الدرس الثالث
فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم (جادَّة المتعلِّم) الذي تقدمه جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، نكمل ما بدأنا في هذا البرنامج من شرح كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) للإمام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-، يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل، الأستاذ في جامعة المجمعة، مرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
وأنا كذلك أرحب بكم، وأرحب بإخواني وأخواتي أينما بلغ إليه هذا الأثير، سائلًا الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعله علمًا نافعًا متبوعًا بالعمل الصَّالح، المحقِّق عند ربنا -جَلَّ وَعَلَا- زلفاه بالرضا والقبول، وهذا ليس شرحًا على (رفع الملام) وإنما هو فوائد وتقريرات ومُدارسة ومُذاكرة لهذا الكتاب معكم ومع إخواني.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا، أَوْ مُجْمَلًا؛ أَوْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ؛ فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْآخَرَ، كَمَا حَمَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ "الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ" عَلَى الْحَبْلِ، وَكَمَا حَمَلَ آخَرُونَ قَوْلَهُ: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ عَلَى الْيَدِ إلَى الْإِبِطِ)}.
هذه المسألة مرتبطة بما ذكر شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة الأعلام، فإنه ذكر أن الأسباب تدور على ثلاث جهات، ثم فصَّلها إلى عشرة أسباب، ونحن في السبب السادس، ومؤدَّى هذا السبب: أن يثبت الحديث لكن يختلفون في مدلوله، إما بلفظة غريبة في الحديث هي سبب الخلاف، أو بحمل لفظٍ على معنًى من معانيه، أو كما قال ها هنا: (لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرِكً)، والمشترك عند أهل الصناعة نوعان:
- المشترك اللفظي: فيكون اللفظ واحدًا مع التباين في المعنى، فمثلًا: "العين" تُطلق على العين الباصرة، وعلى عين الماء التي فيها الماء، وتطلق العين على الشخص نفسه، فهذا مشترك لفظي.
- يقابله المشترك المعنوي: الذي منه المتواطئ، ومنه المشكِّك.
قال: (أَوْ مُجْمَلً)، فالمجمل يحتاج إلى تفصيل وتبيين.
قال: (أَوْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ)، المجاز الذي يقول به شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وعليه المحققون هو: ما جازَ استعماله في لغة العرب التي هي محل نزول الوحي، لا المجاز على اصطلاح المتكلِّمين بصرفِ اللفظ من المعنى الراجح إلى معنَى آخر.
قال: (فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ عِنْدَهُ)، أي: يحمله هذا العالم على اللفظ الأقرب عنده وإن كان مع جمع الروايات وتحقيق المعنى يُحمل على المعنى البعيد، فيكون هذا من أسباب اختلافه وخلافه مع العلماء الآخرين.
قال: (وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْآخَرَ)، ومثَّل لهذا بالمثلين:
المثل الأول: فيما يتعلق بالخيط الأبيض الخيط الأسود من الفجر، ظنَّه جماعة من الصَّحابة منهم عدي بن حاتم ومنهم الأنصاري -رضي الله عنهم- أنه الخيط الأبيض والخيط الأسود هذا اللون من هذا اللون ولو كان داخل غرفته أو داخل بيته وخبائه، وفسَّر النبي ﷺ المعنى بالخيطين، خيط الفجر مع خيط سواد الليل، يتبين هذا من هذا، فهذا من وجوه هذا الخلاف المحتمِل، وبالتالي إذا كان الخلاف كذلك صار الخلاف دائرة فيما يسميه العلماء بالخلاف في فهم الدليل، لا في الخلاف في مضادَّة ومعارضة الدليل، وهذا خلاف محتمل، نعم الحق واحد، والقول الصَّحيح واحد، لكن الأقوال الثانية لها مَحمل من الحق بحسبها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَارَةً لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ مِنْ النَّصِّ خَفِيَّةً.
فَإِنَّ جِهَاتِ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ مُتَّسِعَةٌ جِدًّا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي إدْرَاكِهَا، وَفَهْمِ وُجُوهِ الْكَلَامِ بِحَسَبِ مِنَحِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمَوَاهِبِهِ، ثُمَّ قَدْ يَعْرِفُهَا الرَّجُلُ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ، وَلَا يَتَفَطَّنُ لِكَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْعَامِّ.
ثُمَّ قَدْ يَتَفَطَّنُ لَهُ تَارَةً ثُمَّ يَنْسَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ.
وَقَدْ يَغْلَطُ الرَّجُلُ، فَيَفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَ)}.
من أسباب الخلاف في فهم الدليل -كما سبق- اشتماله على ألفاظ غريبة أو مستوحشة، أو على مجمل مشترك وعام أريد به الخاص، وخاص يريد به العام، تارة الفهم لدلالة خفيَّة في النص؛ لأن جهات الدلالات للأقوال متَّسعة، وكما قال الشيخ: (مُتَّسِعَةٌ جِدًّ)، أي: لمن مارس هذا الأمر، مارس كتب الخلاف ومآخذ الأدلة ومدارك العلماء فيها.
قوله: (يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي إدْرَاكِهَ)، الناس هنا بمعنى العلماء، لأن "الناس" العهدية.
قوله: (وَفَهْمِ وُجُوهِ الْكَلَامِ بِحَسَبِ مِنَحِ الْحَقِّ)، الحق هو الله، أي: بحسب ما يمنحهم الله -جَلَّ وَعَلَا- فيها من الفهم ومن الإدراك ومن الموهبة، ولهذا قال -جَلَّ وَعَلَا- فيما جرى بين نبيين رسولين، سليمان وأبيه داود -عليهما السلام: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: 79]، وهذه المواهب والفتوحات هي التي عناها عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في كتاب العلم، والحديث أصله في الصحيحين: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ غَيْرَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: "لَا، والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمٌ يُعْطِيهِ اللَّهُ تعالى رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، ومَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ"، قُلْتُ: ومَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: "الْعَقْلُ، وفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وألَّا يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"، فقوله: "إِلَّا فَهْمٌ يُعْطِيهِ اللَّهُ تعالى رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ" أي: يمنحه الله فهمًا لهذه الأدلة في الكتاب والسنة.
وقال الشيخ في هذا: إن هذا المعنى -الذي هو المعنى الخفي- لا يدل عليه العموم، ولا يتفطن لهذا المعنى أنه داخلًا في هذا العموم إلا القلَّة، وقد يتفطَّن له ثم ينساه ثم يستحضره، ولهذا قال: (وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّ)، أي: لمن مارسَ هذا الأمر في شأن العلماء، ومن كان في حوزة العلماء أدرك ذلك، لا يدركه العوام الذين يعيبون الخلاف الواقع بين العلماء، لا يحيط به إلا الله.
ثم ذكر: (وَقَدْ يَغْلَطُ الرَّجُلُ)، أي: يصيبه الغلط.
قوله: (فَيَفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ)، أي: فهم أمرًا متبادرًا إلى ذهنه، وإنما -جَلَّ وَعَلَا- بعث نبينا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بوحي كتابًا وسنة مادته هي اللغة، لكن يؤدي إليه فهمه وقرائن الحال إلى أن يكون مستوحشًا على هذه اللغة؛ فيحمله ذلك على الغلط وعلى الوهم، وبالتالي يخالف غيره، فيكون موردًا لأسباب الخلاف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّبَبُ السَّابِعُ:
اعْتِقَادُهُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ، أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الدَّلَالَةِ.
وَالثَّانِي عَرَفَ جِهَةَ الدَّلَالَةِ، لَكِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ دَلَالَةً صَحِيحَةً، بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الْأُصُولِ مَا يَرُدُّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَوَابًا أَوْ خَطً)}.
السبب السابع عبر عنه -رَحِمَهُ اللهُ- بقوله: (اعْتِقَادُهُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ)، مثلًا فيما سبق في وجوب الوضوء من لحم الجزور في حديث جابر وأنس وغيره وأبي هريرة -رضي الله عنهم- الجمهور قالوا: لا دلالة في ذلك؛ لأنه تحت حديث «كَانَ آخِرُ الأمرينِ من رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرْكَ الوضوءِ مِمَّا غَيَّرت النَّارُ»، الذين فهموا هذا الحديث فهمًا آخر قالوا: هذا خاص معه، فهذا موجِبٌ لهذا الخلاف.
قال: (وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ)، أي: الفرق بين السبب السابع والسادس أنَّ الأول فهموا في دلالة حديث نفسه، وهذا السبب السابع قال: إن هذا الحديث محل الاستدلال لا دلالة له على هذه المسألة المعينة.
ويندرج تحت هذا السبب مسائل: أنه عنده من الأدلة الأخرى ما عارضت فيه مدلول هذا الحديث في ذهنه، حديث ثابت لكن مدلوله لم يثبت عنده لوجود المعارض إمَّا بأدلة القرآن أو بأدلة السنة، وقد تكون هذه المعارضة في نفس الأمر صوابًا أو قد تكون خطًا.
ثم ذكر لها أمثلة -رَحِمَهُ اللهُ- على جهة العموم، وهذا البحث أقرب ما يكون إلى البحث الأصولي في مناهج وطرائق الفهم والاستدلال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. أو أَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةِ، أو أَنَّ الْعُمُومَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مَقْصُورٍ عَلَى سَبَبِهِ، أَوْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ أَوْ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، أَوْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لَا عُمُومَ لَهُ، أَوْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَنْفِيَّةَ لَا تَنْفِي ذَوَاتِهَا وَلَا جَمِيعَ أَحْكَامِهَا، أَوْ أَنَّ الْمُقْتَضِي لَا عُمُومَ لَهُ؛ فَلَا يَدَّعِي الْعُمُومَ فِي الْمُضْمَرَاتِ وَالْمَعَانِي، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ)}.
هنا ذكر سبعة أشياء يذكرها الأصوليون في مباحث دلالات الألفاظ ويشركهم فيها علماء اللغة، وقد شركهم الآن أهل أصول الحديث والمصطلح في بعضٍ منها، وهو ما يسمى بالتَّعارض بين الأدلَّة والتَّرجيح بينها، وبسطها في تلك المواضع، وشيخ الإسلام مع آبائه في المسودَّة المشهورة في أصول الفقه، ذكروا فيها هذا البسط وهي من أعظم الأسباب التي توجب الإعذار ورفع الملامة عن هؤلاء الأعلام في مخالفتهم بعضهم بعضًا في الأحكام التفصيلية، وقد تكون هذه الأحكام من أحكام الكبار، لكن يندرج تحت هذا الأصل أنَّ هذا مبناه على فهم الدليل، لا على ردِّ ومعارضة الدليل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّسِعُ الْقَوْلُ فِيهِ. فَإِنَّ شَطْرَ أُصُولِ الْفِقْهِ تَدْخُلُ مَسَائِلُ الْخِلَافِ مِنْهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُصُولُ الْمُجَرَّدَةُ لَمْ تُحِطْ بِجَمِيعِ الدَّلَالَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَتُدْخِلْ فِيهِ أَفْرَادَ أَجْنَاسِ الدَّلَالَاتِ: هَلْ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَمْ لَا؟ مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْمُعَيَّنَ مُجْمَلٌ، بِأَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا لَا دَلَالَةَ تُعَيِّنُ أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ)}.
هنا أشار -رَحِمَهُ اللهُ- إلى مسألة تدل على استيعابه في هذا العلم من أصول الفقه، يقول: (شَطْرَ) يعني تقريبًا جزء كبير يقارب النِّصف أو يزيد منه في أصول الفقه مبني على هذا الأمر.
الشطر الآخر في أصول الأدلة، الكتاب، السنة، الإجماع، القياس؛ مسماة عند العلماء بالأدلة المتفق عليها، ثم يلتحق بها الأدلة المختلف فيها كالاستصحاب، والاستحسان، والبراءة الأصلية، وقول الصحابي، والمرسل، والحديث الذي لم يصح من أشهره المراسيل؛ هذه النصف الثاني في أصول الفقه التي هي بحث في الأدلة، وشيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- عنده استيعاب للعلوم، ولهذا لما ذكر وقرَّر في غير موضع طريقة السلف ومناهجهم يبنيها على أصلين كبيرين: أصل الدلائل، ثم أصل المسائل، وهذه النظرة الاستيعابية ما يفطن لها كل أحد، بل يغيب عن فهمها كثير من الطلبة، فهي ناحية مهمَّة في المعاني الكليَّة في فهم كلام أهل العلم وسياقاتهم، والباحثون الآن في مناهج العلماء ومناهج الأئمة، اختلف بحثهم بناء على تغيُّبِ هذا المعنى المنهجي في تصورهم، فمنهم مَن يبحث مثلًا في منهج الحافظ ابن حجر في الفقه أو في العقيدة أو في التفسير، ومنهج ابن جرير، ومنهج غيرهم؛ فيجمع أقواله فيها، جمع الأقوال ليس هو المنهج، ومنهم من يبحث فيبحث في أصول هذا المنهج وفي دلائله، فهذا ليس هو المنهج! المنهج هو الأمران:
- الأول في الدلائل.
- الثاني في المسائل المؤيِّدة لما نتجَ عليه من هذه الدلائل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (اعْتِقَادُهُ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ قَدْ عَارَضَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً. مِثْلَ مُعَارَضَةِ الْعَامِّ بِخَاصِّ، أَوْ الْمُطْلَقِ بِمُقَيَّدِ، أَوْ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ. إلَى أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ. وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ تَعَارُضَ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بَحْرٌ خِضَمٌّ)}.
لا يعرف هذا السبب إلا مَن مارس الخلاف العالي والخلاف النازل في كلام أهل العلم، ومن أسباب الخلاف الواقع بين العلماء: اعتقاد العالم الذي خالف غيره أنَّ تلك الدلالة في هذا الحديث الذي يصححه عارضها ما دلَّ على أنها ليست موافقة أو مرادفة، عارضها دليل آخر، وضرب الشيخ مثالًا وهي أمثلة عمومية، كمعارضة العام للخاص، ماذا يُفعل به؟ فمن حمل العام على الخاص خرج بنتيجة تغاير من حمل الخاص على العام، وتغاير مَن لم يحمل إلا أحد الدليلين، كذلك مَن حمل المطلق على المقيد، ومَن حمل المقيد على المطلق، وكذلك مَن حمل بما يقتضي الوجوب أو الحقيقة بما يقتضي المجاز، أي بما يجوز في اللغة بوجه آخر أقل دلائل على الأول.
ومن هذا الباب جاء ما يسمى عند العلماء في الدلالات أن الدليل:
- إما أن يكون دالٌّ على المسألة دلالة صريحة، لا تحتمل إلا معنى واحد، وهذا الغالب يقل الخلاف فيها، مبناه على الأسباب الماضية أن الحديث لم يثبت عند هذا العالم فخالفه.
- أو يكون الحديث دلَّ على هذه المسألة الدلالة الظاهرة، أي على أكثر من معنى لكنه في أحدها أظهر، فمن أخذ بالمعنى الثاني والثالث والرابع وقع منه الخلاف فيما دلالته ظاهرة، وهذا يندرج عليه هذا السبب الثَّامن وما قبله من السبب السابع والسادس.
الوجه الثالث: إذا دل على المسألة بدلالة ضعيفة، يدلُّ الدليل على أكثر من وجه -وجهين أو ثلاثة- هو في حديث أظهر -أي الدلالة الظاهرة.
في الوجه الثاني: الأضعف دلالة ضعيفة، لكن لها حيِّز في فهم هذا الدليل.
إذا هذه الأسباب الثلاثة: الثامن والسابع والسادس هي في دلالة النَّص، ثبتَ عند الجميع اختلفوا في دلالته ومدلوله على هذه المسألة التي وقع فيها الخلاف ومن ثَم النزاع.
ويقول الشيخ: (فَإِنَّ تَعَارُضَ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ)، يعني أقوال العلماء في استدلالهم بهذه النصوص وهو فهمهم لها.
قوله: (وَتَرْجِيحَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ)، يعني ترجيح هذا القول على القول الثاني أو على القول الثالث.
قوله: (بَحْرٌ خِضَمٌّ)، أي: بحر واسع، لأن أفهام العلماء ليست متساوية بل متفاوتة، ومن هذا الباب تعبَّدهم الله -جَلَّ وَعَلَا- بفهم الأدلة وتتبُّعها، فيكون بهذا البذل للوسع في هذا الفهم والتَّتبع وإعمالها على ما يظنون أنه مراد الله ومراد رسوله تتفاوت بهذا أجورهم وفيها الأجر العام للثواب «إِذَا اجتَهدَ الحَاكمُ فَأَصَابَ فلَهُ أجْرانِ، وإذَا اجتَهدَ فَأَخْطَأَ فلَهُ أجرٌ»، وهو اجر بذل الوسع والاجتهاد، لكن قد لا يوفق إلى مراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- الذي هو الصواب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّبَبُ التَّاسِعُ:
اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ؛ أَوْ نَسْخِهِ؛ أَوْ تَأْوِيلِهِ إنْ كَانَ قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ، بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِالِاتِّفَاقِ مِثْلَ آيَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ، أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ)}.
السبب التاسع: أن يعتقد هذا العالم الذي خالفَ غيره أنَّ هذا الحديث المُستَدَل به معارض بدليل آخر يضعف هذا الحديث، إمَّا يضعفه في صحته، أو يضعفه في مدلوله فيحكم بنسخه، وسيذكر لنا الشيخ أمثلة:
الآن حديث طلق بن علي اليمامي -رضي الله عنه- لَمَّا سأل النبي ﷺ عن مَسِّ الذكر، فقال: «هَلْ هُو إلَّا بَضعةٌ مِنْكَ»، وجاء حديث بسرة وهذا كان بعد فتح مكة، «مَنْ مَسَّ فَرْجّه فَلْيَتَوَضَّ»، فإضعاف دلالته إمَّا بأن يضعف أحد الحديثين، أو يضعف مدلوله بأن يقول: حديث بسرة ناسخ لحديث طلق بن علي؛ فهذا يورد الخلاف بين الأئمة العلماء الأعلام في هذا الفهم لهذه الأدلة بما ظنه معارض بغيره.
وبالتالي يأتي هنا التَّميُّز والتَّفرُّد بما يسمى بمنهج أهل التحقيق، وهذا البحث يُبحث في أصول الفقه وفي أصول اللغة وفي مصطلح الحديث، فمنهم مَن يُقدم المتأخِّر على المتقدِّم إذا علم التأريخ فيقول بالنسخ، والقول بالنسخ إعمالٌ لأحد الدليلين وإهمالٌ للآخر.
ومنهج أهل التحقيق ومما تميز به الشيخ المصنف ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- وهو مسلك الجمع، فيحمل هذا على دلالة وهذا على دلالة، وتميَّز به في زماننا هذا شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- لمن تدرب على دروسه أو اطَّلع على كتبه في الخلاف، كشرح الزاد، وشرح البلوغ، وتعليقه على البخاري ومسلم، وكلامه على دلالة آيات الأحكام وغيرها، فمسلك الجمع: هو إعمالٌ لجميع الأدلة لكن اختلاف فيه دلالاتها.
يقول الشيخ: (مِثْلَ آيَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ، أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ)؛ لأنَّ الإجماع مبناه على مستند، وهو دليل صحيح، قام إجماع على مدلوله لا على ثبوت دليله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا الْمُعَارِضَ رَاجِحٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَتَارَةً يُعَيِّنُ أَحَدَهَا، بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ أَوْ أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ. ثُمَّ قَدْ يَغْلَطُ فِي النَّسْخِ فَيَعْتَقِدُ الْمُتَأَخِّرَ مُتَقَدِّمًا، وَقَدْ يَغْلَطُ فِي التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَحْمِلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، أَوْ هُنَاكَ مَا يَدْفَعُهُ، وَإِذَا عَارَضَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَقَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ دَالًّا، وَقَدْ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ فِي قُوَّةِ الْأَوَّلِ إسْنَادًا أَوْ مَتْنًا.
وَتَجِيءُ هُنَا الْأَسْبَابُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَغَيْرُهَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
وَالْإِجْمَاعُ الْمُدَّعى فِي الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ)}.
هذه الثلاثة التي أشار إليها في هذا النوع هي:
- أن يعارض دليل بآية.
- أو يعارضه بحديث آخر.
- أو يعارضه بالإجماع.
وذكر في هذا الأسباب مجملة، وهو أن يعتقد أن هذا المعارض راجح في الجملة، فيتعيَّن أحد الثلاثة: إما الآية أو الحديث أو الإجماع.
قال: (وَتَارَةً يُعَيِّنُ أَحَدَهَ)، فيقول هذا منسوخ، إذًا أثبت الدليل لكن قال بنسخه، أو أنه مؤوَّل، معناه عام خصصه المعنى الثاني.
التأويل عندهم في جمع الأدلة هو التفسير، ويكون هذا عام وهذا خاص، هذا مطلق وهذا مقيد، هذا مجمل وهذا مفسَّر مبيَّن، على ما يكون في الدلالات، ثم إن مَن يدَّعي النَّص -وهذا كثير في مسائل الخلاف- يحكم على نص بأنه منسوخ، يغلط هذا الناسخ في الوقوف عليه بالنسخ، فكم من آية عارضت آية ظنها مَن ظنها بأنها منسوخة، وإذا رجعنا إلى أقوال أهل التحقيق في المنسوخات وإذا هي آيات تعد على الأصابع، وكذلك مثله في الحديث بل هو أوسع منه، ولهذا أشار ابن القيم تبعا لشيخه ابن تيمية أنَّ ادَّعاء النسخ مطلقًا طريقة ضعفاء العلماء عند المعارضة، لم يمكَّنوا في الجمع والتأليف أو الترجيح فيقولون بالنسخ، وأهل التحقيق والذين ميزهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالفهم الجيد وبإدراك مدارك الأدلة، لا يتعجَّلون إلى القول بالنسخ، وإنما قد يفتي بحكمٍ يظنه من يقرأ أنه معارض للحكم الثاني، فيكون مخالفًا للحديث فيرد عليه هذه الوجوه.
وهنا أشار الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- إلى مسألة، وهي أن الإجماع الذي يُدعى في الغالب في المسائل العلمية ليس هو الإجماع الذي يأثم مخالفه، وإنما إجماع هو بعدم علمه بالمخالِف.
والإجماعات كما ذكر الأصوليون وغيرهم: إجماع يقيني وإجماع ظني.
ومن الإجماع الظني:
- ما يسمى بالإجماع بعدم العلم بالمخالف الذي أشار إليه الشيخ ها هنا.
- ومنه الإجماع السكوتي، بمعنى أنهم أجمعوا لأنه لم يخالف هذا أحدًا فكان كالإجماع السكوتي.
والمسائل المجمع عليها محصورة، ولهذا شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- في العقيدة الواسطية لما ذكر أصول الاستدلال على هذا الباب العظيم "باب الأسماء والصفات" ذكر أولًا الكتاب العزيز، ثم ذكر فصلًا فقال "والسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه تعبر عنه"، ثم قال: "الأصل الثالث: الإجماع. والإجماع الَّذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة" [العقيدة الواسطية].
فقوله: (والإجماع الَّذي ينضبط) أي: يمكن ضبطه، وهو مضبوط في كلام العلماء.
وقوله: (ما كان عليه السلف الصالح) أي: ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم.
قوله: (إذ بعدهم)، أي: بعد هذه القرون الخيرية الثلاثة.
قوله: (كثرت الأمة وانتشر الخلاف)، ولهذا قال الإمام أحمد: (مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاع فَهُوَ كَاذِبٌ)، أنى له أن يحيط بهؤلاء العلماء! وهذا في الإجماع اليقيني، الإجماع الذي يأثم مخالفه.
والإجماع المدَّعى عند كثير ممن يدَّعي الإجماع، هو بعدم العلم بالمخالف، أو بما يتساهل به بعضهم من المتأخرين بالإجماع بقول الجماهير.
ومن هذا الباب تميَّز العلماء في حكاية الإجماع، فأعظم من يُوثَق بنقلهم للإجماع: ابن جرير -رَحِمَهُ اللهُ- لسعة اطلاعه على الخلاف، وقبله محمد بن نصر المروزي الشافعي صاحب "تعظيم قدر الصلاة"، وهو متوفٍ عام 294 هـ
وتميز شيخ الإسلام بنقله لإجماعات القرون الثلاثة، ولهذا نقد مراتب الإجماع لأبي محمد بن حزم -رَحِمَهُم اللهُ.
النووي وابن عبد البر وابن المنذر قد يتساهلون في مسائل نقل الإجماع، وهذا ليس مُطَّردًا، فيأتي في مواضع يحكي النووي الإجماع فيها ويكون قوله هو المعتبر، لكن مبناه على أي أنواع الإجماع التي حُكيت؟
ابن هبيرة تميز بنقل الإجماع، فإنه في كتابه "الإصحاح" لما أتى إلى حديث معاوية -رضي الله عنه- الذي ورد في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» ، ثم شرع في تبيين أبواب الفقه على حسب ترتيب الفقهاء، فيذكر فيها ما اتفق عليه الأئمَّة الأربعة، ويذكر فيها ما أجمعوا عليه، فالإجماع هو داخل في الإجماع اليقيني أو ما يحلقه بالإجماع الظني.
والاتفاق هو في حكاية أقوال الجماهير، ومنه ما يكون داخلًا في الإجماع المدعى وهو بعدم العلم بالمخالف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ وَجَدْنَا مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ مَنْ صَارُوا إلَى الْقَوْلِ بِأَشْيَاءَ مُتَمَسَّكُهُمْ فِيهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ.
لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْعَالِمُ أَنْ يَبْتَدِئَ قَوْلًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا؛ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا خِلَافَهُ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّقُ الْقَوْلَ فَيَقُولُ: "إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَحَقُّ مَا يَتْبَعُ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا")}.
هذه نتيجة ذكرها شيخ الإسلام هي خلاصة ما توصَّل إليه من نظره في أقوال العلماء وفي الخلاف، لما قال: (وَقَدْ وَجَدْنَ)، ينسب ذلك له ولأمثاله من أهل العلم. قال: (مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ)، عندنا علماء ولهم أعيان، وهم كبارهم ومحققوهم ومتبعوهم.
قال: (مَنْ صَارُوا إلَى الْقَوْلِ بِأَشْيَاءَ)، أي: بأقوال.
قوله: (مُتَمَسَّكُهُمْ فِيهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ)، الذي يظنه الكثير أنه إجماع، مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضي هذا الظاهر خلاف ما زعم أنه لم يُعلم فيه الخلاف.
وهنا مسألة مهمة ينتبه لها طلاب العلم: لا يمكن لعالم أن يبتدأ قولًا لم يعلم به قائلًا به.
بمعنى -وهو ما ربَّانا عليه أهل العلم: لا تقل بمسألة ليس لك فيها إمام، فقد يترجَّح في ذهنك شيء، وقد تنتبه له، لكن ما دام أنَّ هذا القول لم تسبق إليه فقِفْ، فإن القوم خَبروا وعَلِموا ونطقوا، فما لم ينطق به القوم فقِفْ واتهم فيه رأيك، واتهم فيه فهمك، واتهم فيه علمك، لا تقلْ بمسألة ليس فيها إمام، انتبه من هذا يا طالب العلم!
وهنا يقول الشيخ في هذه النتيجة: (لَا يُمْكِنُ الْعَالِمُ أَنْ يَبْتَدِئَ قَوْلًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا؛ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ النَّاسَ)، أي العلماء. قال: (قَدْ قَالُوا خِلَافَهُ)، فهو يعلم ذلك. قال: (حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّقُ الْقَوْلَ)، يعني من أعيان أهل العلم. قال: (فَيَقُولُ: "إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَحَقُّ مَا يَتْبَعُ")، إذًا اتَّهم رأيه. قال: ("وَإِلَّا فَالْقَوْلُ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا")، إن لم يكن فيها إجماع، بمعنى أنه لو ظهر الإجماع وقد قال هذا العالم الكبير فيها كذا وكذا، فقوله يسقط في مقابل هذا، فإن لم يكن فيه إجماع دخل في المسائل التي يقع فيها الخلاف وبالتَّالي يعذر فيها أهله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يَقُولُ: "لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ" وَقَبُولُهَا مَحْفُوظٌ عَنْ عَلِيٍّ وَأَنَسٍ وشريح وَغَيْرِهِمْ.
وَيَقُولُ آخر: "أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ"، وَتَوْرِيثُهُ مَحْفُوظٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ-رضي الله عنهم)}.
الذي قال: (لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ) هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وهو من كبار أئمة الإسلام المتبوعين، ومع ذلك قال بها علي وشريح وغيرهما -رضي الله عنهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَقُولُ آخر: "أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ"، وَتَوْرِيثُهُ مَحْفُوظٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ-رضي الله عنهما-، وَفِيهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
القول بــ "أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ" مشهور عن أبي عبد الله، الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ-، وهذا من علماء الإسلام الكبار، يقول بقولٍ يظنُّ أنه لم يقل به غيره، لكن ما من شرط العالم أن يستوعب مهما كان علمه عظيمًا، وقد ثبت في توريث العبد المبعَّض -يعني: العبد الذي بعضه حر وبعضه رقيق- عن علي بن أبي طالب وعن عبد الله بن مسعود، وفيه الحديث الحسن عن النبي ﷺ وهو حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: «إِذَا أَصَابَ المُكَاتِبُ حَدًّا أَو مِيرَاثًا، وَرِثَ بِحِسَابِ مَا عُتِقَ مِنهُ» ، والحديث حسَّنه الترمذي وغيره، وأذكر أن الشيخ الألباني -رَحِمَهُ اللهُ- صححه، إذًا هذا خفي على عالم من أعيان العلماء، وهذا الخفاء هو الذي أدَّى إلى الخلاف الواقع الذي ترفع فيه الملامة عن هذا العالم بأن هذا هو ما انتهى إليه قوله، وهذا كثير.
وهذه الأمثلة من شيخ الإسلام تدل على أنه من أهل صنعة الخلاف وصنعة العلماء في معرفة هذه المسائل التي وقع فيها التنازع، لكن ترتفع فيها الملامة والعتب عن هؤلاء العلماء الكبار المخالفين للقول الأصوب في هذه المسألة من غيرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيَقُولُ آخَرُ: "لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ"، وَإِيجَابُهَا مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ)}.
هذه مسألة الصلاة على النبي في الصلاة الإبراهيمية، هل هي ركن أو أنها واجبة أو أنها سنة مؤكدة؟
أقوالٌ ثلاثةٌ، وجماهير العلماء على أنها سُنة مُؤكدة، فقول القائل: "لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّلَاةِ"، هذا وإن كان قال به الجمهور، لكن القول بوجوبها جاء عن هذا العالم الجليل الذي هو إمام عند أهل السنة، وهو أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب -رضي الله عنهم-، ويُلقب بـ "محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-، وأبو جعفر محمد الباقر هو أبو العالم الجليل جعفر بن محمد الصادق، وهؤلاء الستة كما أنهم في هذه المكانة عند آل البيت هم أئمة وعلماء عند أهل السنة، الإمام علي بن أبي طالب وابنه الحسن والحسين، وعلي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي بن الحسين الباقر، وجعفر بن محمد بن علي بن الحسين الصادق، وهذا القول في وجوب الصَّلاة على النبي جعله الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب ركنًا في صحة الصلاة فرضًا ونفلًا، وهو أحد الروايات في مذهب الإمام أحمد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِيجَابُهَا مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمَ قَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ فِي بِلَادِهِ، وَهَذَا كَثيرٌ جدًّ)}.
يضيق نظره إلا عمَّن أدرك من أهل العلم في بلاده، فيظن أن القول الذي قيل في بلاده -في العراق إن كان من أهل العراق، في الشام إن كان من أهل الشام، في مصر إن كان من أهلها، في الحجاز إن كان من أهلها وهكذا- يظن أنه قول جميع العلماء ويكون عدم علمه بالمخالف هو الحادي له بأن هذا القول كالإجماع الظني في عدم علمه بمن خالف هذا القول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولا يعلم أَقْوَالَ جَمَاعَاتٍ غَيْرِهِمْ، كَمَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَعْلَمُ إلَّا قَوْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، وَكَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يَعْلَمُ إلَّا قَوْلَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ)}.
الإجماع الذي يظن أنه لم يُعرف أنَّ أحدًا قال به هو: الإجماع الظَّنِّي، والذي قد يرتقي عنده حتى يكونَ كالإجماع اليقيني الذي يأثم مخالفه، وهذه ميزة الاستيعاب، والاطلاع على أقوال العلماء لم يتميز بها إلا القلَّة، ولهذا ممن عرف بها ابن جرير الطبري في كتابه: (البسيط في أقوال الفقهاء)، وللأسف هذا الكتاب لم يعثر عليه، ولهذا في مذاهب منسوبة إلى أئمة واندثرت، وهذه قد يكون غاية المطلع أنه لم يطَّلع على أقوال أهلها أو مجرد الإشارة إلى الخلاف الواقع فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا، وَمَا زَالَ يَقْرَعُ سَمْعَهُ خِلَافُهُ.
فَهَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَدِيثٍ يُخَالِفُ هَذَا؛ لِخَوْفِهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِلَافًا لِلْإِجْمَاعِ، أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَالْإِجْمَاعُ أَعْظَمُ الْحُجَجِ)}.
إذا ثبت الإجماع فهو أعظم الحجج، وهذا قِسْه في المسائل العقدية كما اشتهر في أواخر القرن الرابع والقرن الخامس والسادس والسابع من القول بالتأويل، حتى ظنه من ظنه أنَّ هذا هو إجماع السَّلف، فلمَّا بُيِّن لهم ووُسِّع وأُعيد الكلام مرة وأخرى وغيرها في بيان مذهب السلف جاءت المقولة الجائرة: مذهب السلف كان أسلم والخلف مذهبهم أعلم وأحكم! فيظنه إجماعًا ويظن أنَّ مَن خالفه مخالف للإجماع، وقد بلي شيخ الإسلام نفسه فإنه لَمَّا امتحن على العقيدة الواسطية وأنه أتى بأمر خالف فيه الإجماع وما عليه أتباع المذاهب، فهذا إجماع متوهَّم، أمهلهم شيخ الإسلام في محضر السلطان الملك الناصر في دمشق، أمهل مخالفيه من العلماء ثلاث سنوات أن يأتوا بحرفٍ واحدٍ في اعتقاد الواسطية الذي قُرئ خالف فيه السلف الصالح -أهل القرون الثلاثة المفضلة- لم يخالف فيه المتأخرين من القرن الرابع والخامس والسادس والسابع، ذهبت الثلاث سنوات وبعدها ثلاثون، ثم ثلاثمائة، والساعة ستقوم ولن يأتوا بحرف واحد خالف به السلف مخالفة صريحة مدَّعاة بالدَّعوة الصَّحيحة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا عُذْرُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتْرُكُونَهُ.
وَبَعْضُهُمْ مَعْذُورٌ فِيهِ حَقِيقَةً؛ وَبَعْضُهُمْ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَعْذُورِ.
وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَسْبَابِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ)}.
معذور في الحقيقة لأن هذا منتهى علمه، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع، وبعضهم معذور فيه لكن في الحقيقة ليس معذورًا لوقوع التفريط أو أنه قلَّد غيره، ابن القيم في (الصَّواعق المرسلة) أطال في قول العالم: "لا أعلم أحدًا أجاز كذا"، وهناك من أجازه، فيكون قوله على مبلغ ما انتهى إليه علمه، وهذا أصل عظيم، أن يقول الإنسان بالشيء ما انتهى إليه علمه كما جاء في حديث حصين بن عبد الرحمن وفيه قول سعيد بن جبير "قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّبَبُ الْعَاشِرُ:
مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ، مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ أَوْ جِنْسُهُ مُعَارِضًا؛ أَوْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارِضًا رَاجِحًا، كَمُعَارَضَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مِنْ الْعُمُومِ وَنَحْوُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى نَصِّ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَدْ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِظَاهِرِ ظَاهِرًا، لِمَا فِي دَلَالَاتِ الْقَوْلِ مِنْ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ)}.
هذا هو السبب العاشر: أن يعارض هذا العالم العلم الحديثَ بما يدلُّ على ضعفه أو نسخه أو أنه محتمل التأويل -أي لأكثر من معنى.
قوله: (مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ أَوْ جِنْسُهُ مُعَارِضً)، يظن أن هذا لا يعارضه الآية والحديث، وبالتَّالي صار هذا مستَمْسَك أهل الكوفة، والشيخ هنا يشير إليهم إشارة صريحة وأهل الكوفة هم الحنفية أتباع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي -رَحِمَهُ اللهُ-، فإن أهل الكوفة لم تُسبر كثير من الأحاديث عندهم ولم تقيد، ففاتهم حديث كثير واكتفوا بعمومات ما في القرآن، ولهذا يقول الشيخ ها هنا: (كَمُعَارَضَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ)، أي: الحنفية. قال: (الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ)، يجعل الحديث الصحيح يُعارض ظاهر القرآن.
قال: (وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مِنْ الْعُمُومِ)، والذي يقدم على ما جاء في نص الحديث، وهذه وجهة عذرية لهذا العالم، لكنها لا تبرر اتِّباعه على هذا الخطأ، بل هذا عذرٌ للعالم فيما أخطأ به، لكنها ليست عذر علم الدليل أن يقلِّد هذا العالم العلم على هذا الخطأ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا رَدُّوا حَدِيثَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ)}.
قضى النبي ﷺ باليمين والشاهد، وهذا حديث ابن عباس في صحيح مسلم، ردوه بأنه لابد في ظاهر القرآن من شاهدين، إذا لم يجتمع الشاهدين لا تقبل الشهادة، وحديث ابن عباس: «أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَضَى بيَمِينٍ وَشَاهِدٍ»، أمَّا يمين بلا شاهد فلا تقبل، وكذلك شاهد بلا يمين لا يُقبل، فتكون اليمين كالمرجِّحة والسَّادَّة مسدَّ الشاهد الثاني أخذًا من هذا الحديث في صحيح مسلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ.
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ، وَلِأَحْمَدَ فِيهَا رِسَالَتُهُ الْمَشْهُورَةُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ الِاسْتِغْنَاءَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَنْ تَفْسِيرِه بسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلقَدْ أَوْرَدَ فِيهَا مِنْ الدَّلَائِلِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ ذِكْرِهِ)}.
هذه مسائل مهمَّة في المعارضة بين القرآن والحديث، سواء لم يبلغ هذا العالم هذا الحديث فيأخذ بعموم القرآن أو بلغه فحمله على أنه مؤوَّل -أي محتمل لوجوه أخرى- وهذه مسألة مهمَّة في دلائل الأحكام يُعذر بها الأئمة الأعلام، قد لا يعذر بها المتبعون لهم، الذين يتبين لهم من مآخذ الأدلة وثبوتها ما لم يتبين لأولئك الأئمة المتبوعة مذاهبهم.
ورسالة الإمام أحمد في الرد على من يستغني بما في القرآن عن الحديث وهي المسماة كما يسميها ابن القيم في الطرق الحكمية وغيره (رسالة طاعة الرسول ﷺ)، ولهذا الإمام أحمد والإمام الشافعي على مَن ردَّ الحديث بأن حديث النبي تخالف ظاهر القرآن، وألَّف الإمام أحمد كتابه الذي أشار إليه ابن القيم سماه (طاعة الرسول ﷺ)، وأنا لا أعلم هذا الكتاب موجودًا إلا روايات باقية منه في رواية المسائل أو في أثناء كتاب السنة.
المقصود: أن هذه المعارضات تورث الخلاف.
ما موقفنا نحن؟ هذا إمام الكوفيين أبو حنيفة عارض الحديث!
نقول: هذا المعارض لم يثبت عنده فأخذ بعموم القرآن، فهذا وجه من وجوه الإعذار له في رفع الملامة عنه في هذه المسألة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ: دَفْعُ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْكِتَابِ، أَوْ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِهِ، أَوْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، وَاعْتِقَادُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ، كَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ نَسْخٌ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ نَسْخٌ.
وَكَمُعَارَضَةِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَدَنِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ، وَأَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخَبَرِ.
كَمُخَالَفَةِ أَحَادِيثَ "خِيَارِ الْمَجْلِسِ" بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ قَدْ يُثْبِتُونَ أَنَّ الْمَدَنِيِّينَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَجْمَعُوا وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ لَكَانَتْ الْحُجَّةُ فِي الْخَبَرِ)}.
هذا مثال آخر للمخالفة، المدنيون هم أصحاب الإمام مالك -رحمهم الله-، وكان مذهب الإمام مالك ومذهب الإمام أبي حنيفة هما أوائل المذاهب المشتهرة، فيُقال: (مذهب الكوفيين) للحنفية، و (مذهب المدنيين) للإمام مالك وطبقته، إلى أن استقر مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة، ولأنه شارك أبا حنيفة في هذا شيخه محمد بن سليمان، ويشاركه أيضًا أتباعه لا سيما العالمان الكبيران أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني -رحمهم الله.
المقصود: أن هذا من أسباب هذه المعارضة وأسباب هذه المخالفة التي يرتفع فيها الملامة عن هؤلاء العلماء الكبار، ومثله ما ذكره الشيخ في اعتقاد أن المطلق إذا حُمِل عليه المقيد كان هذا فيه نوع تخصيص، وأن تخصيص العام يعتبر نسخ لحكم العام وإبقاء لحكم المخصوص به، وهي مسائل يبحثها الأصوليون في أصول الفقه وأصول الحديث، والمقصود منها: هو رفع الملامة عن هؤلاء العلماء.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر في أصله في الواسطية لما قال: "فصل والسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه"، أي تُبيِّن ما فيه من إجمال، الله أمرنا بإقامة الصلاة، أما صفتها فجاء في القرآن بعضها وجاء في السنة بتفصيلها كلها، قال تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، وقال: ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُو﴾ [الحج: 77]، فبيَّن الركوع والسجود، كيف هيئة الركوع وهيئة السجود؟ وكم عدده؟ ومتى يكون؟ جاءت السنة ببيانها بيانًا تفصيليًّا، لما كان ها هناك في آي القرآن مجملًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَمُعَارَضَةِ قَوْمٍ مِنْ الْبَلَدَيْنِ)}.
لو قال: (وَكَمُعَارَضَةِ قَوْمٍ مِنْ الكوفيين) لكان أسلم.
والمقصود بـ (البلدين) يقصد بها علماء الكوفة وعلماء المدينة؛ لأنَّ مذهب الإمام مالك جاء بعد مذاهب فقهاء المدينة السبعة، إذًا هي مدرسة لكن برز فيها مالك لمن نقلوا هذا القول، وإن اندثر النقل عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسعيد المسيب وأمثاله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَمُعَارَضَةِ قَوْمٍ مِنْ الْبَلَدَيْنِ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ لَا تُنْقَضُ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُعَارِضُ مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئً)}.
المقصود بالمعارضات: أن يعارض هذا الدليل بدليل آخر، أو يعارض هذا الدليل بمدلول آخر، أثبت الدليل، لكن قال: هذا الدليل يعارضه ظاهر القرآن، أو حديث آخر في عموم في خصوص، أو فيه تأويل، أي محتمل عدة أوجه لابد من تعيين أحدها، قد تكون المعارضة هذه صائبة وقد تكون المعارضة مخطئة، لكن المقصود منها أن يرفع الملامة عن هذا العالم الكبير بما ظنه مَن بعده مخالفًا للدليل، هذا ما انتهى إليه علمه، وهذا ما أدى في هذه المسألة المعيَّنة فيها اجتهاده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الْعَشَرَةُ ظَاهِرَةٌ)}.
هذه الأسباب العشرة في خلاف العلماء الكبار، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام، والأئمة من اتُّبعوا، وصارت لهم مدارس ومذاهب متبوعة، لا مجرد أي عالم، العالم الذي يأتي بعدهم ملحق بهذه المذاهب المتبوعة وبهذه المدارس.
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام: أن المؤمن من حيث العموم يتأكد عليه ويجب عليه أن يحسن الظن بالعلماء، وما من شرط العالم أن يحيط بكل شيء، أنت يا طالب العلم على جهة الخصوص، لا يحملك مخالفة عالم لأكثر من حديث على ذبِّه وعلى اطراحه، أو على ذمِّه وانتقاصه، لا؛ كن متأدِّبًا وعارفًا قدر نفسك وعارفًا قدر هذا العالم الذي رشقته بسهام الاتِّهام والرِّيبة، شيخ الإسلام بهذا يعلِّمنا أن هذه الملامة التي قد تكون في أذهان العوام وأمثال العوام وأشباه العوام أنها مطرحة، لأن هذه الأسباب العشرة دائرة عليها خلاف العلماء الكبار بعضهم لبعض، وخلاف أتباعهم لأتباع هؤلاء.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدمتم، نستأذنكم في الإكمال في الحلقة القادمة بإذن الله}.
الله يعلمنا وإياكم إخواننا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويزكِّي قلوبنا وألسنتنا تجاه هؤلاء العلماء وتجاه دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- لئلا نغتر ونصاب بالعجب ولئلَّا نسيء بهم الظَّن فنصاب بالوزر، وإنما يكون في هذا العلم متواضعين عارفين قدرنا وعارفين لمن قبلنا من أهل العلم قدرهم ومكانتهم ومنزلتهم، نسأل الله التوفيق للجميع والحمد لله وصلَّى الله وسلَّم على رسوله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة ونلقاكم بإذن الله تعالى في حلقة قادمة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
9163 9
-
20931 9