الدرس السادس
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. حيَّاكم الله طلاب العلم ومرحبًا بكم، حيَّاكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم) المستوى الثاني، والذي نشرح فيه (كتاب التوحيد) للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يصطحبنا فيه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ. حيَّاكم الله شيخ فهد}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة جميعًا، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد بارك الله فيكم.
{كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (بابُ: ما جاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأمَّةِ تَعبُدُ الأوثانَ).
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ: ما جاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأمَّةِ تَعبُدُ الأوثانَ، وقَوْلُه تَعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء:51].
وقَوْلُهُ تَعالَى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ [المائدة:61].
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدً﴾ [الكهف:21].
عَنْ أَبِي سعيدٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»، قالوا: يا رَسُولَ الله، اليهودَ والنَّصَارى؟ قالَ: «فَمَنْ؟» أخرجاه) }.
بسم الله، الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حيَّاكم الله أيُّها الإخوة جميعًا في هذا الدرس الذي نقرأ فيه سويًا من كتاب التوحيد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ويقول: (بابُ: ما جاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأمَّةِ تَعبُدُ الأوثانَ) لاحظ! الشيخ لم يقل كل الأمة، وإنَّما قال (بَعْضَ هَذِهِ الأمَّةِ) .
وهنا سؤال يرد: ما الدليل على أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان؟ وما الفائدة في أن نعرف أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان؟
والجواب: أننا نقرأ هذا الباب وسيتضح لنا المراد بإذن الله تعالى.
قال: (وقَوْلُهُ تَعالَى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾) ، هذه الآية الكريمة في سورة النساء يبين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حال فريق من كفرة اليهود والنصارى، وأنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت.
والجبت: هو السحر والتصديق بالشياطين.
والطاغوت: كل ما يعبد من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فهل هناك ذكر للأمة المحمدية في هذه الآية؟ الجواب سيأتي بعد قليل.
قال: (وقَوْلُهُ تَعالَى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾) ، بين الله -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه الآية طائفة من أهل الكتاب أنهم استحقوا لعنة الله وغضب الله وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعل منهم قردة وخنازير، وأن منهم مَن عبد الطاغوت، إذًا هذا في الأمم التي قبلنا مِن كفرة أهل الكتاب، فهل في هذه الآية ذكر للأمة؟ الجواب: ما سيأتي.
قال: (وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدً﴾) ، هذه الآية الكريمة في سورة الكهف، وما حكى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن أولئك الفتية الذين فروا من قومهم ولجأوا إلى مغارة وآووا إلى كهف، ثم ألقى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم النوم فناموا نومة عظيمة طويلة جدًّا لا يمكن تقع لبشر ويسلم من الموت والعفن، ولكن الله على كل شيء قدير، فبقوا نائمين في هذه المغارة وفي هذا الكهف ثلاثمائة من السنين وازدادوا تسعًا، ثم لما أيقظهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- وذهبوا لأخذ شيء يأكلونه من السوق -والقصة معروفة في سورة الكهف- عرفهم الناس لما معهم من دراهم أو لغير ذلك، فعرفوا خبرهم وأنهم من أمم قبلهم بثلاثمائة سنة، وكانوا وهم ذاهبون إلى السوق قالوا: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ﴾ يتكلمون عمَّن كان في زمنهم من دعاة الشرك، ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدً﴾، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَ﴾.
وذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- من شأنهم أنهم اختلف فيهم الناس ماذا يفعلون بهم بعد موتهم، فأهل الإيمان والتوحيد لا يريدون أن يتعرض لهم بشيء، ولا يريدون أن يُمسُّوا بشيء وإنَّما يتركون، لكن أهل الإمرة والسلطة وكانوا على غير التوحيد أيضًا، اتخذوا مكان موتهم مسجدًا، ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدً﴾، فالآية السابقة: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾، يعني أَغلِقوا مكان موتهم، ربهم أعلم بهم، وهذا هو الواجب أن تجعل القبور كغيرها.
قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ﴾، هذا ذم أم مدح؟ الجواب: هذا ذم.
وقوله: ﴿عَلَى أَمْرِهِمْ﴾ أي: ليسوا أهل دين وإنَّما أهل غلبة وأهل سلطة.
قال: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدً﴾، فهذا ليس بحجة، هذا فعل أهل الشر وأهل السلطة وأهل الظلم والبغي، سبحان الله! هذه النصوص الثلاثة في الأمم.
قال الشيخ بعدها: (عَنْ أَبِي سعيدٍ -رضيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»، قالوا: يا رَسُولَ الله، اليهودَ والنَّصَارى؟ قالَ: «فَمَنْ؟» أخرجاه) ، وهذا يُبين لك سبب إيراد الشيخ للآيات في الأمم السابقة، وهو أنَّه في هذه الأمة من يتَّبع سَنن كفرة اليهود والنصارى والمشركين، وأنه يوجد مَن سيغلب على الأمر كما غلب أولئك، ويتخذون عليهم مسجدًا كما اتخذ أولئك مسجدًا، وهذا وقع من الرافضة أول الأمر، ثم من غيرهم من أهل البدع والأهواء، فعظَّموا القبور وبنوا عليها، واتخذوا عليها المساجد حتى عُبدت من دون الله، فجعلوا لها الستور وفرشوها بالفرش وطيبوها وبخَّروها وجعلوا إمامها مقاعد وكراسي ومكانًا للصلاة، حتى جعلوا لها سدنة يحرسونها، كل هذا من مشابهة كفرة أهل الكتاب.
قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ»، والقذَّة: هي ريشة السهم يعني مشابه تامَّة في وصف السهم، حتى أدنى الأشياء يتابعونهم في التشبه بهم، وهذا ليس خاصًّا باتخاذ القبور مساجد بل في كل الأمور، هناك من يقتدي بكفرة اليهود والنصارى، فهناك من سب الله -عَزَّ وَجَلَّ- من كفرة اليهود والنصارى وقالوا في الله قولًا عظيمًا، فقالوا: يد الله مغلولة، ويوجد من بعض المنتسبين للإسلام المدعين للإسلام مَن يفعل فعل اليهود، وهناك مَن يفعل فعل النصارى، وانظر إلى التشبه بهم في الأعياد، أعيادهم الدينية أو أعيادهم الباطلة أو أعيادهم الدنيوية، هناك مَن يتشبه بهم، وهذا في الرد عليهم نقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة 6-7]، فالصِّراط هو الطريق، ويشمل العقائد، ويشمل الأعمال والأقوال والأخلاق والسجايا، ويشمل أيضًا الشَّرائع والشَّعائر، ويشمل كل ما يدخل تحت كلمة "الصراط" فهي كلمة عظيمة جدا، فهذا صراط النبي ﷺ وصراط الصحابة الصراط مستقيم أنعم الله عليهم به، وذاك صراط اليهود والنصارى المغضوب عليهم، في هذه الأمة وُجد من يفعل هذه الأعياد الشركية أو يتشبَّه بهم في باطلهم أو في كفرياتهم، والتشبه بهم فيما اختصوا به محرم لقوله ﷺ: «من تشبَّهَ بقومٍ فَهوَ منْهم» ، فلا بد أن يقع هذا التشبه، قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ»، وهذا خبر وليس أمرًا، وإنما هذا للتَّحذير، فإذا وقع هذا نحذر منه، وهذا هو الموجود الآن.
إذا من جملة الأمور التي وقع فيها كفرة اليهود والنصارى: أنهم عبدوا الأوثان.
قال الشيخ: (بابُ ما جاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأمَّةِ تَعبُدُ الأوثانَ) ، وعرفنا وجه الدليل، وهو دليل صريح واضح جدًّا في بيان المقصود.
إذًا؛ لا يجوز لأحد أن يقول: لا يمكن أن يقع الشرك في هذه الأمة.
وهل معنى قول "إن الشرك يقع في هذه الأمة" هو تسبب لهذه الأمة؟
الجواب: لا؛ لأنَّ الشرك الذي وقع في هذه الأمة لا يُضاهى ولا يماثل بالشرك الذي وقع في الأمم السابقة، فالشرك الذي وقع في الأمم السابقة كأمة اليهود والنصارى أطبق على أهلها إلا بقايا يُعدون الأصابع، أمَّا هذه الأمة فليسوا كذلك ولله الحمد.
ثانيا وهو المقصود، وهذا هو السؤال الذي كان في أول الدرس: ما المقصود أو ما الفائدة أن نعرف؟ ولماذا نقول هذا الكلام؟ هل هو للتنقص أو لمجرد الخبر؟
الجواب: لا، إن المسلم يتعلم هذه الأمور حتى يحذر مما حذر منه النبي ﷺ، وحتى يحذر أن يقع في الأمر العظيم الذي يحبط الأعمال، فالنبي عليه الصلاة والسلام بيَّن في أحاديث أخرى مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «ولا تقومُ السَّاعةُ حتى يلحقَ حيٌّ من أمَّتي بالمشركين»، كما سيأتي، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَضْطَرِبَ ألَياتُ نِساءِ دَوْسٍ علَى ذِي الخَلَصَةِ» ، وهذا الحديث في البخاري، ودوس: قبيلة معروفة. وأليات: يعني أن النساء يطوفن حتى تهتز مؤخرتهن عند هذا الصنم الذي كان يعبد في الجاهلية، فالنبي ﷺ يقول: لا تقوم الساعة حتى يقع هذا الشيء، معناه أن هناك من سيعود إلى هذه الأمور ويحدثها، فيرجع أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، إذًا؛ يجب أن نحذر.
أيضًا هذا ليس خاصًا بقبيلة أو بلد، فالحذر والتحذير للجميع، وهذا معنى قوله ﷺ: «بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ، ومن الغربة أن يكون الموحد منبوذًا، وأن يكون الشأن لأهل الشرك والخرافة، وهذا قد وجد في أنحاء كثيرة، فلذلك نذكر هذه الأمور للتَّحذير وللتَّثبيت، حتى يثبت المؤمن على ويحذر من تصديق أهل الشرك والاقتداء بهم أو التأثر بهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولِمُسْلِمٍ عَنْ ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رسُولَ الله ﷺ قالَ: «إِنَّ اللهَ زَوى لِيَ الأرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَها ومَغَارِبَها، وإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُها مَا زُويَ لِي مِنْها، وَأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ والأَبْيَضَ، وَإنّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتي أَنْ لا يُهْلِكَها بِسَنةٍ بعامّةٍ، وأنْ لا يُسلِّطَ علَيهِم عَدُوًا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِم، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وإنَّ ربي قالَ: يا مُحَمّد، إذا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُردُّ، وإِنّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنةٍ بِعامَّةٍ، وأنْ لا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِم فَيَسْتَبيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِها، حَتّى يَكُونَ بَعضُهُم يُهلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضً».
ورواهُ البَرْقَانيُّ في صَحِيحهِ، وزادَ: «وَإِنّما أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمةَ المُضِلِّينَ، وإِذا وَقَعَ عَلَيْهِمْ السَّيفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلى يَومِ القِيامَةِ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتي بِالمشْرِكينَ، وَحَتّى تَعْبُدَ فِئامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ، وإنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتي كَذّابونَ ثَلاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أنّه نَبِيٌّ، وَأَنا خَاتَمُ النَّبيينَ، لا نَبِيَّ بَعْدي، وَلا تَزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحقِّ مَنْصُورةً، لا يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تباركَ وَتَعالَى») }.
هذا الحديث العظيم يؤكد ما جاء في الباب.
الآية الأولى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 51]، فيها بيان أنَّ هناك مَن ينتسب إلى العلم ويدلِّس على الناس، ويزيِّن لهم الكفر والشرك، فإنَّ سبب نزول الآية هو أنَّ حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وهما من أعيان اليهود، وممن ينسب إليهم العلم، فكذبوا وافتروا، سألهم أهل مكة: أينا أهدى سبيلا؟ نحن نصل الرحم ونقوم بالبيت، ومحمد إنَّما يقطع أرحامنا ويسفه أحلامنا وأنه...؛ فأينا أهدى سبيلًا؟ فكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب يعرفان الحق، ويعلمان أنَّ النبي ﷺ رسول من عند الله، وأنه ليس كما يقول هؤلاء، فقالا: أنتم أهدى سبيلًا من محمد وأصحابه، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الآية الكريمة، وفيها التحذير من علماء الضلالة، هناك علماء حتى في الإسلام ينتسبون للعلم ويحفظون علمًا غزيرًا، كما أنَّ كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب يحفظون علمًا غزيرًا في دينهم، ويعرفون أنَّ محمدًا ﷺ صادقًا وعلى الحق، فحملهم العناد والكبر أو الأغراض الأخرى على جحد الحق وتزيين الباطل، هناك علماء ضلالة وعلماء سوء يصنعون هذا الصنيع الآن، يقولون عن أهل الحق وأهل التوحيد: إنهم وإنهم...، وينفرون منهم، ويقولون عن أهل الشرك وعباد الأوثان وعباد القبور إنهم أحسن، وإنَّ طريقتهم أجمل، وإنهم وإنهم...، ثناء عليهم وتزكية لهم، فهذا مما يدخل في قوله ﷺ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ»، يعني: وجد في هذه الأمة من يشبه هؤلاء، فإذا رأينا عالم ضلالة ضلَّ وانحرف فلا نغتر به، وإنَّما نأخذ عن العلماء الراسخين في العلم، الرَّبانيين المعروفين بالتمسك بالكتاب والسنة، والمعروفين بلزوم منهج السلف.
قال: (ولِمُسْلِمٍ عَنْ ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) ، يعني: هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ثوبان، وثوبان هو مولى رسول الله ﷺ، وهو من الصحابة الكرام، أنَّ النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ زَوى لِيَ الأرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَها ومَغَارِبَها، وإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُها مَا زُويَ لِي مِنْها، وَأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ والأَبْيَضَ»، هذا كله من علامات النبوة، ودلائل نبوة نبينا محمد ﷺ، وفضائل هذه الأمة المحمدية.
قوله: «زَوى لِيَ الأرْضَ»، يعني زُوي للنبي ﷺ حتى رأى الأرض حقيقة، وليس كما نحن نرى الأرض بصور، وإنَّما زوى الله -عَزَّ وَجَلَّ- النبي ﷺ الأرض فرآها.
قال: «فَرَأَيْتُ مَشَارِقَها ومَغَارِبَه»، أي: أقصى البلدان في المشرق وأقصى البلدان في المغرب.
قال: «وإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُها مَا زُويَ لِي مِنْه»، وهذا وقعَ في عهد عمر ثم في عهد عثمان، ثم بعد ذلك استمرت الفتوحات، فملك فارس كله سقط َوذهبَ وصار تحت المسلمين، وملك الروم كله سقط وذهب تحت المسلمين؛ كل هذا عظيم جدًّا ووقع كما أخبر عنه النبي ﷺ.
انظر! أقصى وصل الإسلام من جهة الشرق، وأقصى المغرب من جهة الغرب، ولم يذكر النبي ﷺ الشمال ولا الجنوب، وذلك أن أهل الأرض أغلبهم في هذه المناطق في المشارق والمغارب.
قال: «وَأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ والأَبْيَضَ»، يعني: كسرى وقيصر، فالأبيض عند كسرى، وعند الروم القيصر عندهم الأحمر الذهب، أي: الذهب والفضة، ووصلت هذه إلى مدينة الرسول ﷺ، وأُنفقت تلك الكنوز في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ- والحمد لله.
قال: «وَإنّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتي أَنْ لا يُهْلِكَها بِسَنةٍ بعامّةٍ، وأنْ لا يُسلِّطَ علَيهِم عَدُوًا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِم، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ»، معنى هذا الحديث: أنَّ النبي ﷺ سأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- مسائلَ فأجابه الله -عَزَّ وَجَلَّ- في اثنتين ومنعه واحدة، وهذا من علامات النبوة أيضًا، يعني هنا عدد من علامات النبوة وهو أخباره بما سيقع، فوقع كما أخبر ﷺ.
والأول: «أَنْ لا يُهْلِكَها بِسَنةٍ بعامّةٍ»، يعني: لا يأتيهم عذاب عام يستأصلهم، مثل الريح الذي جاءت لقوم لعاد، والصيحة لثمود، والغرق لفرعون وجنده، وقوم نوح، لا يكون هذا للأمة الإسلامية لا يوجد ولن يقع بإذن الله هذا الأمر فيأتي عذاب عام يستأصل أمة النبي ﷺ كلها، لا يمكن، فهي أمة مرحومة محفوظة بحفظ الله، نعم تقع عقوبة أو عذاب على طائفة أو على قرية أو على مدينة أو على مجموعة، أما على الأمة كلها فلا، هذا معنى قوله: «بِسَنةٍ بعامّةٍ».
الثاني: قال: «وأنْ لا يُسلِّطَ علَيهِم عَدُوًا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِم، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ»، يعني: عدوا يستأصل جميع المسلمين، ويقتل جميع المسلمين، ولا يبقي أحدًا من الإسلام، هذا لا يمكن، وأقصى ما سمعنا عنه ما حصل من التتار، فإنهم استباحوا أولًا البلدان الإسلامية في الهند ثم العراق، أما في الشام فتوقفوا وانكسروا كسرة عظيمة، واستمرت الحرب سجالا حتى دخل كثير منهم في الإسلام بعد حين، وانقطعت أمورهم بعد ذلك، ولم يصلوا إلى الشام ولا إلى مصر، فهم وصلوا إلى أطراف الشام فقط.
قال: «وإنَّ ربي قالَ: يا مُحَمّد، إذا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُردُّ، وإِنّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنةٍ بِعامَّةٍ، وأنْ لا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِم فَيَسْتَبيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِها، حَتّى يَكُونَ بَعضُهُم يُهلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضً»، يعني هذا هو الذي لم يُستجب للنبي ﷺ فيما طلب وبقي هذا، فصار في الأمة فرقة وتقاتل فيما بينهم وتسلُّط فيما بينهم، وهذا أمر الله وقضائه -جَلَّ وَعَلَا- وإذا قضى الله -عَزَّ وَجَلَّ- قضاء فإنَّه لا يرد، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وهذا خبر من النبي ﷺ، وقد وقع اختلاف وقتال ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يصلح أحوال المسلمين وأن يوحدهم.
قال: (ورواهُ البَرْقَانيُّ) ، وهو الحافظ أحمد بن محمد البرقاني الشافعي، وكان له كتاب يسمى "المستخرج" والمستخرجات كتب ألفها علماء الحديث على كتب أهل العلم، فروى حديث ثوبان وزاد عليه هذه الجمل العظيمة، وهي ثابتة وصحيحة عن النبي ﷺ، قال: (ورواهُ البَرْقَانيُّ وزاد: «وَإِنّما أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمةَ المُضِلِّينَ») ، يعني هذا الذي خافه النبي ﷺ على الأمة.
الأئمة: جمع إمام.
المضلين: جمع مضل.
الإمام يدخل فيه الحاكم، ويدخل فيه العالم، ويدخل فيه العابد؛ هؤلاء إذا صاروا مضلين فهذا يكون خطرًا عظيمًا جدًّا، ولهذا خافه النبي ﷺ؛ لأنهم يصرفون الناس عن الدين، ويصرفون الناس عن التوحيد، ويصرفون الناس إلى الشرك والكفر -نسأل الله العافية والسلام.
قال: «وإِذا وَقَعَ عَلَيْهِمْ السَّيفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلى يَومِ القِيامَةِ»، يعني أن القتال إذا حدث في الأمة فإنه يستمر، وهذا من علامات النبوة، وأول ما وقع باستشهاد عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما جاء في حديث حذيفة لَمَّا سأله عمر: " أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر"، ففهمها عمر، وهو أن كسر الباب قتل عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقتل شهيدًا، ثم قُتل عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شهيدًا، ثم قُتل علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شهيدًا، فهؤلاء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قُتلوا، أما عمر فقتله المجوسي أبو لؤلؤة، وأمَّا عثمان فقتله أهل الفتنة والخروج، اجتمعوا عليه يوم الدار، وأمَّا علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقتله الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي، وهذه والفرقة استمرت وإنَّما تقل أو تكثر بحسب توحد المسلمين وقوة شأنهم.
قال: «وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتي بِالمشْرِكينَ، وَحَتّى تَعْبُدَ فِئامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ»، وهذا هو موضع الشاهد من الحديث. الحي: هو القبيلة، يقال عن القبائل: أحيَّاء، حي بني فلان، وحي بني فلان.
قوله: «مِنْ أُمَّتي»، تصريح بأنه في هذه الأمة.
فلو قائل: أنتم تقولون إن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان!
نقول: نحن نقول ما قاله الرسول ﷺ، ونبين ما بينه الرسول ﷺ، والرسول ﷺ بالمؤمنين رؤوف رحيم، وحريص على الأمة، فيخبر عما سيقع حتى لا يقع المسلمون في هذا، وحتى لا يكون السامع لذلك هو الهالك.
قال: «تَعْبُدَ فِئامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ»، الفئام: يعني الجماعات.
وقوله: «مِنْ أُمَّتِي»، يعني: أمة النبي ﷺ.
قوله: «الأَوْثَانَ»، أي: كل ما يعبد من دون الله، سواء كان صنمًا أو قبرًا أو شجرًا أو غير ذلك.
قال: «وإنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتي كَذّابونَ ثَلاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أنّه نَبِي»، هذا خبرٌ ووقع كما أخبر ﷺ.
والمراد بالثلاثين: أي الذين لهم شأن ويتبعون بعض الناس، أمَّا من يدعي النبوة عن خللٍ في العقل أو خبالٍ أو جنونٍ أو مرضٍ؛ فهؤلاء كثير جدًّا، فليس النظر في عدهم، وإنَّما المعدودون هم مثل مسيلمة الكذاب الذي خرج في الجزيرة العربية في وسطها، وادَّعى أنَّه شريك للنبي ﷺ في الرسالة والنبوة، وقاتله الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- حتى قاتلوه -والحمد لله- وكذلك الأسود العنسي في اليمن، وهذا قتل في آخر حيَّاة النبي ﷺ، وكذلك سَجاح التميمية ادَّعت النبوة وتابت ورجعت عن ذلك، وأيضًا طُليحة الأسدي ادعى النبوة وتابعه جمعٌ غفير من أسد، ثم تاب وهداه الله -عَزَّ وَجَلَّ- وآخر مَن يدعي النبوة المسيح الدجال، فإنَّ أول الأمر يخرج في عِراض الخوارج؛ لأن النبي ﷺ قال: «كلَّما خرجَ قرنٌ قُطِعَ أكثرَ من عشرينَ مرَّةً حتَّى يخرجَ في عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ» ، فأهل الخروج، أي: الخوارج، ينبهر بهم الناس لسبب عاطفة أو لسبب إظهار الغيرة على الدين، فيركبهم الدجال ويخرج معهم ويخرج في عراضهم، ثم بعد ذلك يدَّعي الصلاح والاستقامة، ثم يدعي النبوة، ثم بعد ذلك يدعي الربوبية -نعوذ بالله من شره- وحذر منه النبي ﷺ غاية التحذير، فهذا شأن المسيح الدجال، وإذا دعوت الله -عَزَّ وَجَلَّ: "اللهم اني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال"، فإنك تسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يقيك شر فتنته، فإذا استجيب لك؛ فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقيك ما دونها من الفتن، ومن الدجاجلة الذين هم دونه.
قال: «كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أنّه نَبِيٌّ، وَأَنا خَاتَمُ النَّبيينَ، لا نَبِيَّ بَعْدي»، لا نبي ولا رسول، فالنبي هو الرسول، والرسول هو النبي، فليس بعده نبي، وليس بعده ﷺ رسول، أمَّا عيسى ابن مريم فإنَّه سينزل مُتبعًا للنبي ﷺ مُؤمنًا به، يحكم بشريعته ﷺ، ويصلي خلف إمام المسلمين تكرمة لنبي هذه الأمة.
قال ﷺ: «وَلا تَزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحقِّ مَنْصُورةً، لا يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تباركَ وَتَعالَى»، وهذا فيه بشارة عظيمة، ببقاء طائفة تحمل هذا الدين، وتدافع عنه، والله -عَزَّ وَجَلَّ- ينصرها ويؤيدها، والحمد لله.
انظر! نحن الآن في هذه السنوات 1444ه، بيننا وبين النبي ﷺ هذه المدة الطويلة، مئات السنين منذ وفاته ﷺ، وهذا الدين باقٍ، وهناك حملة يحملونه، ويذبُّون عنه وينصرونه ويدافعون عنه، وهناك أهل شأن وأهل إمرة يقومون به، وهناك أهل علم يفتون به، مع كثرة الضَّالين وكثرة المنحرفين، وهذا يبقى -ولله الحمد- إلى قبل قيام الساعة بقليل، فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يبعث ريحًا طيبة تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة فلا يبقى في الأرض من هو موحد ولا مؤمن.
وبهذا نعرف تسمية أهل السنة والجماعة بالطائفة المنصورة، لقوله: «عَلَى الحقِّ مَنْصُورةً»، أيضًا يقال عنهم الفرقة الناجية لقوله ﷺ: «كلُّها في النَّارِ إلَّا واحدةً» ، يعني: تنجو، وهذا مصداقه في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]، وقوله -جَلَّ وَعَلَا- في سورة الأنبياء: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88]، فجعل الله النجاة والنصرة لأهل الإيمان، نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم منهم.
وهذا يبين لنا أن بعض هذه الأمة يقع منهم هذا الشرك، فيعبد الأوثان ويلحق بالمشركين، وهناك أناس ارتدوا على أدبارهم، منهم من ارتد عن الإسلام، ولكنهم قلة -ولله الحمد- لا يؤبه بهم ولكن الخطر موجود، هناك الآن دعاة فتنة ودعاة شر ودعاة إلحاد ودعاة شرك، فالمؤمن يحذر على أهم شيء عنده وهو الإيمان والإسلام، ويحميه ويدافع عنه، ويسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يثبت قلبه على الدين.
وهنا يرد سؤال، بعض الناس يقول: إنَّه جاء حديث عن الرسول ﷺ أنَّه قال: «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ» ، فهل معنى هذا الحديث أنَّ الشيطان لا يمكن أن يعبد ولا يمكن أن يقع شرك؟ كيف نجمع بين هذا وبين ما ورد في أنَّ فئام من هذه الأمة يلحق بالمشركين؟
والجواب: أن هذا الحديث لا يعارض الأحاديث الأخرى، وإنَّما يجمع بينهم، وهذه طريقة الراسخين في العلم، ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَ﴾ [آل عمران: 7]، فقال الراسخون من أهل العلم: إنَّ قوله ﷺ «قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ» هذا هو الذي يئس وهو غير معصوم، وليس العبرة به، ولكن هذا خبر من النبي ﷺ بما حصلَ للشيطان من هذا الاندحار بظهور الإسلام ببعثة النبي ﷺ.
أيضًا يُقال في قوله: «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ»، أي: كما كان أهل الجاهلية، يعني: يطبق هذا الأمر على الأرض كلها، فهذا يأس من أن يقع هذا، قد يوجد من الناس من يعبده أو يعبد الأوثان وهي عبادة للشيطان أو يعبد القبور، لكن ليس إطباقًا كما كان عليه قبل مبعث النبي ﷺ.
أو يُقال: يئس أن يعبده المصلون، والمراد المصلون الذين مع النبي ﷺ، أي: الصحابة، ولهذا قال لهم ﷺ: «وإنِّي واللَّهِ ما أخَافُ علَيْكُم أنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي» ، يخاطب الصحابة، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
إذًا هذه ثلاث إجابات بها يتم الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث الأخرى، ونعرف خطر الشرك، وأن الإنسان يحذر منه أشد الحذر، وبالتالي إذا عرفنا أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان:
أولًا: ننصح للمسلمين حتى لا يكون أحد منهم فريسة أو يقع في هذا الأمر الخطير الذي حذر منه النبي ﷺ.
ثانيًا: نحذر نحن من هذا الشيء.
ثالثًا: نحذر من الأسباب الموصلة لهذا الشيء، ما الذي جعلهم يفعلون هذا الفعل؟
رابعًا: نأخذ العبرة أن النبي ﷺ يخبر عن أمور ستقع للتحذير والوقاية، فهذا يجعلنا نحبه ﷺ، وينمو في قلوبنا محبته عليه الصلاة والسلام ونأخذ بنصائحه.
الشيخ ذكر في المسائل عدَّة أمور أحبُّ أن أقرأها لأهميتها، قال: (الرابعةُ: ما مَعْنَى الإيمانِ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ في هذا الموضع؟ هَلْ هُوَ اعتقادُ قَلْبٍ؟ أَو هو مُوافَقَةُ أَصْحَابِها مَعَ بُغْضِها ومَعْرِفَةِ بُطلانِها؟) ، كثرة اليهود والنصارى مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب يعرفون أن أهل مكة على باطل، لكن وافقوهم في الظاهر، قالوا: أنتم صواب، فالشيخ يقول: اعتقادهم القلبي لم ينفعهم، وأنكرَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- على هؤلاء اليهود، إذًا ماذا نستفيد من هذا؟ أن الإنسان إذا جلس بين أناس يعبدون الأوثان وقال: أنا قلبي ينكر فعلهم، ولكنه يسكت عنهم ويقول: أنتم على خير وأنتم على صواب استمروا؛ هذا الكلام منه هو عين ما صدر من اليهود، وهذا مفيد جدًّا للمؤمن، حتى لا يقع في حبائل شُبهات المشركين.
قال: (الخامسة: قَوْلُهُم: إِنّ الكُفَّارَ الذينَ يَعْرِفُونَ كُفْرَهُمْ أَهْدَى سَبيلًا مِنَ الْمُؤمِنينَ) ، وهذا فيه تنبيه على ما يقع من علماء السوء، بتحسين أمور الشرك، وتقبيح مَن يقوم بالتوحيد هذا إلى الآن.
قال: (السادسة: -وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالتَّرْجَمَةَ- أَنّ هَذا لا بُدّ أَنْ يُوجَدَ في هَذِهِ الأمةِ كَما تَقرّرَ فِي حَديثِ أَبي سعيدٍ) ، لابد أن يوجد في هذه الأمة لقوله: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ».
قال: (السّابعةُ: التَصْريحُ بِوقُوعِهَا -أَعْنِي عِبادَةَ الأوثانِ- في هذه الأمة في جموع كثيرة) ، يعني: ليس واحدا أو اثنين، بل فئام من أمتي.
قال: (الثامنةَ: العجبُ العُجابُ خُروجُ مَنْ يَدّعي النُّبوَّةَ مِثْلَ المختارِ مَعَ تَكَلُّمِهِ بِالشَّهادَتَيْنِ وتَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ مِنْ هَذِه الأُمَّةِ، وأَنّ الرسولَ حَقٌّ وأنَّ القرآنَ حَقٌّ، وفِيهِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبيينَ وَمَعَ هَذا يُصَدَّقُ في هذا كُلِّهِ مَعَ التَّضادّ الواضِحِ) ، يقول الشيخ: احذر من الشرك، واحذر من الكفر، واحذر من الردة عن الإسلام، الذي يقع في هذه الأمور يقع في تناقضات عجيبة، مثل بعض الناس يدَّعي النبوة وهو شهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمدًا رسول الله، مثل المختار، وهو من ثقيف، والنبي ﷺ أخبر أنَّه يخرج من ثقيف مدعٍ للنبوة ومبيرٌ، فالمبيرُ: هو الحجاج الثقفي، والمدعي للنبوة هو هذا المختار، مع أنَّه يشهد للرسول ﷺ بأنه حق والقرآن حق، ومع ذلك صار على هذا نحو المخرج من الملة -نعوذ بالله.
قال الشيخ: (العاشرةُ: الآيةُ العُظْمَى أَنَّهُمْ مَعَ قِلَّتهم لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خَالَفَهُم) ، وهنا وقفة! فالخذلان غير المخالفة، الخذلان واحد كان منهم ثم انقلب على عقبيه وهذا يوجد، فيوجد أناس عرفوا السنة وعرفوا القرآن وعرفوا التوحيد وعرفوا العقيدة السلفية التي كان عليها النبي ﷺ والصحابة وسلفنا الصالح عرفوها جيدًّا ودرسوها، ثم موقف أو موقفين أو أمور نفسية أو كذا انقلبوا، هذا يعتبر خالف لكنه خذلهم وصار في العقيدة ويسب العقيدة السلفية وينبري لنصرة الشرك وأهله.
قال الشيخ: (الثانية عشرة: مَا فيهِ مِنَ الآياتِ العَظيمةِ: مِنْها إِخْبارُهُ بَأَنّ اللهَ زَوى لَهُ المشارِقَ والْمَغارِبَ وأَخْبَرَ بِمَعْنى ذلِك فَوَقَعَ كَما أَخْبَرَ بِخلافِ الجنوبِ والشّمالِ، وإِخْبارُهُ بأَنه أُعْطِي الكَنْزَيْنِ، وإِخْبارُه بإِجابةِ دَعْوَتِهِ لأُمَّتهِ في الاثْنَتيْنِ، وإِخْبارُهُ بِأَنَّهُ مُنِعَ الثالثةَ، وإِخبارُه بِوُقوعِ السَّيْفِ وأَنَّهُ لا يُرْفَعُ إذا وَقَعَ، وإِخبارُهُ بإِهْلاكِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَسَبْيِ بَعْضِهِمْ بعضًا وخَوْفِهِ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وإِخْبارُهُ بِظُهورِ الْمُتَنبِّئينَ في هَذِهِ الأُمَّةِ، وَإِخْبارُهُ ِ بِبَقَاءِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ، وكلُّ هَذا وَقَعَ كَما أَخْبَرَ، مَعَ أَنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْها من أَبْعَدِ ما يكون في العُقولِ) ، يعني لو جئت في وقت الرسول ﷺ وتقول: إنَّه سيحدث أن كنز كنوز كسرى وكنوز قيصر معكم؛ فهذا شيء مستبعد ومع ذلك وقع.
انظر للباب "بابُ: ما جاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأمَّةِ تَعبُدُ الأوثانَ"، بعض الناس يقول: كيف هذا نحن مسلمون؟
تقول: إذا أخبر النبي بشيء فإنَّه سيقع كما أخبر، فاحذر وانتبه.
فهذا من المسائل المهمة التي وضحها الشيخ، وفيها شرح لَمَّا تضمنه هذا الباب من مسائل، مفيدة، وبهذا نصل إلى ختام هذا الباب المهم في أبواب كتاب التوحيد.
وهناك بعض الفوائد نأخذها:
من المسائل: أن السحر والتصديق به سيقع في هذه الأمة لقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾، فهناك من هذه الأمة من يقع في السحر ويصدق بالسحر وهذا من الكفر، كما تقدم ذكره.
وقوله -جَلَّ وَعَلَا- في الآية السابقة: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً﴾، فيها دلالة على أن في هذه الأمة مَن يعبد الطاغوت ويعبد الأوثان، وأيضًا دلالة على اتِّخاذ القبور مساجد -كما سبق- فكل معصية وكل بدعة أو كفر أو إلحاد وقع فيه كفرة أهل الكتاب فسيوجد في هذه الأمة مَن يقع فيه -نسأل الله العافية والسلامة، آمين.
وبهذا نصل إلى ختام هذا الدرس، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{نشكركم شيخنا المبارك، نسأل الله تبارك وتعالى بأن يفتح لكم وأن يزيدكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نستودعكم الله والسلام ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12802 18
-
16749 9
-
34813 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12