الدرس الأول

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

17015 9
الدرس الأول

كتاب التوحيد 2

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذا الدرس الجديد من دروس شرح (كتاب التوحيد) للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يشرحه لنا الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فحياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا بكم وبالإخوة جميعًا وبالحضور، نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا ولكم ولجميع المسلمين العلم النافع والعمل الصالح، اللهم آمين.
{أستأذنكم في قراءة المتن.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ولا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ .
وَقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُمْ وَيَومَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِركِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ )
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد؛ فنرحب بكم جميعًا، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا ولكم التوفيق لِمَا يُحبه الله ويرضاه.
هنا في هذا الباب بعدَ مجموعة من الأبواب أوردها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- في تقرير التوحيد والتحذير من الشرك، ذكر في هذا الباب أدلة وبراهين على التوحيد من عدة اعتبارات، ننظر فيها وسيتضح لكل عاقل أهمية التوحيد وعظم شأنه، وبُطلان الشرك، وأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي يستحق أن يُعبد، وأنَّ عبادة من سواه باطلة، وأنها هي الشرك الأكبر، أعني: صرف العبادة لغير الله.
لننظر فيما ذكره الشيخ هنا ولنتأمل، قال: (باب قول الله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ...﴾ ).
هذه الآيات الكريمة في خاتمة سورة الأعراف، فيها الرد على المشركين، وفيها بيان حال المشركين، ماذا كان حالهم؟ وما هي معتقداتهم؟ وما هي عباداتهم؟
قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿أَيُشْرِكُونَ﴾ الهمزة هنا للاستفهام الاستنكاري، يعني: هذا إنكار على هؤلاء، إذًا الاستفهام الاستنكاري يُستفاد منه أنَّ الأمر المستنكَر تأباه العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة، ولكنهم وقعوا فيما يخالف الفِطَر، وفيما يخالف العقول، إضافة إلى ما يخالف الوحي المنزَّل، وما جاءت به الرسل -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ .
قوله: ﴿يُشْرِكُونَ﴾ بماذا كانوا يوصفون؟ يوصفون بالمشركين، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 1]، وذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- لفظ الذين أشركوا، والمشركون، والمشركين، في مواضع كثيرة من القرآن.
 معنى "أشركوا": أي جعلوا شريكًا مع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأنهم هم أنفسهم إذا قيل لهم: مَن خلقكم؟ قالوا: الله. وإذا قيل لهم: من رزقكم؟ قالوا: الله. وإذا قيل لهم: من نزَّل من السماء ماء؟ قالوا: الله؛ إذًا الشرك هنا هو شرك في العبادة؛ لأنهم لو قيل لهم: من خلقكم؟ فقالوا: خلقنا الله، وخلقتنا الأصنام؛ لكان الشرك في الربوبية، لكنهم لم يقولوا هذا.
إذًا في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ ، هذا برهان واضح في حقيقة الشرك الذي كان عليه كفار قريش وأشباههم، ممن دعاهم النبي ﷺ إلى التوحيد.
وفي قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿أَيُشْرِكُونَ﴾ معنى هذا أنهم عبدوا مع الله غيره، إذًا هُم عبدوا الله وعبدوا مع الله غيره، هُم لم يخصوا ذلك الغير بالعبادة، وتركوا عبادة الله مُطلقًا، لا؛ هم عبدوا الله، وصرفوا بعض العبادات لله، فهذه العبادات التي صرفوها لله -عز وجل- منها ما أشركوا فيها مع الله، وهذا واضح كثير في القرآن لمن تدبره، لكن هذا الذي أشركوه مع الله وصرفوا له شيئًا من العبادة، ما حاله؟
ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أربع صفات له في هذه الآية، كل صفة منها تدل على بطلان عبادة هذا المشرَك مع الله:
الأولى: لا يخلق شيئًا.
الثانية: وهم يخلقون.
الثالثة: ولا يستطيعون لهم نصرًا.
الرابع: ولا أنفسهم ينصرون.
وهذا في كل المعبودات من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا وصفها، فقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئً﴾ "شيئًا" نكرة في سياق النفي ﴿لَا يَخْلُقُ﴾ ، و"ما" موصولة بمعنى: "الذي".
وانظر إلى ما ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة الحج: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابً﴾ [الحج: 73]، فهذه من أحقر المخلوقات، إلى اليوم جميع أهل الأرض، جنهم وإنسهم لا يستطيعون ذلك، إذًا هذا برهان، يعني: لا الملائكة ولا الرسل -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ولا الجن ولا الإنس ولا الشمس ولا القمر ولا سائر المخلوقات تخلق شيئًا.
ولهذا نقول -أيها الإخوة: من براهين التوحيد أنه لا يوجد مَن قال: إنه خلق السماوات والأرض، وخلق الكون، وخلق المخلوقات، إلا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وكل من قال شيئًا من بني آدم من هذا فيعدُّ عند الناس من المجانين، أو يلحق بالمجانين، ويتأسف على فقدانه للعقل، حيث لا يمكن أحد أن يقول هذا الكلام، وهذا من براهين التوحيد، فالألوهية من براهين التوحيد، والربوبية أيضًا من براهين التوحيد والرد على الملاحدة.
قوله: ﴿مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئً﴾ هذا صفة لازمة لكل المخلوقات؛ لأنها مخلوقة، والمخلوق لا يخلق، هو مخلوق كيف يخلق؟! هو كان عدم، ثم خلق، ثم يؤول إلى العدم، الذي خلقه هو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فالولي الذي تعبده من دون الله -يا من تصرف العبادة للولي- هذا الولي قبل مدة من الزمان كان عدمًا، ثم وُلد، ثم مات بعد ذلك مدة أرادها الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهو الآن عدم في حكم العدم لأنه ميت، كيف تعبده من دون الله؟! هذا لا يخلق لأنه مخلوق.
ولهذا الرد عليهم الصفة الثانية، فقال: ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ ، يعني: هم أنفسهم مخلوقون وكانوا عدمًا، وهذا برهان على بُطلان عبادتهم من دون الله أيضًا.
الثالثة قال: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرً﴾ ، إذا جاء أحد منهم في كربة وفي شدة؛ فهذا الميت أو هذا الصنم أو هذا الحجر أو هذا الشجر لا يمكن أن يكشف لك المرض أو ينصرك على عدو، لا يستطيع هذا الشيء أبدًا، هو فاقد! هو لا يملك شيئًا!
الوصف الرابع: ﴿وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ ، حتى نفسه لا يستطيع أن ينصرها.
فهذه أربعة أوصاف كلها الواحد منها يبين بطلان عبادة مَن سوى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأن صرف العبادة له منافٍ للعقل والفطرة، وموجب للإنكار عليه، هذا معنى قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ .
انظر الآن -وذكرته في درس سابق- بعض من يزعم أنه ولي ثم يقدسونه بعد مماته ويبنون عليه ضريحًا وقبة ويعبدون ويهتفون باسمه وينادونه، هو كان في حياته لا يملك شيئًا، وجرى عليه الموت ثم ذهب وترك الدنيا، قبل أن يجري عليه مرَّ بأمراض ومرَّ بأسقام؛ فهو يحتاج المساعدة ويحتاج إلى الدواء ويحتاج إلى الطعام ويحتاج إلى الشراب؛ كيف الآن أنت تتجه بقلبك إليه وتدعوه من دون الله؟! فكل هذا من براهين التوحيد وإبطال، هذه الآية الأولى.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ ، وهذه الآية في سورة فاطر من أعظم براهين التوحيد.
قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ هل الدعاء هنا دعاء عبادة أو دعاء مسألة؟ أو يشمل الأمرين؟
الجواب: يشمل الأمرين، فدعاء العبادة مثل: الصلاة والذكر والسجود والركوع والطواف.
ودعاء المسألة: هو السؤال الصريح، مثل: اللهم أعطني أو اغفر أو ارحمني.
قوله: ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ ، أي: من دون الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ومن دون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فيشمل جميع المخلوقات.
ما حالهم؟ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يخبر عن حالهم، ولهذا قال في آخر الآية: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ ، والله هو العليم الخبير، هو الذي يعلم أحوال خلقه وشؤونهم.
قوله: ﴿ما يملكون﴾ "ما" هنا نافية.
قوله: ﴿مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ ، القطمير: هو الغشاء الرقيق على نواة التمر، يعني: شيئًا يسيرًا جدًّا، فحتى التمرة ما يملكونها، وهذه النواة تجد عليها غلافًا رقيقًا جدًّا شفافًا، لو أكلته ما شبعت ولا يغني عنك شيئًا، حتى التمرة لو أكلتها وحدها فهي شيء يسير جدًّا، وهذا القطمير أقل وأقل، فهم لا يملكون حتى هذا القليل الحقير من الطعام.
قوله: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ ، رب العالمين يُبين لنا في هذه الآية الكريمة أحوال هؤلاء المدعوين، وأحوال هؤلاء المشركين، وهذا تنبيه لنا على حقيقة الشرك، ما هو شركهم؟ ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾ .
هنا نقف وقفة للإخوة الكرام! الآن هناك من يقول: أهم شيء هو توحيد الربوبية، إذا أتيت بتوحيد الربوبية قمت باللازم، وهو أن تعتقد أنَّ الله الخالق هو الرازق المدبر فقط، تعبده أو تعبد غيره، تسجد له أو تسجد لغيره؛ هذه أغلاط! الآن هناك ناس يدعون إلى هذا الكلام، وبالتالي يرتبون عليه أنَّ الرجل لو سجد لغير الله، أو ذبح لغير الله، أو استغاث بغير الله، أو طاف بالقبور وطلب منهم المدد والحاجات؛ يقولون: إذا كان يقول: الله الخالق الرازق، ويقول: لا إله إلا الله؛ فهذا ما يضره! ويشغلون الناس بهذا الغثاء وهذا الباطل، فيجعلون التوحيد فقط هو توحيد الربوبية، والآية ردت عليهم. كيف ردت عليهم؟
لنتأمل سويا! قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ ، لو كان على مذهب هؤلاء -وهو مذهب باطل- لو كان المقصود هو هذا، لصار الاعتقاد هو الذي يكفي، بمعنى أنك تعتقد أن الله الخالق الرازق الرب، ومتى يكون الشرك؟ أن تعتقد أن معه شريكا في الخلق، هذا هو الشرك عندهم فقط، لكن الآية ردت عليهم، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ والذين تدعون، هذا تصرف وفعل من العبد، ليس مجرد اعتقاد.
ثم قال: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُو﴾ ، إذًا هذا عمل قام به هؤلاء -كفار قريش- أول مَا نزل القرآن بتكفيرهم والحكم بشركهم كانوا يعملون أعمالًا، وليس مجرد الاعتقاد فقط في المعبودات أنها تخلق أو ترزق، لا، ولهذا قال: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ﴾ يعني: هذا حال كفار قريش وغيرهم ممن نزل القرآن بتكفيرهم، ممن صرف العبادة إلى غيره سبحانه، كانوا يدعونهم، ويسألونهم، ويطلبون منهم.
قال: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُو﴾ ، شيء يُسمَع أو شيء يُعتَقَد؟ لو كان يُعتقد لكان محله في القلب وفي العقل يعني ما يُتكلم به، فقط عند السؤال: ماذا تعتقد؟ فيُعبِّر عن عقيدته، لكن هنا يفعلون أفعالًا، ومن جملة الأفعال الدعاء.
قال: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾ وهذا الدعاء عمل، فصرفوا هذا العمل -الذي هو عبادة- لهم، إذًا هذا هو الشرك وليس كما يزعم هؤلاء أن الشرك فقط في الربوبية؛ بل الشرك يكون في الربوبية ويكون أيضًا في توحيد الألوهية وهو الشرك الأكبر المنتشر والأكثر انتشارًا.
قال: ﴿وَلَوْ سَمِعُو﴾ ، على سبيل التنزُّل، أي: لو كانوا يسمعون، وهذا الخطاب فيمن؟ من الذي يقال فيه ﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ ؟
نوعان من معبوداتهم:
النوع الأول: أناس من البشر أو من الجن وماتوا أو غابوا عن الأنظار فيدعونهم.
النوع الثاني: من الجمادات مثل الأصنام أو الأحجار أو الأشجار.
فهذه الآية تشمل هؤلاء وهؤلاء، مَن عبد هؤلاء أو من عبد هؤلاء؛ كله سواء.
قال: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ ، سماه الله شركًا.
وهذه من يعني الآيات الواضحة ومن براهين التوحيد التي تبين أن مَن صرف العبادة أو أي نوع من أنواعها لغير الله فقد وقع في الشرك.
إذا قيل: من أين أخذتم أن المقصود العبادة؟
نقول: أخذناها من قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ وقوله: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ﴾ ؛ لأنَّ الدعاء يشمل دعاء العبادة ويشمل دعاء المسألة، لأنَّ دعاء العبادة من حيث المعنى هو طلب، الذي يسجد ويطوف ويتصدق هو من حيث المعنى هو يطلب، فهذا الدعاء من هذا المعنى.
{أحسن الله اليكم.
قال: (وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: شُجَّ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟» فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عِمْرَانَ: 28].
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْفَجْرِ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانً»، بَعْدَ مَا يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ»؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عِمْرَانَ: 28]".
وَفِي رِوَايَةٍ: يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عِمْرَانَ: 28]".
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيهِ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشُّعَرَاءُ: 214]، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ -عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ- لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئً»)
}.
بعد ما أورد هاتين الآيتين أورد حديث أنس وحديث عبدالله بن عمر وحديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وفي هذه الأحاديث بيان منزلة النبي ﷺ ومكانته العظيمة، وفيه أنه هو أشرف الخلق، وسيد ولد آدم، وقد جرى عليه ما جرى من البلاء والابتلاء والخطوب العظيمة، ولم يدفع عن نفسه ﷺ ما قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يجري عليه لحكمة بالغة، ليكون عبرة لجميع أهل الأرض، وهو أنَّ الرسول ﷺ ليس إلهًا يُعبد مع الله، وأنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لا يُعبدون مع الله فضلًا عمَّن دونهم، فإذا جاء بعض الناس يغلو في بعض الصالحين أو يغلو في بعض الأولياء أو يغلو في بعض يعتقد فيهم الإمامة أو غير ذلك؛ فنقول له: انظر! هذا أفضل الخلق وسيد ولد آدم ﷺ جرى عليه ما جرى من الخطوب، وهذا واضح جدًّا.
قال: (وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: شُجَّ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ)، يوم أحد: يعني في غزوة أحد.
والشَّج: هو ضرب في الرأس بالسيف أو نحوه، يعني أصابه ضربة في رأسه ﷺ.
قال: (وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ)، السن الرباعية يعني الرابعة في مقدمة الأسنان، يعني من شدة ما جرى في الحرب من مقابلة العدو والكرِّ والفرِّ حصل عليه ﷺ هذا، وفي الصحيح أيضًا أن حلقتا المغفر دخلت في وجنتيه ﷺ حتى سال الدم.
قال: (فَقَالَ ﷺ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟» فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ )، وهذا برهان من براهين التوحيد، وأنَّ أفضل الخلق، وسيد المرسلين، وإمام المتقين ﷺ لم يدفع عن نفسه هذه الأمور، وهذا يُبين لك أنَّ جميع الخلائق كلها محتاجة إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي بيده كل شيء، إذًا كيف تعبد مع الله غيره؟ كيف تعبد النبي؟ أو تعبد الولي؟ أو تعبد الرجل الصالح؟ كل هذا باطل! فالنبي ﷺ والصالحون من الصحابة وكلهم صالحون -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين- ومن جاء بعدهم من التابعين والأولياء، كلهم لا يدفعون عن أنفسهم إذا قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم شيئًا، فلا يعبدون مع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحدًا.
وهكذا في الحديث الآخر قال: (وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْفَجْر)، هذا من القنوت على العدو، والقنوت في النوازل، وهذا ثابت في السنة.
 قال ﷺ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانً»، سيأتي تسميتهم، يلعنهم النبي ﷺ ويدعوا عليهم واحدًا واحدًا بأسمائهم.
قال: (بَعْدَ مَا يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ»؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عِمْرَانَ: 28].
وَفِي رِوَايَةٍ: يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ )
، وهؤلاء الثلاثة الذين سموا هنا في هذا الحديث كلهم أسلموا، وكلهم من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جمعين- فكان أمرهم أول الأمر أعداء للنبي ﷺ وكانوا من المشركين، ثم دعا عليهم النبي ﷺ يوم أُحد، انظر! دعا عليهم الرسول ﷺ ويطلب من الله أن يلعنهم، يدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يلعنهم.
وفي هذا المقام تذكر أن صلاة الفجر يصليها مع النبي ﷺ الصحابة، والصحابة هم خيار الناس بعد الأنبياء، فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة، كل هؤلاء يصلون مع النبي ﷺ، والنبي ﷺ يدعو على هؤلاء بأسمائهم، وهم يقولون خلفه: "آمين آمين آمين"، هؤلاء سادات الأولياء، وأفضل الأولياء بعد الأنبياء، هؤلاء أفضل الخلق بعد الأنبياء، يقولون: اللهم استجب، آمين آمين؛ ومع ذلك أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ .
ولهذا نقول: هذا من براهين التوحيد، يعني: لا تُصرف العبادة لا للنبي ﷺ، ولا لغيره من الناس، وهذا كله يُبين لك بُطلان صرف العبادة لغير الله، كما يقع فيه بعض المشركين للأولياء أو للصالحين أو الجن أو الملائكة؛ كل هذا باطل، فالذي يملك الأمور والذي بيده التدبير والذي يُدعى هو الله وحده لا شريك له.
وهذا يبين لك أنَّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعلم بأحوال عباده، والله هو الحكيم العليم، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ولا تيأس من روح الله، وهذا يُبين لنا أنَّ الهداية بيد الله، أناس بلغوا من الأذى والعداوة الشرسة مبلغًا عظيمًا؛ لأنهم عادوا النبي ﷺ، ثم تغيرت الأمور وشرح الله صدورهم للإسلام فأسلموا، وهذا يُبين لك أنَّ الأمر بيد الله سبحانه، وأنَّ الهداية بيد الله، لا تيأس من روح الله، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يهدي ضال المسلمين وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
وهذه الجمعية -جمعية مباركة- اسمها (جمعية هداة) جمع هادي، والهادي هو الذي يسير على نهج النبي ﷺ، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- للنبي ﷺ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ ، فالداعي إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- والعالم والمربي والمعلم والموجه ومدير المدرسة والأب في البيت ليس لهم من الأمر شيء، الأمر كله بيد الله، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لكن لا نيأس من روح الله ولنتعلق بالله.
ثم ختم هذا الباب العظيم بحديث أبي هريرة، قال: (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيهِ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشُّعَرَاءُ: 214]، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ -عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ- لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئً»).
وهذا برهان واضح من براهين التوحيد، انظر! أشرف الخلق وأفضلهم -صلوات الله وسلامه عليه- لا يغني عنهم من الله شيئًا.
معنى: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ»، أي: اشتروا أنفسكم بالإيمان بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وبرسوله، اشتروا أنفسكم بالتوحيد، اشتروا أنفسكم القيام بأوامر الله، وترك نواهيه والتقرب إليه، وصرف العبادة له والحذر من الشرك؛ هذا الذي ينقذكم من النار، هذا معنى: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ».
كيف يشتري الإنسان نفسه؟
أن يعتقها من النار، ولا يكون هذا إلا بالتقرب إلى الله، وصرف العبادة لله وحده لا شريك له.
قوله: «لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئً» يعني: قرابتي، هذا العباس هو عم النبي ﷺ، ومع كونه عمًّا للنبي ﷺ والمعروف أنَّ الإنسان يدافع عن أقاربه، لكن في أمر الدين، في أمر الإيمان، في أمر التوحيد؛ بين النبي ﷺ البيان الواضح، أنَّ من خالف الدين، وخرج عن الدين الإسلامي، وبقي على الشرك والكفر؛ لا يمكن أن يغني عنه شيئًا -عليه الصلاة والسلام.
فهذا هو طريق النجاة، هو الإسلام، هو الإيمان، هو التوحيد لله رب العالمين، واتباع رسوله ﷺ.
ثم ذكر بعد العباس صفية، وهي عمته ﷺ، ثم ذكر بعد صفية فاطمة وهي ابنته ﷺ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين-، لكنه في شأن فاطمة قال: «سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ»؛ لأنه يجب على الأب أن ينفق على أبنائه وبناته، يستطيع أن يعطيها من المال، وأن ينفق عليها مما يسره الله له، لكن النجاة من النار ودخول الجنة والحصول على رضا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا لا يكون إلا بالتوحيد والإيمان، وكل هذا يعدُّ من براهين التوحيد، ولهذا الشيخ محمد عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ- لَمَّا ذكر هذه المسألة قال: (جِدُّهُ ﷺ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِحَيْثُ فَعَلَ مَا نُسِبَ بِسَبَبِهِ إِلَى الْجُنُونِ وَكَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ الْآنَ)، يعني النبي ﷺ صعد على الصفا، وقال: «خَرَجَ رَسولُ اللهِ ﷺ حتَّى صَعِدَ الصَّفا، فَهَتَفَ: يا صَباحاهْ، فقالوا: مَن هذا الذي يَهْتِفُ؟ قالوا: مُحَمَّدٌ، فاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فقالَ: يا بَنِي فُلانٍ، يا بَنِي فُلانٍ، يا بَنِي فُلانٍ، يا بَنِي عبدِ مَنافٍ، يا بَنِي عبدِ المُطَّلِبِ، فاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فقالَ: أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بسَفْحِ هذا الجَبَلِ، أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: ما جَرَّبْنا عَلَيْكَ كَذِبًا، قالَ: فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ، قالَ: فقالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لكَ أما جَمَعْتَنا إلَّا لِهذا، ثُمَّ قامَ فَنَزَلَتْ هذِه ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ »[1]، يتهكم بالنبي ﷺ فأنزل الله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ ، وأبو لهب هذا من أشد الناس عن النبي ﷺ وكان مؤذيًا، فالنبي ﷺ له أربعة أعمام أدركوا الدعوة: أبو لهب وأبو طالب؛ وكلاهما لم يسلم، لكن أبا لهب كان شديد الأذى للنبي ﷺ ومات على كفره، والثاني أبو طالب، وكان يحمي النبي ﷺ ويدافع عنه ويذود عنه، وحرص النبي ﷺ على دعوته، ولم يهتدِ ولم يسلم حتى مات على غير الإسلام، فقال النبي ﷺ: « لَأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَنَزَلَتْ: ﴿ما كانَ للنبيِّ والذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولو كَانُوا أُولِي قُرْبَى، مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لهمْ أنَّهُمْ أصْحَابُ الجَحِيمِ﴾ »[2].
أمَّا العمان اللذان أسلما: فحمزة أسد الله ورسوله، والثاني العباس بن عبد المطلب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وعن جميع الصحابة أجمعين.
إذًا الأقارب للنبي ﷺ والأباعد كلهم بمنزلة واحدة من جهة أنه لا يجوز صرف العبادة إلا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا ينجُ أحد منهم إلا بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ.
وفي قوله ﷺ: «سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ»، دليل على الأخذ بالأسباب وأن هذا واجب، وأنه لا بأس أن الإنسان يسأل الذي عنده قدرة وهو حي حاضر، فلو جاء إنسان بنت أو ابن إلى أبيه وقال: يا أبي أنا أحتاج إلى كساء، أو إلى طعام أو أحتاج إلى نفقة؛ فهذا سؤال جائز ولا ينافي التوحيد، لكن لو جاء هذا الابن إلى ميت أو غائب يخاطبه؛ ويقول: أعطني مالًا؛ فهذا شرك، فالأمور التي فيما يقدر عليه المخلوق لا بأس بها.
والشيخ أيضًا ذكر المسألة الثالثة عشرة والأخيرة فقال: (قَوْلُهُ لِلْأَبْعَدِ وَالْأَقْرَبِ: «لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئً»، حَتَّى قَالَ: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ.. لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئً»، فِإِذَا صَرَّحَ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ بِأَنَّهُ لَا يُغْنِي شَيْئًا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَآمَنَ الْإِنْسَانُ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، ثُمَّ نَظَرَ فِيمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِ خَوَاصِّ النَّاسِ الْيَوْمَ، تَبَيَّنَ لَهُ تَرْكُ التَّوْحِيدِ وَغُرْبَةُ الدِّينِ).
الخواص بعضهم صار يعتقد في الأولياء أنه يغني من الله، حتى يقول بعضهم: "يا عبد القادر يا جيلاني، يا متصرف في الأكوان". وبعضهم يقول: "يا خائفين من التتر، لوذوا بقبر أبي عمر، ينجيكم من الخطر"، إلى آخره...؛ تبيَّن له ترك التوحيد وغربة الدين -نسأل الله العافية والسلامة.
ولهذا نقول: هذا من براهين التوحيد.
وبهذا نكون وصلنا إلى ختام هذا الباب الذي ذكر فيه الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- برهانًا عظيمًا من براهين التوحيد، ونأخذ ما تيسر من الباب الثاني الذي يليه، ثم نكمل في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى.
{أحسن الله إليكم.
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على التوحيد والسنة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سَبَأٌ: 23].
فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَصَفَهُ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ، فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ»)
}.
هذا الباب أيضًا برهان من براهين التوحيد، بل اشتمل على أكثر من برهان، والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر هذه الآية الكريمة في سورة سبأ، وذكر في تفسيرها حديثين، حديث أبي هريرة وحديث النواس -كما سيأتي.
وهذه الآية الكريمة حري بنا أن نقرأها والتي قبلها: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ .
قال أهل العلم: هذه الآية تقطع عروق الشرك من القلب؛ لأنَّ مَن يصرف العبادة لغير الله كأصحاب القبور أو الملائكة أو الجن، يدعونهم من دون الله، ما الذي يريدونه من هؤلاء؟ ما الذي يتخيله في هؤلاء؟ فإن قال: إنهم يملكون، فجاء الرد في الآية: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ﴾ لا يملكون ماذا؟ مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
الثاني قال: ليسوا يملكون لكنهم يشاركون، قال الله: ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ .
قالوا: هم يعينون الله هم وزراء يحتاجهم الله ويعينوه، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ .
إذًا لا يملكون ولا يشتركون مع الله في الملك، ولا يعاونون الله، ولا ليس الله بحاجتهم؛ فأبطل الله هذه الأمور ثلاثة.
فيقول قائل المشركين: هم سيشفعون لنا في حوائجنا في الدنيا أو في الآخرة؛ قال الله: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ ، إذًا ما بقي شيء يجعلك تتوجه إليهم، توجه إلى الله الخالق الرازق.
قوله: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ ، وهذا يُبين لنا شرطي قبول الشفاعة:
الأول: إذن الله للشافع.
الثاني: أن الله يرضى عن المشفوع له.
قال: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ ، نفهم أنَّ الآية الكريمة سيقت مساق ذكر البرهان لإبطال الشرك، فبعد أن ذكر هذه الأمور الأربعة وأنها باطلة والشفاعة تكون بإذن الله؛ ذكر بعدها برهانًا، وهو قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ﴾ ، قال العلماء بالتفسير: أي زال الفزع وذهب الفزع عن قلوبهم.
إذًا تدل على أن الملائكة حصل لهم فزع عظيم جدًّا، ثم لما زال هذا الفزع ماذا قالوا؟
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ ، وجاء تفسيرها في الصحيح: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ...»، الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي يدبر الأمر، ولذلك إذا كانت لك حاجة وإذا كان عند أمر تريده فتوجه إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالدعاء، فهو الذي يقضي الأمور، وهو الذي يقضي الحاجات، وهو الذي يغيث الملهوفين، وهو الذي يجيب الدعوات، وهو الذي يكشف الكربات، وهو الذي يدبر أمر الخلاء كلها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، يحي ويميت، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع.
إذا قضى الله الأمر في السماء ماذا يحدث؟
هذا الأمر غيبي بالنسبة للمخلوقين في الدنيا لا يدرون، لكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنزل القرآن، وقال: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ﴾ ، والنبي ﷺ وضحها وقال: «ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَ»، إذًا الملائكة لها أجنحة وضربها بالأجنحة دليل على تعظيم الرب سبحانه والدليل على الخوف الذي أصابه.
قوله: «خَضَعَانً»، يعني خوفًا وخضوعًا لله.
قوله: «لِقَوْلِهِ»، يعني: لقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنهم يسمعون كلام الله.
قوله: «كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ»، كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- المسموع للملائكة كأنه سلسلة من الحديد على صفوان -وهو الحجر الأملس- فالحجر الأملس إذا سقطت عليه سلسلة ضخمة يكون لها صوت يتقعقع لا يمكن تداركه، ولا يمكن الإحاطة به، وهذا تقريب وليس تشبيهًا، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته.
قال: «يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ»، يعني هذا الصوت الذي تكلم الله به وقوله -جَلَّ وَعَلَا- ينفذهم.
ما معنى ينفذهم؟ يعني يدخل فيهم فيصيبهم فزع.
قال: «حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟»، إذًا الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول ويتكلم وهذا فيه إثبات لصفة الكلام.
قال: «حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَصَفَهُ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ، فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»، أي: فرَّق بين أصابعه، يعني أن الجني فوق والجني تحته وجني تحته وجني تحته وهكذا، فيسمع الكلمة مما قضاه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، مثلا قضى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنه يموت فلان أو قضى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنه يحدث حرب، أو قضى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنه يحدث كذا وكذا، فيسمعه مسترق السمع هذا، ثم يلقيه على من تحته، ثم يلقيه على من تحته.
قال: «حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ».
وهذا فيه عدة فوائد، من ضمن هذه الفوائد: أنه يعني لا يجوز تصديق السحرة والكهان ولا الذهاب إليهم وأن هذه بضاعتهم وهذا مصدرهم وهذا مصدر التلقي، وأن هذا الكلام الذي يصل شي يسير جدًا ويحرفونه ويزيدونه ليفتنون الناس ويكذبون.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
- إثبات كلام الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
- وفيه أيضًا أن هذا هو حال الملائكة مع الله سبحانه يخافون من الله خوفًا شديدًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ ﷺ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ بِالْأَمْرِ، تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ، أَوْ قَالَ: رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، خَوْفًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ: قَالَ الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»)}.
هذا الحديث كما في حديث أبي هريرة فيه توضيح لهذا الأمر العظيم الذي ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾ ، ففي الحديث هنا قال: «أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ، أَوْ قَالَ: رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، خَوْفًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدً»، فهذا كله هو الفزع العظيم الذي يصيبهم، ويزول هذا الفزع بأمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإذا زال هذا الفزع يقولون كلهم: " ماذا قال ربنا يا جبريل؟". فيقول جبريل: «قَالَ الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ»، وهذا يبين هذا الأمر العظيم الذي يخفى على الناس ويخفى على العباد ولا يُعلم إلا بالوحي، فهذا يبين عظمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وجلاله، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يستحق أن يعظَّم وأن يُهاب ويُجل ويُخاف منه، وإذا كان شأن الملائكة -وأعظمهم جبريل وسيد الملائكة جبريل- يقع منهم هذا الخوف العظيم من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهذا الخضعان لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا السجود والخرور تعظيمًا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ كل هذا يبين بطلان التعلق بغير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وبطلان التعلق بالمعبودين من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأنَّ الواجب على العباد وعلى الجن والإنس أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يُخلصوا له العبادة.
وفي هذا الحديث التَّصريح بصفة الكلام لله -عَزَّ وَجَلَّ-، إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي.
وفي هذا الحديث أيضًا: إثبات صفة الإرادة لله -عَزَّ وَجَلَّ- قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
وفي هذا الحديث أيضًا: فضل جبريل ومكانته عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لأنه قال: «فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ».
وفي هذا أيضًا: أن جبريل هو الموكل بالوحي.
وفي هذا أيضًا: أن كل سماء فيها ملائكة يعمرونها، قال -ﷺ: «ما في السَّماواتِ السَّبعِ موضعُ قدمٍ ولا شِبْرٍ ولا كفٍّ إلَّا وفيه مَلَكٌ قائمٌ ومَلَكٌ راكعٌ أو مَلَكٌ ساجدٌ»[3]، وكل هذا تعظيم لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبيان لفضل الملائكة.
وأيضا في الأحاديث في الحديث هذا والذي قبله: بيان لخبث الشياطين، وخبث السحرة والكهنة، وأنهم كاذبون وأنهم مضلون، وأنهم يفترون على الله الكذب، ويدَّعون علم الغيب، وأنه لا يجوز تصديقهم.
وذكر الشيخ أيضًا من المسائل المفيدة في هذا فائدة، وهي قول الشيخ في المسألة الثامنة عشرة قال: (قَبُولُ النُّفُوسِ الْبَاطِلَ: كَيْفَ يَتَعَلَّقُونَ بِوَاحِدَةٍ وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِمِائَةٍ)، يعني يكذب مئة كذبة ومع ذلك يغترون بهذا الواحدة، وهذا -سبحان الله- منذ عهد قديم، قبل النبوة وبعد مبعث النبي ﷺ كان الكفار هذا شأنهم، وإلى هذا الوقت الآن، ولا يزال المنجِّمون والكذابون والكهان وأمثالهم من الذين يدعون الغيب يصنعون مثل هذا، يكذبون ويفترون على الله الكذب ويدَّعون علم الغيب، ثم يأتي يقول: والله ذاك المرة قالوا كذا فوقع. ربما هذا صادفت قدرًا وربما أيضًا كانت من مسترقي السمع من الشياطين.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- يذكر في المسائل فوائد مهمة، أُهيب بطالب العلم والذي يدرس كتاب التوحيد أن يدرس هذه المسائل وينتبه لها، لأن الشيخ يقول: انتبه لهذه المسألة، ولهذا قال الشيخ في المسألة الثانية: (مَا فِيهَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ خُصُوصًا مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى الصَّالِحِينَ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي قِيلَ: إِنَّهَا تَقْطَعُ عُرُوقَ شَجَرَةِ الشِّرْكِ مِنَ الْقَلْبِ)، وهذا حقيقي، من تدبرها بحق لم يبقَ في قلبه متعلَّق لمعبودٍ من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وفي المسائل ذكر الشيخ المسألة العشرون، قال: (إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ)، ففيها من الصفات إثبات علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وصفة الكلام، والقول، والوحي، وكذلك الإرادة، وغير ذلك مما ورد في هذين الحديثين.
هذا ما تيسر في شرح هذا الباب المهم، وهو برهان من براهين التوحيد (بَابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ ).
إذا هذا الباب والباب الذي قبله يذكر الشيخ من النصوص والأدلة براهين تدل على وجوب إخلاص العبادة لله -عَزَّ وَجَلَّ-، فعلى المسلم أن ينتبه لهذه النصوص الواردة، وأن يلقي باله وسمعه وقلبه لها حتى يعرف حقيقة التوحيد فيقوم به، ويعرف حقيقة الشرك فيحذره، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله اليكم، وبارك فيكم وفي علمكم شيخنا الكريم، إلى هنا نصل إلى نهاية هذه الحلقة أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات، أسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبعُ أحسنه، إلى لقاء قريب بإذن الله وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------
[1] أخرجه البخاري (208)، مسلم (4770).
[2] صحيح البخاري (4675).
[3] أخرجه الطبراني (2/184) (1751).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك