الدرس الخامس
فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم (جادَّة المتعلِّم) الذي تقدِّمه (جمعيَّة هداة لتعليم العلوم الشَّرعيَّة).
لا زلنا وإيَّاكم في شرح كتاب (رفع الملام عن الأئمَّة الأعلام) للإمام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل، باسمي وباسمكم جميعًا أرحبُ بفضيلة الشيخ}.
الله يبارك فيكم، ويحييكم ويُحيي إخواننا وأخواتنا أينما بلغ إليه هذا الأثير، جعلَ الله هذا اللقاء وأمثاله لقاءات مباركة موفَّقة ينفع الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيها الجميع، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه سبحانه هو الوهاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لَكِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا لَهُ مَوَانِعُ كَمَا بَيَّنَّاهُ.
فَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُ بَعْضِ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْأَعْيَانِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ -مَعَ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ- لَمْ يَعْدَمْ أَحَدُهُمْ أَحَدَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ وَلَوْ وَقَعَ لَمْ يَقْدَحْ فِي إمَامَتِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
فَإِنَّا لَا نَعْتَقِدُ فِي الْقَوْمِ الْعِصْمَةَ، بَلْ نُجَوِّزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ، وَنَرْجُو لَهُمْ -مَعَ ذَلِكَ- أَعْلَى الدَّرَجَاتِ؛ لِمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ، وَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُصِرِّينَ عَلَى ذَنْبٍ، وَلَيْسُوا بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَذَلِكَ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْقَضَايَا، وَالدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَغَيْرِ ذَلِكَ)}.
هذه الجملة الحقيقة هي خلاصة ما في هذا الكتاب، وهو أنَّ ما وقعَ من العلماء الأعلام من أشياء خالفوا فيها الحق أو خالفوا فيها الثابت عن النبي ﷺ، فإنهم لم يتعمَّدوا ذلك، وهم في أنفسهم محمودون عند الأمَّة بما بذلوا واشتغلوا به في العلم وفي الدِّيانة، ولا يُظنُّ فيهم أنهم قصَّروا، فإذا كان كذلك فمَا وقع مِن غلطٍ عندهم لا يقدح في إمامتهم على الإطلاق، ولا نعتقد أنهم معصومون على الإطلاق أيضًا، بل نُجوِّز عليهم ما يقع على البشر من الخطأ والسهو والذنب، لكن نظنُّ بهم خيرًا ونحسن بهم الظَّن أنهم بلغوا المقامات العالية، وسبقوا في الإسلام هذه السَّابقة، وأدُّوا فيه ما أدُّوا من البذل والجهد والنُّصح للأمة وللكتاب والسنَّة، ولمَّا كانوا في هذه المثابة ولم يصرِّوا على ما يُظنُّ أنه ذنب ليسوا بأعلى درجة من الصَّحابة الذين وقع بينهم ما وقع من موجبات الذنوب من إراقة الدماء والقتل والقضايا العامَّة والخاصَّة التي كانت بينهم، فإنَّ هذا أمر لا نخوض فيه، بل نعتقد فيه أنهم ما بينَ مخطئٍ مغفورٌ له خطأه، وما بين مصيبٍ له أجر الصواب، وهذا كما كان فيمن هم أمثل من العلماء وهم الصحابة يكون أيضًا فيمن بعدهم من هؤلاء العلماء الأعلام.
{قال: (ثُمَّ إنَّنا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّارِكَ الْمَوْصُوفَ مَعْذُورٌ، بَلْ مَأْجُورٌ، لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَتَّبِعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، الَّتِي لَا نَعْلَمُ لَهَا مُعَارِضًا يَدْفَعُهَا، وَأَنْ نَعْتَقِدَ وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَوُجُوبَ تَبْلِيغِهَا. وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ.)}.
العلم بأن التَّارك الموصوف مَن اجتهد فأخطأ فله أجر، أجر الاجتهاد وإن لم يوفَّق إلى أجر الإصابة فإنَّه مأجور، ولا يمنعنا أنه بخطئه ما لم يصب فيه أننا نحن المكلفون نتبع ما دلَّ عليه الحق بهذه الأدلة التي لم نعلم لها معارِضًا يدفعها ومخصِّصًا لعمومها أو مقيِّدًا لمجملها، بل نعتقد وجوب العمل بها على عموم المسلمين، ووجوب أن نبلغها ويدلهم عليها وإن خالفت مذاهب أئمتنا: مذهب أحمد بن حنبل ومذهب أبي حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعي وغيرهم من أهل العلم الكبار -رحمهم الله.
{قال: (ثُمَّ هِذه الأحاديث مُنْقَسِمَةٌ إلى ما دلالته قطعية)}.
ما هي المنقسمة؟
هي إشارة إلى الأدلة، فالأدلة من كتاب وسنة منقسمة إلى: ما له دلالة قطعية، وما له دلالة ظاهرة -وتسمى ظنية- وما له الدلالة الضعيفة.
قال: (ثُمَّ هِذه الأحاديث مُنْقَسِمَةٌ إلَى: اتفاق العلماء على العلم والعمل بالأحاديث القطعية، بِأَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ، وَهُوَ مَا تَيَقَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَهُ، وَتَيَقَّنَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تِلْكَ الصُّورَةَ.
وَإِلَى مَا دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ مُوجَبِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا؛ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَإِنَّمَا قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: هَلْ هُوَ قَطْعِيُّ السَّنَدِ أَوْ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ؟ وَهَلْ هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ، أَوْ لَيْسَ بِقَطْعِيّها؟
مِثْلَ اخْتِلَافِهِمْ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، أَوْ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.
فَعِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ.
وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ.
وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ، يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ أُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ، قَدْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ الْجِهَاتِ؛ وَبِحَالِ أُولَئِكَ الْمُخْبِرِينَ؛ وَبِقَرَائِنَ وضمائم تَحُفُّ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ لَا يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يُشارِكْهُ فِي ذَلِكَ)}.
ما دلالته قطعيَّة ذكر الشيخ فيه في أخبار النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أمرين:
النوع الأول: أن يكون قطعيَّ السند قطعيَّ المتن: وهو ما تيقن أنَّ النبي قاله وهذا في مقطوع السند، وتيقن أنه أراد به تلك الصورة، هذه المسألة المعينة وهذا في دلالة قطعي المتن.
النوع الثاني: ما دلالته ظاهرة غير قطعية، أما من جهة سنده أو من جهة متنه.
فما كانت دلالته قطعيَّة سندًا ومتنًا يجب اعتقاد موجبه والعمل به، وهذا ليس للعماء فيه خلاف.
يبقى الخلاف فيما يسمى عندهم بأخبار الآحاد، وجماهير العلماء أن أخبار الآحاد تفيد العمل بها، وإن اختلفوا في إفادتها للعلم بها.
والقول الصحيح: أن أخبار الآحاد إذا صحَّت نسبتها إلى النبي ﷺ أفادت موجبها من حيث العلم بها في الأمور الغيبية، في أخبار أسماء الله وصفاته وذاته ووعده ووعيده، وما يكون في المستقبل، وما يكون في البرزخ، وما يكون من ميقات الساعة والقيامة.
وهذا الخبر المروي يختلف حاله من كثرة مروياته وجهاته وروده، فلهذا هي في نفسها متفاوتة في درجات اليقين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الْجَهَابِذَةُ فِيهِ الْمُتَبَحِّرُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ -رحمهم الله- قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ الْيَقِينُ التَّامُّ بِأَخْبَارِ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَدْ لَا يَظُنُّ صِدْقَهَا، فَضْلًا عَنْ الْعِلْمِ بِصِدْقِهَا.
وَمَبْنَى هَذَا عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الْمُفِيدَ لِلْعِلْمِ يُفِيدُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ تَارَةً، وَمِنْ صِفَاتِ الْمُخْبِرِينَ أُخْرَى، وَمِنْ نَفْسِ الْإِخْبَارِ بِهِ أُخْرَى، وَمِنْ نَفْسِ إدْرَاكِ الْمُخْبِرِ لَهُ أُخْرَى، وَمِنْ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ بِهِ أُخْرَى، فَرُبَّ عَدَدٍ قَلِيلٍ أَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ الَّذِي يُؤْمَنُ مَعَهُ كَذِبُهُمْ أَوْ خَطَؤُهُمْ، وَأَضْعَافُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِهِمْ قَدْ لَا يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ.
هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَطَوَائِفَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ أَفَادَ الْعِلْمَ خَبَرُهُمْ بِقَضِيَّةِ: أَفَادَ خَبَرُ مِثْلِ هذا الْعَدَدِ الْعِلْمَ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ. وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِ ذَلِكَ)}.
تكلم -رَحِمَهُ اللهُ- على هذه المسألة في خبر الآحاد وكثرة عدده في "درء عرض العقل والنقل"، وفي "جواب الاعتراضات على الحموية"، والمقصود من هذا: أن ما عليه جماهير أهل العلم وهو القول الصحيح أنه إذا ثبتَ الحديث إلى النبي ﷺ وثبتت دلالته، لكن تتفاوت يقينيَّة هذه الدَّلالة بكثرة الأحاديث، ووقوع أحوال تتعلَّق بها أو بالمخبَر به.
فمثلًا: الحديث المتواتر ليس كحديث آحاد، وحديث الآحاد في نفسه كحديث النذور روي من أكثر من جهة، حديث أبي هريرة، حديث عبد الله بن عمرو، حديث جابر، حديث أنس، فهذا مما يفيد بكثرة الرواية اليقينُ به أكثر مما لو جاء برواية واحدة، ففيه يقين، لكن اليقين بالثانية أكثر منه في الأولى.
وأمَّا ما عند المتكلمين وهم كثير في أتباع المذاهب الأربعة، وتأثروا بهذه المدارس الوافدة على المسلمين سواء المدارس الفلسفيَّة والأديان التي قبلنا والأديان المحرَّفة؛ وهذا الخليط أحدث عند الناس هذا الكلام الذي هو مادة التَّعطيل، فهؤلاء عندهم مما وردَ علينا أنَّ الخبر لا يفيد اليقين إلا إذا كان متواترًا، وهذه بدعة؛ بل جعلها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهم طاغوتًا حكموا به على الأدلة بردها، من ضمنها أي: في ضمن هذه الأدلَّة ردوها بها بدعوى أنها لا تفيد اليقين وإنما أخبار آحاد، وبالتالي لا ينبني على أخبار الآحاد إثبات أسماء الله الحسنى وصفاته العلا وأفعال ذاته وأفعال صفاته! وهذا طاغوت ردُّوا معه من الحق أضعاف من رد حديثًا أو حديثين في مسألة عمليَّة أو في بعض مسألة اعتقادية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا تَأْثِيرُ الْقَرَائِنِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمُخْبِرِينَ فِي الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ فَلَمْ نَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقَرَائِنَ قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ لَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْخَبَرِ.
وَإِذَا كَانَتْ بِنَفْسِهَا قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ لَمْ تُجْعَلْ تَابِعَةً لِلْخَبَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا لَمْ يُجْعَلْ الْخَبَرُ تَابِعًا لَهَا. بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا طَرِيقٌ إلَى الْعِلْمِ تَارَةً، وَإِلَى الظَّنِّ أُخْرَى، وَإِنْ اتَّفَقَ اجْتِمَاعُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ مِنْهُمَا، أَوْ اجْتِمَاعُ مُوجَبِ الْعِلْمِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَمُوجَبُ الظَّنِّ مِنْ الْآخَرِ.
وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالْأَخْبَارِ أَعْلَمَ، قَدْ يَقْطَعُ بِصِدْقِ أَخْبَارٍ لَا يَقْطَعُ بِصِدْقِهَا مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ)}.
وهذا الأمر متحقق عند العلماء كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْه- أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ عَبدًا أصحَحتُ لَهُ جِسمَهُ وأوسَعتُ عليهِ الرِّزقَ والمَعيشةَ يَمضي عليهِ خمسةُ أعوامٍ لا يَفدُ إليَّ إنَّهُ لَمحرومٌ» ، أي فيما يتعلَّق بالحجِّ، فالعلماء مختلفون فيه:
- منهم من يقول: إنَّ هذا من مناكير العلاء بن عبد الرحمن.
- منهم من يقول: إنَّهم يضطربون في نقل حديث العلاء بن المسيب.
- ومنهم من يقول: إنَّه موقوف.
- ومنهم من يقول: إنَّه ليس له دلالة.
فهذا يترتب معه اضطراب بحصول اليقين بهذا الخبر في مدلوله، فعند ذلك يقع هذا العذر على هذا المعنى.
{قال: (وَتَارَةً يَخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِ الدَّلَالَةِ قَطْعِيَّةً، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ: هَلْ هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ؟
وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا فَهَلْ فِيهِ مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ أَوْ لَا؟
وَهَذَا أَيْضًا بَابٌ وَاسِعٌ.
فَقَدْ يَقْطَعُ قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِدَلَالَةِ أَحَادِيثَ لَا يَقْطَعُ بِهَا غَيْرُهُمْ، إمَّا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْآخَرَ يَمْتنعُ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ)}.
وهذا كما سبق بيانه غير مرَّة أن الدليل قد يكون صريحًا في دلالته، وقد يكون -هو الثاني- في دلالته ظاهرًا، وقد يكون -وهو الثالث- في دلالته ضعيفًا؛ وبحسب هذه الأحوال وهذه القرائن في حال المخبَر والمخبرِينَ به، فعندئذٍ يحصل التفاوت بهذا اليقين به والتَّصديق له، ويحصل تفاوت باعتبار مخالفته، وهذا هو القسم الأول وهو قطعي الدلالة التي نعلم أنَّ النبي ﷺ قاله، وأراد به الصورة التي أُخبر بها في مدلولها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَهَذَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ)}.
عندنا علماء معتبرون وعندنا علماء غير معتبرين.
فالعماء المعتبرون: هم مَن سبقَت لهم السابقة، وأمنتهم الأمة على مذاهبهم، ولهذا ألَّف الحافظ ابن رجب الحنبلي أبو الفرج رسالته "الرد على مَن اتبع غير المذاهب الأربعة"؛ لأنَّ هذه المذاهب مأمونة، أمَّنتهم الأمة عليها، واتفق العلماء على أنَّ الدين في مجموعها.
والعلماء الغير المعتبرين من أهل الشذوذ أو أهل الأقوال الغريبة، أو مَن خالفوا المذاهب الأربعة في مجموع مذاهبهم لغير دليل صحيحٍ في هذا، فهذا لا يُعتبر بقوله في الحالة هذه، وإن كان موصوفًا بالعلم، فإن اليهود فيهم علماء والنصارى فيهم علماء، وكذلك الجهمية والمعطلة فيهم علماء، وأهل البدع فيهم علماء، لكن علمهم غير معتبر في هذا المقام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَهَذَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ تَضَمَّنَ حُكْمًا عِلْمِيًّا مِثْلَ الْوَعِيدِ وَنَحْوِهِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ)}.
الأحكام في مدلول الأحاديث إمَّا علمية تقتضي العلم، وإمَّا عملية تقتضي العمل.
فمن الأحكام العلمية: أخبار الصفات والمآل والجنة والنار، ومثلها أحكام الوعد والوعيد، هذه أحكام علمية، فما تضمَّن حكمًا علميًّا اختلفوا في مدلوله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا تَضَمَّنَ وَعِيدًا عَلَى فِعْلٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ فِي الْوَعِيدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَتْنُ قَطْعِيًّا لَكِنَّ الدَّلَالَةَ ظَاهِرَةٌ.
وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا قَوْلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "أَبْلِغِي زَيْدَ بنَ أرقم أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَّا أَنْ يَتُوبَ" قَالُوا: فَعَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- ذَكَرَتِ الْوَعِيدَ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ، وَنَحْنُ نَعْمَلُ بِخَبَرِهَا فِي التَّحْرِيمِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقُولُ بِهَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَنَا بِخَبَرِ وَاحِدٍ.
وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَعِيدَ مِنْ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ؛ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي حُكْمِهِ لَمْ يَلْحَقْ فَاعِلَهُ الْوَعِيدُ)}.
هذه المسألة فيما جاء فيه في الوعيد، فذهب طائفة من الفقهاء والعلماء إلى أنه يوجب العمل به، قال: (خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ) أي: الصادق الذي لم يتهم بكذب، أو يتهم بسوء حفظ واختلاط وتغيير أنه (إذَا تَضَمَّنَ وَعِيدًا عَلَى فِعْلٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ).
مثَّل الشيخ على ذلك بالدلالة الظاهرة بحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وهو حديث رواه الإمام أحمد وغيره، قالت: (قالتْ خرجتُ أَنَا وَأُمُّ مُحِبَّةَ إلى مكةَ فدخلنا على عائشةَ فسلمْنا عليها فقالتْ لنا مَنْ أنتنَّ؟ قلنا مِنْ أهلِ الكوفةِ قالتْ فكأنَّها أعرضتْ عنَّ)، لما كان في الكوفة من الفتن وقتها. (فقالتْ لها أمُّ مُحِبَّةَ: يا أمَّ المؤمنينَ كانتْ لي جاريةٌ وإنِّي بعتُها مِنْ زيدِ بنِ أرقمَ الأنصاريِّ بثمانمائةِ درهمٍ إلى عطائهِ)، أي: إلى أن يأتي عطاؤه من بيت المال. (وإنَّه أرادَ بيعَها فابتعتُها منهُ بستمائةِ درهمٍ نقدً)، يعني باعت سلعة ثم اشترتها بأقل من قيمتها بمائتين والقيمة لم تُسلَّم، بل هي قيمة مؤجلة. قالت: (فابتعتُها منهُ بستمائةِ درهمٍ نقدًا. قالتْ فأقبلتْ علينا فقالتْ: بئسَما شريتِ وما اشتريتِ، فأبلغِي زيدًا أنَّه قدْ أبطلَ جهادَهُ معَ رسولِ اللهِ ﷺ إلا أنْ يتوبَ)، لماذا أبطل جهاده؟ لوقوعه في هذا الربا الصريح. هل زيد أراد الربا الصريح؟ حاشاه، وإنما غاية ما يقال إنه أخطأ فيه، فقلت لها: (قالتْ لها أرأيتِ إنْ لمْ آخذْ منهُ إلا رأسَ مالي قالتْ: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ )، أي: ليس لكِ إلا رأس المال الذي هو الثمانمائة، تعيدين هذه الجارية لك، وكأنَّ البيع قد بطل بينكما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: يُحْتَجُّ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ فِي تَحْرِيمِ الْأَفْعَالِ مُطْلَقًا، وَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْوَعِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً.
وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِالْقِرَاءَاتِ الَّتِي صَحَّتْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ عَمَلًا وَعِلْمًا، وَهِيَ خَبَرُ وَاحِدٍ صَحِيحٌ.
فَاحْتَجُّوا بِهَا فِي إثْبَاتِ الْعَمَلِ، وَلَمْ يُثْبِتُوهَا قُرْآنًا لِأَنَّهَا مِنْ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إلَّا بِيَقِينِ)}.
حكموا لها بأنها قراءة، ومنهم من جعلها قراءة تفسيرية تفيد العمل، ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ كما دلت عليها الأدلة الأخرى، وقوله: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ جاء في قراءة ابن مسعود في كفارة اليمين ﴿متتابعات﴾ ، وهذا هو الأفضل، فقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ وهذه جاءت في مفسرة في الأحاديث، فتكون لها حكم العمل بهذه القراءة وان لم تكن القراءة في نفسها قراءة متواترة.
{قال: (وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ -وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ- إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حُجَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ العمل الْوَعِيدِ)}.
بشرط أن تثبت إلى النبي ﷺ، وقول الأكثر هو قول الجماهير وهو الذي عليه السلف لم يفرقوا بين خبر واحد وخبر ثانٍ، وإنما العلم إذا صحَّ إلى رسول الله ﷺ أخذوا العمل به وقبلوه.
وفي زماننا: ما جاء حديث صحيح في الصحيحين أو في أحدهما أو فيما دونهما من كتب الصحاح وثبت إلى النبي ﷺ؛ فإنه إذا ثبت قامت به الحجَّة، ودلَّ على وجوب العمل به، واليقين بعلمه متفاوت بحسبه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ -وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ- إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حُجَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْوَعِيدِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مَا زَالُوا يُثْبِتُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَعِيدَ، كَمَا يُثْبِتُونَ بِهَا الْعَمَلَ، وَيُصَرِّحُونَ بِلُحُوقِ الْوَعِيدِ الَّذِي فِيهَا لِلْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ. وَهَذَا مُنْتَشِرٌ عَنْهُمْ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ تَارَةً، وَبِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أُخْرَى؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ الْيَقِينَ التَّامَّ بِالْوَعِيدِ، بَلْ الْمَطْلُوبُ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْيَقِينِ أو الظَّنِّ الْغَالِبِ، كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ)}.
الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهم- لم يفرقوا في الأحكام وفي موجبها بين خبر واحد أو أكثر من واحد ما دام أنهم صدَّقوا هذه الجهة، وجاءت بدعة التَّفريق في العمل وفي اليقين بين خبرِ الواحد وخبر غير الواحد عند المتأخرين لمَّا تأثَّروا بهذه المدارس الوافدة الكلاميَّة والفلسفيَّة والطَّرائق المنطقيَّة، وإلا فالصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهم- يذهب الواحد منهم إلى الجهات فيبلغهم دين الله ويقرأ عليهم القرآن، ولم يقل الناس: لا ما نصدقك حتى يأتي ثانٍ وثالث ورابع يصدقونك في قولك!
وبهذا انتشر الدين وبه بعث النبي ﷺ أصحابه إلى الآفاق، كان يبعث الواحد إلى الجهة الواحدة، إلى البلدة الواحدة، وإلى القبيلة الواحدة، ويقولون حديثه ويلزمهم ذلك، لما تحوَّلت القبلة تحوَّلت لخبر واحد، فأهل قباء انتقلوا من الشمال إلى الجنوب بخبر واحد، ومثله أهل مسجد القبلتين في بني سلمة، لم يفرقوا بين هذا وهذا، إنما التفرقة في درجات هذا اليقين لا في حصول اليقين بالخبر الصادق.
وقد ذكر ابن القيم في كتابه "الصواعق المراسلة" أن من الطواغيت في رد الحق: دعوى أن خبر الواحد -وإن ثبت- لا ينبني عليه علم وإن بُني عليه العمل، والسلف لم يفرقوا في هذا الباب بين العلم وبين العمل، فبابهما عندهم واحد.
الظن الغالب درجة من درجات اليقين، لأن اليقين ليس درجة واحدة، وإنما متفاوتة، ولهذا فإن إبراهيم -عليه السلام- لما قال الله -جَلَّ وَعَلَا- له: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، أي: ليترقى في درجات اليقين إلى أعلاها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِقَادِ الْإِنْسَانِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا وَتَوَعَّدَ فَاعِلَهُ بِالْعُقُوبَةِ الْمُجْمَلَةِ، وَاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ أو تَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِعُقُوبَةِ مُعَيَّنَةٍ، حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ، فَكَمَا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْأَوَّلِ بِمُطْلَقِ الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ يجوز الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالثَّانِي. بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْعَمَلُ بِهَا فِي الْوَعِيدِ أَوْكَدُ؛ كَانَ صَحِيحً)}.
لأن باب الوعيد يزيد رتبة عن باب الوعد، فيه تحذير وفيه زجر وفيه نهي، والعمل بالأخبار التي طريقها التصديق والصدق لا الضعف والوهم في باب الوعيد أوكد إذا كان هذا الوعيد صحيحًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا كَانُوا يَتسَاهلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، مَا لَا يَتسَاهلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ)}.
الذين يسهلون هم العلماء الجهابذة في هذا الباب، باب الترغيب والترهيب أوسع من باب الأحكام، ولهذا فإن باب الأحكام ينبني الحكم على كلمة بل على حرف، فأحاديث النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ما كان منها في الأحكام دقَّقوا فيها، وما كان من الوعد الوعيد تساهل فيها بعض التساهل؛ لأنهم قبلوا فيها كل الضعاف والواهيات والموضوعات.
وهذا نقوله أيضًا تنبيها لطلاب العلم فيما يتعلق بآثار الصحابة -رضي الله عنهم- فمعاييرها ليست كمعايير أحاديث النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، إذا كان حديث النبي في نفسه يفرَّق بين ما فيه أحكام علميَّة كأحكام الصِّفات والغيب، أو أحكام عملية، وما فيه مجرَّد وعد أو وعيد مجرد ترغيب أو ترهيب فالباب فيه أوسع من الباب هذه الأحكام العلمية والعملية، فأخبار الصحابة من باب أولى، أمَّا إعمال معايير نقد الأحاديث على آثار الصحابة وأخبارهم وأحوالهم فهذا ليس هو منهج السلف، وإن تبعه من تبعه من المعاصرين ومن المتأخرين.
ومن هذا الباب ما يتوسعون فيه في أخبار الروايات وقَصص الناس في مقابل أحاديث النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فهذا محمد بن عمر الواقدي الراوي المشهور عمدة في التاريخ لكنه في الحديث ضعيف، لأن هذا باب وهذا باب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا كَانُوا يَتسَاهلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، مَا لَا يَتسَاهلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْوَعِيدِ يَحْمِلُ النُّفُوسَ عَلَى التَّرْكِ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ حَقًّا، كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ نَجَ)}.
لهذا قال الإمام أحمد: "إنا إذا روينا عن رسول الله ﷺ في الحلال والحرام تشددنا" أي: تشددنا في الأسانيد وفي تحرِّيها، قال: "وإذا روينا عن النبي ﷺ في الفضائل وما لا يضيع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا هذه الأسانيد"، إذًا هذا باب وهذا باب عند هؤلاء الجهابذة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ حَقًّا، كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ نَجَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَعِيدُ حَقًّا بَلْ عُقُوبَةُ الْفِعْلِ أَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ لَمْ يَضُرَّ الْإِنْسَانَ -إذَا تَرَكَ ذَلِكَ الْفِعْلَ- خَطَؤُهُ فِي اعْتِقَادِهِ زِيَادَةَ الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ نَقْصَ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ يُخْطِئُ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَقَدْ يُخْطِئُ.
فَهَذَا الْخَطَأُ قَدْ يُهَوِّنُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ فَيَقَعُ فِيهِ، فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الزَّائِدَةَ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً، أَوْ يَقُومُ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ.
فَإِذن، الْخَطَأُ فِي الِاعْتِقَادِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ -تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ، وَتَقْدِيرِ عَدَمِهِ- سَوَاءٌ، وَالنَّجَاةُ مِنْ الْعَذَابِ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ أَقْرَبُ، فَيَكُونُ هَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى)}.
إذًا هذه أمور لها مرجحاتها، ولها قرائنها التي تحتفُّ بها، لكن عدم اعتقاد الوعيد أخفُّ من الوقوع في نفس الوعيد، فإذا كان كذلك تعذُر أهل العلم فيما حصل عندهم عندئذٍ من القول أو عدم القول به لوجود القرائن المختلفة والمحتفَّة بهذا الأمر.
{قال: (وَبِهَذَا الدَّلِيلِ رَجَّحَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ الدَّلِيلَ الْحَاظِرَ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ، وَسَلَكَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ دَلِيلَ الِاحْتِيَاطِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ بِنَاءً عَلَى هَذَا.
وَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ فِي الْفِعْلِ، فَكَالْمُجْمَعِ عَلَى حُسْنِهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا كَانَ خَوْفُهُ مِنْ الْخَطَإِ بِنَفْيِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ مُقَابِلًا لِخَوْفِهِ مِنْ الْخَطَإِ فِي عَدَمِ هَذَا الِاعْتِقَادِ، بَقِيَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِاعْتِقَادِهِ، وَالنَّجَاةُ الْحَاصِلَةُ فِي اعْتِقَادِهِ دَلِيلَيْنِ سَالِمَيْنِ عَنْ الْمُعَارِضِ)}.
والعلماء لَمَّا قالوا: إنَّ دليل الحظر مقدَّم على الدليل المبيح ترهيبًا لجانب الوعيد على الوعد، وجانب الحظر على الإباحة؛ لأنَّ في الحظر معنًى زائدًا، فبالتَّالي قوَّوا هذا عند وجود هذا التَّعارض.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: عَدَمُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى الْوَعِيدِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ، كَعَدَمِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى الْقِرَاءَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْه. ِ
وَمَنْ قَطَعَ بِنَفْيِ شَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى وُجُودِهَا، كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطًا بَيِّنًا.
لَكِنْ إذَا عَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ، وَعَلِمْنَا عَدَمَ الدَّلِيلِ، وَقَطَعْنَا بِعَدَمِ الشَّيْءِ الْمُسْتَلْزِمِ، لِأَنَّ عَدَمَ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ.، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِ كِتَابِ اللَّهِ وَدِينِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ كِتْمَانُ مَا يَحْتَاجُ الناس إلَى نَقْلِهِ حُجَّةً عَامَّةً. فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا عَامًّا صَلَاة سَادِسَة، وَلَا سُورَة أُخْرَى، عَلِمْنَا يَقِينًا عَدَمَ ذَلِكَ)}.
ولوجود الداعي والتضافر على نقله.
لو قال قائل: طيب عدم الدليل لا يلزم عن المدلول، وقد تكون هناك صلاة سادسة وسابعة!
نقول: لما تضافروا على هذا النقل وحُفِظَ الدين قطعنا بأنه ليس هناك صلاة سادسة، وليس هناك ركنٌ زائدٌ عن أركان الإسلام التي بينها النبي ﷺ، ولا هناك سورة زائدة عن هذه السور التي في القرآن لوجود التَّداعي والتضافر على نقله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبَابُ الْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِي كُلِّ وَعِيدٍ عَلَى فِعْلٍ أَنْ يُنْقَلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، كَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
فَثَبَتَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْوَعِيدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا فِي مُقْتَضَاهَا: بِاعْتِقَادِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَوَعَّدٌ بِذَلِكَ الْوَعِيدِ، لَكِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى شُرُوطٍ؛ وَلَهُ مَوَانِعُ)}.
كما كرَّر هذه القاعدة: أن لحوق الوعيد لمن فعله يتوقَّف على شروط يستحق بها الوعيد، وعلى موانع يجب أن تتخلَّف عنه ليقع عنه الوعيد، فقد تجتمع الشروط لكن لا تنتفي الموانع، عنده بعض العلم ولكن عنده جهل، عنده اختيار لكن عنده خطأ؛ فهذا مانع من إيقاع العقوبة عليه.
والوعيد في أدلته أدلة علميَّة، كالوعيد على تركِ فعل، أو فعل ما يُخالفه، أو وعيد على ذنوب، فهذا الوعيد دائرته واسعة، أوسع منها دائرة العفو عند الله، وأضيق منها دائر المؤاخذة.
هذه القاعدة سيُبيِّن لها الشيخ أمثلة يتَّضح بها هذا المقام عن هذا الكلام الذي قد يكون كلامًا عموميًّا نظريًّا، وهذه الأمثلة بأنواعها مما سيذكره نرجئ الكلام عليها -إن شاء الله- في مقامٍ ثانٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَظْهَرُ بِأَمْثِلَةِ:
مِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ»، وَصَحَّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ -لِمَنْ بَاعَ صَاعَيْنِ بِصَاعِ يَدًا بِيَدِ: «أوَّه، عَيْنُ الرِّبَ» كَمَا قَالَ: «الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءً وَهَاءً» الْحَدِيثَ.
وَهَذَا يُوجِبُ دُخُولَ نَوْعَيْ الرِّبَا -رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النسأ- فِي الْحَدِيثِ.
ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» فَاسْتَحَلُّوا بَيْعَ الصَّاعَيْنِ بِالصَّاعِ يَدًا بِيَدِ؛ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَصْحَابِهِ: أَبِي الشَّعْثَاءِ؛ وَعَطَاءٍ؛ وطاووس؛ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْيَانِ الْمَكِّيِّينَ الَّذِينَ هُمْ صَفْوَةُ الْأُمَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، أَوْ مَنْ قَلَّدَهُ -بِحَيْثُ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ-: تَبْلُغُهُمْ لَعْنَةُ آكِلِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ تَأْوِيلًا سَائِغًا فِي الْجُمْلَةِ.
وقد قيل إن ابن عباس الله -رضي الله عنهما- رجع عن ذلك وبعض أصحابه، وبعضهم لم يرجع ولم يبلغه النَّص فهو معذور)}.
هذا المثال الذي قرَّره شيخ الإسلام في هؤلاء الأئمَّة الأعلام من أصحاب ابن عباس في مدرسته، ويسمون بمدرسة المكيين لأنهم أخذوا عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهما- في مكة إذ انقطعَ فيها في آخر عمره وكثر الآخذون، كما أنَّ أصحاب ابن مسعود في الكوفة، والمدنيون أخذوا عن أكثر الصحابة في المدينة، وأهل البصرة أخذوا كذلك عن أئمتها،... وهكذا، وممن أخذوا عنهم في البصرة أصحاب أنس ابن مالك، لا سيما ثابت البناني وطبقته، فإن النبي ﷺ كما في حديث جابر في صحيح مسلم لما لعن في نافلة الربا خمسة «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ»، وفي حديث الصحيحين عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْه- لما جيء له بتمرٍ جنيبٍ من أرض خيبر، فقال عليه الصلاة: «أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟».
وقد راجعت الرواية فإذا التمر الجنيب هو المسمى بالبرني، وإني أتعجب! وهذه لفتة كيف كان البرني أفخر الأنواع على عهد النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حتى شدَّ انتباهه بقوله: «أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟»، والبرني الآن ليس من أفخر أنواع التمور، وهذا مما فتح الله علينا وعلى عباده من هذه النِّعم، فالتمور في بلادنا أصناف كثيرة متنوعة، بعضها أفخر من بعض حتى كان هذا نوع فاخر على عهد النبوة صار في هذا الزمان دون ذلك بمراتب.
قال: «أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟». قالوا لا يا رسول الله نشتري الصاع من هذا -أي من تمر البرني الجنيب- بالصاعين من غيره، فقال: «أوَّه، عَيْنُ الرِّبَ».
وكذلك الحديث الثالث: «الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءً وَهَاءً»، في الأصناف الربوية لا بد أن يكون تبايعها يدًا بيدٍ، من غير تفاضل ومن غير نسيئةٍ وهو التَّقابل، يعني يكون بتقابض ومن غير تفاضل، هذه النصوص عامَّة، من أهل العلم كما روي عن ابن عباس وروي عنه أنه رجع -رَضِيَ اللهُ عَنْهما- وأصحابه، أبو الشعثاء جابر بن زيد، وطبق أنهم قالوا: إنما أخذوا بنص «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ»، مفهومه أنَّ الربا لا يكون في التفاضل، مثلًا لو بعتك عشرة آصع بر بعشرين مُتقابضًا جاز ذلك، لأن ليس فيه نسيئة، أو بعتك مئة جرام ذهب بمئة وخمسين جرام ذهب مُتقابضًا فليس ربا، وهذا أخذوه من حديث «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ»، وهذا لا يقيِّد ذلك العموم، فهؤلاء الأئمة في ابن عباس أولًا وأصحابه ثانيا معذورون؛ لأنَّ اجتهادهم بُنيَ على نصٍّ، وقد خفي عليهم الثاني أو له فيه عندهم قيود، فنحن نعذر هؤلاء الكبار، لما أخذوا بحديثٍ فحصروا الوعيد فيه وتركوا الوعيد في أنواع الربا الأخرى، وقد قيل: إنه إجماع، وقيل: هو قول الجماهير بعد ذلك، وهو أن الربا في النوعين: في الفضل وفي النسيئة، فهذا مما يعذر به هؤلاء الكبار بهذا المعنى في هذا المثال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد قيل إن ابن عباس الله -رضي الله عنهما- رجع عن ذلك وبعض أصحابه، وبعضهم لم يرجع ولم يبلغه النَّص فهو معذور)}.
هذا من حسن التنبيه والتوجيه من شيخ الإسلام، أنه لما ذكر هذه المسألة وذكر المخالَفة ذكر "أنه قيل" و"قيل" وإن كانت صيغة تُروى على جهة التَّمريض لكنه قول محتمل، كما رجع ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهما- عن القول بحلِّ المتعة بعدما كان يحلها، ورجوع الصحابة -وهم أول العلماء- رجوع من بعدهم إذا تبين لهم أن الحق بخلافه مسلكٌ، بل هو منهجٌ اطَّرد عليه السَّلف الصَّالح، لا يُعرف عنهم المكابرة كما عند الخلف وعند المتأخرين، فإنهم يرجعون إذا تبين لهم الحق، أمَّا إذا بقي عنده نوع اشتباه أو أدلة أخرى مرجِّحة لما ذهب إليه، فهذا يبقى على كل حال معذور، فهذا المسلك الذي ينبِّه عليه شيخ الإسلام ها هنا في رفع هذه الملامة والحرج عن هؤلاء الأعلام الكبار فيما يظنُّه المتأخِّر أنهم خالفوا، لكن لا يجوز للمتأخر أن يقصد أنهم خالفوا -رحمهم الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ إتْيَانِ الْمحَاشِّ، مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو داود عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ!» أَفَيَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا كَانَا كَافِرَيْنِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -ﷺ؟)}.
هذا نقل عن بعض الفضلاء -يعني العلماء الكبار- من أهل المدينة من فقهاء المدينة ويروى ذلك عن الإمام مالك ولم أره يثبت عنه فيما ذكره المحققون في إجازتهم أن تؤتى المرأة في حُشِّها يعني في دبرها، فالنبي ﷺ أطلق الوعيد في قول: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ!»، الحديث الذي رواه أهل السنن حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْه-، فهل يقال بذلك: إن هؤلاء الكبار من فقهاء المدينة أو مما يروى عن الإمام مالك أنهم كفروا؟! حاشا لله ذلك، حاشا لله، وإنما يقال: لو ثبتَ الحديث وثبتَ هذا القول عنهم أنه لم يبلغهم الحديث، فيكونوا بذلك معذورين بعدم بلوغ الحديث إما فيمن حيث صحته، أو من حيث دلالته، ولهذا قال: (أَفَيَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا كَانَا كَافِرَيْنِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ؟)، لا أظن عاقلًا من المسلمين فضلًا عن طلاب العلم السَّويين يقول ذلك القول أو يَرد هذا على قلبه والله المستعان!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَ الْخَمْرِ، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا...، الحديث. وَثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ خَمْرٌ» وَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ». وَخَطَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرِهِ ﷺ فَقَالَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: «الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ». وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ. وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا مَا كَانُوا يَشْرَبُونَهُ فِي الْمَدِينَةِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرَابٌ إلَّا الْفَضِيخُ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ خَمْرِ الْأَعْنَابِ شَيْءٌ.
وَقَدْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ الْأُمَّةِ -عِلْمًا وَعَمَلًا- مِنْ الْكُوفِيِّينَ يَعْتَقِدُونَ أَنْ لَا خَمْرَ إلَّا مِنْ الْعِنَبِ، وَأَنَّ مَا سِوَى الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ لَا يَحْرُمُ مِنْ نَبِيذِهِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُسْكِرُ، وَيَشْرَبُونَ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ)}.
هذا القول في الحقيقة وجد عند بعض الأفاضل سواء من بعض الصحابة إن ثبت عنهم أو ممن جاء بعدهم أنَّ الخمر لا يكون إلا من الفضيخ -وهو خمر التمر- قد جاء في كلام عمر فيما رواه البخاري وغيره "أن الخمر من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن العنب ومن الشعير ومن الحنطة" في هذه الخمسة، لكن من حصرَ الخمرَ في أنها من الفضيخ فقط رخَّص فيما دون ذلك في النَّبذ، ومنهم من توسَّع في النَّبذ حتى إذا قذف الزبد، ومعنى إذا قذف الزبد أنه صار خمرًا للعموم، فهنا يُعذر هذا الذي ظن ذلك الظن بناء على أن الحديث في عمومه لم يرد عليه إلا أنه خصَّصه بالفعل عن مطلق العموم.
والعلماء كانوا يقولون: إن التَّخصيص نسخ لعموم الحكم، على كل حال مثل ذلك متأوِّلًا، ولهذا تأول بعضهم أنه لم يحرم الخمر من غير الفضيح في عموم قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145]، فهذا وجه هذا الخلاف الذي جاء عن هؤلاء الأكابر، وبالتَّالي يعذرهم طالب العلم بأنهم حملوا الوعيد على شيءٍ مخصوص لا على مطلق ما خامر العقل، والصحيح: أن الخمر ما خامر العقل، كما روى ذلك البخاري، وفي لعن النبي ﷺ في الخمر عشرة لأنها أم الخبائث، وحديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أخرجه أهل السنن وصحَّحه أكثر أهل العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ مُنْدَرِجُونَ تَحْتَ الْوَعِيدِ، لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الْعُذْرِ الَّذِي تَأَوَّلُوا بِهِ، أَوْ لِمَوَانِعَ أُخَرَ.
وكذلك لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ مِنْ الْخَمْرِ الْمَلْعُونِ شَارِبُهَا، فَإِنَّ سَبَبَ الْقَوْلِ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ خَمْرٌ مِنْ الْعِنَبِ.
ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ لَعَنَ الْبَائِعَ لِلْخَمْرِ. وَقَدْ بَاعَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ خَمْرًا حَتَّى بَلَغَ عُمَرَ -رضي الله عنه- فَقَالَ: {قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا؟» وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْعَهَا مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عِلْمُهُ بِعَدَمِ عِلْمِهِ أَنْ يُبَيِّنَ جَزَاءَ هَذَا الذَّنْبِ؛ لِيَتَنَاهَى هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعَاصِرَ وَالْمُعْتَصِرَ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْصِرَ لِغَيْرِهِ عِنَبًا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا.
فَهَذَا نَصٌّ فِي لَعْنِ الْعَاصِرِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْذُورَ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ لِمَانِعِ)}.
تخلف حكم المعذور في حقه لأنه ما يعلم أنه سيتخذها خمرًا، عصرها له ليتخذها نبيذًا، والنبيذ هو الذي يسمى الآن بالعصير، أو ما التمر وماء العنب وماء الزبيب وماء الأقط وما إلى ذلك، فهذا لم يتحقَّق فيه أنه سيعصرها لتكون خمرًا، إنما عصرها بارًّا له، أو تاركًا له الكلفة في عصرها، فبالتَّالي لا يلحقه هذا الوعيد في قوله «وعاصرها ومعتصره»، إلا لو غلب على الظن أنه يستخدمها في الخمر فهذا لا يجوز له فعله.
كذلك ما يتعلَّق ببيع السلاح على مَن علم أنه يستخدم هذا السلاح لإرهاب المؤمنين والمعصومين أو لقتلهم، فلا يجوز له أن يبيع عليهم السلاح والحالة هذا.
{إن أذنتم شيخنا نكمل بقية الأمثلة في الحلقة القادمة إن شاء الله}.
نسأل الله التوفيق وأن يمنحنا وإياكم وإخواننا المسلمين الفقه في دينه، ويرزقنا الثبات عليه ويبصِّرنا البصيرة التي تقرِّبنا منه سبحانه، وتعذر أهل العلم منَّا أن نقع فيهم والله أعلم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، شكر الله لكم إخواننا المشاهدين والمتابعين، نلقاكم بإذن الله تعالى في حلقة قادمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
9163 9
-
20931 9