الدرس الثاني
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على قدوة الناس أجمعين، محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذا الدرس الجديد من دروس شرح (كتاب التوحيد) للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. أسأل الله أن يجزيه عنا خير الجزاء، فمرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا بكم، وبالإخوة الكرام، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يرزقنا وإيَّاكم العلم النافع والعمل الصالح.
{اللهم آمين، نستأذنكم في القراءة، وصلنا إلى: "باب الشفاعة".
الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على رسول الله، قال الإمام محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ الشَّفاعةِ.
وقولُ الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:51].
وقولُه: ﴿قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر:44].
وقولُه: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:255].
وقولُهِ: ﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم:26].
وقولُهِ: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ومَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ ومَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * ولا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ:22 - 23])}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد، فنسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا ولكم العلم النَّافع، والعمل الصالح، والتوفيق لِمَا يحبه الله ويرضاه، أيُّها الإخوة الكرام، هذا الباب باب مهم، وهو باب الشفاعة، والشفاعة: مأخوذة من الشفع، وهي مصدر شفع يشفع شفاعة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قال في محكم كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر:1-4]، والشفع: هو الزوج. والوتر: هو الفرد الواحد، سُمي الشَّفع شفعًا؛ لأنه كان واحدًا فجاء معه مَن يشفعه، فصار اثنين وصار زوجًا.
والمراد بالشفاعة: هو أن يكون مع صاحب الحاجة مَن يسانده فيها، فالطالب للحاجة بدلًا من أن يكون واحدًا فيكونا اثنين، هذا معنى الشفاعة، يعني: يشفع الطلب الذي كان صاحبه واحدًا فصار الطالب له الأول الواحد ثم معه آخر، يعني: يشفع له، أي: يعينه ويسانده ويؤيِّده في طلبه، هذا من جهة اللغة.
والمعنى الشرعي في الشفاعة في أمور مُستحبة يُستحب أن يشفع المسلم لأخيه المسلم، قال النبي ﷺ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُو» ، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء، فالنبي ﷺ يأتيه أصحاب الحاجات، فلا يعرف أحيانًا بعض أحوالهم، فيأتي من الصحابة من يُبين حالهم ويؤيدهم في طلبهم، فهذه الشفاعة فيها أجر وثواب، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة النساء: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ [النساء: 85]، فهذا من جهة.
الشفاعة في أمور الحسنة كيف تكون؟
مثل أن يكون هناك فقير ويريد المساعدة ولكن لا أحد يعرف فقره إلا أنت، فتأتي فتساعده وتقول: بالفعل هذا محتاج، أو مريض لا يستطيع أحد أن يعرف علَّته ويساعده في علاجه إلا أنت لكونه جارًا لك أو كونه صاحبًا لك تعرف حاله فتساعده، هذه هي الشفاعة، أنَّك تبذل الخير للغير.
أمَّا الشفاعة السيئة: فتكون في المحرم أو في البدعة أو في الفتن، يساعد على الفتن، أو يساعد على الشرور أو على الأحقاد، أو يساعد على الإيغار بين الصدور، أو يساعد على الخروج على ولاة الأمور، إلى غير ذلك من أنواع الأشياء السيئة التي يسعى فيها بعض الناس، فالمسلم يبتعد عن كل ما فيه إثم وذنب وخطر، ولا يسعى فيه ولا يشفع فيه ولا يعين فيه ولو بكلمة.
الشفاعة من جهة أخرى في الشرع: تطلق على ما يكون يوم القيامة عندما يصيب الناس من الكرب والخطب العظيم والهول والخوف من دخول النار، في هذا الموقف العصيب العظيم يأذن الله -جَلَّ وَعَلَا- بالشفاعة لمن شاء، ولمن رضي الله قوله وعمله.
وهذه المسألة مسألة مهمة جدًّا، فلابد أن نعرف ماذا وردَ فيها، لأنها من المداخل التي دخل بها بعض المبتدعة وبعض المشركين، فتلبَّست عليهم الأمور وضلوا عن سواء السبيل.
{لماذا ذكر الإمام المجدد -رَحِمَهُ اللهُ- الشفاعة في هذا المكان؟}.
هذا موضوع مهم! لماذا ذكر الشيخ محمد -رَحِمَهُ اللهُ- مسألة الشفاعة هنا؟
لأن هذه المسألة -أعني مسألة الشفاعة- يغلط فيها عباد القبور وعباد غير الله -عَزَّ وَجَلَّ- يغلطون غلطًا عظيمًا، والتبست عليهم الأمور؛ فظنوا أنَّ طلب الشفاعة من الأموات وسؤالهم الحاجات أنَّ هذا سائغ وجائز، فبيَّن الشيخ الأدلة الواردة في هذه المسألة وفصَّل وميَّز حتى يعرف المسلم ما الذي وردَ في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ، وما المراد بالشفاعة ومتى تكون.
قال: (وقولُ الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:51].).
هنا شفاعة منفية أم شفاعة مثبتة؟
أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّ الذين يخافون -يعني أهل الإيمان- يُقرِّون بالبعث ويخافون، هؤلاء لا يوجد لهم ولي ولا شفيع من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، معنى هذا أنَّ الشفاعة منفية أم مثبتة هنا في هذا الموضع؟
الشفاعة منفية، انتبه لهذا!
الموضع الثاني، قال: (وقولُهِ: ﴿قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر:44])، وهذا يُبين الشفاعة المنفية عن غير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، منفية عن جميع المخلوقين فلا أحد يشفع، هذا ظاهر الآية.
قال: (وقولُهِ: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:255])، هنا فيه شفاعة منفية وفيه شفاعة مثبتة.
قوله: ﴿مَن ذَا الَّذِي﴾، يعني: لا أحد.
قوله: ﴿يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾، فلا أحد يشفع إلا بعد إذن الله -عَزَّ وَجَلَّ.
والآية التي بعدها قال: ﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم:26]، أيضًا هنا فيها شفاعة منفية وفيها الشفاعة مثبتة.
الشفاعة المنفية في قوله: ﴿لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾.
الشفاعة المثبتة في قوله: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾.
وفي هذا ذكر الشرطين: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له وعن الشافع.
وقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ومَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ ومَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * ولا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾، هذه الآية الكريمة سبق ذكرها في الدرس الماضي، وذكر أهل العلم كابن القيم وغيره أنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب، كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضًا في المسألة الثانية من الباب السابق، وتقدَّم شرح هذا في الدرس الماضي.
إذًا، الآيات التي مرت معنا فيها مواضع نفى الله -عَزَّ وَجَلَّ- الشفاعة، وفيها مواضع أثبتها بشروط.
فما هو الشيء الذي نفاه الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ وما هو الشيء الذي أثبته الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ سيتضح هذا بعد القراءة في الدرس.
{أحسن الله إليكم.
قال أبو العباس -رَحِمَهُ اللهُ:
"نَفَى اللهُ عَمّا سِواهُ كُلَّ ما يتعلّقُ بِهِ المشْركونَ، فَنَفَى أنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مِلْكٌ أَوْ قِسْطٌ مِنْهُ، أَوْ يَكونَ عَوْنًا لله، وَلَمْ يُبْقِ إلا الشّفاعةِ، فبيّن أَنّها لا تَنْفَعُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ، كَما قالَ: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء:28].
فَهَذِهِ الشَّفاعةُ الّتي يَظنُّها الْمُشْرِكُونَ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ القيامَةِ، كما نفَاها القرآنُ، وَأَخْبَرَ النبيُّ ﷺ: «أَنّهُ يَأْتي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ -لا يَبْدَأُ بِالشَّفاعَةِ أَولًا- ثُمّ يُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ».
وقالَ لَهُ أَبو هُرَيْرَة: مَنْ أسعدُ الناسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قالَ: «مَنْ قالَ لا إِلهَ إِلا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ».
فَتِلْكَ الشَّفاعةُ لأهْلِ الإخلاصِ بإِذنِ اللهِ، ولا تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ بالله.
وَحَقِيقَتُهُ أَنّ الله سُبْحانَهُ وتعالى هُوَ الّذي يَتَفَضّلُ عَلَى أَهْلِ الإخلاصِ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ
بِواسِطَةِ دُعاءِ مَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ، وَيَنالَ الْمَقامَ المحمُودَ.
فَالشَّفاعةُ الّتي نَفَاها القُرآنُ ما كانَ فِيها شِرْكٌ، وَلِهَذا أَثْبَتَ الشَّفاعَةَ بإِذْنِهِ فِي مَواضِعَ، وَقَدْ بيّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّها لا تكونُ إِلا لأَهْلِ التوحيد والإخلاصِ". انتهى كلامُهُ)}.
هذا كلام من شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في غاية الدِّقة والشَّرح والتَّوضيح لِما جاء نفيه في القرآن، فانظر إلى قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾، وقوله: ﴿قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾، وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [العنكبوت: 41]، وكذلك في سور كثيرة في القرآن يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- إبطال اعتقادهم الشفاعة، ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: 18] فسمَّاه شركًا، يعني: اتخاذهم الشفاعة هذا الذي كان يظنه المشركون، يظنُّون في أوليائهم وفيمن يعبدونهم وفي أصنامهم وفيمن يدعونهم من دون الله ويذبحون لهم ويتقربون لهم؛ يظنون أنهم بهذه التصرفات وبهذه التعبدات والتقربات إليهم يحصل لهم رضا من هؤلاء المعبودين من دون الله تجاههم هم، فإذا حصل لهم الرضا حصلت لهم الشفاعة، فهذا الذي جعلهم يصرفون العبادة لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فهم يظنون في أوليائهم هذا الظن الفاسد، فلذلك نفى الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا، قال: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾ [الأنعام: 51]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254]، فهذا يعني ليس فيه شفاعة.
ما المراد هنا: قال: ﴿وَلَا شَفِيعٌ﴾ وفي الآية التي بعدها قال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255]؟
إذًا، هذه الشفاعة المنفية هي التي يظنها عباد غير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، الذين يعبدون غير الله ويطلبون منهم شفاعة، قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18] هذا الاعتقاد الباطل كان سائدًا ولا يزال عند كل مشرك، وما دمنا ذكرنا هذه المسألة نحاول أن نستذكر ما ذكره الشيخ مما ورد في كتاب الله من حجج المشركين في صرفهم العبادة لغير الله، ذكر الشيخ في القواعد الأربع في القاعدة الثانية أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكر حجتهم بشركهم:
الأولى: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾.
والثانية: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾.
فإما أن يقول: أنا أعبدهم وأرضيهم بهذه التصرفات والتعبدات حتى أقترب منهم، وإذا اقتربت منهم اقتربت من الله لأنهم قريبين من الله، هذه الحجة الأولى.
الحجة الثانية: يقول: أنا أعبدهم فإذا رضوا عني وعرفوا أني من محبيهم ومن روادهم ومن مريديهم، أرتاد قبورهم وأتبرك عند صورهم وأعظمهم من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ إذا فعلت هذا بهم شفعوا لي، فهم لهم منزلة عظيمة عند الله فيشفعون لي.
فرد الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم، وهاتان الحجتان تتكرران إلى اليوم، ما من مشرك يصرف العبادة لغير الله إلا ويحتج بهذه الحجة أو تلك، حتى مَن يدعي الإسلام ويقع في هذا الشرك -نسأل الله لنا ولهم الهداية والعافية والسلامة- وبالتالي يحذر المسلم من مشابهة أعداء الله -عَزَّ وَجَلَّ- الذين صرفوا العبادة لغير الله، وزعموا أنهم يشفعون لهم.
وفي هذا المقام نذكر الآية التي في سورة الزمر: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 43 - 44]. ما معنى ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ﴾؟
قف عندها وتفكر! ماذا كانوا يصنعون عندهم؟ هل كانوا يقولون إنهم يخلقون ويرزقون؟ لا، إنما كانوا يطلبون منهم باعتقادهم أنهم سيشفعون لهم عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فهذا باطل، وبيَّن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن الشفاعة كلها مِلك لله -عَزَّ وَجَلَّ- وأن هؤلاء الذين تعبدونهم لا يملكون الشفاعة، هذا معنى قوله ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾، وقوله ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾.
قال الشيخ: (قال أبو العباس)، وهذه كنية الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، فكنيته "أبو العباس" ولقبه "تقي الدين" ويلقب أيضًا "بشيخ الإسلام" ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ.
ويقول: (نَفَى اللهُ عَمّا سِواهُ كُلَّ ما يتعلّقُ بِهِ المشْركونَ)، سبق أن ذكرنا في الدرس الماضي أن المشرك إما أن يتعلق بأن هذا يملك بعض الأشياء مع الله، أو أنه شريك، يعني يملك استقلالًا أو يملك بالشراكة، والثالثة: أنه معين وظهير وعون لله؛ فنفاها الله -عَزَّ وَجَلَّ- كلها، بقي قولهم: أنه يشفع لي عند الله، فقال الله: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾، إذًا الأمر عنده -سبحانه وتعالى.
قال الشيخ: (كما نفَاها القرآنُ، وَأَخْبَرَ النبيُّ ﷺ: «أَنّهُ يَأْتي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ -لا يَبْدَأُ بِالشَّفاعَةِ أَولًا- ثُمّ يُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ»)، هذا حديث ثابت في الصحيحين والسنن في بيان الشفاعة العظمى والمقام المحمود الذي يعطيه النبي ﷺ، وهذا من هذا أعظم المقامات، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79].
قال عبد الله بن عمر: "يحمده الخلائق كلها"، يعني يظهر فضله ﷺ على العالمين في إذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- للنبي ﷺ أن يشفع في فصل القضاء بين العباد يوم القيامة، وهذا مقام عظيم، كل الناس وكل الخلائق يعرفون فضل النبي ﷺ في هذا المقام، فجاءت الأحاديث عن نبينا ﷺ مفصِّلة وموضحة، أن الأنبياء يعتذرون عندما يأتيهم الناس، يأتون آدم ثم يأتون نوحًا ثم يأتون إبراهيم ثم يأتون موسى ثم يأتون عيسى، ثم يأتون النبي ﷺ فيقول: «أنا لها»، فماذا يفعل؟ هل يقول: "يا رب إني أشفع فيهم"؟
لا، أول ما يقوم به النبي ﷺ هو السجود، يخر لله ساجدًا تحت العرش، فيفتح الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه محامد لم تفتح على أحد من قبل، فيظل ساجدًا حامدًا لله مثنيًا على الله، ما شاء الله أن يبقى على ذلك، ولا يطلب ولا يتكلم بشيء حتى يأتيه الإذن من الله، يا محمد: «ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ»، هذا هو الإذن، فأذن الله للنبي ﷺ أن يشفع، وهكذا بقية الشَّافعيين يوم القيامة من الأنبياء والملائكة وغيرهم.
إذًا هذا يبين لك أن أفضل شافع مشفَّع وهو رسول الله ﷺ، لا يبدأ بالشفاعة أولًا، وإنما الذي يأذن الله له -جَلَّ وَعَلَا- ثم يشفع ﷺ.
قال الشيخ: (وقالَ لَهُ أَبو هُرَيْرَة: مَنْ أسعدُ الناسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قالَ: «مَنْ قالَ لا إِلهَ إِلا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»)، هذا يبين حرص الصحابة على نيل شفاعة النبي ﷺ، ويبيِّن أنهم لم يطلبوها من غير الطريق الصحيح، وإنما أخذوها من الوحي وليس من أمور أخرى غير الوحي.
قال: (فَتِلْكَ الشَّفاعةُ لأهْلِ الإخلاصِ بإِذنِ اللهِ، ولا تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ بالله)، لماذا لا تكون لمن أشرك بالله هذه الشفاعة؟
لأن الله -عز وجل- أبطل اعتقاد المشركين الذين أشركوا، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾ [المدثر 43 - 48] وهؤلاء لا يرضى الله عنهم، لأنهم كفروا به وأشركوا.
ومما يدل على هذا أيضًا: الحديث الصحيح أنَّ النبي ﷺ قال: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا. فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأِمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، ثم قال ﷺ في نفس الحديث: «فَهِيَ نَائِلَةٌ، إِنْ شَاءَ الله، مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئا»، اجمع هذا الحديث مع حديث أبي هريرة «مَنْ أسعدُ الناسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قالَ: مَنْ قالَ لا إِلهَ إِلا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»، فإذا عرفت هذا؛ عرفت أنَّ أعظم سبب لنيل الشفاعة هو التوحيد والسلامة من الشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال الشيخ ابن تيمية: (وَحَقِيقَتُهُ أَنّ الله سُبْحانَهُ وتعالى هُوَ الّذي يَتَفَضّلُ عَلَى أَهْلِ الإخلاصِ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِواسِطَةِ دُعاءِ مَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ، وَيَنالَ الْمَقامَ المحمُودَ.
فَالشَّفاعةُ الّتي نَفَاها القُرآنُ ما كانَ فِيها شِرْكٌ، وَلِهَذا أَثْبَتَ الشَّفاعَةَ بإِذْنِهِ فِي مَواضِعَ، وَقَدْ بيّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّها لا تكونُ إِلا لأَهْلِ التوحيد والإخلاصِ").
قوله: (وَحَقِيقته) يعني ما الحكمة؟ ما المعنى من الشفاعة؟ يعني كما يقول بعض المبتدعة: لماذا لا يغفر الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهذا العبد أو ذاك مباشرة بدون الشفاعة؟ وهذا من بعض أقوال المبتدعة الضلال الذين أنكروا.
الجواب: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- هو الحكيم العليم، وأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يتفضل على عباده، فيتفضل على أنبيائه وعلى رسله ويتفضل على ملائكته، ويتفضل على أوليائه فيجعلهم يشفعون؛ ليظهر محبته لهم ويظهر مكانتهم أمام الخلق، وهذا من كرم الله -سبحانه وتعالى- على الشافع ومن كرم الله -عَزَّ وَجَلَّ- على المشفوع له، وهو تفضٌّل من الله على الشافع وعلى المشفوع له، فكلُّ هذا يبين لنا حقيقة أمر الشفاعة، وأنها فضل من الله، وأنها مِلك لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وبالتالي فالمؤمن يتعلق قلبه بمن يملك الأمر وهو الله -سبحانه وتعالى-، لا يتعلق قلبه بمخلوق ويتَّجه إليه في الدعاء، أو يتجه إليه بالسجود، أو يتجه إليه بالاستغاثة كما يفعل عباد القبور والذين يستغيثون بغير الله، ويطلبون الشفاعة منه؛ فهؤلاء عصوا الرسول -عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلَامُ- الذي قال: «فَهِيَ نَائِلَةٌ، إِنْ شَاءَ الله، مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئ»، فكل هذا من أسباب الحرمان من الشفاعة.
{أحسن الله إليكم.
ما دام أنكم ذكرتم شفاعة النبي ﷺ والمقام المحمود؛ هل هناك أنواع أخرى من الشفاعات؟}.
أنواع الشفاعة يوم القيامة: ذكر العلماء أنَّ هناك أمورًا خاصة بالنبي ﷺ وهي ثلاث شفاعات، وهناك أمور النبي ﷺ له منها النَّصيب الأعظم ولغيره كذلك من الأنبياء والمرسلين الصديقين والأولياء والصالحين والشهداء والملائكة والأفراد؛ فالأنواع الخاصة بالنبي ﷺ:
النوع الأول وهو أعظمها: المقام المحمود، والشفاعة العظمى وهي شفاعته لفصل القضاء بين الخلق، فيشفع بين يدي الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما تقدَّم في الحديث: «ثُمّ يُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ»، فيشفع لفصل القضاء بين العباد، هذه الشفاعة العظمى، ولا يقوم بها غير النبي ﷺ، وهي خاصَّة بالنبي ﷺ.
النوع الثاني مما اختص به النبي ﷺ: الشفاعة لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، ولا يؤذن لأحد أن يدخل الجنة قبل أن يشفع النبي ﷺ، فهو أوَّل من يستفتح باب الجنة -صلوات الله وسلامه عليه- نسأل الله أن يدخلنا وإياكم ووالدينا جنات النعيم.
النوع الثالث مما اختص به النبي ﷺ من الشفاعة: شفاعته لعمه أبي طالب، وهذه شفاعة خاصَّة، وعم النبي ﷺ كان يحوطه ويذوده ويحميه ويمنعه من اعتداء الكفار، وكان يحنو على النبي ﷺ، ولكن مع ذلك لم يسلم، ومات على غير الإسلام، فصار في النار، ولكن النبي ﷺ شفع له حتى خُفف عنه العذاب «فيُجعَلُ في ضَحْضاحٍ من نارٍ يَبلُغُ كَعبَيْه يَغْلي منه دِماغُه» وهو يرى أنه أشد النار عذابا وهو أهونهم عذابًا، وهذا خاص بالنبي ﷺ.
هذه ثلاث أنواع خاصة بالنبي ﷺ.
هناك أنواع أخرى، منها: الشفاعة في أهل الذنوب والمعاصي التي دون الشرك وهؤلاء على نوعين:
- نوع دخلوا النار: فيشفع فيهم النبي ﷺ فيخرجون منها.
- ونوع استحقوا واستوجبوا دخول النار، وجاء في بعض الألفاظ في الأحاديث في مستدرك الحاكم وغيره «حتَّى أُعطَى صكًّا برجالٍ قد بُعِثَ بهم إلى النَّارِ» ، ثم يشفع فيهم النبي ﷺ وغيره، ويعفو الله -عَزَّ وَجَلَّ- عنهم.
إذًا هذا النوع الرابع والخامس.
النوع السادس من أنواع الشفاعة: الشفاعة لرفع درجات قوم في الجنة، فيشفع فيهم فيرفعون في الجنة درجات، وعكَّاشة بن محصن شفع فيه النبي ﷺ ودعا له، قال: «اللهم اجعله منهم»، أي: أن يكون من السبعين ألف.
وكذلك الشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف، فيشفع فيهم فيدخلون الجنة.
فهذه الشفاعات الثلاث الأخيرة للنبي ﷺ منها أعظم الحظ والنصيب والمكانة -صلوات الله وسلامه عليه- ولكنها ليست مختصة به، فالملائكة تشفع والنبيون يشفعون والصالحون والشهداء والأفراط كما ثبتت في ذلك الأحاديث.
{أحسن الله إليكم.
كلنا نتمنى أن ندرك شفاعة النبي ﷺ أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم؛ فهل من أسباب تعين الإنسان على الوصول لهذه الشفاعة؟}.
هذا سؤال عظيم يا شيخ -جزاك الله خيرًا- انظر لقول أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «مَنْ أسعدُ الناسِ بِشَفَاعَتِكَ؟»، إذًا الصحابة كانوا حريصين على ذلك، مَن الذي ينال هذه الشفاعة؟ ولا يمكن أن الشريعة وهي الوحي الذي أكمله الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3]، لا يمكن أن يكون هذا يعني مسكوتًا عنه حتى يأتي هؤلاء الخرافيون ويخترعون للناس هذه البدع والخرافات، ويأمرونهم أن يذهب أصحاب القبور ويطلبون منهم، لا؛ بل ما يأمر به الخرافيون هو الخطر الأعظم، وهو الذي يحرِم العبد من الشفاعة، فالنبي ﷺ قال: «مَنْ قالَ لا إِلهَ إِلا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»، وهذا تقدم.
ثانيًا: قوله: «فَهِيَ نَائِلَةٌ، إِنْ شَاءَ الله، مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئا».
ثالثًا: حديث «إذا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولوا مِثْلَ ما يقولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عليه بها عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ، فإنَّها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ، لا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فمَن سَأَلَ لي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشفاعة» ، وهذا الحديث في الصَّحيح، وهذا الأذان ألفاظه كلها توحيد "الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، حي على الصَّلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله"؛ ترددها مع المؤذن، ثم تصلِّي على النبي ﷺ وتسأل الله له الوسيلة، وتقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ هذِه الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلاةِ القائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا» ، تدعو للنبي ﷺ ما تدعوه من دون الله، فاعرف الفرق، هؤلاء المشركون يقولون: ادعوا النبي واطلب من النبي، وتوجه إلى القبر، نقول: لا، تدعو للنبي ﷺ.
ولهذا حتى في الصَّلاة تقول: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ والصَّلَوَاتُ والطَّيِّبَاتُ» ، هذا تعظيم لله -عز وجل- ثم بعدها: «السَّلام عليكَ أيُّها النَّبي ورحمة الله وبركاته»، وبعد النبي ﷺ تُسلِّم على جميع الصالحين وتقول: «السَّلام علينا وعلَى عباد الله»، يعني: يُدعى لهم، والذي يُدعى له لا يُدعى معه، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "شروط الصَّلاة وآدابها".
فالمقصود: أن هذا من أسباب نيل الشفاعة.
أيضًا كثرة الصَّلاة والسَّلام على النبي ﷺ، وكذلك ما ورد في الأحاديث، كقوله: «إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقً» ، وهذا يبين أنَّ حسن الخلق مع الإيمان والتوحيد من أسباب نيل شفاعة النبي ﷺ، وكثرة الصَّلاة والسَّلام عليه، فالمؤمن يعرف هذه الأمور ويلزمها ويترك الأمور المبتدعة والمخترعة، فالذهاب إلى القبور ومناداة أصحابها بقول: "يا فلان اشفع لي عند الله" هو نفس ما يقوم به المشركون قديمًا، ولهذا يعتبر طلب الشفاعة من الميت سواء كان عن قرب عند قبر أو كان عن بُعد يعتبر هذا من الشرك الأكبر، ولا يلتبس عليكم هذا الأمر أيها الإخوة، وبعض الناس قد يغلط في هذه المسألة، يفرِّق ويقول: قد يسمعك! لا، قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر: 22]، وقال: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ [الروم: 52]، والأحاديث الواردة في سماعهم خاصَّة، والمقصود: أن هذا من المداخل التي قد تغلط فيها بعض الأفهام وتزل فيها بعض الأقدام، نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا وللجميع الهداية والتوفيق لما يحبه الله ويرضاه.
{اللهم آمين، قبل أن ننتقل للباب الأخير شيخنا، ما اعتقادات الناس في الشفاعة بشكل عام؟}.
المشركون يظنون أن الشفاعة عند الله مثل الشفاعة عند الملوك والرؤساء في الدنيا، يعني الملوك في الدنيا عندما يُشفع عندهم فهم أصحاب أمر ونهي، لكن في نفس المقام هم يخافون من هذا الذي طلب الشفاعة، الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يخاف من أحد، يخافون من غضبهم، ويخافون أن يخرجوا عليهم، ويخافون أن يتمردوا عليهم، فيخافون من شرهم أحيانًا؛ فيلبون طلبهم، ويظنون أن الذي هو مقرب عند الملك هو يؤثر على الملك ويضغط عليه بقوة حتى يلبي حاجته، فيظنون أن هؤلاء الأولياء أو الأنبياء أن مكانتهم عند الله مثل مكانة هؤلاء عند الملوك، فيقيسون الخالق سبحانه على المخلوق؛ هذا هو حال المشركين، ولهذا نقول لهم: الله -سبحانه وتعالى- لا يحتاج إلى أحد، والله -سبحانه وتعالى- غني عن العالمين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]، الذي لا يؤمن بالآخرة يريد بالشفاعة تحقيق مصالح دنيوية، فأهل الكفر بعضهم يؤمن بالآخرة ويعرف أن هناك حساب وهم أهل الأديان الذين ضلوا وانحرفوا، وهناك من لا يؤمن بالآخرة، فهذا يطلب الشفاعة من هؤلاء الذي يعبدهم من دون الله في حاجات دنيوية ومصالح دنيوية، إما رزق أو حصول غنى، أو زوال مرض، أو غير ذلك؛ فهذا حظهم العاجل، فيطلبون شفاعة هؤلاء بتحقيق مقاصدهم، أما الذي يؤمن ويقر بالآخرة فهو يريد هذا ويريد أيضًا النجاة يوم القيامة.
ومواقف الناس تنقسم إجمالًا إلى ثلاثة:
القسم الأول: أناس أقروا بالشفاعة ولكنهم غلوا فيها، مثل كفرة النصارى وكفرة غلاة اليهود، والمشركون في المشايخ والصالحين من هذه الأمة، الذين يغلون فيهم ويعبدونهم من دون الله، يعتقدون أنهم إذا طلبوا منهم وهم أموات أنهم يستجيبون لهم، وأن الأمر بيدهم، وأنهم سوف يحققون لهم.
القسم الثاني: عكسهم، أنكروا هذا تمامًا، وقالوا: لا داعي للشفاعة ولا هناك شفاعة، وهؤلاء العقلانيون.
وأيضًا الخوارج والمعتزلة قالوا بإنكار الشفاعة في أهل الذنوب، لأنهم يعتقدون أن أهل الذنوب خالدون مخلَّدون في النار، ولهذا كذبوا بأحاديث الشفاعة وردوها، يعني هذا مما عرف عن الخوارج وعن المعتزلة ومما اشتهر عنهم.
أمَّا الوسط فهو ما جاءت به الرسل كلها وما جاء به المرسلون وخاتمهم محمد رسول الله ﷺ، وما كان عليه الصحابة والتابعون سلف هذه الأمة وهو الإقرار والإيمان بالشفاعة، ولكنهم يعتقدون أنها بيد الله وملك لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأنه لا يشفع أحد عند الله إلا بعد إذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- له، ورضا الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن المشفوع له.
هنا مسألة ممكن تذكرها وهي: آخر آية في سورة الانفطار وهي قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)﴾ [الانفطار 17 - 19]، إذا آمنت بهذا عرفت أن الأمر بيده، وتقول: "اللهم ارزقني شفاعة النبي ﷺ، اللهم شفع في نبيك"، هنا توحيد، لكن إذا قلت للميت: "يا فلان اشفع لي عند الله"، أو يقول للصنم: "اشفع لي عند الله"؛ فهذا شرك أكبر.
ما الفرق بين الصورتين؟
فرق عظيم جدًا، ففي الصورة الأولى تقول: " اللهم" فالقلب متوجه إلى الله، الدعاء لله، السؤال موجه إلى الله، تقول: "ارزقني شفاعة النبي ﷺ"، هذا حق ونحن نؤمن بالشفاعة وما ننكرها، الذي ينكرها هم المبتدعة والضالون، هذا هو الواجب على أهل الإيمان.
{أحسن الله إليكم.
بارك في علمكم ننتقل للباب الآخر، قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ قولِ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهتَدِينَ﴾ [القصص:56].
في الصَّحِيحِ عَنِ ابنِ المسيِّبِ عَنْ أبيهِ قالَ: لَمّا حَضَرَتْ أبا طالبٍ الوفاةُ؛ جاءَهُ رسولُ اللهِ ﷺ وَعِنْدَه عَبْدُ الله بنُ أَبِي أُمَيَّةَ وأَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُ: «يا عمِّ، قلْ لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله»، فقالا له: أَتَرْغَبُ عَنْ ملَّةِ عَبْدِ المطَّلِبِ؟ فَأَعادَ عليهِ النبيُّ ﷺ، فأَعَادا فَكَانَ آخِرَ ما قالَ: هُوَ عَلى مِلّةِ عَبْدِ المطّلبِ، وَأَبى أَنْ يقولَ لا إلهَ إلا الله، فقالَ النبيُّ ﷺ: «لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَأَنْزَلَ الله عَزّ وجلّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لهُمْ أَنهَّم أَصحَابُ الجَحِيمِ﴾ [التوبة:113].
وَأَنْزَلَ في أَبي طالبٍ: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [القصص:56])}.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ قولِ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهتَدِينَ﴾ [القصص:56])، وهذا من الأبواب التي نقول فيها أيضًا: إنها من براهين التوحيد، وهي علامة وآية وحجة وبرهان ناصع ساطع قوي ظاهر جدًّا في أن الأمر بيد الله -سبحانه وتعالى- الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء هو الله -سبحانه وتعالى- ولهذا تعظم حاجة العبد إلى التوجه إلى الله -سبحانه وتعالى- وأعظم دعاء يدعو به العبد دعاء الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، وطلب الهداية من الله -سبحانه وتعالى- هو الواجب على أهل الأرض كلهم، فإنهم ضالون إلا من هداه الله، كما في الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم، حديث أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال النبي ﷺ: «يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ» ، فالواجب على أهل الأرض أن يتَّجهوا إلى الله -سبحانه وتعالى- بطلب الهداية، وأن يسلكوا سبلها، وأن يتبعوا الوحي الذي أنزله والقرآن، وأن يتبعوا الرسول الذي أرسله الله وهو محمد ﷺ، إذًا لا يملك الهداية حتى رسول الله ﷺ، لا يملك الهداية جبريل، لا يملك الهداية جميع الأنبياء والرسل.
وهذا فيه أيضًا رد على مَن يعتقد في الرسل أو في الرسول أو في الصالحين شيئًا من الألوهية، هم لا يملكون لأنفسهم فضلًا عن غيرهم، قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ [الأعراف: 188].
ما المراد بالهداية؟
الهداية تطلق على هداية الدلالة والإرشاد، وهذه ليست خاصة بالله -عَزَّ وَجَلَّ- فالله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، أي: يبين لهم ويعلمهم هذا معنى صحيح، والرسول ﷺ يبين، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، هذا التعليم والإرشاد، وأما قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56] هذه هداية التوفيق وقبول الحق، إلهام قبول الحق في القلب، أن يخلق الله في هذا القلب قبول الحق والميل إليه ومحبته ورغبته لا يملكها أحد إلا الله -سبحانه وتعالى- لا يملك الرسل ولا غيرهم. إذًا، الهداية تطلق على هذين المعنيين.
وفي قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا﴾ ذكروا هذين المعنيين أيضًا.
وذكروا معنى ثالث وهو: ثبتنا.
وذكروا أيضًا معنى رابع وهو: زدنا، يعني المؤمن يزداد من الهداية في كل وقت وحين، وآخر طرف هذه الهداية هو دخول الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهلها- فيهتدون إلى طريق في الدنيا وفي الآخرة.
قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾، هذا الحب من النبي ﷺ لأبي طالب هل هو حب لهدايته؟ هذا أحد الأقوال في التفسير.
والقول الثاني: حب له لما قدم من حماية وذود ودفاع عن النبي ﷺ.
{هل ممكن أن نقول: إنه حب فطري، كقريب أو عم أو أخ}.
هذا الحب لإحسانه ولجميل معروفه، وكان له مواقف عظيمة في الدفاع عن النبي ﷺ، فكان يقول:
وَاللَهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم ... حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دَفينا
ويقول:
ولقد علمت بأن دين محمدٍ ... مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دينا
لَولا المَلامَةُ أَو حِذاري سُبَّةً ... لَوَجَدتَني سَمحًا بِذاكَ مُبينا
لا حول ولا قوة إلا بالله! يخاف أنهم يلومونه أو يسبونه، وهو يعتقد صدق الرسول ﷺ ويثني عليه ويثني على دينه.
وكان يقول:
فَوَاللَهِ لَولا أَن أَجيءَ بِسُبَّةٍ ... تَجُرُّ عَلى أَشياخِنا في المَحافِلِ
لَكُنّا اتّبَعناهُ عَلى كُلِّ حالَةٍ ... مِنَ الدَهرِ جدًّا غَيرَ قَولِ التَهازُلِ
يعني منعه من الإسلام أنه لا يريد أن يُسب، ولا يريد أن يسب أشياخه -آباؤه يعني-.
فهذا الحديث يبين هذا الشِّعر أيضًا لما يقول سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب وجده أيضًا حزن، وكلهم صحابة، قال: (في الصَّحِيحِ عَنِ ابنِ المسيِّبِ عَنْ أبيهِ قالَ: لَمّا حَضَرَتْ أبا طالبٍ الوفاةُ؛ جاءَهُ رسولُ اللهِ ﷺ) يعني: عند الاحتضار، فالنبي ﷺ دعاه إلى الإسلام عدة مرات، لكن هذا المقام مقام مهم جدًّا، فلعله يُختم له بالإسلام ولعله يتوب.
قال: (وَعِنْدَه عَبْدُ الله بنُ أَبِي أُمَيَّةَ وأَبُو جَهْلٍ)، وهو عمرو بن هشام، وهذا فيه خطورة جلساء السوء على الإنسان، جليسان سيئان، وكل هؤلاء الثلاثة: الأول: المسيب، والثاني: عبد الله بن أبي أمية، والثالث: أبو جهل، كلهم من بني مخزوم من قريش، فأسلم عبد الله بن أبي أمية والمسيب وأبوه أسلما، أما أبو جهل فمات على الكفر في معركة بدر.
فقال النبي ﷺ ولم يبالي بهؤلاء: «يا عمِّ»، وهذا من التلطف والتودد والترغيب وهكذا يكون الداعي إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- يسلك مسلك الرفق واللين والتَّودد للمدعو.
قال: (قلْ لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله»، يعني إذا قلت هذه الكلمة، والعرب يعرفون أنه إذا قالها تبرأ من الشرك والكفر وأعلن البراءة.
قال: (فقالا له)، يعني عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل.
قالوا: (أَتَرْغَبُ عَنْ ملَّةِ عَبْدِ المطَّلِبِ؟)، أربع كلمات أثرت تأثيرا سلبيًّا جدًّا وأدخلته النار.
قال: (فَأَعادَ عليهِ النبيُّ ﷺ)، يعني حاول.
قال: (فأَعَادا)، نعوذ بالله!
قال: (فَكَانَ آخِرَ ما قالَ: هُوَ عَلى مِلّةِ عَبْدِ المطّلبِ، وَأَبى أَنْ يقولَ لا إلهَ إلا الله، فقالَ النبيُّ ﷺ: «لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»)، إذًا مات على غير الإسلام، أبى أن يقول "لا إله إلا الله" وفي هذا رد على بعض الذين يزعمون أن أبا طالب أسلم، فهذا كذب، وما روي في ذلك كله مكذوب ومفترى، ولا صحة له ولا أساس له، بل هو مات على دين قومه، مات على الكفر بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: (فَأَنْزَلَ الله عَزّ وجلّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لهُمْ أَنهَّم أَصحَابُ الجَحِيمِ﴾ [التوبة:113])، وهذا بيِّن صريح في تحريم الاستغفار والترحم على من مات على غير الإسلام، ولهذا بعض الناس يقول: أنا أترحَّم أو أستغفر لكذا، نقول له: هذا مخالف لكلام الله ومخالف لسنة رسول الله ﷺ، ولا يجوز مثل هذا.
قال: (وَأَنْزَلَ في أَبي طالبٍ: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [القصص:56])، وهذا فيه يعني تسلية، لأن هذا أمر موجع جدًّا ومؤلم جدًّا أن رجلًا يعني له مواقف طيبة ومع ذلك صبر عليه النبي في دعوته لعله يسلم ثم لم يسلم، بعض الأحيان الداعي إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- يذهب فيقابَل بالرد، أو بعضهم يستجيب وبعضهم يرد، أحيانًا من أقاربه مَن يتسلط عليه، ولده أو أبوه؛ فنقول له: هذا تسلية لك، النبي ﷺ هذا عمه ما اهتدى، وهذا أبو لهب كان عدو، وانظر إلى نوح ما هدى ابنه، وانظر إلى إبراهيم ما هدى أباه؛ فصار في أنبياء الله ورسله تعزية وتسلية لكل داعٍ إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- يواجَه بالرَّد، هذا زوجته تأبى، وهذه زوجها يأبى، وهذا أبوه يأبى، وهذا عمه يأبى، وهذا ابنه يأبى؛ فكل هذا عبرة للمؤمن وأنه قد يبتلى بمثل هذا، وفيه دلالة على أن الهداية بيد الله، فلا يتعلق بالأموات ولا يتعلق بغيرهم.
وكذلك نقول في هذا مثل ما قال الشيخ في المسألة التاسعة: (مَضَرَّةُ تَعْظِيمِ الأَسْلافِ والأَكَابِرِ)، كما في قولهم: (أَتَرْغَبُ عَنْ ملَّةِ عَبْدِ المطَّلِبِ؟).
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (العاشرةُ: الشُّبهةُ للمُبْطِلينَ فِي ذَلِكَ لاستدلالِ أَبي جَهْلٍ بِذلكَ.
الحادية عشرة: الشَّاهدُ لِكَوْنِ الأَعْمالِ بالخواتيمِ؛ لأنَّهُ لَوْ قَالَها لَنَفَعَتْهُ.
الثانية عشرة: التَّأَمُّلُ في كِبَرِ هَذِهِ الشُّبهةُ فِي قُلوبِ الضَّالينَ؛ لأنّ في القصّةِ أَنَّهُمْ لَمْ يجادِلوهُ إِلا بِهَا مَعَ مُبَالَغَتِهِ ﷺ وتَكْرِيرِهِ فلأَجْلِ عَظَمَتِها ووُضوحِها عِنْدَهُمْ اقْتَصَروا عَلَيْه).
مباشرة منذ ذكروه بقولهم: آبائك أجدادك كذا؛ استجاب لهم، وترك دعوة الإسلام، وترك أن يقول: "لا إله إلا الله".
في هذه المسألة ونختم بها قال الشيخ: (الثالِثَةُ -وَهِيَ المسألةُ الكبيرةُ: تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: «قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللهَ» بِخِلافِ ما عَلَيْهِ مَنْ يَدَّعي العِلْمَ.
الرابعةُ: أَنّ أَبا جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ يَعْرِفُونَ مُرادَ النَّبيِّ ﷺ إِذا قالَ للرَّجُلِ: «قُلْ لا إِله إِلا اللهَ» فَقبّحَ اللهُ مَنْ أبو جهل أَعْلَمُ مِنْهُ بِأَصْلِ الإِسْلامِ).
أبو جهل جالس وعبد الله بن أبي أمية جالس، والنبي ﷺ يقول: «قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللهَ»، ماذا فهموا منها؟ لو كانت المسألة مجرد قَول، لقالوا له: قل وطيب خاطر ابن أخيك، لا، هم علموا أنه إذا قالها تبرأ مما هم عليه، ولو أحياه الله لترك عبادة غير الله وتبرأ منها، فهم يعرفون أن هذه الكلمة لها حقوق ولها لوازم، ولها أعمال يقوم بها الإنسان، ولهذا الشيخ يعيب على عالم يدعي العلم ثم يقول: تنفعه لا إله إلا الله، وهو يعبد الأوثان ويعبد الأشجار ويستغيث بغير الله نسأل الله العافية والسلامة.
فهذا الباب باب مهم حقيقة، ينبغي تدبره والعناية به، نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يهدينا جميعًا سواء السبيل، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى وصحبه أجمعين.
{جزاكم الله خير شيخنا الفاضل على هذا الشرح الوافي، وأسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يحمينا وإياكم من الشِّرك بأنواعه، إلى هنا نصل إلى نهاية هذا الدرس من شرح (كتاب التوحيد)، ونلتقي -إن شاء الله- في درس قادم وأنتم على خير، وجزاكم الله خيرًا على إنصاتكم واستماعكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12802 18
-
16749 9
-
34810 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12