الدرس السابع

فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل

إحصائية السلسلة

20931 9
الدرس السابع

رفع الملام عن الأئمة الأعلام

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، نحن وإياكم في شرح كتاب (رفع المنام عن الأئمة الأعلام) يشرحه ويعلق عليه فضيلة الشيخ/ الأستاذ الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل.
باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ، مرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يحييكم ويرحب بكم، أنت وإخواني وأخواتي أينما بلغ إليه هذا الأثير، والله أسأل أن يجعله من مجالس العلم والذكر التي ينفعنا ويرفعنا الله بها في الدنيا والآخرة، وجميع إخواننا المسلمين.
{قال شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَإِنَّمَا رَدَدْنَا الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ)}.
بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، هذه المسألة التي ردد فيها الشيخ الأمثلة، ووسع فيها من عرضها في مخالفة الوعيد، قال: (لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ) وأشار بهذا إلى قول السلف ومن سار على دربهم وجادتهم، وإلى قول المتكلمين وهم الخلف، وشيخ الإسلام طريقته أنه إذا أراد تقرير مسألة حصل فيها التباس واشتباه، وربما أَخْذٌ وَرَدٌّ؛ أطال عليها بعرض الأمثلة ليتضح فيها المقام والمقصود، وهذا المقام يدل على تبحره في معرفة الأدلة واستحضاره لها، وهو الذي كان محل التعجب من أهل زمانه، ومن العلماء في وقته، في استحضاره لهذه الأدلة، وانتزاعه منها ما يشاء، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ومدار ذلك كله في العلم وفي العمل على توفيق الله لعبده، ولا يتأتى هذا التوفيق إلا بإلحاح العبد على الله عبودية ودعاء وذلة وبراعة أن يُوفقه وأن يَهديه، وكان شيخ الإسلام إذا استغلقت عليه المسألة لهج إلى الله بالاستغفار، والثناء والدعاء إلى أن يفتح الله له شيئًا لم يكن هذا في خلده، وهذا هو اللائق بطلاب العلم، أن يكون علمهم وعملهم ودعوتهم وتعليمهم هو لله؛ طلبًا لثواب الله وخشية لعقابه، ولا يكون هذا لأجل غرض من أغراض الدنيا الدنيئة، هذا أمر مهم.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- هنا يُبين أنه ردد هذه الأمثلة وأعاد وأبدى فيها لوجود هذا الاشتباه والالتباس في كلام الناس وطرائقهم، تجاه هذا الوعيد إذا وقع فيه المخالفة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّمَا رَدَدْنَا الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا -وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ-: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُ بِاجْتِهَادِ سَائِغٍ، مُخْطِئٌ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُتَأَوِّلُ بِعَيْنِهِ حَرَامًا، لَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ أَثَرُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ؛ لِعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَ)
}.
هذا قول عامة السلف، ويكاد يكون هذا القول إجماعًا، أنه إذا جاء الوعيد وخالفه المخالف لا قصدًا لهذه المخالفة، ولا اتباعًا لهو وشهوته، وإنما خالفه مجتهدًا، سواءٌ كان لنفسه أو مُتبعا مجتهدا يثق في اجتهاده، لكن لابد أن يكون الاجتهاد اجتهادًا سائغًا، لا اجتهادًا اعتباطيًا مبناه على الهوى والتمحل، أو مبناه على تقليد مدرسته وجماعته الذين يتبعهم على الحق والباطل، فيكون عمله عندئذٍ عملًا مأجورًا، وإن كانت اجتهاده فيها خاطئ، ولا يمكن أن يصيبه هذا الوعيد، فإنَّ بلالًا -رضي الله عنه- لَمَّا اشترى الربا، ذكر النبي أنه وقع في الربا، لكن لم يؤاخذه لماذا؟ لأنه وقع فيه لا يظنه ربا ولا يعتقده ربا، وانما وقع فيه باجتهاد ظَنَّ فيه أنَّ هذا الفعل جائز.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالثَّانِي: فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِحَرَامِ، لِعَدَمِ بُلُوغِ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ لَهُ؛ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَتَكُونُ نَفْسُ حَرَكَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ لَيْسَتْ حَرَامًا، وَالْخِلَافُ مُتَقَارِبٌ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالِاخْتِلَافِ فِي الْعِبَارَةِ)}.
يعني القول الثاني للناس أنَّ هذا الفعل في حق هذا الذي وقع في الحرام والذي ترتب عليه الوعيد، كالربا أو كشرب ما يظنه حلالا؛ صار خمرًا وأمثال ذلك أنه ليس في حقه حرام؛ لأنه حالة فعله لم يعتقده حرامًا، ولم يصل إليه دليل التحريم في هذه القضية المعينة.
شيخ الإسلام من إنصافه قال: والقول في هذا مُتقارب، لكن الأول هو الأوجه من جهة موافقة الأدلة، وما نطق به السلف والأئمة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ إذَا صَادَفَتْ مَحَلَّ خِلَافٍ، إذْ الْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بها فِي تَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَحَلَّ وِفَاقٍ أَوْ خِلَافٍ، بَلْ أَكْثَرُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي مَوَارِدِ الْخِلَافِ. لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْوَعِيدِ إذَا لَمْ تَكُنْ قَطْعِيَّةً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ)}.
الخوارج يعتقدون أنَّ هذا الوعيد يكون استحلاله بمجرد الفعل، وهذا غلط بَيِّنْ، جَرَّهُم ذلك واضطرهم إلى أنَّ كل من فعل محرمًا فإنه يكفر بذلك؛ لأنَّ الاستحلال عندهم ليس محصورًا بالقلب، وهو الاعتقاد، وإنما بكل فعل، والفعل يكون بالقول ويكون بالجوارح، وهذا المذهب غالط جدا، وهو أساس اضطراد قول الخوارج بالتَّكفير.
وها هنا تنبيه على ملاحظة درجت بين طلاب العلم، وهي: جهلهم بالاصطلاحات العلمية السلفية إلى اصطلاحات محدثة، مثالها:
تراشق بعضهم على بعض بأنَّ هذا مرجئ فهذا تكفيري، اصطلاح التكفيري غلط، وإنما الذي عليه اصطلاح السلف هو أنَّ هذا قول الخوارج، فلان تكفيري وفلان ما هو بتكفيري هذا غلط؛ لأنَّ منشأه عن ردة فعل عاطفية ناشئة عن الجهل، وهو في حقيقته إحداث مصطلح جديد على غير ما كان عليه اصطلاح السلف، فوقعوا في جريرتين:
-      في الابتداع.
-      وفي وصف مخالفيهم بما ليس يوافقهم.
وإنما في هذه الاصطلاحات نمضي على ما كان عليه الأوائل، كما أنَّ البدعة تكون بالفعل وبالقول وبالاعتقاد، من جرائها كذلك الاصطلاحات، التي لم تدل عليها الأدلة الشرعية ولا الاصطلاحات والقواعد السلفية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ: إنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ مَحَلَّ الْخِلَافِ؛ وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَحَلَّ الْوِفَاقِ، وَكُلُّ فِعْلٍ لُعِنَ فَاعِلُهُ، أَوْ تُوُعِّدَ بِغَضَبِ أَوْ عِقَابٍ، حُمِلَ عَلَى فِعْلٍ اُتُّفِقَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، لِئَلَّا يَدْخُلَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْوَعِيدِ إذَا فَعَلَ مَا اعْتَقَدَ تَحْلِيلَهُ، بَلْ الْمُعْتَقِدُ أَبْلَغُ مِنْ الْفَاعِلِ؛ إذْ هُوَ الْآمِرُ لَهُ بِالْفِعْلِ؛ فَيَكُونُ قَدْ أَلْحَقَ بِهِ وَعِيدَ اللَّعْنِ أَوْ الْغَضَبِ بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ؟)}.
يعني هنا فيما يسمى باللوازم، هل تلزمه ذلك؟ هل نحن إذا علمنا أنَّ الكبيرة كما قررها الشيخ وقررها العلماء تجمع وصفًا من الأوصاف السبعة؟ فكل ذنب رتب عليه الحد في الدنيا، أو رُتب عليه الوعيد في الآخرة بالنار، أو بالغضب، أو باللعنة أو نُفي الإيمان عن أو تُبرئ منه أو أصر على صغير فهو كبير، هذا القول هل لازمه أنَّ من وقع في الكبيرة بطريق اللزوم يلحقه ما وقع فيه بالطريق المباشر؟
أجاب عن هذا -رَحِمَهُ اللهُ- بعدة وجوه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ جِنْسَ التَّحْرِيمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي مَحَلِّ خِلَافٍ، أَوْ لَا يَكُونَ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي مَحَلِّ خِلَافٍ قَطُّ: لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ حَرَامًا إلَّا مَا أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَكُلُّ مَا اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ يَكُونُ حَلَالًا.
وَهَذَا مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإسلام.
وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا وَلَوْ فِي صُورَةٍ، فَالْمُسْتَحِلُّ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، إمَّا أَنْ يَلْحَقَهُ ذَمَّ مَنْ حَلَّلَ الْحَرَامَ أَوْ فَعَلَهُ وَعُقُوبَتُهُ أَوْ لَا؟
فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يَلْحَقُهُ؛ أَوْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ. فَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ فِي حَدِيثِ الْوَعِيدِ اتِّفَاقًا.
وَالْوَعِيدُ الثَّابِتُ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ.
بَلْ الْوَعِيدُ إنَّمَا جَاءَ عَلَى الْفَاعِلِ. وَعُقُوبَةُ مُحَلِّلِ الْحَرَامِ فِي الْأَصْلِ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ فَاعِلِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ.
فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا فِي صُورَةِ الْخِلَافِ، وَلَا يَلْحَقُ الْمُحَلِّلَ الْمُجْتَهِدَ عُقُوبَةُ ذَلِكَ الْإِحْلَالِ لِلْحَرَامِ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِيهِ؛ فَلِأَنْ لَا يَلْحَقَ الْفَاعِلَ وَعِيدُ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْلَى وَأَحْرَى)
}.
هذه المسألة أشار إليها الشيخ فيما فيه أن يقع التحريم والوعيد على نفس الفعل، وهذا فيما أُجمع على تحريمه، أما ما وقع فيه الاختلاف فينظر فيه، ومعلوم أنه من خالف الأمة، ومعلوم بالبطلان من دين الإسلام أن يكون المستحلُ قاصدًا لهذا الفعل، إن كان قاصدًا له فيلحقه ذلك بالإجماع، وهذا مما يرفع فيه شأن الأئمة الأعلام أن يكونوا قصدوه فيما قالوه أو ما وقعوا فيه في حقيقة الأمر مخالفا لهذه الأدلة؛ لأنَّ هذا إنما وقع منهم في الاطراد، بل في المنهج الغالب الأعم إنما هو باختلاف سائغ.
ثم هذا الوعيد إذا جاء على الفاعل، وعقوبته على المحلل أعظم؛ لأنَّ من حلل الشيء وإن لم يفعله أعظم إثما ممن وقع في الشيء فاعلا له لم يعتقد حله، وهذا كما يقال في التفريق بين أهل الشهوات وبين من يُنَظِّرُ ويُؤصل لهذه الشهوات، وحاشى الأئمة الأعلام أن يكونوا كذلك، وإنما هذا استطراد من الشيخ في هذه المسألة في ذيولها وتوابعها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَمَا لَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ الْمُجْتَهِدِ تَحْتَ حُكْمِ هَذَا التَّحْرِيمِ -مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ- لَمْ يَلْزَمْ دُخُولُهُ تَحْتَ حُكْمِهِ مِنْ الْوَعِيدِ؛ إذْ لَيْسَ الْوَعِيدُ إلَّا نَوْعًا مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ، فَإِنْ جَاز دُخُولُهُ تَحْتَ هَذَا الْجِنْسِ، فَمَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ، كَانَ جَوَابًا عَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ)}.
عندنا ذمٌّ للفعل، وعندنا عقاب على هذا الفعل، الذم يدخل من جنسه العقاب، لكن قد يفعل الفعل ولا يلحقه العقاب، وقد يفعل الفعل ولا يلحقه الذَّمُّ أصلا لجهله، وقد يفعل هذا الفعل المحرم ويلحقه الأمران، الذَّمُّ والعقاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا يُغْنِي الْفَرْقُ بِقِلَّةِ الذَّمِّ وَكَثْرَتِهِ؛ أَوْ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ وَخِفَّتِهَا؛ فَإِنَّ الْمَحْذُورَ فِي قَلِيلِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَالْمَحْذُورِ فِي كَثِيرِهِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْحَقُهُ قَلِيلُ ذَلِكَ وَلَا كَثِيرُهُ، بَلْ يَلْحَقُهُ ضِدُّ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ)}.
إذا لم يلحق المجتهد الذم ولا العقوبة لوجود الاجتهاد السائغ منه، فهو انتفى عنه الذم وانتفت عنه العقوبة، وبقي له الأجر، إذًا يفعل هذا الفعل ويؤجر عليه، مثاله: حاكم شرعي ينظر في قضايا الناس، في حقوقهم، في أموالهم، في دمائهم، في أعراضهم، بذل وسعه في المسألة، واجتهد وتحرى وتثبت، لم يَمِل مع هوى نفسه، أو يَمِل مع أحد الخصمين بوجه من الوجوه، ثم حَكَمَ حُكْمَا يظنه أنه الموافق لشرع وهو في ذات الحكم وحقيقته لم يوافق شرع الله، فإنه إن كان كذلك، أي: اجتهد، وبذل وسعه، واستفرغ جهده وطاقته، ولم يمل مع أحد الخصمين ولم يحابِ، ولم يكن في قلبه شنئان؛ فهذا حَكَمَ بغير ما أنزل الله، ومع ذلك فقد أُثيب على هذا الحكم؛ لأنه لم يتعرض لهذا الذنب في أصله ولا للوعيد المترتب عليه بأصله، وإنما اجتهد هذا الاجتهاد الذي طُلِبَ منه ولم يوفق لحكم الله، هذا الوجه الأول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ حُكْمِ الْفِعْلِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، أُمُورٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْفِعْلِ وَصِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ إضَافِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا عَرَضَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ)}.
عدم العلم وصف عارض لا يتعارض مع كون المسألة حرامًا أو حلالًا، وإنما عدم العلم وصف عارض سواء كانت المسألة مجمعٌ عليها أو غير مجمعٍ عليها.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاللَّفْظُ الْعَامُّ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ)}.
نصب دليل، يعني: إقامة الدليل الخاص الذي يُخصص به عموم ذاك الدليل، مثل ما ذهب إليه الجمهور، من أنَّ أكل لحم الجزور لا يُنقضُ الوضوء.
من قال بنقض الوضوء لأكل لحم الجزور معهم دليلٌ خاص نصبوه، وهو حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- وكذلك في حديث أنس، في حديث جابر أنَّ رجلًا سأل رسولَ الله ﷺ: أنتوضَّأُ مِن لُحومِ الغنَم؟ قال: «إنْ شئتَ»، قال: أنتوضَّأُ مِن لُحومِ الإبِلِ؟ قال: «نعَم»[1]، فهنا نُصِبَ أو أقيم الدليل الخاص الذي يخصص ذلك العموم.
ما العموم الذي عند الجمهور؟
«كان آخِرُ الأمرينِ مِن رسولِ الله ﷺ تَرْكَ الوضوءِ ممَّا مسَّتِ النار»[2].
 
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاللَّفْظُ الْعَامُّ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، إمَّا مُقْتَرِنٍ بِالْخِطَابِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ، وَإِمَّا مُوَسِّعٍ فِي تَأْخِيرِهِ إلَى حِينِ الْحَاجَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ)}.
هناك مسألة يذكرها الأصوليون، وهي مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذه المسألة يُبنى عليها الأحكام؛ لأنه إذا ورد الحكم في مسألة أو في قضية معينة، وحكم فيها النبي ﷺ ولم يأت لها معارض فالحكم على ما حكم به، وقولهم: "إنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"، عبارة فيها ما فيها، ولكن الأولى تأدبًا مع المقام النبوي، ومع ما جعل الله -عز وجل- فيه من خصائص رسله أن يبلغوا البلاغ المبين، أن يُقال: إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يتصور في جانب النبوة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكن وردت بعض العبارات التي فيها ما فيها من الغلظة بسبب علم الكلام لَمَّا ورد على هذا العلم الشريف علم أصول الفقه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْخِطَابِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ فِي لَعْنَةِ آكِلِ الرِّبَا وَالْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِمَا الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَذَلِكَ لَا نعلمه إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ)}
ما هو الذي لا نعلمه إلا بعد موت النبي ﷺ؟
الإجماع على التحريم.
{قال -رحمه الله: (وَتَكَلُّمِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ، لَكَانَ قَدْ أَخَّرَ بَيَانَ كَلَامِهِ إلَى أَنْ تَكَلَّمَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ)}.
الذي لا نعمل إلا بعد موتى النبي الإجماع على التحريف.
يعني لا يصح في حق النبوة ذلك، وإنما البيان والحمد لله وقع فيما كان في حياته ﷺ أتم البيان، وإن كان من خُلْفٍ فإنه في أفهام البشر، وفي أخذهم ببعض الأدلة وتركهم لبعضها، وإلا فما مات عليه الصلاة والسلام إلا وتركنا على مثل هذه البيضاء، ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إنَّمَا خُوطِبَتْ الْأُمَّةُ بِهِ لِتَعْرِفَ الْحَرَامَ فَتَجْتَنِبَهُ، وَيَسْتَنِدُونَ فِي إجْمَاعِهِمْ إلَيْهِ؛ وَيَحْتَجُّونَ فِي نِزَاعِهِمْ بِهِ.
فَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ الْمُرَادَةُ هِيَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَقَطْ، لَكَانَ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجْمَاعِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، فَيَمْتَنِعُ تَأَخُّرُهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى الدّورِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ عَلَى أيِّ صُورَةٍ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهَا مُرَادَةٌ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مُرَادَةٌ حَتَّى يَجْتَمِعُوا، فَصَارَ الِاسْتِدْلَالُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ، وَالْإِجْمَاعُ مَوْقُوفًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ قَبْلَهُ، إذَا كَانَ الْحَدِيثُ هُوَ مُسْتَنَدُهُمْ، فَيَكُونُ الشَّيْءُ مَوْقُوفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهُ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَدْ، وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلْحَدِيثِ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا تَغْلِيظٌ لِلْفِعْلِ أَفَادَنَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعً)
}.
إي والله (وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعً) وما أشار إليه -رحمه الله- من كونه مستند الإجماع، أي الدليل؛ لأنَّ الإجماع الصحيح المعتبر لابد أن يقوم على مُستند، ما المستند؟ دليل من القرآن أو السنة والمعنى فيه عام، أو المعنى فيه ظاهر، فَيُجْمِعُ العلماءُ على دلالة هذا المعنى الخاص في هذا المستند، وهذا الإجماع لا يحل مخالفته إذا عُلِمَ قطعًا، ولهذا ما يمكن أن يُبحث الإجماع قبل معرفة مُستنده، والإجماع الذي إذا ذكره العلماء يأثم مخالفه هو ما كان في القرون الثلاثة، هذا في المسائل التفصيلية، أمَّا في المسائل الأصلية فهذا معروف ومستقر حتى بعدها، ولهذا يقول الإمام أحمد: "مَنْ ادَّعَى الإجْمَاعَ بعد القرون الثلاثة الأولى فهو كاذب".
أين له وقد انتشر الناس؟ وهذا ما أشار إليه المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- شيخ الإسلام في العقيدة الوسطية، التي ذكر فيها مصادر التلقي لهذا الاعتقاد، فذكر الكتاب العزيز ثم السنة، قال: (فصل والسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه) ثم قال: (والأصل الثالث: الإجماع)، والإجماع الذي ينضبط -أي يمكن أن ينضبط- ما كان الصحابة والتابعون وتابعوهم، إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشرت الأمة، وهذا المعبر عنه في كلام العلماء وهو إجماع أهل القرون المفضلة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْتَجَّ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، بأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ.
فَإِذن، الصَّدْرُ الْأَوَّلُ لَا يجُوزُ لهم أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَا. بَلْ وَلَا يجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا مَنْ يَسْمَعُهَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ إذَا سَمِعَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَجَدَ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَدْ عَمِلُوا بِهِ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُعَارِضٌ: أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْهُ هَلْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مَنْ يُخَالِفُهُ؟ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ فِي مَسْأَلَةٍ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ.
وَإِذًا يَبْطُلُ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمُجَرَّدِ خِلَافٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، فَيَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ مُبْطِلًا لِكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُوَافَقَتُهُ مُحَقِّقَةً لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ قَدْ أَخْطَأَ، صَارَ خَطَؤُهُ مُبْطِلًا لِكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ)
}.
هذا كله كما يُقره الشيخ أمر لا يُعقل، بل هو باطل بالضرورة، أي: بالعلم الضروري الافتراضي البدهي، والا فيكفينا في هذا ما تعبدنا الله به، فإذا صَحَّ الحديث عملنا به، فإذا جاء له مُعارض نظرنا في وجوه المعارضة، فإن كُنَّا أهلًا لذلك فالحمد لله، وإلا رددناه إلى من هم أهله إلى أن ينتهي ذلك إلى الأئمة المجتهدين.
وإذا وقع من هذا الإمام المجتهد مخالفة لهذا نُظِرَ فيها، فهل المخالفة لعوارضها أو لذاتها؟ ولا يُظَنُّ في أئمة الإسلام ومحققيهم إلا الظن الحسن، وهو أنه إذا وقع منهم مخالفة بدليل صريح أو لإجماع؛ فإنَّ هذا مرجعه إلى أنه لم يتحقق هذا الإجماع، ولم يتحقق هذا الدليل، كما سبق بيانه في الوجوه العشرة الأولى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ.
فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْإِجْمَاعِ صَارَتْ
دَلَالَةُ النُّصُوصِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْقَى لِلنُّصُوصِ دَلَالَةٌ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ إنَّمَا هُوَ الْإِجْمَاعُ وَالنَّصُّ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ.
وَإِنْ قِيلَ: يُحْتَجُّ بِهِ إذْ لَا يُعْلَمُ وُجُودُ الْخِلَافِ، فَيَكُونُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ مُبْطِلًا لِدَلَالَةِ النَّصِّ.
وَهَذَا أَيْضًا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَبُطْلَانُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإسلام)
}.
نعم، لابد من ثبوت النص وهو مسند الإجماع، فإن علمنا الإجماع فنعم، وإن لم نعلمه فلا نُكَلَّفَهُ، ولا نبحث عنه، أمَّا إذا وقع وجد الإجماع مع مُقتضى الدليل فالحمد لله، فهذا تأكيد للدليل بدليل آخر.
متى يصار إلى الإجماع؟ إذا لم يكن من مسألة فيها دليل صريح، أو دليل ظاهر، فهنا الإجماع إذا ثبت لم تحل مخالفته، فإذا خالفه أحد فإن كانت مخالفته لعدم علمه بالدليل، فلا يكون هذا مخالفة للإجماع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الْخَامِسُ: أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي شُمُولِ الْخِطَابِ اعْتِقَادُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لِلتَّحْرِيمِ، أَوْ يُكْتَفَى بِاعْتِقَادِ الْعُلَمَاءِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ -حَتَّى النَّاشِئِينَ بِالْبَوَادِي الْبَعِيدَةِ وَالدَّاخِلِينَ فِي الْإسلام مِنْ الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ- قَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ.
وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ بَلْ وَلَا عَاقِلٌ)
}.
نعم، لا يلزم هذا وجوب أن تُجْمِعَ الأمة على حكم، الأمة فيهم العوام، وفيهم العلماء، وفيهم المتعلمون، فيهم قريب العهد بالإسلام، فيهم من نشأوا في البوادي وهم مظنة الجهل، فلا يلزم أن يكونوا جميعًا عالمين بهذا الحكم، إنما يكفي فيه علم العلماء، ولا يلزم أنَّ العالم يُحيط بكل ما علم تحريمه، أو بكل مَا عُلِمَ تحليله، حتى هذا غير لازم في العلماء، ولهذا يقول الشيخ: (وهذ) أي: لازم أن الأمة كلها علمت بهذا الحكم، لا يقوله مسلم ولا عاقل، يعني: في التصور الذهني حتى العاقل ما يتصوره.
 
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ بَلْ وَلَا عَاقِلٌ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَذَا الشَّرْطِ مُتَعَذَّرٌ.
وَإِنْ قِيلَ: يُكْتَفَى بِاعْتِقَادِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ)
}.
وهذا أيضًا ما يتأتى، إلا في مسائل الإجماع، وما دون مسائل الإجماع لا يلزم فيه أن يعتقده جميع العلماء لأنك لا تستطيع أن تحيط بهم، ولأنَّ العلماء مثل: البشر يخفى عليهم ما قد يخفى على غيرهم، ويلحقهم ما يلحق العوام من جهل في بعض الصور وبعض المسائل وبعض التصورات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ قِيلَ: يُكْتَفَى بِاعْتِقَادِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا اشْتَرَطْت إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَشْمَلَ الْوَعِيدُ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْ دَلِيلَ التَّحْرِيمِ مِنْ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ مَحْذُورَ شُمُولِ اللَّعْنَةِ لِهَذَا كَمَحْذُورِ شُمُولِ اللَّعْنَةِ لِهَذَا.
وَلَا يُنَجِّي مِنْ هَذَا الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَّةِ وَفُضَلَاءِ الصِّدِّيقِينَ، وَهَذَا مِنْ أَطْرَافِ الْأُمَّةِ وعامته)
}.
يعني: هذا الافتراض أن يعلم العلماء جميعًا هذا الحكم لا يتأتى، وبالتالي لو قلنا: إن تأتَّى شمل الوعيد جميع هؤلاء، وهذا غلط، ولا يمكن أن يجعل العلماء كالعوام في عموم الوعيد الذي جاء على هذا الذنب الذي وقعوا فيه، إمَّا بعلم أو وقعوا فيه بغير علم أو بغير قصد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ افْتِرَاقَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَا يَمْنَعُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَمَا غَفَرَ لِلْمُجْتَهِدِ إذَا أَخْطَأَ، غَفَرَ لِلْجَاهِلِ إذَا أَخْطَأَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّعَلُّمُ)}.
إذًا عذر الجاهل ليس مطلقًا، يعذر الجاهل إذا لم يمكنه أن يتعلم، أمَّا إذا أمكنه التعلم وقصر وفرط فوقوعه في الجهل مُؤاخذ عليه، لكن هل وقوعه في الجهل يُساوي وقوع المذنب في الذنب الذي عَلمه وعلم العقاب عليه؟
الجواب لا، والله جَلَّ وَعَلَا- أكمل وأجل من أن يساوي بين هذين الأمرين، فإنَّ من وقع بالذنب يعلم تحريمه وطوعته نفسه له بهواه، أو بشهوته، ليس كالذي وقع في الذنب وهو لا يعلم أنه ذنب، هذا باب وهذا باب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَمَا غَفَرَ لِلْمُجْتَهِدِ إذَا أَخْطَأَ، غَفَرَ لِلْجَاهِلِ إذَا أَخْطَأَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّعَلُّمُ، بَلْ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِفِعْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ مُحَرَّمًا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَةُ تَحْرِيمِهِ؛ أَقَلُّ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ إحْلَالِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ لِمَا قَدْ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَةُ تَحْرِيمِهِ.
وَلِهَذَا قِيلَ: احْذَرُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ، فَإِنَّهُ إذَا زَلَّ زَلَّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ)
}.
هذا قد جاء عن عبد الله بن المبارك، وعن جمع من السلف، أنهم قالوا: قيل لعيسى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يا روح الله وكلمته، من أشد الناس فتنة؟ قال زلة العالم، فإنَّ العالم إذا زَلَّ زَلَّ بزلته خلق كثير، وهذا ما قاله عبد الله بن المبارك، فهو كلام من مشكاة النبوة.
المقصود من هذا أنَّ العلم بالتحريم شيء، وعدم العلم به شيء ثان، ثم أيضًا في مسألة المفاسد والمصالح في وقوعها، الشريعة جاءت على أصل عام، وهو أنها جاءت بتحصيل المصالح، أو بتكميلها، كما أنها جاءت بدرء المفاسد، فإن لم يتأتى درؤه فبتقليله، وهذا يدخل في العلم المشهور الآن، علم المقاصد، وهو ثمرة علم الأصول، وهذا باب لأهل العلم، ولا يصلح كما في الأزمان المتأخرة أن يتخذ من علم المقاصد ذريعة يتوصل بها لتحليل المحرمات؛ لأجل الوقائع والضغوط، والتبرير للناس من أجل الوقوع فيما حرَّم الله عز وجل عليهم، وما نهى عنه رسوله ﷺ.
{قال -رحمه الله: (وَلِهَذَا قِيلَ: احْذَرُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ، فَإِنَّهُ إذَا زَلَّ زَلَّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الْأَتْبَاعِ)}.
قوله: (وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الْأَتْبَاعِ) هذه لها جوانب لكن أشهرها جانبان:
الجانب الأول: أنَّ من قلَّدوا العالم في زلته زَلُّوا بزلته، فاشتهرت هذه الزلة حتى نُسبت إلى هذا العالم، كما اشتُهِرَ بمسألة إباحة النبيذ عند أهل الكوفة وفقهاء الرأي، حتى قال بها المتحللون من الشريعة والمسوغون للمنكر بأنه يجوز شرب الخمر بإطلاق، وهذه دعاية تتكرر الآن، وهو اتخاذ هذا العمل الذي تابع فيه العوام هذا العالم فيما زلَّ فيه بوجه أو بوجه آخر، فصار هذا مُطردا.
الجانب الثاني في قوله (وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الْأَتْبَاعِ) من ناحية الغرور والعجب، ولهذا كان السلف ينهون أن يطأ الناس أعقابا، أي يمشون وراءهم، وكان العلماء يؤكدون أنَّ المشي وراء العالم ذلة لهذا الماشي وفتنة لهذا العبد، ولهذا قالوا: (وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الْأَتْبَاعِ).
وانتبه لها يا طالب العلم، إذا ميزك الله بفهم، وميزك الله بتأصيل أو تقاسيم، فُقْت بها على أقرانك، باب العجب والغرور أن يرد إليك، واحذر أن يطأ الناس أعقابك ويكثر الاتصال عليك، والتواصل معك فيصيبك العجب مرة بعد مرة ثم تهلك، وهلاكك عندئذ بدخول هذا الباب الخلفي للشيطان إلى قلبك، ليغريك ويضلك، ويكون همك الناس والأتباع، كثرة وقلة، مدحًا وذمًّا.
ولهذا مما بُلِيَ به الناس الآن بعد هذه الوسائل -وسائل التواصل- كثرة المفاخرة بالأتباع في أعدادهم، أو في الجالسين في حلقته أو في درسه أو من المتابعين له القائلين بقوله. هذه فتنة، وأي فتنة!
ومن كان بين عينيه ثواب الله، وخشية الوقوف أمامه وبين يديه، لم يلتفت لهذا، سواء حضر واحدٌ أو حضر ألف، اتبعه مليون أو لم يتبعه أحد، فإنَّ من أنبياء الله من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، هذا أمر مهم مبناه على هذا القول العظيم من ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وهو مما جاء في مشكاة النبوة، (وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الْأَتْبَاعِ) أي: سبب في هلاكه وإهلاكه، إذا لم ينتبه من هذه المعوقات، ومن هذه العثرات في طريق إبلاغ العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِذا كَانَ هَذَا مَعْفُوًّا عَنْهُ -مَعَ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ فِعْلِهِ- فَلِأَنْ يُعْفَى عَنْ الْآخَرِ -مَعَ خِفَّةِ مَفْسَدَةِ فِعْلِهِ- أَوْلَى. نَعَمْ يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ وَهُوَ أَنَّ هَذَا اجْتَهَدَ فَقَالَ بِاجْتِهَادِ، وَلَهُ مِنْ نَشْرِ الْعِلْمِ وَإِحْيَاءِ السُّنَّةِ مَا تَنْغَمِرُ فِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَأَثَابَ الْمُجْتَهِدَ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَأَثَابَ الْعَالِمَ عَلَى عِلْمِهِ ثَوَابًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ ذَلِكَ الْجَاهِلُ، فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْعَفْوِ، مُفْتَرِقَانِ فِي الثَّوَابِ. وَوُقُوعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ مُمْتَنِعٌ، جَلِيلًا كَانَ أَوْ حَقِيرًا.
فَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ هَذَا الْمُمْتَنِعِ مِنْ الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ)
}.
وهذا أمر مهم فيما يُخطئ به العلماء أو تبين أنهم خالفوا فيه الدليل، أن تنظر أيها المنصف وأيها العاقل وأيها المؤمن إلى هذا بمنظار العدل، ومنظار الإنصاف لا بمنظار الهوى والحيف، فعالم كالإمام أبي حنيفة أخطأ في مسألة أو ثنتين، هذا الخطأ لا يجوز أن يضيع في بحر حسناته، وسابقته وعلمه وفقهه، حتى ذكر في زمنه أنه من أفقه الناس، لكن يحدو بعض الناس ما يحدوهم من الدوافع في قلبه، إمَّا ظنه أنَّه ينتصر للسلفية، أو ينتصر للأدلة، أو ينتصر لمذهب أهل السنة والجماعة، فيحمله على أن يُنْسفَ العلماء في اليمِّ نسفًا، هذا غلط، بل غلط بين، ويخشى عليه جريرته وجريرة من يقلده فيها، وأراها قد ظهرت في الأزمان المتأخرة، فلم يزل أهل العلم يعذرون من يخالف من العلماء الكبار، ويلتمسون لهم العذر وإن لم يوافقوهم على الخطأ، بل من كانت له سابقة ويد حسنة في العلم وفي العمل وفي مذهب أهل السنة، ووقعت منه الأمور الكبار دحموها، وتجاوزوا عنها، واعتبروا يا إخواني بما حاول فيه ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ-، ومثله شيخه شيخ الإسلام من التعذر لشيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصار الهروي، صاحب المنازل -منازل السائرين- فإنه أتى في منازله وفي غيرها أشياء عظيمة وقبائح، ومع ذلك دحموها، إلى أن عجزوا، حتى قال ابن القيم: "والله إنَّ أبا إسماعيل حبيب إلينا، ولكن الحق أحبُّ إلينا منه".
وفي موضع آخر، في مسألة "ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد"، قال -رحمه الله: "رحم الله أبا إسماعيل -انظر رحم الله أبا إسماعيل- لم يقل: الفاعل الذي فيه ما فيه، بل قال: "رحم الله أبا إسماعيل، فتح بابًا للزندقة لم يُرِدْه"، وهذا مُهم حتى فيمن أنكر متأولًا صفة من صفات الله، وسابقته في الإسلام عظيمة، وجهده مبذول ينسحب عليه هذا الأمر، فلا نوافقه في خطئه مهما كان علمه، ولا ننزله عن رتبته، ولا نغفل أو نعمى عن حسناته، مهما بلغ هذا الأمر، ما لم يبلغ إلى حد الكفر بالله -عز وجل، هذا الوجه الخامس في محصله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّادِسُ: أَنَّ مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ مَا هُوَ نَصٌّ فِي صُورَةِ الْخِلَافِ، مِثْلَ: "لَعْنَةِ الْمُحَلَّلِ لَهُ" فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا لَا يَأْثَمُ بِحَالِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِحَالِ، حَتَّى يُقَالَ: لُعِنَ لِاعْتِقَادِهِ وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالتَّحْلِيلِ.
فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ وَإِنْ بَطَلَ الشَّرْطُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلثَّانِي: جُرِّدَ الثَّانِي عَنْ الْإِثْمِ.
بَلْ وَكَذَلِكَ "الْمُحَلِّلُ" فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَلْعُونًا عَلَى التَّحْلِيلِ، أَوْ عَلَى اعْتِقَادِهِ وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ الْمَقْرُونِ بِالْعَقْدِ فَقَطْ، أَوْ عَلَى مَجْمُوعِهِمَا.)
}.
لقول النبي ﷺ في نكاح التحليل: «لَعَنَ اللهُ المُحَلِّل، والمُحَلَّلَ له»، المحلل له إذا لم يكن يعلم بهذه التراتيب وهذا الاتفاق، لا يلحقه إثم، والمحلل إذا كان لا يعلم أصلا، وإنما جيء به تزوج هذه المرأة، ممن يضغط عليه سواء من رئيسه أو من صاحبه أو من شيخ قبيلته، فإن كان لا يعلم بالتحريم أو أنَّ هذا العقد عقد تحليل لا يلحقه الإثم. إذًا يحتف بهذا الأمر ما يُخْلِي صاحبه من وقوع الجريرة لا ذَمًّا ولا وقوعها أيضًا عقوبة وإثمًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّالِثَ حَصَلَ الْغَرَضُ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلَّعْنَةِ)
}.
يعني: من وقع في التحليل وهو يعرف أنه عقد محرم، لكنه أراد أن يجامل، إمَّا لكرامة من أمره أو لأنه بُذِلَ له، أو لربما قال: أتمتع أيامًا بالمرأة، قد يطرأ ذلك على بعض الناس، فهنا يكون شريكًا في هذا الإثم، ويدخل في طائلة هذا اللعن الذي وصفه به النبي ﷺ، بل وصار كالتيس المستعار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلَّعْنَةِ سَوَاءٌ حَصَلَ هُنَاكَ تَحْلِيلٌ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ.
وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ سَبَبَ اللَّعْنَةِ؛ وَسَبَبُ اللَّعْنَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَهَذَا بَاطِلٌ.
ثُمَّ هَذَا الْمُعْتَقِدُ وُجُوبَ الْوَفَاءِ إنْ كَانَ جَاهِلًا فَلَا لَعْنَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ، فَمُحَالٌ أَنْ يَعْتَقِدَ الْوُجُوبَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَاغِمًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونَ كَافِرً)
}.
ما معنى (مُرَاغِمًا لِلرَّسُولِ)؟ أي: تعمد معاندته وتعمد مخالفته، هذه المراغمة، قال تعالى: ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ .
(إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَاغِمًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونَ كَافِرً)
{قال -رحمه الله: (فَيَكُونَ كَافِرًا.
فَيَعُودُ مَعْنَى الْحَدِيثِ إلَى لَعْنَةِ الْكُفَّارِ، وَالْكُفْرُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِإِنْكَارِ هَذَا الْحُكْمِ الْجُزْئِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ فِي حُكْمِهِ بِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ بَاطِلٌ.
ثُمَّ هَذَا كَلَامٌ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا، وَهُوَ عُمُومٌ مُبْتَدَأٌ.
وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الصُّوَرِ النَّادِرَةِ؛ إذْ الْكَلَامُ يَعُودُ لُكْنَةً وَعَيًّا، كَتَأْوِيلِ مَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ مِنْ غَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فنكاحُها باطلٌ»، عَلَى الْمُكَاتَبَةِ)
}.
يعني: اللفظ العام يحمله على الحالة النادرة هذا من الغلط، فالحديث الذي جاء عند أهل السنن حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّ النبي ﷺ قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ مِنْ غَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فنكاحُها باطلٌ» هناك من حمله على المرأة المكاتبة التي كاتبت على رقها أو على عتقها كما هو عند الحنفية رحمهم الله؛ لأنَّ الأحناف لا يشترطون الولي، مع أنَّ الدليل على خلاف ما ذهبوا إليه، وما جاء عن أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا نقول: هذا اجتهاد، لم يبلغه الدليل، وهو خطأ، لكن لا يَلزم منه تأثيمه، فهذا بينه وبين الله جَلَّ وَعَلَا-، أمَّا نحن فنعتقد أنَّ هذا خطأ ولا نوافقه عليه، وذلك لاشتراط الولي، وهذا في القرآن ﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور:32]، فالخطاب للأولياء، وفي قوله ﷺ في الحديث الآخر: «أيُّما امرأةٍ نكَحَت بغيرِ إذنِ وَلِيِّها فنكاحُها باطِلٌ، باطِلٌ، باطِلٌ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبَيَانُ نُدرتهِ: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْجَاهِلَ لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ، وَالْمُسْلِمَ الْعَالِمَ بِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَا يَشْتَرِطُهُ مُعْتَقِدًا وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، وَالْكَافِرُ لَا يَنْكِحُ نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا، وَصُدُورُ هَذَا النِّكَاحِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَنْدَرِ النَّادِرِ)}.
الكافر لا يُنكح نكاح المسلم، أي: لا يزوج زواج المسلمين إلا أن يكون مُنافقًا مُستخفيًا لا نعلم نفاقه، فنجري عليه بالظاهر، وهذا أصل عام يا إخواني أنَّ الناس عندنا مؤمنون أو كفار في الظاهر، أمَّا البواطن والسرائر ليس ذلك إلينا إلا أن يبدو هذا لنا، وبالتالي لا يجوز أن يُوسَمَ المؤمن بالنفاق، ولا يجوز أن يُوصف المسلم بالكفر، وكما نمنعه في المدح نمنعه في الذم، وإنما النفاق لمن قامت به أمارات النفاق وعلاماته أو بتصريح المنافق له بذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ قِيلَ: إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ لَا تَكَادُ تَخْطُرُ بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ، لَكَانَ الْقَائِلُ صَادِقًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قُصِدَ بِهِ الْمُحَلِّلُ الْقَاصِدُ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ.
وَكَذَلِكَ الْوَعِيدُ الْخَاصُّ مِنْ اللَّعْنَةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَدْ جَاءَ مَنْصُوصًا فِي مَوَاضِعَ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا، مِثْلَ: حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ)
}.
هذا الحديث ما اكتفى به الترمذي، لكن رواه أبو داود وابن ماجه، ورواه أحمد، وهو حديث صحيح، «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ» وفي اللفظ الآخر: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُور» فزيارة القبور وإن رَخَّصَ بها بعض أهل العلم وكرهها بعضهم ولم يجرمها، فإنَّ من كرهها ولم يجرمها لا يُؤاخذ بأن يلعن؛ لأنه لم يقصد المخالفة؛ لأنَّ الحديث لم يثبت عنده كما مضى أو ليس في الصورة المعينة كما في الأسباب العشرة، وبالتالي لا يُخلي هذا عن الوعيد من جهة، وإنما يخليه عن أنه ما قصد هذه المخالفة للوعيد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَزِيَارَةُ النِّسَاءِ رَخَّصَ فِيهَا بَعْضُهُمْ، وَكَرِهَهَا بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُحَرِّمْهَ)}.
والصحيح أنَّ زيارة النساء إلى القبور محرمة، وإن رَخَّصَ بها من رَخَّصَ فإنَّ قوله يعد خطأ، ويعد مخالفًا لظواهر الأدلة، ويعتذر له، ولا يُساء فيه الظن إذا كان له سابقة في الإسلام، وله حسنات وخيرات من بذل العلم ونشره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي محَاشِهِنَّ»، وَحَدِيثُ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»)}.
إتيان النساء في المحاش، وإن كان الحديث فيه مقال لكن له شواهد أخرى كما رواها النسائي في عِشْرَةِ النساء في السنن الكبرى، في الوعيد لمن أتى المرأة في دبرها، والمحاش هي الدبر، وسميت باللوطية الصغرى، فالوعيد قائم عليها، لكن نفس اللعن هو الكلام الذي جاء الشيخ به ها هنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَدِيثُ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»)}
أي: محتكر السلع، والاحتكار هل هو خاص بالأطعمة التي بها قوام الأود أو أنها في عموم السلع؟
قولان لأهل العلم، هذا المحتكر ملعون إن صح الحديث؛ لأنَّ الحديث فيه كلام لأهل العلم، واللفظ الثاني: أنه إثم، المحتكر آثم، لِمَا فيه من إضرار على الناس، يعني هنا هذا اللعن إنما يكون على من قصده وتقصده؛ لأنه يحمل على حالات نادرة غريبة يُقَيِّدُ بها هذا العموم، هذا مقصود الشيخ بهذه الأمثلة.
{قال -رحمه الله: (وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ «الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، وَفِيهِمْ: «مَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ»)}.
هذا كما سبق في الأمثلة، كما سبق ذكره في الأمثلة، فإنَّ من منع فضل ماء داخل في هذا في أحد ألفاظ الحديث، أي: الماء الذي لا يحتاجه، فإن كان فلا يدخل فيه، في خزانه ولا في أنابيبه ولا في أوانيه.
{قال -رحمه الله: (وَقَدْ لَعَنَ بَائِعَ الْخَمْرِ وَقَدْ بَاعَهَا بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ)}.
وهم لا يعلمون حرمتها، يظنون أنه لم يحرم إلا ما في قول الله جل وعلا: ﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ [الأنعام: 145]، وتأول قدامة بن مظعون ذلك حتى جلده عمر -رضي الله عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»)}.
هذا في الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- نعم
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ، وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمُسْبِلُ إزارَه، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»)}.
هذا أخرجه مسلم من حديث أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الْجَرَّ وَالْإِسْبَالَ لِلْخُيَلَاءِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ)}.
هذا قول قال به بعض العلماء، أنه لو أرخى إزاره وأسبله دون الكعبين أنَّ هذا مكروه، ليس بمحرم، والصحيح أنه محرم وعليه الوعيد، لكن قول من قال من هؤلاء يكون اجتهادًا مخالفًا للدليل، فَيَرِدْ عليه ما سبق من تقرير مخالفة العلماء للأحاديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ الواصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ» وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ، وَفِي وَصْلِ الشَّعْرِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ)}.
الخلاف المعروف في وصل الشعر، فإنَّ الحديث المتفق عليه «لَعَنَ اللَّهُ الواصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، والواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ»، فنهى ﷺ أن تصل المرأة شعرها بشعر آخر أو بما يبينه سواء كان شعر الرأس أو غيره مثل ما السؤال عنها الآن في الرموش الصناعية التي تُبين أن لها رمش وليس لها رمش، وهذه الرموش الصناعية كما أنها وصل من جهة أخرى، فإذا اجتمع فيها ماذا؟
اجتمع فيها الوعيدان، من أهل العلم من قال: إنَّ الوصل المحرم في هذا الحديث هو وصلها بشعر لغير الحاجة، فإنه في حديث أسماء قالت: يا رسول الله: إنَّ لي ابْنَةً عُرَيِّسًا أَصَابَتْهَا حَصْبَةٌ فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلُهُ، فَقالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ»، فدلَّ على ذلك أنه محرم حتى لو كان الشعر أصلعًا، أو أن المرأة بورم سرطان وأخذت الكيماوي فحتى شعرها لا تصله، تصبر على ذلك.
الليث بن سعد وهو إمام مشهور كان له مذهب مشهور، أجاز وصل الشعر بالصوف، والخرط ليس بشعر، مثل ما يسميها النساء اليوم بالفيونكة، وهذا وإن كان قول لبعض أهل العلم لكن الصحيح خلاف ذلك، فلا يجوز وصلها لا بشعر ولا ما كان من جنس أو لون أو هيئة الشعر.
{قال -رحمه الله: (وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ)}.
فكون العالم لم يحرم ذلك لا يعني أنَّ هذا الفعل جائز، وإنما العبرة بمورد النص ووجود الدليل، ولهذا أهل الإيمان -لا أظن المؤمن إلا كذلك- إذا بلغه الأمر منه ﷺ أو بلغه النهي والتحريم منه ﷺ أنَّ نفس المؤمن لا تُطيق المخالفة، فقد يقع في المخالفة اتباعا لهواه وغلبة لشهوته، لكن يعلم في نفسه أنه عاصٍ وأنه مخالف لهذا الأمر أو لهذا النهي الذي ورده وبلغه عن النبي ﷺ.
نسأل الله عز وجل أن يمنحنا واياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يرزقنا وإياكم الفقه في دينه، والثبات عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ونفع بعلمكم، لعلنا نكمل إن شاء الله في الحلقة القادمة، وفي ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة ونلقاكم بإذن الله تعالى في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[1] رواه مسلم (360).
[2] رواه أبو داود (192) واللفظ له، والنسائي (185)، وابن خزيمة (1/28) (43)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (192).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك