد كثيرةٌ مندرجةٌ فيها.
القاعدة الأولى: الأصل في الكلام الحقيقة، ما المراد بالأصل؟
أي القاعدة المستمرة، ونعمل به إذا لم يوجد دليل نفيٍ ولا دليل إثباتٍ.
وقوله الأصل في الكلام الحقيقة، ما معنى الكلام؟ الأصوات والحروف والألفاظ
المفهومة، كما قال ابن مالك: كلامنا لفظٌ مفيدٌ، وما معنى كلامنا الحقيقة؟
الأصل في الكلام الحقيقة، المراد بالحقيقة المعنى الذي وضع الكلام له، أو اللفظ
الذي وضع لمعناه الأصلي، اللفظ أو استعمال اللفظ في معناه الأصلي، هذا يقال له
الحقيقة، فإذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز فالأصل أننا نعمل به في الحقيقة، ولا
ننتقل إلى المجاز إلا لدليلٍ.
مثال ذلك: قال: أُوصي بالقيام على وقفٍ لأولادي، فتنازع أولاده وأولاد أولاده، قال
الأولاد: نحن المأمورن بالقيام على الوقف ونظارته، وقال الآخرون: نحن من أولاده
وبالتالي ندخل معكم في نظارة الوقف، ماذا نفعل؟ نقول حمل لفظ الأولاد لأولاد الصلب
حقيقةً، وحمل لفظة الأولاد على أولاد الأولاد هذا من باب المجاز، والأصل في الكلام
أن يحمل على المعنى الحقيقي.
من القواعد أو مما يمكن أن نفسر أو نأتي به لهذه القاعدة، ما لو قال وهبتك هذه
الشاة، الأصل أن يكون المراد بها هبة تبرعٍ .. فهذا هو الأصل، بالتالي نحمل الكلام
على الحقيقة التي هي بلا عوضٍ، تمليكٌ بلا عوضٍ.
القاعدة الثانية: إذا تعذرت الحقيقة فإننا نفسر اللفظ بالمجاز.
ومثال ذلك: لو أوقف أو لو أوصى لولده بأن يقوم على عملٍ، ولم يكن له أولادٌ؛ فإننا
نحمله على أولاد الأولاد، وهذا وإن كان مجازيًّا؛ لأنه لما تعذرت الحقيقة حملناه
على معناه المجازي، فبذلك في قوله -تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾
[النساء: 11]، أولاد في الحقيقة تطلق ويراد بها أولاد الصلب، ولكن لما لم نجد
أولادًا للصلب حملناها على أولاد الأولاد.
من القواعد التي تتعلق بهذا، أن الأصل في اللفظ المطلق أنه يصدق على أي أفراده،
واللفظ العام يصدق على جميع أفراده.
مثال ذلك: إذا قلت تصدق بريالٍ من مالي، كم يتصدق به؟ بريالٍ واحدٍ؛ لأن هذا اللفظ
بريالٍ لفظٌ مطلقٌ يصدق على الفرد الواحد، وبالتالي لا يتصدق إلا بواحدٍ، لأن
المطلق يحمل على أقل مسماه، وعلى فردٍ واحدٍ، بخلاف ما لو قال: تصدق على كل مَن
مَرَّ بهذا الشارع، هذا اللفظ عامٌّ، كل من تصدق نعطيه من هذا المبلغ.
ومثال هذا: لو قال له: اشترِ لي سيارةً، فاشترى سيارةً، قال: استلم السيارة، فقال:
أنا لا أريد هذا النوع أريد النوع الآخر، يقول: اشتريت سيارةً بطلبك ولم تحدد لي
النوع، وبالتالي لا يصح لك أن تعترض على شرائي.
ومثله في الألفاظ العامة، لو جاء بلفظٍ عامٍّ فالأصل أنه يبقى على عمومه ولا يصح
لنا أن نقيده ببعض أفراده إلا بدليلٍ، لو قال مثلًا: كل مالي صدقةٌ، في الأصل أن
هذا نذرٌ لجميع المال وليس لبعضه، لأن الأصل في الألفاظ العامة أن تحمل على جميع
الألفاظ وجميع الأفراد، وأن لا نقصرها على بعض الأفراد إلا بدليلٍ.
من القواعد المتعلقة بهذا: أن اللفظ إذا تردد بين معانٍ يمكن حمله عليها جميعًا،
فإننا نحمله على جميع المعاني، ومن أمثلة ذلك: ما لو قال: رأيتُ عينه يحسب أن تكون
هذه العين أو قال يتداعى على عينه، يحتمل المراد بها العين الباصرة، يحتمل أن يراد
بها العين الجارية، يحتمل أن يراد بها الذهب، إلى غير ذلك من الألفاظ، وبالتالي
يمكن أن نحملها على جميع أفرادها، إلا أن يرد دليلٌ يدل على أن المراد أحد الأفراد
وليس جميع الأفراد.
من القواعد المتعلقة بقاعدة إعمال الكلام أولى من إهماله، ما يتعلق بقواعد تفسير
الألفاظ بين الكناية في التصريح، واللفظ الصريح يحمل على معناه أصالةً، ولفظ
الكناية لا يحمل إلا بدليلٍ.
أيضًا من القواعد المتعلقة بهذا: أنه إذا تعذر إهمال الكلام حينئذٍ نهمل هذا الكلام
ولا نبني عليه حكمًا، ومثال ذلك: لو قال أنا أقر لك بأنني بعتك العمارة الكبيرة
التي في الشارع الفلاني، فحينئذٍ هو لا يملك هذه العمارة، وبالتالي نقول تعذر إعمال
الكلام ومن ثم فإننا نهمله.
من القواعد أيضًا المتعلقة بهذه القاعدة: أن السؤال معادٌ في الجواب، مثال ذلك: لو
قال: كيف حالك؟ تقول: بخيرٍ، يعني: حالي بخيرٍ، أني بخير، وإذا قال: هل تبيعني
سلعتك؟ قلت: نعم، معناه نعم أبيعك سلعتي، فلأن السؤال معادٌ في الجواب، ومن هذا
المنطلق فإننا نقول: لو سئل الرجل عندك زوجةٌ، قال لا، تقدير الكلام ليس عندي
زوجةٌ، هذا صريحٌ في الطلاق أم كنايةٌ؟ كنايةٌ، ليس من ألفاظ الطلاق الصريحة، ما
فيه لفظ الطلاق، وبالتالي نقول: إن كان ينوي بهذا اللفظ إيقاع الطلاق، وقع به، وإن
لم ينوِ إيقاع الطلاق بهذا اللفظ، فإنه لا يقع الطلاق بذلك.
عندنا قاعدةٌ أخرى أورد لكم فروعها وأسأل عنها: شخصٌ مريضٌ، قال: أنا استطيع أن
أصوم من الصباح إلى العصر، بعد ذلك لن أتمكن من الصوم، يصوم أم لا يصوم؟ لما تقولون
بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، لو قدر أن شخصًا لا يملك صاعًا عند صدقة الفطر لكن
يملك نصف الصاع، فحينئذٍ عجز عن النصف، هل يتصدق بالنصف الباقي؟ نقول نعم، لماذا في
الأولى قلتم إذا سقط البعض سقط الكل، وفي الثانية قلتم الميسور لا يسقط بالمعسور.
مثال آخر: في من عجز عن القيام في الصلاة، لكن يستطيع بقية أركان الصلاة، ماذا نقول
له؟ سقوط البعض لا يعني سقوط الكل، الميسور لا يسقط بالمعسور، لماذا في المسألة
الأولى في الصيام قلتم يسقط وفي الصلاة قلتم لا يسقط؟.
مثالٌ آخر: لو قال لزوجته نصفك طالقٌ، يستمتع بنصفها دون نصفها، ماذا يفعل؟ لم تطلق
كاملةً، لماذا؟ لأن هنا النصف تابعٌ، لو قال: طلقتك نصف طلقةً، نقول: تقع طلقةً
كاملةً، الطلاق لا يقبل التجزئة.
متى نقول ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكره كله؟
ومتى نقول الميسور لا يسقط بالمعسور؟
آتي بأمثلةٍ: في السجود مرةً لما سقط البعض عن الرأس سقط الباقي، ومرةً لم يسقط،
وهكذا يظن في الوضوء، توضأ فلما انتصف الوضوء توقف الماء، بحث عن ماءٍ لم يجد،
يتيمم الباقي أم لا؟ لو قدر أن عنده ماءٌ قليلٌ، إن توضأ غسل نصف الأعضاء دون
جميعها، تقولون مثل الصيام إذا سقط البعض سقط الكل، أم مثل صدقة الفطر؟
إذن عندنا المسائل ثلاثة أنواعٍ:
النوع الأول: نوعٌ لا يقبل التجزئة، وبالتالي إذا سقط بعضه؛ سقط جميعه، مثل:
الصيام، مثل: الطلاق، مثل ..، هذا النوع الأول.
النوع الثاني: ما يقبل التجزئة بالاتفاق، الأشياء التي تقبل التجزئة، فإذا سقط
البعض بقي الباقي، ومن أمثلته في زكاة الفطر، ما رأيكم في الغسل؟ القسم الثاني
يتجزأ، ولذلك لا يرتبط بعضه ببعضٍ ولا يشترط فيه الموالاة.
النوع الثالث: هناك قسمٌ ثالثٌ يقع التردد فيه، هل يقبل التجزئة أو لا يقبل
التجزئة؟
وبالتالي إذا عجز عن البعض هل يسقط الباقي؟ إذا قلنا: إنه يقبل التجزئة، فسقوط
البعض لا يعني سقوط الباقي، وإذا قلنا: لا يقبل التجزئة، فإذا سقط البعض سقط الكل.
أعطيكم أمثلةً: هي من أي الأنواع الثلاثة، النفقة، شخصٌ أوجبنا عليه نفقة قريبه،
ابنه، والده، أو نفقة أخيه، وكان لا يستطيع جميع النفقة ويستطيع بعضها، فحينئذٍ
نقول: الميسور لا يسقط بالمعسور، يجب عليه أن ينفق ما يستطيع.
في الوضوء، هل نقيسه على الغسل؟ وبالتالي نقول: سقوط البعض لا يعني سقوط الباقي، أو
أننا نقيسه على الصلاة، أو على الصيام، نقيسه على إذا سقط البعض سقط الباقي، هذا
مبنيٌّ على أن الوضوء هل هو وحدةٌ واحدةٌ أو هو أجزاءٌ متعددةٌ؟ الغسل أجزاءٌ
متعددةٌ، فإذا عجز عن البعض وجب عليه الباقي، في الوضوء؟
الجمهور يقولون: لا يسقط، فإذا استطاع البعض وجب عليه باقي الوضوء، والقول الثاني
يقول: إذا عجز عن البعض سقط الباقي، ما عنده إلا إناءٌ قليلٌ يريد أن يتوضأ منه
ولكنه لا يكفي لجميع أعضائه، إنما يكفي لبعضها؟ الجمهور يقولون يغسل ما استطاع من
الأعضاء، ويتيمم بالباقي، هنا اعتبروه مما يتجزأ ويقبل التجزئة، وبالتالي قالوا
سقوط بعضه لا يعني سقوط جميعه، ويستدلون عليه بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا
أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم».
وهناك قولٌ يقول: إذا سقط بعض الوضوء سقط جميعه، حفظ الماء ليشربه، وبالاتفاق أنه
إذا كان مضطرًا للماء فحينئذٍ لا يتوضأ.
أيهما ترجحون؟ ولماذا؟ الوضوء، تضعها في الغسل وبالتالي يغسل ما استطاع كما قال
الجمهور، وتضعها مثل: الصيام، أنا أُقَرِّب لكم، هل إذا قطع النية أثناء الوضوء، هل
ينقطع الوضوء أو لا ينقطع؟
قال ما عاد أن أتوضأ، ما تدري اتخذت بعض الأعضاء وغسل الباقي، إذا قلنا هو وحدةٌ
واحدةٌ، حينئذٍ إذا نوى قطع الوضوء فإنه ينقطع، وإذا أراد الوضوء مرةً أخرى يلزمه
إعادة، فإذا هو أجزاءٌ، نقول لكل جزءٍ نيةٌ مستقلةٌ، وبالتالي إذا قطع نية الوضوء
في أثناء وضوئه ثم استأنفها فإنه يكمل، هي تراها مترابطةً، إذا اعتبرناها وحدةً
واحدةً فلها أحكامها، وإذا اعتبرناها وحداتٍ متعددةً لها أحكامٌ، إذا كان وحدةً
واحدةً فسقوط بعضها يسقط باقيها، وإذا قلنا هو وحداتٌ مختلفةٌ فسقوط البعض لا يعني
سقوط الجميع.
مثال ذلك: في الحج كل واجبٍ مستقلٌ، سقوط بعض الواجبات لا يعني سقوط باقي الواجبات،
لكن في رمي الجمار، من كان يعجز عن رمي الجمار السبع واجب عليه السبع، يعجز عن خمسٍ
ويستطيع اثنين، بعض العلماء يقول هذا يقبل التجزئة وبالتالي يقول يرمي اثنين ويوكل
في الباقي، وآخرون قالوا هو واجبٌ واحدٌ لا يقبل تجزئةً، فإذا عجز عن البعض عجز عن
الجميع، وهكذا مثلًا في بقية واجبات الحج، وكذلك في بقية الواجبات الشرعية.
إذن مبنى هذه المسائل هل هذا الحكم يقبل التجزئة أو لا يقبل التجزئة، فإذا قلنا
بأنه يقبل التجزئة، فإذا سقط البعض لا يدل على سقوط الباقي، فإذا قلنا لا يقبل
التجزئة فإذا سقط البعض سقط الباقي.
إذن في هذا اليوم أخذنا قاعدتين من القواعد الكلية، وهما:
القاعدة الأولى: قاعدة التابع تابعٌ.
والقاعدة الثانية: إعمال الكلام أولى من إهماله، وهذه القواعد مهمةٌ؛ لأنه يترتب
عليها قواعد فقهيةٌ عديدةٌ، ولأنها تدخل في أبوابٍ مختلفةٍ من أبواب الفقه، ولها
ثمراتٌ تطبيقيةٌ كثيرةٌ في العديد من الأبواب الفقهية، وهذا يدلنا على قيمة هاتين
القاعدتين، وأهمية تطبيقها على المسائل الفقهية.
أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يوفقكم لكل خير، ويرزقكم العلم النافع والعمل الصالح،
كما أسأله -جلَّ وعلَا- أن يصلح أحوال الأمة، ويردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، ويوفق
القائمين على هذا الصرح التعليمي، وأسأله -جلَّ وعلَا- للأمة صلاحًا وسدادًا
واستقامةً لأمورها.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لكل خيرٍ، اللهم اجعلهم من أسباب الهدى والتقى
والعفاف والغنى.
اللهم خذ بنواصيهم إلى التقوى، اللهم يا حي يا قيوم نسألك حقنًا لدماء المسلمين في
كل مكانٍ.
اللهم انشر الأمن والاستقرار في جميع الرباع برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.