الدرس الخامس
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حيَّاكم الله وبيَّاكم معاشر طلبة العلم، أسعد الله أيَّامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، ونرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم) المستوى الثاني، والذي نشرح فيه (كتاب التوحيد) للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يصطحبنا فيه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ حياكم الله شيخ فهد}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة جميعًا وعلى بركة الله نبدأ، تفضل.
{شيخنا كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند: "بابُ ما جاءَ أن الغُلُوّ فِي قُبورِ الصَّالِحينَ يُصَيِّرُها أَوْثَانًا تُعبدُ مِنْ دُونِ الله".
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ ما جاءَ أن الغُلُوّ فِي قُبورِ الصَّالِحينَ يُصَيِّرُها أَوْثَانًا تُعبدُ مِنْ دُونِ الله
رَوى مَالكٌ في الْمُوطّأ: أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعبدُ، اشْتدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذوا قُبورَ أَنبِيائِهِم مَساجِد»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد؛ فنسأل الله -جل وعلا- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، ونسأل الله -جل وعلا- أن يُثبتنا على دينه حتى نلقاه، وجميع إخواننا المسلمين.
الباب الذي مرَّ معنا في الدرس الماضي (بابُ ما جاءَ من التغليظِ فِيمَنْ عَبَدَ اللهَ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صالِحٍ فَكَيْفَ إِذا عَبَدَهُ؟) وأورد فيه الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- عددًا من الأحاديث عن النبي ﷺ في التَّحذير من اتخاذ المساجد قبورًا، واتخاذ القبور مساجدًا، وهنا في هذا الباب قال: (بابُ ما جاءَ أن الغُلُوّ فِي قُبورِ الصَّالِحينَ يُصَيِّرُها أَوْثَانًا تُعبدُ مِنْ دُونِ الله)، وهذا كلام صحيح جدًّا موافق للأدلة الشرعية -كما سيأتي وكما مر معنا.
فالغلو: هو الزيادة عن الحد.
والقبور: جمع قبر، وهو ما يدفن فيه الميت.
وقبور الصالحين يدخل فيها قبور الأنبياء وأهل العباد والعلم والتقوى، ومَن يُنسبون إلى الصلاح؛ فالغلو في هذه القبور أي الزيادة فيها إما ببناء أو الزيادة في أعمال تقام عند هذه القبور، أو أي شيء لم يرد به الشرع.
نقول قولًا عامًّا: أي شيء لم يرد به الشرع عند القبور يفعله الناس؛ فإن هذا غلو.
ماذا يحدث مع مرور الأزمنة ومع مرور الوقت ومع كثرة الجهل وقلة العلم؟
يحدث أن هذه القبور بعينها تصبح أوثانًا تُعبد من الله عز وجل، يعني هذا الغلو هو السبب، بدون هذا الغلو لا يلتفت إليها الناس ولا يعطونها قداسة أو أهمية، إنَّما يعطونها ما يُعتاد مع القبور من السَّلام والزيارة، لكن هذا الهيلمان وهذه التصرفات وهذه الأفعال؛ هذا غلو بشكل عام عند قبور الصالحين أو في قبور الصالحين، والغلو كلمة مجملة يدخل تحتها ما لا حصر له من الصور والأفعال المخالِفة للشريعة، ومع مرور الوقت تكون أوثانًا تُعبد من دون الله.
وهنا نقف عند كلمة "وثن"، فـ "وثن" جمعه "أوثان"، وسبق معنا في الدروس الماضية التفريق بين الصنم والوثن:
فالصنم: ما كان على شكل صورة، يعني أي تمثال أو شيء عمل ولكن جُعلت له فهذا يسمى صنمًا.
الوثن: ما ليس فيه صورة، وهو معبود من دون الله -عز وجل، مثال: شجرة، أو حصى، أو حجارة، أو عمود، أو خشبة؛ هذه كلها تدخل في جملة الأوثان، وليس فيها صورة.
وكذلك الصنم من جهة العموم يسمى وثنًا، ولهذا سمى إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- كما في سورة العنكبوت ما يعبدونه من دون الله سماها أوثانًا، فهذا يُبين لك أنَّ الوثن يشمل الصنم وما ليس له صورة.
القبر بهذه الطريقة ليس له صورة، القبر ليس فيه صورة إنسان، لكن بعض الناس قد يبلغ به الأمر حتى يضع صورة أيضًا، كما صنع قوم نوح.
{شيخنا بالنسبة للنحت؛ هل هو وثن أو صنم؟}.
قد ينحتون ما هو على شكل إنسان أو حيوان فهذا يُسمى صنمًا، صورة أسد مثلا أو صورة حمامة أو صورة آدمي؛ هذا يُسمى صنمًا ووثنًا، جميل وإذا نحت مثل شجرة، أو نَصب تمثالي كعمود فقط، أو أي شيء آخر؛ فيسمى وثنًا إذا عبد من دون الله عز وجل.
فهنا يأتي سؤال: ما الدليل على أن الغلو قبور الصالحين يصيروها أوثانًا تعبد من دون الله؟
أورد الشيخ عددًا من الأدلة، قال: (رَوى مَالكٌ في الْمُوطّ)، مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة عالم المدينة، أحد الأئمة الأربعة الفقهية المشهورة المتبوعة، وهذا إمام عظيم وله سيرة عطرة وأخبار جميلة -رَحِمَهُ اللهُ-، مما ألف كتاب الموطأ، فالموطأ كتاب من الكتب التي جمعت حديث رسول الله ﷺ.
قال: (رَوى مَالكٌ في الْمُوطّ)، عن عطاء بن يسار مُرسلًا، ورُوي متصلًا عنه أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي ﷺ أنه قال: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعبدُ، اشْتدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذوا قُبورَ أَنبِيائِهِم مَساجِد»، فأفادنا هذا الحديث عدة فوائد:
الفائدة الأولى: هذا من العلم المحفوظ الذي نقله أئمة الدين عن النبي ﷺ، نقله الصحابة ثم التابعون، ومن أئمة أتباع التابعين الإمام مالك، وهذا فيه ردٌّ على عبَّاد الأضرحة والقبور، النبي ﷺ لو كان يحب لأمته أن يضعوا في مساجدهم قبورًا لقال لهم قولًا صريحًا: "إذا بنيتم مسجدًا فضعوا قبرًا فيه أو ادفنوا أصلحكم فيه أو ادفنوا صالحيكم فيه"، ونحن نجد أنَّ كلمات النبي ﷺ المتواترة عنه من جهة المعنى، فالتواتر ليس لفظيًّا، والتواتر من جهة المعنى: أي إذا نظرت إلى هذا الحديث ثم هذا الحديث ثم هذا الحديث ثم هذا الحديث، وإن اختلفت ألفاظها وجملها، لكن محتواها إذا جمعت هذه مع بعضها عرفت أن هذا الأمر مطبق عليه، متواتر معروف من هدي النبي ﷺ أنه لم يأمر بهذا إطلاقًا، وكذلك إذا نظرت إلى هدي أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لم يأمروا بهذا إطلاقًا، فانظر نحن الآن بعدما أحدث هذه البدعة الرافضة في مصر في الدولة العبيدية؛ انتشرت في أرجاء كثيرٍ من البلدان -نسأل الله لهم الهداية- وصاروا يضعون في المساجد قبورًا، أو يبنون المساجد على القبور -نسأل الله العافية والسلامة- وهذا مخالف جدا لهدي النبي ﷺ ومناقض له تمامًا، فمَن نصحَ لنفسه وللمسلمين اقتدى بالنبي ﷺ، وأمرَ بما أمر به النبي ﷺ، ودعا إلى ما دعا إليه النبي ﷺ.
وهذا الخطاب لولاة الأمور بالدرجة الأولى، كل مَن تولَّى على المسلمين، وكلُّ من صارت له سلطة في ناحية من نواحي المسلمين عليه أن يُقيم سنة النبي ﷺ، وأن يظهرها للمسلمين، فإن وجد جهلة أو وجد أهل بدع أقام عليهم الحجة بأهل العلم ونصحهم وبيَّن لهم، فإن أبوا بعد ذلك لا يبالي بهم، فيجب عليه أن يظهر سنة النبي ﷺ. فهذا ما يتعلق بالفائدة الأولى.
الفائدة الثانية: قوله ﷺ: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعبدُ»، وهذا في دعاء، وقد استجاب الله لنبيه ﷺ فلم يصل أحد إلى قبره، ولا يمكن أن يُتعبَّد عند قبر النبي ﷺ، ولا يمكن لأحد أن يصلي بجوار قبر النبي ﷺ، فجدران الغرفة -وهي بيت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- الذي دفن فيه النبي ﷺ، ثم بجواره أبي بكر وعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- ثم وراء هذه الجدران للغرفة جدرانٌ أخرى، ثم جدران ثالثة، وقد قرأنا في الدرس الماضي قول ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ:
وَلَقَدْ نَهَانَا أَنْ نُصَيِّرَ قَبْـــرَهُ ... عِيدًا حِذَارَ الشِّرْكِ بِالرَّحْمَــنِ
وَدَعَا بِأَنْ لَا يُجْعَلَ القَبْرُ الَّـــذِي ... قَدْ ضَمَّهُ وَثَنًا مِنَ الأَوْثَــانِ
فَأَجَـــابَ رَبُّ العَالَمِينَ دُعَاءَهُ ... وَأَحَاطَهُ بِثَلَاثَةِ الجُــدْرَانِ
حَتَّى اغْتَدَتْ أَرْجَاؤُهُ بِدُعَــائِهِ ... فِي عِزَّةٍ وَحِمَايَةٍ وَصِيَـانِ
وَلَقَدْ غَدَا عِنْدَ الـوَفَاةِ مُصَـرِّحًا ... بِاللَّعْنِ يَصْرُخُ فِيهِمُ بِـأَذَانِ
وَعَنَى الأُلَى جَعَلُوا القُبُورَ مَسَاجِدًا ... وَهُمُ اليَهُودُ وَعَابِدُو الصُّلْبَانِ
وَاللهِ لَوْلَا ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْـــرُهُ ... لَكِنَّهُمْ حَجَبُوهُ بِالحِيطَـــانِ
إلى آخر ما قال -رَحِمَهُ اللهُ.
فالمقصود أيها الإخوة الكرام: أننا نعرف مقصدًا عظيمًا جاء به الرسول ﷺ وهو أصل من أصول الدين أن تكون العبادة خالصة لله عز وجل، لا يصرف منها شيء للرسول ﷺ، فضلًا عن غيره وهو أفضل الخلق.
ونستفيد من هذا الحديث: أن قوله ﷺ: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعبدُ»، معناه أنه لو عُبد أي قبر لسمي وثنًا؛ لأنه قال: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعبدُ»، فلو عبد أي قبر لقلنا: إنَّ هذه العبادة التي صرفت للقبر جعلت القبر وثنًا، وأهل البدع والخرافة الذين يروِّجون الشركيات لا يريدون هذا المعنى؛ لأنه يفضحهم، ولكن نحن نكشفه للمسلمين من خلال كلام النبي ﷺ، فهو كلام عربي واضح جدًّا، و لهذا قال إبراهيم: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [مريم: 48]، وقال في سورة الأنعام: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانً﴾ [العنكبوت: 17]، فسماها أوثانًا، فإذا عبد القبر صار وثنًا.
وعبادة القبر تكون بالسجود له، والركوع له، والذبح له، والنذر له، ودعاؤه، وطلب الحاجات منه، حتى طلب الشفاعة منه كأن يقول له: اشفع لي عند الله؛ هذا هو ما كان عليه أهل الشرك.
{لو كان القبر في بلدة بعيدة ويذبح الرجل من أجله أو يركع من أجله؛ فهل يعد أنه صرف العبادة لغير الله}.
نعم؛ لأنه صرف لغير الله، والعبرة بأفعال العبد، فأفعال العبد هي من العبادات لمن يوجهها، أنا وأنت وكل إنسان حتى الجن، لمن نتعبد؟ فإذا صار الإنسان يتعبد له ولو في قعر بيته ويقصد بعبادته غير الله، ويتَّجه إلى المخلوق، حتى لو كان أفضل مخلوق ﷺ؛ ما يجوز هذا، أفضل مخلوق رسول الله ﷺ نؤمن به ونتبعه ونطيعه، ونأتمر بأمره، وننتهي عن نهيه، ونقتدي بأخلاقه، ونتأسى به وندعو إلى ما دعا إليه؛ لكن ما نعبده من دون الله.
هذا يعني تعليق على قوله: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعبدُ».
الفائدة الثالثة: أنَّ الشرك الأكبر يكون بصرف العبادة لغير الله بغض النظر ماذا يعتقد؛ بعض الخرافيين يقول: لابد أن يعتقد في صاحب القبر النفع والضر، ولابد يعتقد في صاحب القبر أنه خلق ورزق ودبر؛ نقول: هذا ليس بضروري، إذا اعتقد هذا فهذا كفر أعظم جدًّا، ولا يمكن لأحد أن يعتقد مثل هذا إلا شذَّاذ البشر، وهم متناقضون حتى في عقيدتهم هذه، لكن نحن نقول: من صرف العبادة لغير الله لقوله «يُعْبَد».
ثم في قوله ﷺ: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعبدُ» ليس المعنى أنَّ النبي ﷺ ينهى أن يعبد قبره ويُتخذ وثنًا ويسمح بأن يعبد قبر غيره! فهو أفضل الخلق وينهى أن يُتَّخذ قبره وثنًا يُعبد، فإذا نهى عن ذلك فهذا من باب أولى أن نفهم نهيه ﷺ عن أن يجعل قبر غيره أيضًا وثنًا يعبد، وهذا واضح جدًّا، فمن فهم هذا وعرف أنَّ هذا ينقله أئمة الإسلام، لاحظ الإمام مالك في الموطأ، ويتوارد عليه العلماء، ما يقولون هذا باطل، كما يقول الخرافيون الآن، فالآن أمامك يا أيها المسلم يا مَن تنصح لنفسك وللمسلمين أمامك طريق النبي ﷺ وطريق الأئمة كالإمام مالك، وهناك طريق مناقض له وهو طريق الشياطين، يقولون: اتَّجهوا للقبور واعبدوا أصحابها، وادعوهم من دون الله، ونادوهم، واستغيثوا بهم، واطلبوا منهم المدد؛ فأنت تختار أي طريقين؟ قال تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَ﴾ [الشمس 8 – 10]، وقال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة 6 – 7]، والله لا يمكن أبدًا أن يكون هؤلاء الخرافيون خير من مالك وأئمة الدين أبدًّا.
قال ﷺ: «اشْتدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذوا قُبورَ أَنبِيائِهِم مَساجِد»، لاحظ أنَّ النبي ﷺ دعا ألا يعبد، ثم ذكر سببًا ووسيلة وليس عبادة وهذا مهم جدًّا؛ وهي بيان حرص النبي ﷺ على سدِّ منافذ الشرك وقطع وسائله، لأن قوله ﷺ: «اشْتدَّ غَضَبُ الله»، هذا تحذير، وهو يوافق ما تقدَّم من الأحاديث أنهم شرار الخلق، وأنهم مستحقون للعنة الله.
قال: «اشْتدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذوا قُبورَ أَنبِيائِهِم مَساجِد»، هنا السؤال: اتخاذ القبور مساجد، هل هو عبادة لغير الله؟
الجواب: لا، انتبه يا طالب العلم انتبه يا مسلم! اتخاذ القبور مساجد هو ليس عبادة لهم، وإنما هو وسيلة إلى عبادتهم، وهو من أسباب عبادتهم من دون الله، ومع ذلك ربط النبي ﷺ بقوله: «اشْتدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذوا قُبورَ أَنبِيائِهِم مَساجِد»، والجملة الثانية هي هذه الوسيلة، وهي اتخاذ القبور مساجد.
وقوله ﷺ: «اشْتدَّ غَضَبُ الله»، فيه إثبات صفة الغضب لله عز وجل، وأنَّ الله عز وجل يغضب، وأن المؤمن يحذر من أن يسخط الله عز وجل عليه ويغضب الله عز وجل عليه.
وقوله: «عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذو»، يشمل كل من فعل هذا الفعل، فيدخل في دخولًا أوليا كفرة اليهود والنصارى الذين فعلوا هذا الفعل، ويدخل في ذلك كل قوم اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وكذلك إذا كان اتِّخاذ قبور الأنبياء مساجد يغضب الله عز وجل على من فعل ذلك؛ فمن باب أولى قبور الصالحين، لأنهم أقل من الأنبياء.
والآن يقال: إنَّ بعض القبور التي يضعونها ويقولون إنها للولي تكون فارغة، ليس فيها شيء، ومكذوبة ومفتراة، وبعضها مبني على ما رآه أحدهم في المنام، أو بعضهم يريد أن يتكسَّب من السُّذَّج والجهلة.
فهذا تعليق على هذا الحديث العظيم: «اشْتدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذوا قُبورَ أَنبِيائِهِم مَساجِد»، فإذا اتخذوها مساجد آل الأمرُ وزادَ حتى يعتقد هؤلاء الذين اتخذوا القبور مساجد أنها تُدعى وأنها تُرجى، وأنه يُذبَح لها، وأنه يُطاف بها؛ فهذا كله يبيِّن لك السبب في المنع من الغلو في قبور الصالحين، وأنه ليس لأجل منع الصلاة عندها.
ولذلك الآن نقول لإخواني المسلمين عمومًا: أي واحد صلى في مقبرة -صلاة ظهر صلاة عصر أو مغرب أو عشاء- ويقول: ما وجدت مكانًا؛ نقول: أعد صلاتك، الصلاة باطلة؛ لأن الرسول ﷺ نهى عن ذلك، ما دام أنَّ الرسول ﷺ نهى عن ذلك، فالنَّهي يعود إلى نفسِ الصَّلاة، فينصب النَّهي على الصلاة فتبطل، إلا صلاة الجنازة فقط، هذا أمر.
الأمر الثاني: النبي ﷺ نهى عن الغلو، ولم يرخِّص في العبادات عند القبور، فقط الزيارة الشرعية يشرع فيها أمران:
الأول: تتذكر الموت والبلا، وأنَّ هذا مصيرك، فتحزن وتستعد للآخرة، وتتأثر ويرق قلبك.
الفائدة الثانية: وهي الدعاء للموتى بالسَّلام عليهم، والدعاء لهم أن ينور الله قبورهم، وأن يغفر لهم ذنوبهم، وأن يوسع لهم في قبورهم، هذه هي الزيارة الشرعية.
ولا يشرع أن تتصدق بالماء عند القبور، أو جعله سبيلًا، والناس إذا دفنوا في رمضان يقولوا لهم: أفطروا هنا؛ هذا كلام باطل، فيسوغون هذا، وبعضهم يقول: تصدق عن الميت!
نقول: لا تتصدق عند القبور، فهذا لا يُشرَع، تصدَّق إذا خرجتَ، ما أحد يمنعك، لماذا تفعل هذه العبادة عند القبور؟!
بعضهم يقول: أنا يرق قلبي عند القبر فأدعو الله -جَلَّ وَعَلَا!
نقول: هذه بدعة، الدعاء يكون للميت، فتقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه؛ لا بأس بهذا، أما أن تدعو لنفسك وتتحرى أن يُستجاب لك في هذا المكان فلا، أهل الإسلام يتحرون المساجد وأوقات الإجابة، ما يتحرون المشاهد والقبور، فهذا فعل المشركين وليس فعل الموحدين.
هل من فعل ذلك هو مشرك؟
نقول: لا، هو مبتدع وقد وقع في الغلو، الإنسان يحذر من هذا المسلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولابْنِ جَريرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفيانَ عنْ منصورٍ عن مجاهدٍ: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم:19] قال: "كانَ يلُتُّ لَهُمُ السّويقَ فماتَ، فَعَكَفُوا علَى قَبْرِهِ".
وكَذَا قالَ أبو الجوْزاءِ عَنِ ابنِ عَبّاس: "كَان يَلُتُّ السَّويقَ للحاجِّ".
وعَنِ ابنِ عَباسٍ رضِي الله عَنْهُما قال: «لَعَن رسولُ اللهِ ﷺ زائراتِ القُبورِ، والمتّخِذين عَلَيْها المساجِدَ والسُّرُجَ» رواهُ أهْلُ السُّننِ)}.
هذان الأثران فيهما فائدة عظيمة:
أولهما: الأثر عن مجاهد في تفسير قول الله عز وجل: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى﴾، قال: (كانَ يلُتُّ لَهُمُ السّويقَ)، وابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- هو شيخ مجاهد، يقول: "كَان يَلُتُّ السَّويقَ للحاجِّ"، وهذا فيه فائدة وهي أنه كان معروفًا بالإحسان والصدقات، إذًا هذا رجل صالح كان يلت السويق، والسويق: هو البر المطحون، ويخلط معه عسل أو تمر، وهو طعام لذيذ وطيب، وأيضًا طعام غالٍ، ومن أنفس وأنفع ما يكون للبدن، تمر وبر أو عسل وبر، فهذا يلته -يعني: يعجنه- لأنه يحتاج إلى معالجة وطبخ، ثم يوزعها على الحجاج، هذا عمل طيب، فمات؛ فقالوا كيف نترك هذا الرجل الصالح؟ نعكف عند القبر، والعكوف: هو طول البقاء، يتحرى ساعة ساعتين يروح للقبر ويجلس عنده، هذا الرجل كان يفعل كذا وكان يفعل كذا وكان يفعل كذا...، إذًا صار معبودًا من دون الله، وكانوا من شدة تعظيمهم له إذا أرادوا أن يحلفوا ويعظِّموه قالوا: واللاتِ؛ لأنه صار معظم في قلوبهم.
إذًا بداية الأمر: رجل صالح. هل الصلاح مذمة؟ لا، ما ندري عن حاله هل هو مسلم أو لا؛ لكن هو في تصرفاته كان يحسن للناس، بعد ذلك غَلَوا فيه، كيف كانت بداية الغلو؟ بداية الغلو العكوف كما قال مجاهد: "فَعَكَفُوا علَى قَبْرِهِ"، هذا العكوف عند القبر نتج عنه أنه عُبد من دون الله.
نرجع للباب: (بابُ ما جاءَ أن الغُلُوّ فِي قُبورِ الصَّالِحينَ).
هنا الغلو: العكوف عند القبر.
قال: (يُصَيِّرُها أَوْثَانًا تُعبدُ مِنْ دُونِ الله)، صار اللات -وهو صنم- يعبد -يعني يُتَّخذ- وهو في الطائف مكانه، صار عندهم مثل يعني الإله يعبد من دون الله عز وجل، ويعظِّمونه ويحلفون به ويعبدونه من دون الله.
فهذا كانت بدايته، لم يعتقدوا أنه يخلق، ولم يعتقدوا يرزق أو يدبر العالم؛ لا، فقط هذه التصرفات الشركية الصغيرة من الشرك الأصغر والوسائل أدَّت بهم إلى هذا الغلو الكبير -نعوذ بالله من ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعَنِ ابنِ عَباسٍ رضِي الله عَنْهُما قال: «لَعَن رسولُ اللهِ ﷺ زائراتِ القُبورِ، والمتّخِذين عَلَيْها المساجِدَ والسُّرُجَ» رواهُ أهْلُ السُّننِ)}.
هذا الحديث حديث عظيم، رواه ابن عباس عن النبي ﷺ، فروى ثلاث مسائل كبرى، كلها عليها هذا الحكم وهو اللعن:
الأولى: «لَعَن رسولُ اللهِ ﷺ زائراتِ القُبورِ».
الثانية: «والمتّخِذين عَلَيْها المساجِدَ».
الثالثة: «والسُّرُجَ»، أي: الذين اتخذوا على القبور السرج.
وهذا الحديث رواه أهل السنن وهو في سنن أبي داود والترمذي والنسائي.
وجاء أيضًا عن أبي هريرة أن النبي ﷺ «لَعَنَ زوَّاراتِ القبورِ» .
أمَّا المسألة الأولى وهي: حكم زيارة القبور للنساء؛ فالصحيح أنها حرام لهذا الحديث، ولحديث أبي هريرة، وأيضًا حديث حسان بن ثابت؛ كل هذه الأحاديث تدل على تحريم زيارة النساء للقبور.
والعلة في ذلك: أنه يكثر من النساء الجزع، ويكثر من النساء التسخط، ويكثر من النساء قلة الصبر، والتصرفات التي لا تليق، وقلوبهن أضعف من قلوب الرجال في الجملة، وهذا يُبين لنا أنَّ الزيارة التي شُرعت للقبور إنَّما هي مشروعة للرجال دون النساء.
هذا القول هو القول الصحيح، وهناك قول لبعض أهل العلم بأن زيارة النساء للقبور جائزة، وبعضهم يقول: مكروهة، لكن لا أحد من أهل العلم يقول: إنها سنة، بخلاف الرجال فإنها سنة، ونفس هذا القول الذي يبين لك أنها ليست سنة في حق النساء، حتى مع القول بالتَّجويز قالوا: إنها جائزة فقط، ولكن هذا ضعيف؛ لأنه يصادم هذا الحديث، وأمَّا قصة عائشة: "ما أقول إن مررت بالقبور؟" فالمرور بالقبور غير زيارة القبور، فالمسافر يمر عليها، ويقول: هذا القبور الفلانية وهؤلاء الموتى؛ فهذا مرور، لكن الزيارة هي الدخول داخل المقبرة إذا كان لها سور أو داخل بين القبور وهذا هو المحرم، أمَّا المرور على الشوارع أو على الطرقات وتكون المقبرة عن يمين أو يسار فلا، نقول: إن المرأة لا تمر أو لا تدعو
المسألة الثانية: اتخاذ المساجد، وقد تقدمت هذه في الأحاديث السابقة، وذكرنا أنَّ لها ثلاث صور كما ذكر الشيخ:
الصورة الأولى: بناء المسجد فوق القبر، وهذا يهدم فيه المسجد.
الصورة الثانية: إدخال القبر في وسط المسجد، وهذا ينبش فيه القبر ويعاد إلى مقابر المسلمين.
الصورة الثالثة: أن يأتي عند القبور بدون بناء وبدون شيء ويتحرَّى عندها الصلاة.
المسألة الثالثة في هذا الحديث: المتخذين عليها السرج.
والسرج: جمع سراج، والسراج هو المصابيح التي يُضاء بها المكان، ولهذا فإن القبور في عهد النبي ﷺ لم يكن عليها سرج، ونهى النبي ﷺ عن أن تجعل عليها السرج.
واتخاذ السرج يكون بأن يُجعل السراج ثابت ودائم دليل على أن هنا قبر له أهمية أو شأن، فيغري بعض الناس بالقدوم إليه، والصحيح أنه لا يجوز إنارة المقابر إنارة دائمة أبدًا، ولا يجوز وضع المصابيح على المقابر، وإنَّما تكون الإنارة مؤقَّتة مثل أن يُؤخذ بالمصابيح وتحمل عند الدفن ليضيء بها، فيأخذ سراج أو يأخذ موتور كهربائي أو السيارة ويفتحون الأنوار حتى يُدفن الميت إذا احتاجوا للدفن ليلًا، فلا بأس بالدفن ليلًا، وإذا انتهوا من هذا يذهبون بتلك الإنارة ويخرجونها، ما تكون إنارة ثابتة، لأن هذا عين لعنه رسول الله ﷺ، وهو اتخاذ السرج على القبور.
ولو نظرت في سنة النبي ﷺ وسنة الصحابة؛ تجد أن قبور الصحابة ليس عليها بناء، وليس عليها قباب، وليس فيها سرج، وليس عليها إضاءة؛ فجاء الخلوف المبتدعون فخالفوا هذا كله، ووضعوا السرج، ووضعوا القباب، ووضعوا الستور، ووضعوا الغرف، ووضعوا مكانًا للقعود والجلوس؛ وكل هذا يجب إزالته، فيجب على ولاة أمور المسلمين إزالة هذه الأمور، وإعادة القبور على ما كانت محترمة من غير غلو، ولا يجوز إهانتها ولا وطؤها، ولا المشي فوقها، أو القعود فوقها؛ هذا فيه إهانة وحرام، ولا يجوز أيضًا الغلو فيها والزيادة عن المشروع.
{هل الحكم في هذا أيضًا يشمل المقبرة بشكل عام فلا تنور بإنارة دائمة؟}.
القبور لا يجوز أن يوضع فوقها مصابيح مثل الإنارة الكهربائية هذه، أعمدة كهرباء تجعل في وسط القبور أو في أطراف المقبرة يمينًا ويسارًا، لا يجوز هذا لأنها من اتخاذ السرج، ومَن فعل ذلك دخل في حديث ابن عباس: «لَعَن رسولُ اللهِ ﷺ زائراتِ القُبورِ، والمتّخِذين عَلَيْها المساجِدَ والسُّرُجَ» -نسأل الله العافية والسلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ ما جاءَ فِي حِمايةِ المصْطَفَى ﷺ جَنابَ التَّوحيدِ وسَدّهِ كُلَّ طَريقٍ يُوصِلُ إِلى الشِّركِ.
وقولُ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ﴾ [التوبة:128].
عَنْ أَبي هُريرةَ -رضيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قالَ رسولُ الله ﷺ: «لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاتَكُم تَبْلُغُني حَيْثُ كُنْتُمْ» رواه أبو دَاودَ بإسنادٍ حَسَنٍ، ورواتُهُ ثِقاتٌ)}.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (بابُ ما جاءَ فِي حِمايةِ المصْطَفَى ﷺ جَنابَ التَّوحيدِ وسَدّهِ كُلَّ طَريقٍ يُوصِلُ إِلى الشِّركِ)، هذا الباب باب عظيم، وباب مهم ينبغي لطالب العلم أن يتدبَّر النصوص الواردة فيه، وهذا التَّبويب من الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- حماية المصطفى ﷺ جناب التوحيد، الجناب: هو الجزء من الشيء، لأن هناك باب في آخر كتاب التوحيد سماه الشيخ: (باب ما جاء في حماية النبي ﷺ حمى التوحيد وسده طرق الشرك)، وأورد حديثين: حديث أنس وحديث عبد الله بن الشخير.
أمَّا هنا فقال: (جَنَاب التَّوحيد)، الجناب: هو الجزء من الشيء، وهناك (الحمى) وهو: ما يحيط بشيء، يعني ممكن أنت لك بيت ويكون لك حمى، يعني خارج سور البيت حدود ما أحد يقربها، هذا يسمى حمى، ومنه الحمى الذي يوضع للملوك أو للسلاطين، حمى الأرض حتى لا ترعى، وإنَّما يرعاها صاحب الملك، هذا يسمى الحمى، يعني شيء فوق الحد، وهو خارج الشيء وليس منه.
أمَّا الجناب فهو منه، فالنبي ﷺ حمى جناب التوحيد، نفس التوحيد بمعانيه وأصوله وكل أجزائه، حماه النبي ﷺ، ومنع من كل شيء يؤثر فيه.
وقوله: (وسَدّهِ كُلَّ طَريقٍ يُوصِلُ إِلى الشِّركِ)، كل طريق يوصل إلى الشرك فإنه يضر بالتوحيد، فسدَّ هذه الطرق كلها ومنعها، وهنا أورد الشيخ أشياء فعلية، كما في حديث أبي هريرة وحديث علي بن الحسين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهناك في الباب الأخير ذكر أشياء قولية.
إذًا النبي ﷺ حمى جناب التوحيد، ومنع من الأشياء المخلَّة بالتَّوحيد، سواء كانت فعلية أو كانت أو قولية، فكلها بينها ذلك النبي ﷺ بيانًا شافيًا كافيًا ينفع الأمة في كل زمان ومكان والحمد لله رب العالمين.
وهذا يؤكد لنا أننا كلنا واحدًا واحدًا فردًا فردًا نسير على خطا النبي ﷺ، ونحمي جناب التوحيد على أنفسنا وعلى إخواننا المسلمين من النصيحة لهم، وأيضًا نسد طرق الشرك ونبتعد عنها ولا ننخدع بها.
قال: (وقولُ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ﴾)، هذه صفات النبي ﷺ، وهذا ثناء الله عز وجل عليه، والله عز وجل جعل نبيه في أحسن وصف وأكمل خلق وأكمل حال في جميع أحواله، وفي جميع أقواله، وفي جميع أفعاله، وفي جميع أخلاقه، وفي تصرفاته.
انظر إلى هذا الثناء:
أولًا: هو من أنفسكم، ليس من الملائكة وليس من غير العرب، بل هو من أنفس العرب وأعظمهم نسبًا.
قال: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم﴾، يعني: يشق عليه ما فيه عنتكم، وهو الأمور التي فيها حرج عليكم وعنت.
قال: ﴿حَرِيصٌ عَلَيكُم﴾، يعني :على هدايتكم وعلى نجاتكم وعلى سعادتكم في الدنيا، وعلى نجاتكم وسعادتكم في الآخرة، فكل ما أمر به عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فهو في مصلحتنا، وفي ذلك خير لنا في العاجل والآجل، وكل ما نهانا عنه الرسول ﷺ فهو في مصلحتنا إذا انتهينا عنه في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا الخطاب ليس لفرد واحد من المسلمين؛ بل لعموم منذ أن وجد الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- والذين آمنوا به واتبعوه، وكذلك التابعون وأتباعهم إلى آخر الزمان، فكل فردٍ حتى الكبار والصغار وولاة الأمر، وأهل العلم، وأهل السلطة وأهل، الجند وأهل الطب، وأهل الخبرات، وكل الأصناف طاعتهم للرسول ﷺ خير لهم، اللهم صلي وسلم الرسول ﷺ حريص عليهم، حريص على هدايتهم، حريص على إسعادهم، حريص على نجاتهم، حريص على تحقيق الخير لهم، فقوله: ﴿حَرِيصٌ عَلَيكُم﴾، يشمل الأمة كلها.
ثم قال: ﴿بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ﴾، يحسن إليهم ويرأف بهم، ويرحمهم ويواسيهم، ويذب عنهم ويدافع عنهم، وفي المقابل هو غليظ على أعدائهم، كما قال الله -عز وجل: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 73]، فهذا من أسباب محبته ﷺ، إذا تدبرتها يعني زاد في قلبك حبه ﷺ، وحب النبي ﷺ واجب وفرض على كل مسلم ومسلمة، قال ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ» .
وفي هذه الآية خمس صفات من صفات النبي ﷺ، وهي:
- رسول.
- من أنفسكم.
- عزيز عليه ما عنتم.
- حريص عليكم.
- بالمؤمنين رؤوف رحيم.
خمس صفات وصف الله بها النبي ﷺ، فالواجب على أهل الإسلام أن يتَّبعوا توجيهاته، لا يعاندوه ولا يردوا كلامه، ولا يتعقَّبوه، ولا يقول: لا أنا لا أقبل هذا، أنا سمعت واحد من الغلاة لما سمع حديث الرسول ﷺ: «لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» ، قال: لا؛ بل نطريه، هذا معاند للرسول ﷺ، وبعضهم يصرح ويقول إذا سمع قول النبي: «لا تتخذوا القبور مساجد» لا؛ بل سنتخذ القبور مساجد، سبحان الله العظيم! هذا -والعياذ بالله- حال المنتكسين.
المقصود: أن توجيهات الرسول ﷺ في كل ما مرَّ في الأبواب السابقة من كلام النبي ﷺ يجب عليك أن تجعله نصب عينيك، وأن هذا الكلام من النبي ﷺ نابع من حرصه عليك، فخذ به ولا تتأخر ولا تتلكأ ولا تصدق أهل البدع وأهل الأهواء وأهل التقليد الأعمى وأهل الجاهلية.
{وما أتى رسول الله ﷺ إلا من أجلنا حتى يخرجنا من الظلمات إلى النور}.
نعم، الرسول ﷺ بعثه عز وجل للعالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ [آل عمران: 164]، والرسول ﷺ بعثه الله لأجل تحقيق العبادة، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، فالواجب على أهل الإسلام أن يستجيبوا للرسول ﷺ، في كل ما وَجَّه وبيَّن عليه الصلاة والسلام.
قال: (عَنْ أَبي هُريرةَ -رضيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قالَ رسولُ الله ﷺ: «لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاتَكُم تَبْلُغُني حَيْثُ كُنْتُمْ» رواه أبو دَاودَ بإسنادٍ حَسَنٍ، ورواتُهُ ثِقاتٌ)}.
يستفاد من قوله: «لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورً» فائدتان:
الأولى: مشروعية الصلاة في البيوت، فإن ترك الصلاة في البيوت يجعلها بمنزلة القبور، فيشرع للمؤمن أن يصلي بيته صلاة النافلة.
الثانية: مشروعية قراءة القرآن في البيوت، فإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن وتُقرأ فيه سورة البقرة يكون بيتًا لا تستطيعه البطلة، كما وجه النبي ﷺ.
إذًا القبور ليست محلًّا للصلاة ولا محلًّا لقراءة القرآن، وهذا معنى الحديث «لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورً».
أيضًا يُستفاد من هذا الحديث: أننا لا ندفن الموتى في البيوت حتى لا نجعلها قبورًا، نحرم أنفسنا من الصلاة فيها ونحرم الناس من الانتفاع بالبيع، والورثة يحرمون من هذا البيت لوجود القبر، فالإنسان إذا علم أن هذا البيت في ثلاثة قبور ما اشتراه.
ولكن المعنى الأول هو المعنى المقصود، وهو الصلاة وقراءة القرآن والعبادات.
إذًا القبور بمفهوم المخالفة ليست محلًّا للصلاة وليست محلًّا لقراءة القرآن وليست محلًّا للعبادات.
قال: «وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدً»، وهذا فيه التأكيد على معنى الحديث السابق في الباب السابق، وهو قوله -ﷺ: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد»، والعيد: هو الذي يُعتاد، والعيد في اللغة وفي الشرع يطلق على العيد المكاني والعيد الزماني، فإذا اعتاد على شيء زمانيًّا مثل أن يقول في كل شهر أو في كل سنة يوم محدد، هذا يسمى عيدًا زمانيًّا، وإذا كان مكانًا محددًا فهذا يسمى عيدًا مكانيًّا، فمثلًا عرفة عيد لأهل الإسلام لأنه مكان معظَّم في يوم عرفة فقط، في غير هذا اليوم لا يكون هناك أجر ولا ثواب للوقوف فيه، كذلك مِنى في يوم التروية وأيام التشريق، فهذه أعياد مكانية مقصودة شرعًا، يعتادها الناس شرعًا، جعل الله عز وجل هذا الأمر مشروعًا ومحلَّ عبادةٍ، فلا نشبه الأوثان والقبور بها، ولهذا النبي ﷺ قال: «وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدً» لا عيد زماني فنحدد مثلًا ونقول: نزور القبر كل المدة الفلانية، ولا أيضًا المكان نجعله محلًّا للانتياب.
ولهذا كان العلماء يقولون: لا تشرع كثرة التَّردُّد قبر النبي ﷺ لمن كان في المدينة، وإنَّما الإمام مالك يقول: يشرع للغريب، وكان يقول: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
بقي هنا احتمال وهو أنه يقول: أنا أريد أن أصلي على النبي ﷺ؛ فقال ﷺ: «وَصَلّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاتَكُم تَبْلُغُني حَيْثُ كُنْتُمْ»، وهذا من خصائص الرسول ﷺ، وهو أنَّ الصلاة عليه في صلاة الفريضة، تقول: "اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد..."، إلى آخره وكذلك الصلاة عليه في صلاة النافلة، وكذلك الصلاة عليه في ذكرك حتى لو كنت في مكانك تقول: اللهم صلِّ نبينا محمد، فهذه تبلغ النبي ﷺ، الملائكة يبلغونه كما في الأحاديث الأخرى.
إذًا هذا فيه فرحة لكل مسلم، وبشارة لكل مسلم، أنه أينما كان وصلَّى على النبي ﷺ، أو سلَّم على النبي ﷺ أن تقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" في التحيات أو غيرها؛ فهذا يبلغ النبي ﷺ فيرد عليك السلام.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعَنْ عَلِيِّ بن الحسين: أنّه رأى رَجُلًا يَجيء إِلى فُرْجَةٍ كانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِي ﷺ فَيَدْخُلُ فِيها فَيَدْعو، فَنَهَاهُ وقالَ: أَلا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبي عَنْ جَدّي عَنْ رسولِ اللهِ ﷺ قالَ: «لا تَتَّخِذوا قَبْري عِيدًا، ولا بُيوتَكُم قُبورًا، وَصَلّوا عَلَيّ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلغُني أَيْنَ كُنْتُم»)}.
هذا الحديث حديث عظيم، علي بن الحسين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ورَحِمَهُ اللهُ- من كبار التابعين وهو ابن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عن الحسين، ورضي الله عن علي- فعلي بن الحسين هذا من بيت النبوة، ويسمى بـ "زين العابدين"، معروف بهذا اللقب، وهو من أهل العبادة والعلم والصَّلاح والتَّقوى، عابد عظيم وعالم كبير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لَمَّا رأى رجلًا يجيء إلى فرجة -يعني فتحة أو نافذة أو كوَّة- كانت عند قبر النبي ﷺ أي: من خلفه، فيدخل فيها فيدعو، طبعًا لا يمكن أن يصل إلى القبر، لأن القبر في غرفة لها جدران، وحول الجدران أيضًا لا يمكن أن يصل، لكن هو يحاول يقترب من خلال هذه الفرجة، فعلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عابد وعالم من أهل الملازمة لمسجد الرسول ﷺ، فلما رأى هذا الرجل يفعل هذا الفعل ما أقرَّه ولا سكت عنه، ولا قال: فعلك صحيح؛ بل نهاه، دعاه أول شيء، ونهاه عن هذا التصرف، وقال: لا تفعل هذا.
إذًا أهل بيت النبي ﷺ ينهون عن الغلو، وعن تحرِّي الدعاء عند القبور.
وقال: (أَلا أُحَدِّثُكُمْ)، إذًا هو لم يخص هذا الرجل فقط؛ بل حدث جميع من حوله.
قال: (حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبي)، أبوه هو الحسين -رضي الله عنه.
قال: (عَنْ جَدّي عَنْ رسولِ اللهِ ﷺ قالَ: «لا تَتَّخِذوا قَبْري عِيدًا، ولا بُيوتَكُم قُبورً»)، هذا مثل ما تقدَّم.
قال: «وَصَلّوا عَلَيّ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلغُني أَيْنَ كُنْتُم».
وقوله: (رواه في المختارة)، يعني: رواه الضياء المقدسي في "المختارة" وهو كتاب معروف، فعلي بن الحسين زين العابدين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنكر على هذا الذي يفعل.
وهكذا الحسن بن علي ابن عم علي بن حسين جاء عنه أنه رأى رجلا يأتي عند القبر ويدعو قبر، فقال: "ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء، إني سمعت النبي ﷺ يقول: «لا تَتَّخِذوا قَبْري عِيدً»"، إذًا هذه السنة جاءت عن أهل بيت النبي ﷺ، حفظوا هذا ونهوا عن اتخاذ القبر عيدًا، ورأوا أن هذا أمرًا منكرًا، وجعلوه وسيلة للشرك وحذروا منه.
فإذًا كل هذا يبين لك أن أقرب الناس إلى النبي ﷺ وهم أهل البيت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ورحمهم الله- كانوا حريصين على سد طرق الشرك، متَّبعين بذلك إمام المسلمين وقدوة خلق الله أجمعين محمد ﷺ، فالرسول ﷺ حَمى حِمى التوحيد، وحَمى جانب التوحيد، وحذَّر من هذه الأمور، فقال: «لا تَتَّخِذوا قَبْري عِيدًا، ولا بُيوتَكُم قُبورً»، لما جاء موضوع السَّلام والصلاة عليه قال: «وَصَلّوا عَلَيّ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلغُني أَيْنَ كُنْتُم»؛ فكل هذا يبين لك أن سنته مبايِنَة لما فعله عبَّاد الأضرحة والقبور من اتِّخاذ القبور مساجد، وصرف العبادة لغير الله عز وجل بالطَّواف أو الذَّبح أو النَّذر أو الدُّعاء.
ولهذا الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- قال: (الرابعة: نَهْيُهُ عَنْ زيارَةِ قَبْرِهِ علَى وَجْهٍ مَخْصوصٍ مَعَ أَنَّ زيارَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ.
الخامسة: نَهْيُهُ عَنِ الإِكثارِ مِنْ الزِّيارَةِ.
السادسةُ: حَثُّه عَلَى النَّافِلَةَ في البَيْتِ.
السابعة: أَنَّهُ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لا يُصَلّى في المقْبَرَةِ.
الثامنة: تعليلُه ذلِكَ بأنَّ صلاةَ الرَّجُلِ وسَلامَهُ عَلَيْهِ يُبْلِغُهُ وإِن بَعُدَ، فَلا حاجَةَ إِلى ما يَتَوَهّمُهُ مَنْ أَرادَ القُربَ).
وهذا كله من المسائل التي ذكرها الشيخ في نهاية هذا الباب، وبهذا نصل إلى ختام هذا المجلس، نسأل الله -جل وعلا- لنا ولكم ولجميع المسلمين الهداية والتَّوفيق والسَّداد، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم شيخنا المبارك، نسأل الله تبارك وتعالى بأن يفتح لكم، وأن ينفعنا بقولكم، وأن يزيدكم من فضله وبركاته، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نستودعكم الله ونلتقي بكم في حلقات أخرى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12800 18
-
16737 9
-
34792 6
-
3049 13
-
3131 12
-
4154 11
-
5556 12