الدرس الرابع
فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه (جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية).
لا زلنا وإيَّاكم في شرح كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) للإمام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل.
باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
الله يحييكم ويبارك فيكم، وينفع بكم وبهذه الجهود ويجعلها خالصةً لوجهه، لا حظَّ فيها لأحدٍ غيره سبحانه، ويبارك بهؤلاء الطلبة المستفيدين من هذه الدروس وينفع بهم، ويجعلهم عزًّا لهذا الدين ورفعةً لشأنه، إنه سبحانه جواد كريم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الْعَشَرَةُ ظَاهِرَةٌ.
وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَايين يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهَ)}.
لله در شيخ الإسلام!
لما ذكر هذه الأسباب العشرة في مخالفة هؤلاء الأئمة والعلماء الأعلام لما قد يرد من الأحاديث التي تخالف أقوالهم، يقول: (وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَايين -جمعُ حين- أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ حُجَّةٌ)، أي: للعالم العلم الذي خالف الحديث.
قال: (فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهَ)، إذًا أنت يا طالب العلم اعرف قدرك، فإذا كان شيخ الإسلام وهو مَن هو في اطلاعه واستيعابه، ومَن هو في فهمه لكلام العلماء وأصولهم، يتَّهم نفسه أنه قد يكون للعالم حجَّة لم يطَّلع عليها في كثير من الأحيان؛ لأنَّ مدارك العلم وفهومه واسعة، فأنت أولى أن يكون عندك العذر، وعدم علمك بحجَّة العالم بترك الحديث لا يعني أنك تلومه وتعتب عليه، بل اعرف قدرك واعرف قدره، اعرف شأنك في العلم واعرف علو شأنه في هذا العلم.
وهذا باب مطَّرد، ليس فقط في الأئمة الأعلام، بل حتى في الصحابة -رضي الله عنهم- وحتى في التابعين وهم فوق مستوى هؤلاء الأئمة الأعلام المتبوعة مذاهبهم، فوقهم في التربة وفي القدر وفي الديانة، لا يطرد ذلك لأن تتهم الصحابة وتتهم التابعين بأنهم خالفوا الحديث.
إذا لاحظت هذه الأسباب وأمثالها استحضرت أنه قد يكون للعالم حجَّة لم يفطن لها مَن بعدهم أو لم ينص عليها، أو أنت أيها الطالب وقبلك العالم لم تفطنوا لها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ وَاسِعَةٌ، وَلَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي بَوَاطِنِ الْعُلَمَاءِ.
وَالْعَالِمُ قَدْ يُبْدِي حُجَّتَهُ وَقَدْ لَا يُبْدِيهَ)}.
انتبه لهذا، فقد لا يبدي العالم حجته، وهذا كثير فيما يسمى بـ "علل الأحكام" وانظر إلى قول أئمَّة الحديث النُّقاد في متنه أو في أسانيده إذا قال: "هذا الحديث لا يعجبني" إذا فهمها الساذج أو العامي فسيقول: هل هو على كيفه يعجبه الحديث أو لا يعجبه!
فإن قوله: "لا يُعجبني" أي: لوجود علَّةٍ خفيةٍ، إن كانت في سنده أو كانت في متنه؛ جعلته يرد هذا الحديث.
وقد عرَّف العلماء العلل بأنها: شيء نفسي، أو علة خفية لا يستطيع العالم أن يعبر عنها، فهذا وجه مُهمٌ في إعذار هؤلاء الكبار.
ولَمَّا ذكروا ترجمة الإمام مالك بن أنس أنه كان يأتي المسجد ويصلي الصلوات ويعود المرضى ويقضي الحقوق، ثم ترك الجلوس في المسجد وكان يصلي في منزله، وترك اتباع الجنائز، وكان يُعاتَب على ذلك، فيقول: "ليس يقدرُ كل أحد"، يقول لكم عذره فيها.
إذًا؛ هناك أعذار قد لا يعبر العالم عنها، وقد يسكت عنها لأمرٍ بينه وبين الله -سبحانه وتعالى- لئلا تكون الحالة بينه وبين الناس شكوى لا إخبار، فهذا جانب آخر مهم في هذا الأصل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْعَالِمُ قَدْ يُبْدِي حُجَّتَهُ وَقَدْ لَا يُبْدِيهَا وَإِذَا أَبْدَاهَا فَقَدْ تَبْلُغُنَا وَقَدْ لَا تَبْلُغُن)}.
قد يبديها لكن ما تنقل عنه، أو تُنقل إلى جيل ثم يُسكَت عنها؛ لأنَّ طبيعة المتأخرين عدم الإحاطة بالعلوم الأولى كلها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا بَلَغَتْنَا فَقَدْ نُدْرِكُ مَوْضِعَ احْتِجَاجِهِ، وَقَدْ لَا نُدْرِكُهُ)}.
أي: قد نفهمها أو لا نفهمها، فهذا هو معنى العبارة، فقد نفهم عذره وقد لا نفهم هذا العذر.
إذًا؛ في كل الأحوال حاشا أن يكون هؤلاء الكبار هم المتهمون، إنما المتهم نحن، ولهذا نعرف قدرهم، ونعرف في أنفسنا أقدارنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (سَوَاءٌ كَانَتْ الْحُجَّةُ صَوَابًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَمْ لَا.
لَكِنْ نَحْنُ وَإِنْ جَوَّزْنَا هَذَا فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَعْدِلَ عَنْ قَوْلٍ ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ بِحَدِيثِ صَحِيحٍ وَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ إلَى قَوْلٍ آخَرَ قَالَهُ عَالِمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَإِنْ كَانَ أَعْلَم؛ إذْ تَطَرُّقُ الْخَطَأِ إلَى آرَاءِ الْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِهِ إلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ، بِخِلَافِ رَأْيِ الْعَالِمِ)}.
هذه هي الزبدة من ذكر الأسباب العشرة، وقبلها الأسباب الثلاثة الرئيسية.
إذا ثبت عندك يا طالب العلم -يا أيها المتأخر- أنَّ العالم الفلاني الكبير كالإمام أحمد أو الإمام الشافعي أو الإمام مالك أو الإمام أبي حنيفة -رحمهم الله- ومَن قبلهم أو مَن بعدهم؛ أنه في هذه المسألة خالف الحديث، علمتَ العذر أو لم تعلمه أنت في نفس الأمر مأمور أن تتبع مدلول الحديث، لقول الشيخ: (فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَعْدِلَ عَنْ قَوْلٍ ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ بِحَدِيثِ صَحِيحٍ وَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ إلَى قَوْلٍ آخَرَ قَالَهُ عَالِمٌ)، أنت مأمور باتباع الحديث؛ لأنَّ الحجة في الأدلة الشرعية.
يبقى نظرك لهذا الخلاف الواقع من هذا العالم الكبير بهذه الأسباب العشرة وما جرة مجراها، لا تتابعه على الخطأ الذي تظنه خطأ وقد يكون في نفس الأمر لم يُخطئ، لكن فيه تأويل أو نسخ أو عموم وخصوص أو فيه ثبوت أو عدم ثبوت، أو معارضة بمدلول حديث آخر أو بآية -كما سبق في الأوجه الشرة- لكن أنت مأمور باتباع مدلول الأدلة الشرعيَّة التي هي حجَّة الله عليكَ وعلى غيرك في الوحيين، بخلاف رأي العالم، فإن العالم بشر يعترضه الخطأ والنسيان.
ولا يضرنَّك قول متعصبتهم مَن يوصفون بالجنون لهم: أأنت أعلم بهذا من الإمام الفلاني!
تقول: الإمام الفلاني على رأسي وعلى عيني، لكن أنا مأمور باتباع الأدلة.
فإن كان عندك المَلَكة فأنتَ مأمورٌ بالاستنباط منها، ما عندك الملكة تتبع مَن تثق في علمه ودينه؛ لأنَّ هذا هو فرضك، لقول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
والإمام أبو حنيفة صحَّ عنه ذلك لَمَّا قال: "إذا جاء عن رسول الله فعلى الرأس وعلى العين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس وعلى العين، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال".
لكن إذا قال واحد في القرن الخامس عشر: "إذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال"؛ نقول: نعم هم رجال، لكن أنت والله نَشُكُّ في رجولتك! أنت صغير أو طفل لم تبلغ مبلغ أولئك الرجال! فاعرف قدركَ واعرف لهم وزنهم وقدرهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَطَأ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ آخَرُ، وَرَأْيُ الْعَالِمِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ بِهَذَا التَّجْوِيزِ جَائِزًا، لَمَا بَقِيَ فِي أَيْدِينَا شَيْءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا مِثْلُ هَذَا، لَكِنَّ الْغَرَضَ: أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهِ لَهُ، وَنَحْنُ مَعْذُورُونَ فِي تَرْكِنَا لِهَذَا التَّرْكِ)}.
انتبه أن لا يكون انتقادك للدين نفسه، الأدلة ما فيها كلام، كتاب وسنة وإجماع؛ هذه مجمع عليها وعلى دلالتها، أمَّا المخالفة فتكون في ترك هذا العالم لهذا الدليل من القرآن أو من السنَّة أو من الإجماع، قد يكون معذورًا في هذا الترك، أمَّا أنت فأنت مُتعبَّد بهذا الدليل، وهذا هو معنى قوله ﷺ: «تَركْتُ فِيكُم أَمْرَين لَنْ تَضِلُّوا بمَا إن تمسَّكتم بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتي»[1]، وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89] فكون القرآن وكون الحديث بهذا المعنى لا تعتقد بذلك أنَّ المخالفة متعلقة بهذا الدليل، وإنما هي بفهمه وثبوته، ومعارضة مَن عارضه، هل هي معذورة أو غير معذورة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ ولا تُسْأَلون عمَّا كانوا يعملون﴾ )}.
هذا هو التَّعبُّد، لا نُسأل عمَّا كانوا يعملون، فنحن مأمورون باتباع ما تُعبِّدنا به، ومثله قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ فالردُّ إلى الله هو ردٌّ إلى كتابه، والرَّد إلى الرسول في حياته هو ردٌّ إليه، وبعد موته ردٌّ إلى سنته ودينه وحديثه ﷺ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَارِضَ الْحَدِيثَ الصحيحَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لِرَجُلِ سَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَهُ فِيهَا بِحَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ: "قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟!")}.
هذا في مسألة المتعة في الحج، هل الأفضل العمرة متمتِّعًا بها إلى الحج، أو الأفضل هو الإفراد كما ذهب إلى ذلك أبو بكر وعمر وتبعهم عثمان دهرًا من حياته.
وابن عباس -رضي الله عنهما- أوتي علمًا عظيمًا وفهمًا دقيقًا، ولَمَّا عُورض بأنه أوجب التمتُّع -العمرة ثم يفسخها إلى الحج- عارضه الناس بأنه خالف ما قاله أبو بكر وعمر، فقال قولته العظيمة المشهورة: "يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟!")؛ لأن فرض تعبدنا من الله هو اتباع الله ورسوله، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ ، أي: إذا حصل الخلاف بينكم في شيء فردوه إلى الله والرسول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ يَكُونُ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ فَإِذَا جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِيهِ تَحْلِيلٌ أَوْ تَحْرِيمٌ أَوْ حُكْمٌ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ التَّارِكَ لَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا أَسْبَابَ تَرْكِهِمْ يُعَاقَبُ؛ لِكَوْنِهِ حَلَّلَ الْحَرَامَ، أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ؛ أَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ)}.
هذا لمن ساء ظنهم بالعلماء، فنتج عن سوء الظن بالعلماء الكبار لومهم، ثم ترتب على هذا اللوم والملامة اتهامهم، وربما قالوا: فلان أحلَّ حرامًا أو حرم حلالًا، فلان حكم بغير ما أنزل الله، فترتَّب على هذا الحكم عليه بإيمانه أو بتفسيقه أو -والعياذ بالله- بكفره، وهذا الحكم إنما هو عند الضِّعاف والصغار وأشباه العوام في مقامات العلماء الكبار، وهذا إنبات على المرحلة الأولى وهي أنهم لم يعذرهم، ثانيًا: ساء ظنه بهؤلاء. ثالثًا: اتهمهم إمَّا بتفسيق أو بتبديع أو بتكفير -ولا حول ولا قوة إلا بالله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ عَلَى فِعْلٍ: مِنْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ الَّذِي أَبَاحَ هَذَا، أَوْ فَعَلَهُ، دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ.
وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ، مِثْلَ بشر المريسي وَأَضْرَابِهِ: أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُخْطِئَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ يُعَاقَبُ عَلَى خَطَئِهِ)}.
قوله: (وَأَضْرَابِهِ) يعني أمثاله في هذا المعنى القبيح.
على كل حال؛ إذا جاء خلاف في العالم لأمر فيه وعيد، مثلًا: الخمر، أُثر عن بعض الكوفيين كما هو مشتهر في مذهب الإمام أبي حنيفة بإجازة النبيذ، والنبيذ في مصطلحهم غير النبيذ في مصطلحنا المعاصر، فالنبيذ عندهم هو شيء يُنبذ في الماء، عنب في ماء أو تمر في ماء أو مشمش في ماء، فيكون عصيرًا لهذا الماء، أو هذا الماء نُبذ في هذا العنب أو هذا التمر فاكتسب طعمه ورائحته، الآن يضربون بالخلاط ويصير عصيرًا، فهذا النبيذ إذا لم يقذف الزبد يجوز شربه، فإذا قذف زبدًا انتقل من كونه نبيذًا إلى كونه خمرًا، فمن هاهنا وقع الأمر، وفيه وعيد على شرب النبيذ وهو الوعيد على شرب الخمر، وأنه يطعم يوم القيامة من طينة الخبال، فلا نقول: إنَّ هذا العالم الذي أجازه -في استحضار الأسباب العشرة السابقة- أنه متعرض لهذا الوعيد في نفسه، لِمَا قامَ عنده من هذه المخالفة.
يقول الشيخ: (فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ الَّذِي أَبَاحَ هَذَا، أَوْ فَعَلَهُ، دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ)، ثم ذكر النتيجة الثانية: (وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِ خِلَافً)، حكى علمه على سعة اطلاعه أنه لم يُعلم فيه خلاف إلا ما جاء عن بعض معتزلة بغداد كبشر بن عبد الرحمن المريسي ونظرائه ممن قدم العقل على النقل وذهبوا إلى مذهب الاعتزال.
قال: (أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُخْطِئَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ يُعَاقَبُ عَلَى خَطَئِهِ)، هذا أصلهم، وهذا أصل فاسد بناء على أصلهم في الاعتزال.
وشيخ الإسلام هنا ينبهك يا طالب العلم أن المعتزلة مدرستان:
- معتزلة بغداد.
- معتزلة البصرة.
وهذه وإن كانت مسألة تتعلق بالعقيدة والفِرَق والمقالات، لكنه عجَّل بهذه الفائدة، فإنَّ معتزلة البصرة أكثر تديُّنًا من معتزلة بغداد، هم يتفقون جميعًا في الأصول الخمسة، ومعتزلة البصرة أكثر تعظيمًا للأدلة والنصوص من معتزلة بغداد، معتزلة بغداد ظهر فيهم الإلحاد وظهر فيهم التَّجهُّم، ومنهم أبو هذيل العلاف، وقوله أقرب إلى قول الجهميَّة، حتى أبو الحسين الصالحي زعيم فرقة الصالحية من معتزلة بغداد أقرب إلى الجهميَّة في الإيمان، والعلاف الذي قال فيه ابن القيم لَمَّا ذكر شنائع جهم:
وَقَضَى بِأَنَّ النَّــارَ لَمْ تُخْلَـقْ وَلَا ... جَنَّاتُ عَدْنٍ بَلْ هُمَا عَدَمَـــانِ
فَإِذَا هُمَـــا خُلِقَا لِيَـــوْمِ مَعَادِنَــــا ... فَهُمَــا عَلَى الْأَوْقَاتِ فَانِيَتَــانِ
وَتَلَطَّـــفَ الْعَلَّافُ مِنْ أَتْبَاعِــــهِ ... فَأَتَى بِضِحْكَةِ جَاهِلٍ مَجَّـــانِ
قَالَ الْفَنَاءُ يَكُونُ فِي الْحَرَكَـاتِ لَا ... فِي الذَّاتِ وَاعَجَبًا لِذَا الْهَذَيَانِ
المقصود: أن معتزلة بغداد ظهر فيهم فسقٌ ومعارضة للأدلة بمحض العقول، فحصل عندهم هذا الانحراف، ولهذا أُثر عنهم أقوال هي زندقة، بشر المريسي أثر عنه أنه كان يقول في سجوده: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَسْفَلِ؛ وهذا لم يؤثر أمثاله عن معتزلة البصرة.
إذًا؛ معتزلة بغداد آخر القرن الثاني والثالث كانوا أكثر إلحادًا وزيغانًا وأنقص تدينًا من معتزلة البصرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لِمَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ)}.
المعتزلة في باب الوعيد هل هي متشددة أو متساهلة؟
متشددة، ولهذا فهم من الوعيدية، فقالوا: (أَنَّ الْمُخْطِئَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ يُعَاقَبُ عَلَى خَطَئِهِ)، ونحن عندنا أدلة أن المجتهد إذا بلغ وسعه والحاكم إذا بلغ جهده وطاقته ولم يكن فيه ميل هوى وحظ للنفس؛ ولم يوفق للحق فهذا مأجور على ما اجتهد فيه غير مأزور على ما أخطأ فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لِمَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ؛ أَوْ بِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ؛ فَإِنَّ مَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ أَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا، لَمْ يَأْثَمْ، وَلَمْ يُحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ فِي اسْتِحْلَالِهِ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ)}.
هذه مسألة تتعلق بما يسميه الناس اليوم بـ (العذر بالجهل).
وقبل أن أذكر هذا؛ فإني أُشيدُ بأن هذه المسألة لا يجوز أن يتناولها الصغار بمحض العواطف وردود الأفعال، بل يتركونها للكبار، فيسلموا في أنفسهم، ويسلم الناس منهم في تطبيقاتهم وتنزيلاتهم وإسقاطاتهم الأحكام عليهم؛ لأنَّ الدافع لها عندهم إمَّا هوى وإمَّا عاطفة، وإمَّا فهم يسير، وهذا ليس لهم.
شيخ الإسلام هنا يجري على قاعدة العلماء: أنَّ مَن خالف الدليل فأحل محرمًا أو حرم محلًّا بالدليل قد لا يكون ذلك مبناه على أنه استند إلى دليل شرعي، لكنه استند إلى أنه لم يعلم بهذا الحكم، لكون مثله يجهل، لا لكون مقصرًا في العلم، من الذي يجهل مثله؟ مَن نشأ في بوادي المسلمين البعيد عن حواضرهم، أو كان قريب عهدٍ بإسلامٍ ما أحاط بالعلم، أو أنه فعل هذا المحرم وهو يعلم أنه ليس محرم، فهذا كما يُعذر في المسائل التفصيلية يُعذر فيما هو أعظم منها بهذا القيد: إذا كان مثله يجهل.
أمَّا إذا كان مثله لا يجهل؛ فتجري عليه الأحكام العامة، وهذا خاصٌّ بالمُجري لها، وهم صنفان: العلماء ومنهم القضاة الذين يحكمون على الناس بناء على مؤدَّى هذا التفريط بترك العمل، أو بتحريم الحلال، أو بتحليل الحرام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ الْمُحَرِّمُ، وَاسْتَنَدَ فِي الْإِبَاحَةِ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا.
وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مَأْجُورًا مَحْمُودًا لِأَجْلِ اجْتِهَادِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً﴾ )}.
فربي -جَلَّ وَعَلَا- عذر داود على ما كان من اجتهاده، وزاد سليمان بالفهم على أبيه، ولم يلُمْ أباه على ذلك، وهذا من كمال علمه -جَلَّ وَعَلَا- بخلقه أن أفهامهم تتباين، وأن مداركهم تختلف، وأن إصابتهم لعين الحق بذاته متفاوتة، فما كان لله يؤجر صاحبه وإن أخطأ، وما كان لغير الله فالملامة والإثم بحسب ذلك بما يعلمه الله من عبده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَاخْتَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ؛ وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ)}.
أي: أثنى على سليمان وعلى أبيه داود -عليهما السلام- بالعلم، قال: ﴿وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً﴾ .
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَعَ خَطَئِهِ لَهُ أَجْرٌ؛ وَذَلِكَ لِأَجْلِ اجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ؛ لِأَنَّ دَرْكَ الصَّوَابِ فِي جَمِيعِ أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ، إمَّا مُتَعَذَّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ)}.
الله -جَلَّ وَعَلَا- من رحمته خلقنا وعلم ضعفنا، وعلم تفاوتنا في هذا الضَّعف والقوَّة في المسائل العلميَّة والعمليَّة وفي غيرها، فمَن بذل الوسع في اجتهاده وقام بما يجب عليه في المسألة المعيَّنة قيامها؛ علم الله ذلك منه فهذا يثيبه على اجتهاده وإن لم يعاقبه على خطأه، أما هذا الذي اجتهدَ وأصاب فقد أصابَ الأمرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وقد يكون أجر الاجتهاد أعظم في المثوبة من أجر ذات الإصابة.
فإذا علمتَ هذا يا أيها المؤمن؛ فهذا ليس خاصًّا بالمجتهدين المطلقين، ولهذا قسَّم العلماء المجتهد إلى ثلاثة مراحل:
- مجتهد مطلق: ومنهم الأئمة الأربعة المتبوعة مذاهبهم -رحمهم الله.
- مجتهد مذهب: أي مجتهد في مذهب إمام، فأحاط بفروعه وأصوله فصار مجتهدًا فيه.
- مجتهد مسألة: وهو مَن دون ذلك، في مسألة معينة استتبع فيها الأقوال والأدلة ومآخذها ومايز بينها، فوصل إلى هذه النتيجة التي بابها الاجتهاد وبذل الوسع، ليس بابها باب الهوى أو الرغبة أو محض العاطفة، فعندئذٍ ينال أجر الاجتهاد، فإن وُفِّق للصواب نال الأجرين، وأجر الاجتهاد قد يكون أضعاف أجر هذه الإصابة بحسب ما يعلمه الله من اجتهاده وبذله وحرصه فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ )}.
لأنَّ إدراك الأمور متعسِّر متعذِّر ولا يُمكن، ويدخل فيما يذكره الأصوليون من المتأثرين المتكلمين: تكليف ما لا يُطاق؛ فلا يُمكن أن يحيط الإنسان بكل شيء، فبالتالي رفع الله عنَّا الحرج، إذا بذل الإنسان وُسعه المستطاع، فأمّا غير المستطاع فالله رفع الحرج، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]، والله يريد بنا اليسر ولم يرد بنا العسر وهو تكليف أمر لا نطيقه ولا نتحمله.
وهذا الخلاف وقع في عهد الصحابة كما وقع بين هذين النبيين الرسولين -سليمان وداود عليهما الصلاة والسلام- وصوَّب الله فهم سليمان، قال: ﴿وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً﴾ ، فكذلك الصحابة وقع منهم ذلك فصوَّب النبي ﷺ إحدى الطائفتين ولم يؤزِّر الأخرى، بل جعلهما في حكم الإصابة ولكن متفاوتون فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ عَامَ الْخَنْدَقِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَأَدْرَكَتْهُمْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُرَدْ مِنَّا هَذَا؛ فَصَلُّوا فِي الطَّرِيقِ. فَلَمْ يَعِبْ وَاحِدَةً مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ)}.
هذا حديث عبد الله بن عمر، والنبي ﷺ لم يعب على إحدى الطائفتين، فالذين قالوا: إن قوله ﷺ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» أراد منَّا مطلق العموم في اللفظ، فنصلي العصر في بني قريظة وإن كان في خارج وقتها.
أما الآخرون فقالوا: الرسول ﷺ أراد منَّا العجلة والاستعجال وأن لا نقف، فلما حضرت العصر صلوها في الطريق، ثم واصلوا حتى أدركوا بني قريظة جنوب المدينة في قباء بعد غروب الشمس.
فالنبي ﷺ لم يعب إحدى الطائفتين؛ لأنهم اجتهدوا في فهمهم لهذا الأمر النبوي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَالْأَوَّلُونَ تَمَسَّكُوا بِعُمُومِ الْخِطَابِ، فَجَعَلُوا صُورَةَ الْفَوَاتِ دَاخِلَةً فِي الْعُمُومِ، وَالْآخَرُونَ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الدَّلِيلِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَ هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُبَادَرَةُ إلَى الذين حاصرهم النبي ﷺ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ اخْتِلَافًا مَشْهُورًا: هَلْ يُخَصُّ الْعُمُومُ بِالْقِيَاسِ؟ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِينَ صَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ كَانُوا أَصْوَبَ فعلً)}.
اللهم ارضَ عنهم.
ويُذكر عن ابن حزم -رَحِمَهُ اللهُ- أنه قال: "ولو أننا حاضرون يوم بني قريظة لَمَا صلينا العصر إلا فيها ولو بعد منتصف الليل"، أخذ -رَحِمَهُ اللهُ- بما أشار إليه شيخ الإسلام هاهنا من قوله: (هَلْ يُخَصُّ الْعُمُومُ بِالْقِيَاسِ أو ل)، نعم مَن صلى في الطريق أصوب لأنهم نظروا إلى فحوى الحكم وفحوى الأمر وهو الاستعجال والاستخفاف، وأنهم لا يتباطؤون في المسير، فهذا هو الذي فهموه، وهذا هو الذي جعل النبي - ﷺ يصوِّب هؤلاء عن غيرهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ بِلَالٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا بَاعَ الصَّاعَيْنِ بِالصَّاعِ، أَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِرَدِّهِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَى ذَلِكَ حُكْمَ آكِلِ الرِّبَا مِنْ التَّفْسِيقِ وَاللَّعْنِ وَالتَّغْلِيظِ، لِعَدَمِ عِلْمِهِ بمكانه بِالتَّحْرِيمِ)}.
آكل الربا ملعون، وقد لعن النبي ﷺ في الربا خمسة: «لَعَنَ رَسولُ اللهِ ﷺ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ»[2].
أكل بلال الربا في حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين لَمَّا اشترى صاعًا بصاعين، فأمره النبي ﷺ برده لأنه جاهل ما يعلم، ولم يجرِ عليه حكم آكل الربا من تفسيقه، ما قال له: يا فاسق، يا ملعون! ولم يُغلِّظ عليه؛ لأنَّ حامل ذلك عليه هو عدم علمه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم)}.
إذا جاء ذكر الأنبياء يُصلى عليهم، وإذا جاء ذكر الصحابة يُترضَّى عليهم؛ سواء كتب ذلك أو لم يُكتب؛ لأنَّ هذا من الأدب المهم يجب أن ينتبه له طلبة العلم في هذه المواضع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ : مَعْنَاهُ الْحِبَالُ الْبِيضُ وَالسُّودُ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَجْعَلُ عِقَالَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ، وَيَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ له أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ)}.
قوله (عِقَالَيْنِ) أي: حبلين.
والعقال الآن الذي يلبسه الناس أصله حبل، لكن الآن صار زينة.
فكان الصحابي يجعل عنده حبل أبيض وحبل أسود، فلما يتبيَّن لون هذا من هذا أوقفَ، ولهذا قال النبي ﷺ في هذا الاجتهاد: «إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَ»[3] وفي رواية «إنَّ وِسَادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ»، ثم قال: «إنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَدِيٍّ: «إنَّ وِسَادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ، إنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ»، فَأَشَارَ إلَى عَدَمِ فِقْهِهِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ ذَمَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ.
بِخِلَافِ الَّذِينَ أَفْتَوْا الْمَشْجُوجَ فِي الْبَرْدِ بِوُجُوبِ الْغَسْلِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ إنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ»)}.
هذا في حديث جابر -رضي الله عنه- قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منًّا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا في مبلغ علمهم: لا نجد لك رخصة وأنت تقدر على استعمال الماء. فاغتسل فمات، فلما قدموا على رسول الله ﷺ غضب، وقال: «قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ إنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ»، إذًا في هذه المسألة حصل تقصير واضح، بينما في وضع العقالين لم يحصل تقصير واضح، وإنما كان اجتهدًا في وصولهم إلى هذا الوقت الذي يبدأ فيه الصوم.
ويلزم على هذا أن الذي أكل وشرب حتى تبين له هذين الحبلين في لونهما أنه أكل في النهار، لكن لم يؤاخذه النبي ﷺ بذلك، بل ولم يأمره بقضاء هذا اليوم وإنما عاتبه بقوله «إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَ»، ففرق بين الحالتين لمدار التقصير في العمل وبذل وسعٌ في تحصيل الأمر الذي أمر به ربنا وأمر به نبينا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَخْطَئُوا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ؛ إذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ)}.
ليسوا أهلًا للاجتهاد وهم أخطؤوا بغير اجتهاد، بينما كان مَن كان مخطئًا باجتهاد وهو من أهل الاجتهاد فهذا معذور.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً، لَمَّا قَتَلَ الَّذِي قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ الْحُرَقَاتِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا جَوَازَ قَتْلِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِصَحِيحِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ حَرَامٌ)}.
في قصة أسامة بن زيد في غزوة الحرقات وهي في الصحيحين من حديث أبي ظبيان: "بَعَثَنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إلى الحُرَقَةِ مِن جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا القَوْمَ فَهَزَمْناهُمْ ولَحِقْتُ أنا ورَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ رَجُلًا منهمْ، فَلَمَّا غَشِيناهُ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ عنْه الأنْصارِيُّ، وطَعَنْتُهُ برُمْحِي حتَّى قَتَلْتُهُ، قالَ: فَلَمَّا قَدِمْنا بَلَغَ ذلكَ النبيَّ ﷺ، فقالَ لِي: «يا أُسامَةُ، أقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟» قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّما كانَ مُتَعَوِّذًا، قالَ: فقالَ: «أقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟» قالَ: فَما زالَ يُكَرِّرُها عَلَيَّ حتَّى تَمَنَّيْتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْلَ ذلكَ اليَومِ[4].
النبي ﷺ عذَرَ أسامة ولم يوجب عليه القود -وهو القصاص- ولم يوجب عليه الدية، وإنما عنَّف عليه أنه استعجل بحكمه عليه، وحتى ما أوجب عليه الكفارة؛ لأنَّ فعل أسامة كان باعثه الاجتهاد، وإن كان اجتهادٌ لم يصب فيه -رضي الله عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَمِلَ بِذَلِكَ السَّلَفُ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فِي أَنَّ مَا اسْتَبَاحَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ دِمَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ، لَمْ يُضْمَنْ بِقَوَدِ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ؛ وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ مُحَرَّمً)}.
أهل البغي هم الخوارج، سواء خروا على الجماعة أو خرجوا لقطع الطريق كالبغاة، فما حصل من استباحة أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقودٍ أو بدية أو بكفارة، وإن كان قتلهم وقتالهم لأهل العدل -أي لجماعة المسلمين- محرمًا في نفسه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي لُحُوقِ الْوَعِيدِ، لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُذْكَرَ فِي كُلِّ خِطَابٍ؛ لِاسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِهِ فِي الْقُلُوبِ)}.
لأن العلم به علم مستقر ما يحتاج أن يُكرر في كل موضع من مواضع النزاع، لكن يبقى إحسان الظن بهذا العالم ومعرفته قدره، ومعرفة قدر مَن ليس عالمًا فأخطأ فيُنزل في خطأه في منزلته اللائقة به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا أَنَّ الْوَعْدَ عَلَى الْعَمَلِ مَشْرُوطٌ بِإِخْلَاصِ الْعَمَل لِلَّهِ؛ وَبِعَدَمِ حُبُوطِ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ.
ثُمَّ إنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُذْكَرُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ فِيهِ وَعْدٌ. ثُمَّ حَيْثُ قُدِّرَ قِيَامُ الْمُوجِبِ لِلْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ لِمَانِعِ. وَمَوَانِعُ لُحُوقِ الْوَعِيدِ مُتَعَدِّدَةٌ)}.
مذهب السلف ومنهجهم -رَحِمَهُم اللهُ- في الوعد والوعيد:
أمَّا الوعيد: فيبقى على عمومه لا يفسر، ولا يُفصَّل فيه، لئلَّا يوهَن هذا الوعيد على هذا الذَّب، فيبقى الوعيد على عمومه لتبقى النفوس منه وجلة وخائفة وقلقة.
أما الوعد: فيُفصَّل لتلمُّس رحمة الله، ورجاءً لثوابه وحسن ظن به -سبحانه وتعالى.
ومَن لحظ منقول السلف في هذه المسألة وجدهم أنهم في باب الوعيد يبقونه على عمومه لتبقى النفوس متهيبة من هذا الوعيد، فلا يقربون من هذا الذنب الذي تُوعِّدَ عليه.
ما هي موانع لحوق الوعيد؟
الموانع متعدِّدة، أشار الشَّيخ منها إلى جملة، وهي مهمَّة في باب الحكم على الناس وفي باب التَّأثيم وفي باب تخلُّف الأجر والثواب عن العمل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَوَانِعُ لُحُوقِ الْوَعِيدِ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا:
1- التَّوْبَةُ.
2- وَمِنْهَا: الِاسْتِغْفَارُ.
3- وَمِنْهَا: الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ لِلسَّيِّئَاتِ.
4- وَمِنْهَا: بَلَاءُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا.
5- وَمِنْهَا: شَفَاعَةُ شَفِيعٍ مُطَاعٍ.
6- وَمِنْهَا: رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.
فَإِذَا عُدِمَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، وَلَنْ تُعْدَمَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَتَا وَتَمَرَّدَ وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ، فَهُنَالِكَ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِهِ)}.
هذه الموانع تسمى: (موانع لحوق الوعيد) وتسمى في كتب العقيدة بـ (أسباب تكفير الذنوب والسيئات).
وأضافوا إليها سببًا سابعًا: ما يلحقه عند موته
وألحقوا فيها سببًا ثامنًا: ما يجري عليه في قبره وبرزخه.
وألحقوا فيه سببًا تاسعًا: ما يكون في عرصات القيامة.
وألحقوا فيه سببًا عاشرًا: ما يمره في النار منا لمرور المباشر أو على متنها.
والسبب الحادي عشر: رحمة أرحم الراحمين.
فهذه تسمى بالأسباب العشرة لمعرفة الذنوب، وهنا سماها بـ (موانع لحوق الوعيد)؛ هؤلاء لا يلحقه الوعيد مع أنهم وقعوا في موجبه، لكن من الذي يلحقه؟
هذا الذي شردَ عن حكم الله عالمًا به، كالبعير وكالعبدِ إذا أبقَ وشردَ عن أهله، يطلبونه ويزدادُ هروبًا وابتعادًا؛ فهذا وقع في المعصية وعاندَ وأصرَّ على وقوعه فيها عالمًا بأنها معصية، وإن لم يعلم بمقدار هذه العقوبة الدنيوية والأخروية قدرًا أو حجمًا أو كيفيَّةً.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِذَا عُدِمَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، وَلَنْ تُعْدَمَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَتَا وَتَمَرَّدَ وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ، فَهُنَالِكَ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِهِ)}.
أي: يُلحق من الحاكم.
أو: يُلحق الوعيد به أي يصيبه هذا الوعيد الذي تمرَّدَ عليه واتبع هواه حتى وقع فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْوَعِيدِ: بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ سَبَبٌ فِي هَذَا الْعَذَابِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ.
أَمَّا أَنَّ كَلَّ شَخْصٍ قَامَ بِهِ ذَلِكَ السَّبَبُ، يَجِبُ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمُسَبَّبِ بِهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ الْمُسَبَّبِ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ، وَزَوَالِ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ)}.
وهذه في جميع مظانِّ العقوبات قلَّت أو عظُمَت، تقوم على اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، ومن أعظم العقوبات ما يتعلق بكفر المعين، فإن العلماء نصُّوا على كفر المعين أنه يُحكم عليه بالكفر، ثم تستتبعه توابع هذا الكفر من حيث إقامة الحد عليه وعدم توريث المسلمين منه والصلاة عليه وتغسيله وتكفينه، إلى آخره.
وهذه الشروط والموانع تدور على أربعة:
الأول: العلم -وضده وهو المانع- الجهل: أن يعلم بأن هذا ذنب وأن هذا كفر، فإن لم يعلم ومثله لا يعلم فلا يؤاخَذ.
الثاني: التكليف، فيقع في هذا الذنب مكلَّفًا، والتكليف دائرٌ على البلوغ وعلى العقل، فادَّعى صغير أنه نبي الله إلينا، فهذا ادِّعاء كفر، لكن هو بعينه لا يكفر لأنه غير مكلَّف، فعدم التكليف مانع.
الثالث: أن يقع في هذا الذنبِ مختارٌ، وضد الاختيار: الإكراه؛ فإن وقع فيه مكرهًا فلا يؤاخذ به، مع أن الذنب الذي وقع فيه كفر.
الرابع: أن يقع في هذا الذنب قاصدًا، وهو المتعمد العارف لهذا الأمر، فإن وقعَ فيه مخطئًا، ومن الخطأ تأويل المتأوِّلة، فهذا لا يُحكم عليه بالكفر لوجود هذا المانع، ففي الحديث: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ»[5]، فهذا قصدٌ مانعه الخطأ، ومن الخطأ التأويل.
هذا ما يتعلق بوجود الشرط وزوال المانع الذي به تكون المؤاخذة، ويتحمل من جرائها العقوبة الدنيوية والأخروية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِيضَاحُ هَذَا: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِحَدِيثٍ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكًا جَائِزًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَالتَّرْكِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَا قَصَّرَ فِي الطَّلَبِ، مَعَ حَاجَتِهِ إلَى الْفُتْيَا أَوْ الْحُكْمِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ مَعَرَّةِ التَّرْكِ شَيْءٌ)}.
إيضاح هذه المسألة فيما يتعلق بوجود الشرط وزوال المانع الذي يترتَّب عليه الإثم بالمخالفة: أن ترك العمل بالحديث عن النبي ﷺ لا يخرج في قسمته الحاضرة عن أقسامٍ ثلاثة، وهذا من مناهج الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- في التَّقسيمات والسَّبر، وهذا تميَّزَ به عن كثيرٍ من أقرانه ومن أهل العلم.
الحال الأولى: قوله (أَنْ يَكُونَ تَرْكًا جَائِزًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ) وضرب له بمثال فقال: (كَالتَّرْكِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَا قَصَّرَ فِي الطَّلَبِ)، هو محتاج للفتيا فهذا لا تلحقه ملامة كما حصل من بعض الخلفاء في أشياء لم تبلغهم، وحكموا بخلافها -رضي الله عنهم- فلا يشك مسلم فضلًا عن عالم أنه لا تلحقه معرَّة الترك، والمعرة هي الملامة والعقوبة الناتجة من ترك العمل بهذا الحديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكًا غَيْرَ جَائِزٍ، فَهَذَا لَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى)}.
ضد الأولى: أن يكون الترك غير جائز أي متعمِّدًا في ترك العمل بالحديث من غير سبب، وهذا لا يكاد، قد يقع لكنه في الغالب الأعم المطرد لا يكاد أنه يصدر من الأئمة الكبار بتعمُّد ترك الحديث.
قوله: (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) مبناه على حسن الظَّنِّ منه بهؤلاء العلماء وهؤلاء الأئمة، لكن يقع فيه أشياء قد يحتمل الظن الراجح هذا أو ضده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لَكِنْ الذي قَدْ يَخَافُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَاصِرًا فِي دَرْكِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَيَقُولُ مَعَ عَدَمِ أَسْبَابِ الْقَوْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا نَظَرٌ وَاجْتِهَادٌ أَوْ يُقَصِّرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَيَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ النَّظَرُ نِهَايَتَهُ، مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَسِّكًا بِحُجَّةِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَادَةٌ، أَوْ غَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، لِيَنْظُرَ فِيمَا يُعَارِضُ مَا عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّ الْحَدَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ لِلْمُجْتَهِدِ)}.
أنه يكون عنده بعض التقصير وبعض النقص في بلوغ الأمر إلى تمامه من حيث الاجتهاد وبذل الوسع وطلب هذه المسألة، فلا نقول: إنه قصدَ المخالفة، لكن هذا ما أدَّى إليه أكثر اجتهاده وإن لم يبلغ منتهاه.
ويكون في مثل هذا رافعًا عنه الملامة، قال: (فَإِنَّ الْحَدَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ)، أي: في بذل الوسع والجهد والطاقة للوصول للمسألة (قَدْ لَا يَنْضَبِطُ لِلْمُجْتَهِدِ)، لاختلاف الأحوال والعوارض وذوات المجتهدين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ مِثْلَ هَذَا، خَشْيَةَ أَلَّا يَكُونَ الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ قَدْ وُجِدَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْمَخْصُوصَةِ. فَهَذِهِ ذُنُوبٌ؛ لَكِنَّ لُحُوقَ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ بِصَاحِبِهِ إنَّمَا تُنَالُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ، وَقَدْ يَمْحُوهَا الِاسْتِغْفَارُ وَالْإِحْسَانُ وَالْبَلَاءُ وَالشَّفَاعَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا مَنْ يَغْلِبُهُ الْهَوَى وَيَصْرَعُهُ، حَتَّى يَنْصُرَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، أَوْ مَنْ يَجْزِمُ بِصَوَابِ قَوْلٍ أَوْ خَطَئِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِدَلَائِلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ فِي النَّارِ)}.
مَن عرف أنَّ القول خطأ، وأنَّ القول مرجوح وحكمَ به أو قال به لهوًى في نفسه أو لطلب أمر من أمور الدنيا كرشوة أو مالٍ أو جاه أو منصبٍ أو ذكر؛ فهذا تدخله الملامة، أما الأول فقد بذل جهده في المسألة لكنه لم يأتِ بالاجتهاد المعتبر شرعًا، فنقول: هذا الذي وقع فيه هذا ذنب لعدم عمله بالحديث، لكنه لا يؤاخَذ، إما لأن الله رحمه، أو للأسباب العشرة التي سبقت في تكفير الذنوب.
وضرب لهذا مثلًا بحديث النبي ﷺ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، فَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ»، أي: من غير تعرُّضٍ لما تستدعيه الأهواء والرغبات.
قال: «وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ، فَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ»، إن لم يكن جهله عامًّا فجهل في المسألة المقضي بها.
قال: «وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ» أي: لأمر من أمور الدنيا.
وهذا كما يقع في القضاء يقع في العلماء وفي المفتين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، فَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ، فَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ» وَالْمُفْتُونُ كَذَلِكَ)}.
الْمُفْتُونُ: هم الذين يفتون الناس ويحكمون لهم، ويدلونهم على دين الله، فقد يكونوا ممن علم الحق وقال به، فهذا في الجنة.
والثانيان:
- مَن علم الحق ولم يقل به كاتمًا له: فهذا في النار.
- مَن أفتى بغير علم.
{لعلنا نختم يا شيخنا الفاضل، ونكمل في الحلقة القادمة بإذن الله. أحسن الله إليكم وشكر الله لكم.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم بإذن الله تعالى في حلقةٍ قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------------
[1] حسنه الألباني في منزلة السنة (13).
[2] صحيح مسلم (1598).
[3] صحيح البخاري (4510).
[4] البخاري (6872)، مسلم (96).
[5] صحيح مسلم (2747).
سلاسل أخرى للشيخ
-
8864 9
-
20861 9