الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. علي بن عبدالعزيز الشبل

إحصائية السلسلة

17935 9
الدرس التاسع

رفع الملام عن الأئمة الأعلام

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه (جمعية هداة الخيرية) لتعليم العلوم الشرعية، نحن وإياكم في التعليق على كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-، يعلق عليه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل، باسمي وباسم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
الله يحييكم ويبارك فيكم وينفع بهذه الجهود، ينفع بها البلاد والعباد ويجعلها خالصة لوجهه لا حظ فيها لأحد غيره، ويرزقنا وإخواننا العلم النافع المتبوع بالعمل الصالح، المحقق لنا رضوان -عز وجل- به علينا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السَّبِيلَ هِيَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا؛ فَإِنَّ مَا سِوَاهَا طَرِيقَانِ خَبِيثَانِ)}.
الحمدُ لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، ربما هذا هو المجلس الأخير، في تذاكر وتدارس هذا الكتاب النفيس، الجدير بالعناية والاهتمام والحرص من لدن أهل العلم وطلابه.
يقول الشيخ فيه -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السَّبِيلَ)، وهي مسألة الموانع من لحوق الوعيد والذَّم للعلماء الذين قد تقع منهم مخالفة لما جاء في الأحاديث والأدلَّة.
مما يُبين هذه السبيل الراشدة: أنَّ ما سوى هذه السبيل ترجع إلى طريقين خبيثين مذمومين:
- إمَّا أنهما مذمومان بأنفسهما.
- أو أنهما يسببان الذم لمن يسلك هذا الطريق إلى أن يقع فيما هو شر من أصل وقوعه في هذه الطريق المذمومة.
ولهذا مما يعظم الحق ويجليه: معرفة ضده من الباطل، فإنَّ معرفة الباطل تجعل الحق ناصعًا، مقصودًا مرجوًّا لذاته، وفي هذا قول الأول:
وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ ... وبِضِدّها تَتَبَيّنُ الأشْياءُ
ولهذا كان من دعاء إبراهيم -عليه وعلى نبينا وأنبياء الله الصلاة والسلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]، وفي الصحيحين من حديث حذيفة -رضي الله عنه- وهذا من توفيق الله له، قال: "كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللهِ ﷺ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي"[1]، فقول الشيخ: إن هذه السبيل التي يجب سلوكها ويتعين على أهل العلم ومتأدبيه أن يسلكوها فيما ترفع فيه الملامة والحرج والنقد والذم للعلماء؛ أنَّ ما سواها طريقان خبيثان ومسلكان رديَّان، يرديان بمن سلك هذين الطريقين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ بِلُحُوقِ الْوَعِيد لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ بِعَيْنِهِ. وَدَعْوَى أَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِمُوجَبِ النُّصُوصِ.
وَهَذَا أَقْبَحُ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ من دين الإسلام، وَأَدِلَّتُهُ مَعْلُومَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)
}.
المسلك الأول الخبيث والطريق الأول الفاسد الذي يتعين على مَن لم يعذر العلماء ويعتبر بشروط لحوق الوعيد بهم: أنه يُفضي به إلى أن يقول بلحوق الوعيد والتأثيم والزجر والتهديد لكل عالم وقع فيما يظنه هذا الحاكم عليهم أنهم خالفوا فيه الأحاديث، ومن ذلك الوعيد وعيدٌ بالنار، أو الخلود فيها، أو استتباع لوازمه بتكفير هذا العالم.
يقول الشيخ: (وَهَذَا أَقْبَحُ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ)، وكذلك أقبح من قول المعتزلة؛ لأنَّ المعتزلة قالوا: صاحب الذنب خرج من الإسلام ولم يدخل الكفر؛ بل بقي في الدنيا في منزلةٍ بينهما، فإذا مات على ذلك صار حكمه حكم أهل الذنوب في الخلود في النار.
ووجه أنَّ هذا القول أقبح: أنه بهذا سيكفِّر عامة العلماء، الخوارج كفروا بمجرد الذنب، وهذا سيكفر العالم بهذه الشبهة، وهذا أقبح وأشنع؛ لأنَّ الولوغ في الشهوة ليس كالوقوع في الشبهة، وفيه الجرأة على الله، والجرأة على رسوله، والجرأة على دينه، وفيه إساءة الظن بالعلماء أيما إساءة.
ويقول الشيخ في مجمل هذا: (وَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ)، أي: العلم بفساده علم ضروري.
قال: (وَأَدِلَّتُهُ مَعْلُومَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)، اكتفى بالإشارة إلى مجملها، أن هذا سوء ظن بالله وبدينه، وإساءة ظن برسوله ﷺ وقدحٌ لعلماء المسلمين، بدأً من الصحابة ثم مَن بعدهم من التابعين وتابع التابعين إلى علماء الإسلام الكبار، ولا يبقى بعد ذلك دين!
وهذا يقرب من مذهب الروافض تجاه الصحابة ومَن رضي بالصحابة -نسأل الله العفو والعافية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِي: تَرْكُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ظَنًّا أَنَّ الْقَوْلَ بِمُوجَبِهَا مُسْتَلْزِمٌ لِلطَّعْنِ فِيمَن خَالَفَهَا.
وَهَذَا التَّرْكُ يَجُرُّ إلَى الضَّلَالِ. وَاللُّحُوقِ بِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الذين ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَمْ يَعْبُدُوهُمْ، وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ، فَاتَّبَعُوهُمْ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ، فَاتَّبَعُوهُمْ»)
}.
المسلك الثاني الخبيث والطريق الردي: أنك تترك العمل بالأحاديث التي فيها الوعيد لمن خالفها، أو لم يحققها أو لم يعمل بها، هذا الترك يجرُّ إلى الضلال والإضلال واللحوق بأهل الكتابين، فإن أهل الكتابين ضلوا في رهبانهم وفي أحبارهم، فصحَّحوا كل ما جاء عنهم، وردُّوا كلام الله وكلام رسله، فعدَّ الله ذلك اتخاذًا لهم أربابا من دون الله، ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ ، ولهذا جاء في الحديث عند الترمذي وغيره لما قال عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قبل أن يسلم قال: «إنا لسنا نعبدُهم. قال: أليس يُحرِّمون ما أحلَّ اللهُ فتُحرِّمونه، ويُحلُّون ما حرَّم اللهُ فتُحلُّونه ؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتُهم»، ولهذا قال النبي في هذه الرواية: «إنَّهم حرَّموا عليهِم الحلالَ، وأحلُّوا لهم الحرامَ، فاتبَّعوهم»، فكان هذا أن جعلوا لهؤلاء الرهبان ولهؤلاء الأحبار مقام التشريع بلسان الحال وإن لم يصرحوا به بلسان المقال، وهذا يفضي إلى طاعة العلماء والأمراء ومَن دونهم في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله الله.
والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب ترجم عليها بابا في كتاب التوحيد، قال: (باب ما جاء في طاعة العلماء والأمراء)، و (باب من أطاع العلماء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله)، وهذا يفضي إلى شرك الطاعة، وهو أحد أنواع الشرك الأربعة التي تدور عليها أصول الشرك، فإن أصول الشرك تدور على أربعة أصول: شرك الدعوة، شرك النية والإرادة والمقصد، وشرك الذبح، وشرك الطاعة، نسأل الله العفو والعافية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُفْضِي إلَى قُبْحِ الْعَاقِبَةِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَحْوَى قَوْله تَعَالَى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً﴾ )}.
أمَّا قبح العاقبة فأن يُجعل العالم معصومًا عن الخطأ والزلل فيقدِّم قوله وفعله وحاله على وحي الله كتابًا وسنة.
وسوء التأويل: هو في سوء الظن بالأدلة، وجعل العلماء هم الحاكمين عليها، والقاعدة المطَّردة عند أهل السنة بل عند عامة العقلاء من أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام: أن الحقَّ لا يُعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق.
ولهذا ليس عندنا أهل الإسلام مرتبة مقدسة للعلماء إلا لسيد العلماء ﷺ، أما من دونه فبشر، يخفى عليهم ما لا يخفى على غيرهم، يجتهدون فيصيبون مرة ويخطئون مرة، إذا كان هذا يقع في الصحابة -رضي الله عنهم، فكيف بمن جاء بعدهم؟! وكم يمرنا من مواضع خالف فيها بعض الصحابة الأحاديث، فيعتذر لهم العلماء! وما أكثر ما كنا نسمع شيخنا الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ- في أشياء خفيت على عائشة وعلى بن عباس وعلى بن عمر وعلى أبي هريرة؛ يقول: ما هم معصومين، قد يخفى عليهم الدليل وتخفى عليهم السنة، لكن لا تخفى السنة على مجموعهم.
وهذا مسلك مهم، إذا أنزل فيه طالب العلم العالمَ مهما بلغ في علمه دون مرتبة النبوة بهذا المنزل؛ عذره في خطئه ولم يوافقه عليه، ولم يُسئ به الظن كما يفعله الخوارج في الذنوب، والخوارج على العلماء وهم أولئك المندفعون المتسرعون في تبديعهم أو تكفيرهم أو تضليلهم بغير هدى وبغير تبصُّرٍ وبغير تعقُّلٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ إنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا.
فَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ فِيهِ تَغْلِيظٌ خَالَفَهُ مُخَالِفٌ تُرِكَ الْقَوْلُ بِمَا فِيهِ مِنْ التَّغْلِيظِ أَوْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ مُطْلَقًا، لَزِمَ مِنْ هَذَا مِنْ الْمَحْذُورِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ: مِنْ الْكُفْرِ، وَالْمُرُوقِ مِنْ الدِّينِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحْذُورُ مِنْ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، لَمْ يَكُنْ دُونَهُ)
}.
إما أن يكون هذا المحظور مثل الذي قبله أو يكون أعظم منه، إما بالقدح في الدين أو بالقدح في نَقَلَته، إما باتهام الله أن ديننا لم يكمل، وأنه خفي منه ما خفي، أو اتهام العلماء بالتَّلبيس، وهذا كلاهما أمَرُّ من الآخر، ولهذا من ثمار هذا المسلك الردي، وإلا لو سلكَ المسلك الراشد مسلك أهل الإيمان بأن لا يوافق المخطئ على خطئه مهما كان ومهما علا قدره، ولا يُنزل عن رتبة الإمامة ورتبة العلم، بل يُحفظ له مكانته وسابقته، فبهذا يسلم في عقيدته، ثم يسلم في منهاجه وطريقته، ثم يسلم في قلبه، وهذا ما قرَّره أئمة الإسلام الكبار من أئمة المذاهب المتبوعة الأربعة، التي الدين في مجموعها، فهذا الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي -رَحِمَهُ اللهُ- قال: "إذا جاء الحديث عن الرسول ﷺ فعلى الرأس وعلى العين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس وعلى العين، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال"، يقصد في فهم الدليل والاستنباط منه والاستدلال به.
ومثله قول في قول الإمام مالك بن أنس صاحب إمام دار الهجرة الأصبحي، هذا العالم الجهبذ النحرير لَمَّا قال: "كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"، يشير إلى يمينه حجرة عائشة إلى قبر النبي ﷺ، وقوله: "كل منا" يعني من العلماء، لأنه إمام أهل المدينة في زمنه.
ومثله قول تلميذه الإمام المطلبي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- لما قال: "إذا جاءكم الحديث عن رسول الله ﷺ وجاء قولي؛ فاضربوا بقول عرض الحائط"، هذا منهج عام، وليس معنى "اضربوا بقولي عرض الحائط" أن تسبوا الإمام الشافعي وتنسفونه في اليم نسفًا! لا؛ لأن قوله يبقى قول له، لكن المقدَّم إلينا والعزيز علينا هو حديث رسول الله ﷺ، ننظر لخلاف الشافعي أو غيره من العلماء له بالمعاذير العشرة التي سبقها بدء الشيخ بها في هذا الكتاب.
ومثله قول رابعهم وهو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل إمام أهل السنة، وهو تلميذ الشافعي، والشافعي تلميذ مالك -رحمهم الله أجمعين قال: "عجبت لمن عرف الاستناد وصحته، كيف يذهبون لرأي سفيان؟!".
بل قال الشافعي ونقله عنه تلميذه أحمد أنهم أجمعوا على أن من استبانت -أي اتضحت وبانت وانجلت- أمامه سنة النبي ﷺ لم يكن ليدعها لقول أحد، كائنا من كان هذا الأحد، وأفضل الناس بعد رسول الله هم صحابته، وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهؤلاء هم أفضل الأمة بعد النبيين قاطبة -عليهم الصلاة والسلام- فلو جاء مثل ذلك لم نوافقهم فيما اجتهدوا فيه مخالفًا للنصِّ، وهذا من أندر من النادر، لكن لا ننزلهم عن رتبة الإمامة وهذه المكانة التي جعلهم الله -عز وجل- فيها في دين الله.
وبعد ذلك في عامة الصحابة رضي الله عنهم، ومثله في التابعين، ومثله في تابعي التابعين، وفي أئمة الإسلام؛ أينما نأت ديارهم كان المأثور عنهم، كل ما كان لك -يا أيها المسلم وأنت يا طالب العلم- كل ما كان لك المسلك إلى إحسان الظن، وإبقائهم على رتبة الإجلال والاحترام من غير ادِّعاءِ العصمة فيهم؛ فأنت على الهدى وعلى السداد، فإن أخذت يمنة نسفتهم في اليم نسفا وأسأت بهم الظن؛ وقعت في العطب العظيم، أو أخذت المسلك الثاني وهو اعتقاد عصمتهم، سواء اعتقدته أو تصورته، أو دلَّ على ذلك صنيعك في خطئهم، فعندئذ وقعت في محذور آخر، والحق بينَ هذا وهذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَلَا بُدَّ أَنْ نُؤْمِنَ بِالْكِتَابِ كلِّه، وَنَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا جَمِيعِهِ. وَلَا نُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرَ بِبَعْضِ. ولا وَتَلِينَ قُلُوبُنَا لِاتِّبَاعِ بَعْضِ السُّنَّةِ، وَتَنْفِرَ عَنْ قَبُولِ بَعْضِهَا بِحَسَبِ الْعَادَاتِ وَالْأَهْوَاءِ، فَإِنَّ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، إلَى صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ)}.
وهذا التنظير العظيم من شيخ الإسلام يخاطب به قلوبنا ومقاصدنا ونياتنا، هذه المخاطبة هي المدار وهي المحك وهي المنطلق، فإنه إذا قام في القلب من تعظيم الله وتعظيم وحيه ومن إجلال رسول الله ﷺ وحقِّ طاعته ما قدَّم على كلام الله وكلام رسوله أي أحد، لكن كلام الله الذي هو المتحقق لا ما تتوهمه أنتَ يا طالب العلم، قد تتوهم أن هذا هو مراد الله، وأن هذا هو مراد له، فتقع عندئذ في العطب، ومع ذلك يأتي من كلام أهل العلم أيًّا كانوا ما قد يكون فيه نوع مخالفة، فتعرض عليه الأسباب العشرة التي مرَّ ذكرها، وإذا قام في قلبك تعظيم الوحي كتابًا وسنةً وتعظيم مدلوله؛ لم تقدم عليها عادة أو فعلك أو فعلَ من تعظمه ممن تتبعه من شيوخك وجماعتك وحزبك الذي تنضوي إليه، وإنما تعود بالملامة على نفسك لأنك اتَّبعت عاداتك وهواك وما تشتهيه، فإن أقررت بذلك وقعت في معصية، فإن عاندت وكابرت وجادلت عن هذه العادات والأهواء لتعطف الحق عليها، وتجعلها داخلة في الحق الذي جاء عن الوحي؛ وقعت ها هنا في مزلق العبودية لغير الله، فمستقل فيها ومستكثر، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلً﴾ [الفرقان: 43]، فما كفر الكافرون، ولا ابتدع المبتدعون، ولا ضل الضالون ولا عصى العاصون؛ إلا على صنم الهوى فمقل ومستكثر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ)}.
هذا ختام جميل لهذه الرسالة الجليلة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، بهذا النصح الذي محضنا إياه أبو العباس، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر ابن تيمية الحراني بهذه التنظيرات والتمثيلات، ثم ختمها بهذا الدعاء: (وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ)، والقول يشمل قول القلب في مطلق الاعتقاد وقول الجارحة وقول اللسان، ويشمل العمل عمل القلب في النية والخوف والرجاء والخشية والتوكل إلى آخره، وعمل الجوارح، لأنه لو لم الله عبده ما اهتدى، ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدً﴾ [الكهف: 17] ولهذا فإن التوفيق ثم الثبات من أعظم ما يدعو به المؤمن ربه -جَلَّ وَعَلَا- في باب وفي باب العمل.
 لو لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وقوله: (فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ)، "في خير" يقابله في شر، فإذا وُفق الإنسان للعمل وللقول المرضي من الله ووافقه خير كان هذا أدعى لثباته واستمراره عليه.
والعافية خير ما أوتيه الإنسان في الدنيا والآخرة، العفو والعافية، ومن نصحه دعا بهذا لنا، ولجميع المسلمين، وهذا يشمل المسلمين في زمنه والمسلمين قبله والمسلمين بعده فدخلنا في مجموعهم.
قال (آمين) يعني: اللهم استجب.
رَحِمَ اللهُ شيخ الإسلام على هذا النصح وجزاه على هذه الغيرة على العلماء وعلى دين الإسلام أحسن الجزاء وأوفره، وهذا هو الظن به، وبغيره من علماء الإسلام ومجدديه، ومن بذلوا أنفسهم فيه، هذا هو الظن بهم، ومع ذلك يبقى هؤلاء العلماء بشر، ينالهم من النقص والغفلة وعدم العلم، والله -جَلَّ وَعَلَا- يجازي الجميع بأحسن جزاءه ونواله، ويعفو ويستر سبحانه ما كان مخالفا لهذا الصواب، إذ ربنا أكرم الأكرمين وهو عفو يحب العفو، فإذا كان يطال عفوه عبده المذنب فكيف بالعالم الذي بذل واجتهد وشابت عارضاه في العلم تعلما أولًا ثم تعليما ثانيا؟! والله إن ربي لا يترك هذا الجهد بلا ثواب، ولا الخطأ بلا عفو وستر، وهذا ظننا بالله، والمؤمن مأمور بأن يحسِّن بالله ظنه.
وختمها أيضًا بحمد الله عز وجل، لأنه المولي بهذه النعم، فقال: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ثم صلى وسلم على سيد الأنبياء والمرسلين، وهذا شأن ومنهج أهل العلم في كتبهم ابتداء وانتهاء، بحمد الله والثناء عليه ابتداء مع الصلاة على رسوله، وختم ذلك أيضًا في الانتهاء، لأن الخير إنما جاءنا من قبل ربنا سبحانه، وهو الهادي له وله المنة به وحده دونما شريك، وكذلك جاءنا ذلك من خلال نبيه ﷺ في حديثه وقوله وفعله وتقريره، ووصفه الخلقي ﷺ الذي ما زال أهل العلم وأهل الإيمان وأهل السنة والقرآن يتلمَّسونه ويستتبعونه ويرحلون إليه ويجمعونه لعلهم أن يوفَّقوا إليه، فاللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن سبق من إخوانه من المرسلين صلاةً وسلامًا أبدين دائمين إلى يوم الدين.
وجزى الله شيخ الإسلام خير الجزاء وسائر علماء المسلمين، وأورثنا موارثهم الصالحة وجمعنا في عوالي جنانهم الفردوس الأعلى، صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، نسأل الله ذلك بوجهه الكريم لنا ولهم فردوسه الأعلى من الجنة، ووالدينا ومشايخنا، وولاتنا وجميع المسلمين والمسلمات إنه سبحانه أكرم مسؤول وأعظم مرجي مأمول.
{شيخنا -حفظكم الله- في ختام هذا الكتاب هلا ذكرتم لنا مشكورين ملخصًا سريعًا لأبرز نقاط الكتاب وكيف يستفيد طالب العلم من الكتاب؟}
أهم ما فيه -وكله مهم- ما ذكره -رَحِمَهُ اللهُ- في أوله من المسائل الثلاثة الرئيسة التي ينبني عليها الكتاب ثم العشرة أو المعاذير التي يسلكها طالب العلم فيما جاء عن هؤلاء الكبار وعن هؤلاء العلماء فيما هو الواقع مما خالفوا فيه السنن والآثار، وما هذه الأمثلة والتفريعات والتقعيدات إلا تدور على مدار هذه الأعذار العشر، فطالب العلم ينتبه لها ويرجع إليها، وهذا الكتاب ليس بالطويل، أنا أتمنى من أهل العلم ومدرسيه وطلاب العلم وطالبيه أن يكون هذا لهم محطة بين فترة وأخرى يرجعون إليه، فيقفون عند مضامينه، مع تنوُّع مداركهم يزدادون بالعلم والإدراك والفهم والاستيعاب، فإذا رجعوا إليه مرة بعد مرة صار عندهم استقامة لما قد يطرأ من الاعوجاج، وردٌّ لما قد يطرأ ويحدث من الميلان، وحوزة عن الوقوع في الشذوذ، شذوذ الرأي أولًا أو شذوذ البدعة وغوائلها وطرائقها ومسالكها ثانيًا.
{شيخنا الكريم، مهم جدًّا في مسيرة طالب العلم أن يعتني بأدب العلم، ومن أدب العلم كذلك أدب الخلاف، فهل من توجيه -حفظك الله- في هذا الأمر لطلاب العلم}.
والله يا محب هذا سؤال جليل وعظيم، لا تكفي فيه هذه الدقائق، وحسبنا أننا تذاكرنا هذا الكتاب مع إخواننا في هذه المجالس، لكن العلم في هذا الزمان شانه نقص الأدب، وعابه على أصحابه ضعف الأدب، ولهذا توارد العقلاء من أهل العلم على أن طلاب العلم يحتاجون إلى الأدب حاجتهم إلى العلم بل أعظم، ومن الأدب: أدب الخلاف بين أهل العلم، لا خلافك أنت مع زملائك يا أيها الطالب، ولا خلافك مع منافسيك، أو مع ما بينك وبينهم شنئان من حقد أو حسد أو بغضاء أو تنافر، فالأرواح جنود مجندة كما قاله النبي عليه الصلاة والسلام «فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ»[2]، فإنه قد يمركم يا طلاب العلم في طريق الطلب -وهو طويل إذ العلم أطول عبادة- يمرك المنافس والموافق والمخالف والمناوئ والمناصر، وهذا مداره على حظِّ نفسك، هل قيامك لله أو انتصارًا للنفس؟ وما هذا العلم إلا يُقوِّم ويعدِّل ويصحِّح وينقي هذا المسلك في قيامك لله عز وجل.
ومن هذا الباب: فإن المقصود بالخلاف هنا ليس الخلاف بينك وبين نفسك، أو بينك وبين أقران، إنما نظرتك وتعاملك ومنهجك للخلاف الواقع بين العلماء أو بين ما يأتيكم ويبلغكم من مخالفة هؤلاء الأجلَّة الكبار للأحاديث، فاحذر أن تسلك فيهم مسلك الخوارج فتسيء بهم الظن وتحكم عليهم بالكفر، أو مسلك المعتزلة فتخرجهم عن دائرة العلم أو عن دائرة الإسلام، لأن هذا هوى!
كذلك ليس لهم رتبة التقديس، فقولهم "كله معصوم، وكله حق لا نقص فيه"، لا هذا حق ولا ذلك حق، وإنما الحق بينهما، وكثيرًا ما كنا نسمع من مشايخنا العناية بهذا الأصل في تكراره في الدروس وفي المناسبات المختلفة، لأنه قد يرد من بعض طلبة اجتهادات فيها شذوذ أو فيها تطاول على الكبار وإساءة للكلام والقول فيهم، وربما حمل ذلك على ما يتعلق بسوء الظن بهم؛ فيؤدبنا العلماء، أن اعرف قدر نفسك، واعرف لهذا العالم قدره وسابقته ومنزلته، وهذا لا يعني التغاضي عن الخطأ، أيا كان الخطأ وممن كان الخطأ، وإنما يعني أن تتأدب وتعرف، فهؤلاء علماء سبقت لهم السابقة بالحسنى، فاعرف قدرك واعرف قدرهم، واعرف فرق ما بينك وبينهم، وبالتالي تأدب بأدب العلماء، فادعُ لهم وترحم عليهم، وأحسن بهم الظن، وأحسن بهم القول، واعرف لهم رفيع القدر وحسن الحال، وإن كان من ملامة وانتقاد فارجع به إلى نفسك، ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32]، وكم كنا نسمع من مشايخنا في حلق الدرس من شيخنا الشي عبد العزيز بن باز، وشيخنا الشيخ/ محمد بن صالح عثيمين، والوالد الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان، وشيخنا الشيخ/ صالح بن علي بن غصون، وشيخنا الشيخ/ عبد العزيز بن ناصر بن مرشد، وشيخنا الشيخ/ عبد الله بن محمد بن حميد، وأمثالهم ممن قضى الله عليهم بالموت، وممن ما زالوا على قيد الحياة، هذا المسلك الرشيد في التعامل مع ما يأتي من أقوال العلماء، شيخنا ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ- كم كان يأتيه من سؤال فيقول: خفي الأمر على فلان من الصحابة، لعله ما بلغه...، يبحث عن العذر اللائق بهذا الصحابي أو بهذا العالم، ولا يستطيل عليهم، وهذا المسلك وهذه التربية لا تستفاد إلا من ثني الرُّكب عند أهل العلم.
ولهذا تأمل معي: مَن ثنى ركبته وأطال عند العلماء العاملين المشهود لهم بالخير وليسوا بالمعصومين؛ تجد ظنه واعتقاده وكلاه ولفظه في العلماء السابقين وفي أخطائهم أحسن الكلام، ومَن كان إمامه كتابه وتلقيه عن أمثاله من أغمار أو متعالمين تجد مشزارًا مهذار منشارًا ومشذابًا لكل مَن أخطأ من العلماء، والسبب هو التربية على الأدب، وكان مشايخنا يرددون هذين البيتين ينقله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي العلامة الجكني عن شيخه محمد حنبل الشنقيطي لما قال:

لاَ يُزَهِّدْكَ أَخِي فِي الْعِلْمِ أَنْ ... غَمَـــرَ الْجُهَّالُ أَرْبَابَ الأَدَبْ
لاَ تُسِئْ بِالْعِلْمِ ظَنّــاً يَا فَتَى ... إِنَّ سُوْءَ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ عَطَبْ

 فإن بلغت يا طالب العلم إلى زمان كثر فيه هؤلاء العالة على العلم، سيءُ الأدب أهله، وعجزت أن تردهم أو تصون أعراض العلماء فالزم جادَّة الإعراض، كما قال -جل وعلا: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [القصص: 55]، لعلك تسلم أنت في قلبك، ما تخوض فيما خاض فيه هؤلاء الموتورون في مسالكهم، هدى الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومقاصدنا.
{شيخنا الكريم:
هل هناك علاقة لقصد العبادة والإخلاص في التعلم في جوانب الخلاف؟}.
 هذا سؤال مهم، وأنا أظن هذا السؤال يكمن فيه الجواب، نعم من تعلم عبادة يتعبَّد بهذا التعلم لربه، سَلِم قلبه، وما زال يترقى في درجات السلامة وإحسان الظن بالعلماء، بل يرى لهم الفضل عليه بعد الله -عز وجل- في وصوله للحق والقول به والدفاع عنه، ومن ثنايا ذلك أن ما وقع مما وقعوا من خطأ أو تأويل أو عدم عمل بموجب حديث له الأعذار التي ما زال يعتذر بها العلماء، والتي أجملها -مجزيا عنا بخير الجزاء- شيخ الإسلام في هذه الأسباب العشرة التي ذكرها في مقدمة (رفع الملام).
المقصود: من وجد للعلم لذة العبادة في العلم في تحصيله وفي طرقه وفي سلوكه؛ سيخفُّ في لسانه وقبل ذلك في قلبه وقصده وجنانه مسبَّة وانتقاد العلماء.
وهذا -وإن كنا نؤكد عليه بعبارة أو بأخرى- يقابله: ألا تعتقد أن أحدا معصومًا بعد النبي ﷺ في عينه، نعم الأمة معصومة في مجموعها، والصحابة معصومون في مجموعهم، والحق والعلم متفرق بينهم، قل مثل ذلك في تابعيهم -رحمهم الله- ثم تابعي التابعين وهكذا، فمَن وجدَ في العلم لذة العبادة تجد عنده هذا المسلك الرشيد، وله أثر وهو أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- يعلم نية عبده، فإن نوى بطلبه للعلم هذا التعبد كان التوفيق حليفه في الوصول أو فيما يعتريه من نقصٍ يقع من بعض أهل العلم أو خطأ أو خلل، لأن قصده وقلبه منشرح بأنه يتعبد لله بهذا العلم، والمؤمنون أولياء بعضهم لبعض، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71] فمقتضى الولاية والإخوة هو إحسان الظن، وأن تتهم نفسك لأن باتهامك نفسك يسلم غيرك من اتهامك من أهل العلم، وإذا سلطت الانتقاد والاعتراض والسب وسوء الظن على غيرك فأنت تزكي نفسك وأنت لا تشعر، وتفسد عليك هذه العبادة، فيفسدها عليك الشيطان بهذه الأهواء والظنون والمقاصد الخبيثة.
{شيخنا أحسن الله إليكم.
كل ما ذكرتم مفيد، ونريد وصية في ختام هذا البرنامج لطلبة العلم في موضوع هذا الكتاب وما يحتف به}.
والله ودي أجعلها في غير هذا الكتاب، بل في مقصوده، طلاب العلم الآن ليسوا بالقلة والحمد لله، وما زال ينبعث فيهم بواعث لهذا العلم، لأن العلم دين والله حافظ دينه، بنا إن كنَّا أهلًا وكفئًا، أو بمن هم بمن هم خير منا وأمثل، ومع ذلك يحتاج طلاب العلم إلى المسلك الراشد، سيما مع طول البعد ومع طول العهد عن الصدر الأول، فهذا تتوالى فيه أنواع الفتن والصوارف، ومداخيل الشيطان من الإنس والجن.
وإني في هذا الصدد: أوصي طلاب العلم بثني الركب عند العلماء، لا يكتفون بهذه الوسائل أيا كانت، بل يجعلون هذه الوسائل كتبا وتسجيلات ومواقع ووسائط -وغيرها مما سيأتي- يجعلونها مكملات للجمَّارة -للأصل- وهو ثني ركبته عند العالم وصبره على التعلم، فإنه إذا ثنى ركبته عند عالم موثوق من علماء أهل السنة وصبر، حتى لو لم يحصل في مجلسه مع شيخه في المجلس الأول والثاني والثالث فائدة ترجى؛ لكن يبقى هذا الصبر بإذن الله سياج، يجعله يستمر في العبادة ويعرف لهذا العلم لذَّته ولأهله قدرهم، للناس مآلهم.
ثم إنه إذا قلَّ الأخذ العلماء كانت النتيجة أن يموت العلماء ومعهم علمهم، ثم إلى مَن يرتفع الناس في العلم، وفي الإفتاء، وفي القضاء، وفي التعليم؟! إلى جهال مثله، وبهذا تحصل سنة الله شرعية بفساد الزمان بفساد أهله، ويفشوا الجهل، ويُرفع العلم، في الصحيحين يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ»[3]، لابد له من رؤساء في العلم، في الفتوى وفي الحكم والقضاء وفي الإرشاد، وفي الدعوة.
قال: «اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالً»، فكانت النتيجة أنهم «فَضَلُّو»، أي: هؤلاء المتخَذين- قال: «وَأَضَلُّو» أي: من اتخذوهم رؤوسًا، ويقع عندئذ سنة الله الشرعية بفساد العالم الذي به ينقضي هذا العالم وتقوم الساعة.
وأنتم يا إخواني يا طلاب العلم ليكن منهجك العملي: ثني الركب عند العلماء، فإن لم يكن في بلدك فارحل إليهم، إن ما تيسر فاستعن بالوسائل المعينة بربطك بهم حتى تحصل ما يكون به بإذن الله مناعة لك، وصيانة لك عن الانحراف بأنواعه: انحراف الهوى وانحراف الشهوة والله أعلم.
{شيخنا الكريم، أحسن الله إليكم.
هل من مواقف تبين طريقة تعامل العلماء مع الخلاف؟ شيء عاصرتموه أو حضرتموه؟}.
من شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- والذي كان يربينا، كأني أتصور أن بين هجيراه هي صيانة الطلبة من الوقوع في هذه المزالق، من ذلك ما يقرره، وتعرفون الطلاب يحصل عندهم اجتهاد ويحصل عندهم منافسات، فمما كان يضبط به هذا الاندفاع العلمي أو العاطفي والمنافسي: ألا يقول طالب العلم بقول لم يسبقه إليه عالم، لا تقل في مسألة بقول لم يسبقك إليه عالم، وقد حججتُ معه أكثر من أربع حجات، كنت أسأله قبل أن أقدم عليه قريب الحج يوم ستة أو يوم سبعة، وكنا نحضر معنا من الكتب، فكثيرًا ما كان يقول: أعطني النسخة التي فيها "الإنصاف" وفيها "المقنع" و"الشرح الكبير"، حتى يراجع فيه مع ما بلغه -رَحِمَهُ اللهُ- في العلم، ومع انضباط مسائل ركن الحج، لكن تأتي أشياء يحتاج فيها إلى أن يستبصر، راجع هذه المسألة واقرأ فيها ما اختاره السلف، مَن قال بهذا القول من أهل العلم السابقين؟ وهو من هو في العلم؟ وهذا المنهج منهج الدرس والمراجعة درج عليه علماؤنا لله، فقد حججنا أكثر من مرة مع شيخنا الشيخ ابن باز، وكان عنده هذا المسلك، تأتيه أسئلة يراجعها، ويقول: إن شاء الله نبحثها مع الإخوان، ضع عليها إشارة نتأملها، ويطلب من إخوان أن يبحثوا ويحضرون الموضوع ويراجعون فيه، سماحة المفتي الآن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ المجدد، هذا شأنهم في الحج وفي غيره.
المقصود أن علماءنا: ربوا على هذا المسلك، وربونا نحن طلابهم على هذا المنهج، وهذا -كما أقوله وأكرره- لا يتأتى إلا بثني الركب والصبر، وإلا لا يذوق لهذا الأمر لذَّته ولا يسلك لهذه المسالك الدقيقة مسلكها الراشد، رحمهم الله وجزاهم خيرًا، وأعقب على المسلمين خير خليفة وخير خلافة وخير من يقوم بهذا الأمر من أهل العلم، والله المستعان.
{شيخنا الكريم: هل لهذا الكتاب من شروح يرجع إليها الطالب ويستفيد منها؟}.
أؤكد ما ذكرته لك: ليس كل مختصر أو رسالة أو شرحٌ شَرَحَ به أهل العلم من شيخ الإسلام في مثل هذه الكتب أو ابن القيم أو ابن رجب أو مَن قبلهم أو من بعدهم يحتاج إلى شرح، فإن شروح هذه الرسائل تؤدِّي إلى التشعيبات والتفريعات وإشغال الناس عن أصلها، إنما هو تعليق وقراءة ومذاكرة وتلمُّس هذا الفهم، ولهذا فإن الكتب التي كانت تُشرح هي المتون الممتَّنة، وهذا له أكثر من تعليق، أذكر أن رفع الملام قرأناه على شيخنا الشيخ صالح الفوزان، وعلى الشيخ محمد بن عثيمين، وعلى الوالد كنت أقرأ عليه جملًا كثيرة، وكان المشايخ منبهرين من هذه الإحاطة عند شيخ الإسلام، نعم في مواضع قد تستغلق وتحتاج إلى فكٍّ وحلٍّ، لكن لطالب العلم معها أن لم يتيسر له الوقوف على تلطيفات وتقريرات للعلماء وتنبيهات عليها أن يكرِّرها، كلما أمكنك في هذه المواضع أن تعلم نفسك بنفسك ويكون دور العالم مرشدًا لك فهذا هو نواة أن تكون بإذن الله من أهل العلم، وما من شرط أنك تحيط بكل شي، لا يزال يأتي من كلام أهل العلم ما يستغلق، فإما تُباحث به غيرك، وإما تناقشه مع شيخك حتى يتَّسع المدرك والفهم ويتَّضح هذا الأمر المستغلَق، وأظن أن مثل هذا الكتاب لا يخلو من كلام العلماء عليه، لكن لا أوصي طالب العلم بكثرة جمع الشروح والتعليقات على كتاب واحد، هذا يورثه في الغالب التَّشتت، وربما الاضطراب وربما سوء الفهم، وكل هذه الثلاثة عطبٌ في باب العلم ومنهاجه.
{أحسن الله إليكم.
في ختام هذه الحلقات نشكركم يا شيخنا على ما قدمتم ونسأل الله عز وجل أن ينفع بعلمكم، وأن يثيبكم أحسن الثواب إنه جواد كريم}.
الله يجزاكم خيرًا، فقد أعنتونا على خير، ودللتمونا وإخواننا إلى خير، فالله يجعلنا وإياكم من أهل الخير وأهل العفو والعافية، ويسلك بنا وبكم وبإخواننا مسالك عباده الصالحين، فيورثنا منازله العلا من الجنة ورضوانه، فلا يسخط علينا أبدًا، نسأل الله ذلك باسمه الأعظم وبوجهه الكريم وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا لنا ولكم ولوالدينا ووالديكم ومشايخنا وولاتنا ولجميع المسلمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
{في ختام هذه الحلقات نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في برامج قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] صحيح البخاري (3606)، صحيح مسلم (1847).
[2] أخرجه البخاري (3496)، صحيح مسلم (2638).
[3] صحيح البخاري (100)، صحيح مسلم (2673).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك