الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. علي بن عبدالعزيز الشبل

إحصائية السلسلة

17981 9
الدرس الثامن

رفع الملام عن الأئمة الأعلام

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه (جمعية هداة) الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، نحن وإياكم في دراسة كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يشرحه فضيلة الأستاذ/ الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل، باسمي وباسمكم جميعا أرحب بفضيلة الشيخ، مرحبا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يبارك فيكم ويحييكم، ويحيي إخواننا وأخواتنا المسلمين والمسلمات أينما بلغ إليه هذا الأثير، تُرى أنا ما أشرح هذا الكتاب، بل أنا أعلق عليه بما يفتح الله به عليَّ بحسب المقام، وإلا فشرحه يحتاج إلى مقام آخر؛ لأنَّ شيخ الإسلام يذكر فيه معان عظيمة، وأصولا شريفة، وقواعد مهمة، أن يرعاها وينتبه لها أهل العلم. والشرح منه بأهل الله، ولست أهلا لهذا الشرح، ولكننا نعلق عليه بما يفتح الله علينا في هذه العجالة.
{قال المؤلف -رحمه الله: (السَّابِعُ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعُمُومِ قَائِمٌ؛ وَالْمُعَارِضَ الْمَذْكُورَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُقَالَ: حَمْلُهُ عَلَى صُوَرِ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ بَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ فِيهِ.
فَيُقَالُ: إذَا كَانَ التَّخْصِيصُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَتَكْثِيرُهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا لْعُمُومِ مَنْ كَانَ مَعْذُورًا بِجَهْلِ أَوْ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ شَامِلٌ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِينَ، كَمَا هُوَ شَامِلٌ لِصُوَرِ الْوِفَاقِ، فَإِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ أَقَلُّ؛ فَيَكُونُ أَوْلَى)
}.
يبقى العموم على عمومه مثل: ما جاء فيه النهي واللعن والوعيد، وقد يخرج من هذا العموم من كان معذورًا في نفسه بعدم علمه، أو معذورا في وصف عارض له، كأن يظن هذا في غير هذا. هذا الوجه السابع.
{قال المؤلف -رحمه الله: (الثَّامِنُ: أَنَّا إذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى هَذَا كَانَ قَدْ تَضَمَّنَ ذِكْرَ سَبَبِ اللَّعْنِ، وَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى قَدْ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ لِمَانِعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ وُعِدَ أو أُوعِدَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ تَخَلُّفِ الْوَعْدِ أَوْ الْوَعِيدِ فِي حَقِّهِ لِمُعَارِضِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى مِنْهَاجِ الصَّوَابِ.
أَمَّا إذَا جَعَلْنَا اللَّعْنَ عَلَى فِعْلِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ جعلنا سَبَبِ اللَّعْنِ هُوَ اعْتِقَادُ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ: كَانَ سَبَبُ اللَّعْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّخْصِيصِ أَيْضًا.
فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّخْصِيصِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَالْتِزَامُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى؛ لِمُوَافَقَةِ وَجْهِ الْكَلَامِ وَخُلُوِّهِ عَنْ الْإِضْمَارِ)
}.
إذًا سبب اللعن قد يُذكر وقد لا يُذكر، وغالب ما جاء في الأدلة لابد أن يُذكر فيه سبب اللعن، إمَّا صريحًا وإمَّا ظاهرًا وإمَّا تلميحًا، وهذا كافٍ في الحقيقة؛ لأنَّ الوقوع في السبب مستوجب للوقوع في مُسببه.
{قال -رحمه الله: (التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَا إنَّمَا هُوَ نَفْيُ تَنَاوُلِ اللَّعْنَةِ لِلْمَعْذُورِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا مَضَى، أَنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ سَبَبٌ لِتِلْكَ اللَّعْنَة. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هَذَا الْفِعْلُ سَبَبُ اللَّعْنِ.
فَلَوْ قِيلَ: هَذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَحَقُّقُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ؛ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ قِيَامُ السَّبَبِ، وقيام السبب إذَا لَمْ يَتْبَعْهُ الْحُكْمُ، لَا مَحْذُورَ فِيهِ.
وَقَدْ قَرَّرْنَا فِيمَا مَضَى، أَنَّ الذَّمَّ لَا يَلْحَقُ الْمُجْتَهِدَ، حَتَّى إنَّا نَقُولُ: إنَّ مُحَلِّلَ الْحَرَامِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ فَاعِلِهِ، وَمَعَ هَذَا فَالْمَعْذُورُ مَعْذُورٌ)
}.
مَنْ حلل الحرام كان أعظم إثمًا من فاعل الحرام، وهذه قاعدة مُهمة، قد يحلله الإنسان للناس ليبرر فعله هو، ويقع في جرمه بفعله الحرام، وفي تحليله للناس وحثهم على فعله بأنه ليس بحرام، وبهذا عظم شأن العالم الظاهر، الذي يعرف أنه ضال، لكن يُضل العباد إمَّا لأجل أن يحصل منصبًا أو يخشى أن يفوته من مراتب الدنيا، وهذه المسألة فيما ذكرها الشيخ أنَّ المعذور فيها هو من وقع وهو لا يعلم، إنَّمَا وقع في الحرام وهو لا يعلم أنه حرام أو قام به من الوصف المعارض للوصف لحكم هذا الحرام.
{قال -رحمه الله: (فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ الْمُعَاقَبُ؟ فَإِنَّ فَاعِلَ هَذَا الْحَرَامِ إمَّا مُجْتَهِدٌ أَوْ مُقَلِّدٌ لَهُ وَكِلَاهُمَا خَارِجٌ عَنْ الْعُقُوبَةِ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُقْتَضٍ لِلْعُقُوبَةِ، سَوَاءٌ وُجِدَ مَنْ يَفْعَلُهُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ.
فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ لَا فَاعِلٌ إلَّا وَقَدْ انْتَفَى فِيهِ شَرْطُ الْعُقُوبَةِ؛ أَوْ قَدْ قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُهَا، لَمْ يَقْدَحْ هَذَا فِي كَوْنِهِ مُحَرَّمًا، بَلْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ؛ لِيَجْتَنِبَهُ مَنْ يَتَبَيَّنُ لَهُ التَّحْرِيمُ.
وَيَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ فَعَلَهُ قِيَامُ عُذْرٍ لَهُ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّغَائِرَ مُحَرَّمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حَرَامٌ -وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعْذَرُ مَنْ يَفْعَلُهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا- فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَعْتَقِدَ تَحْرِيمَهَ)
}.
حرم الشارع الخمر، وإن لم يشربها أحد تبقى على تحريمها، كما حرَّم الشارع الربا وإن لم يفعل الربا أحد، يقع المسألة على تحريمه.
إذًا لا يلزم في نفس الأمر أن نعلم المعاقب من هو، وغير المعاقب من هو؟ هذا الوجه الأول.
{قال -رحمه الله: (الثَّانِي: أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ سَبَبٌ لِزَوَالِ الشُّبْهَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ لُحُوقِ الْعِقَابِ؛ فَإِنَّ الْعُذْرَ الْحَاصِلَ بِالِاعْتِقَادِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَقَاءَهُ، بَلْ الْمَطْلُوبُ زَوَالُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْلَا هَذَا لَمَا وَجَبَ بَيَانُ الْعِلْمِ، وَلَكَانَ تَرْكُ النَّاسِ عَلَى جَهْلِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ، وَلَكَانَ تَرْكُ أَدِلَّة الْمَسَائِلِ الْمُشْتَبِهَةِ خَيْرًا مِنْ بَيَانِهَ)}.
ولهذا جاءت الشريعة بفضل العلم ونشره، وبيان ما يلتبس على الناس، وإيضاحه بالمثال، وبالوعد وبالوعيد، وبالحث وبالترغيب. هذا مقصود في الشريعة.
{قال المؤلف رحمه الله: (الثَّالِثُ: أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ وَالْوَعِيدِ سَبَبٌ لِثَبَاتِ الْمُجْتَنِبِ عَلَى اجْتِنَابِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْتَشَرَ الْعَمَلُ بِهَ)}
بيان حكم الخمر؛ لأنَّها حرام ووعيد فاعلها بأنه واقع في الكبيرة، هذا الوعيد وهذا الحكم سبب لأن يثبت هذا المتجنب لشرب الخمر على اجتنابه، وإلا لو لم يكن ذلك العمل لانتشر العمل بها، وصار الوعيد وعيدًا صوريًا ذهنيًا فقط، أو صار الحكم حكمًا ذهنيًا فقط، لا نصيب له في الواقع، وهذا ألحظه في آخر الزمان، إذا جاء عندهم الجهل المستحكم أنَّ هذا الخمر التي حرمها الله، الله قال: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ لكن هذا ليست بخمر، بل هي: عرق، ويسكي، في اصطلاحات الناس لها، أو هذه شمبانيا، أو مشروب روحي، فيزول اسم الخمر الذي نصَّ عليه الشارع، ويستبدل بمصطلح واسم آخر؛ فيروج هذا المنكر، وهذا الذي عناه النبي ﷺ بقوله: «لا تقوم الساعة حتى تشرب الخمر»[1] «وتسمى بغير اسمه»[2]، ولا تقوم الساعة حتى يُؤكل الربا، ويسمى بغير اسمه، ونظائره كثيرة.
فيأتي في آخر الزمان مِنْ لَعبِ الناس بالشريعة أن يبيحوا التصاوير ويسموها: فنًا وتشكيلاً، وهو الذي نهى عنه نبينا ﷺ، متى؟ لَمَّا سُمي الشيء بغير اسمه، أن تسمى الاستقامة على دين الله والثبات عليه تطرفًا وإرهابًا وتشددًا وغلوًا، هذا من تسمية الأشياء بغير اسمها، حتى يروج الباطل.
ولهذا يقول الشيخ: (وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْتَشَرَ الْعَمَلُ بِهَ) أي: لولا هذا الوعيد الذي كان سببًا لتجنب هذا المجتنب لها (لَانْتَشَرَ الْعَمَلُ بِهَ).
{قال -رحمه الله: (الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ لَا يَكُونُ عُذْرًا إلَّا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إزَالَتِهِ، وَإِلَّا فَمَتَى أَمْكَنَ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، فَقَصَّرَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورً)}
هذا أصل عام، وكل من أمكنه أن يعرف الحق ويعلمه، وَقَصَّرَ في طلبه وأهمل؛ لم يكن معذورًا، لَمَّا لقي النبي ﷺ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ الثقفي، فدعاه ليلة العقبة فلم يستجب له، قال: إن كنت صادقًا فأنت أجل في عيني من أن أجيبك، وإن كنت كاذبًا فلا تستحق أن أرد عليك، ثم وَلَّى مُعرضًا.
ما الذي حصل من عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ الثقفي؟
حصل منه الإعراض والتقصير في طلب الحق والبحث عنه، هل عذر بجهله لم يعذر؟
لا، لم يعذر؛ لأنَّه قصر في طلب الحق، فصار كفره من أعظم أنواع الكفر، وهو كفر الإعراض، الذي قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾ [السجدة:22].
والشيخ المجدد -رحمه الله- لَمَّا جعل الناقض التاسع من النواقض الكثيرة وأهمها عشرة في الإسلام، قال: الإعراض عن دين الإسلام بالكلية، لا يتعلم ولا يعمل به، وهذا ليس معذورًا؛ لأنَّه قَصَّرَ في طلب العلم، وهذا الذي يُؤكد عليه الشيخ، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فَقَصَّرَ فيها لم يكن مَعذورًا. واطرد هذا في مسائل العذر بالجهل، هل مثله يعلم أو يمكن أن يعلم؟ هل مثله قصر وفَرَّطَ أو لم يُقَصِّر؟
وعلى هذا تدل المؤاخذة، ولهذا كانت هذه المسائل من خصوصيات العلماء والقضاة، لا يصلح أن يحكم على جرائها وبها وبآثارها عوام الطلبة؛ فإن وقع ذلك وقعوا في التكفير والتبديع والتفسيق بغير علم ظُلمًا وعدوانًا. نسأل الله العفو والعافية.
{قال -رحمه الله: (الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ يَفْعَلُهُ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ اجْتِهَادًا يُبِيحُهُ؛ وَلَا مُقَلِّدًا تَقْلِيدًا يُبِيحُهُ، فَهَذَا الضَّرْبُ قَدْ قَامَ فِيهِ سَبَبُ الْوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَانِعِ الْخَاصِّ، فَيَتَعَرَّضُ لِلْوَعِيدِ وَيَلْحَقُهُ؛ إلَّا أَنْ يَقُومَ فِيهِ مَانِعٌ آخَرُ: مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ هَذَا مُضْطَرِبٌ؛ قَدْ يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَوْ تَقْلِيدَهُ مُبِيحٌ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَيَكُونُ مُصِيبًا فِي ذَلِكَ تَارَةً، وَمُخْطِئًا أُخْرَى، لَكِنْ مَتَى تَحَرَّى الْحَقَّ، وَلَمْ يَصُدَّهُ عَنْهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى، فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَ)
}.
نعم، قد يفعل الإنسان فعله غير مجتهد اجتهادًا يسوغ له بذلك، أو يكون غير مقلد تقليدًا يُبيحه. فيقوم به سَبَبُ الوعيد إلا أن يكون له سببًا آخر، اجتهد وهو يظن أنه مجتهد، فهو بينه وبين الناس لا يُعذر، وبينه وبين الله معذور.
{قال -رحمه الله: (الْعَاشِرُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ إبْقَاءُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا مُسْتَلْزِمًا لِدُخُولِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ تَحْتَ الْوَعِيدِ؛ فكذلك إخراجها عن مُقْتَضَيَاتِهَا، مستلزم لدخول بعض المجتهدين تحت الوعيد. وَإِذَا كَانَ لَازِمًا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، بَقِيَ الْحَدِيثُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ)}.
هذا من المواقع الشريفة لشيخ الإسلام، أن يُنَظِّرَ ثم يُبَيِّنَ هذا التنظير، قد يعسر فهم هذا التنظير عند الطلاب، وعند بعض أهل العلم، فإذا بَيَّنَه بالمثال اتضح بالمثال ما أُجْمِلَ في التنظير.
قال -رحمه الله: (بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرَّحُوا بِأَنَّ فَاعِلَ الصُّورَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مَلْعُونٌ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَزَوَّجَهَا لِيَحِلَّهَا، وَلَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَلَا زَوْجُهَا؟ فَقَالَ: هَذَا سِفَاحٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحِ «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»، وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ؛ وَعَنْ غَيْرِهِ؛ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: "إذَا أَرَادَ الْإِحْلَالَ فَهُوَ مُحَلِّلٌ، وَهُوَ مَلْعُونٌ"، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ فِي الْخَمْرِ وَالرِّبَا وَغَيْرِهِمَا.
فَإِنْ كَانَتْ اللَّعْنَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَ، لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَحَلَّ الْوِفَاقِ، فَيَكُونُ هَؤُلَاءِ قَدْ لَعَنُوا مَنْ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ؛ فَيَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ، مِثْلَ قَوْلِهِ ﷺ: «لَعْنُ الْمُسْلِمِ كَقَتْلِه»[3])
}.
عن ثابت بن الضحاك في الصحيحين، قال: قال النبي ﷺ: «لَعْنُ الْمُسْلِمِ كَقَتْلِه».
هنا قال ابن عمر -رضي الله عنهما- فيمن نكح امرأة لِيُحَلِّلَهَا لِزوجها وهي لا تدري: إنَّ هذا ليس بنكاحٍ، بل هو سفاح «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ».
هل بمقتضاه أنَّ ابن عمر يلعن المرأة؟
لا، لا يلعن المرأة، بل يلعن المحلل له، ممن قصد هذا الفعل، فيبقى اللعن على بابه.
لكن هل يتناول لجميع أفراده؟
هذا بحسب المقام، وبحسب الحال، وبحسب ما يأتيه من العوارض، من: العلم وعدم العلم، من الجهل وعدم الجهل، وهذا كما يكون في نكاح التحليل المحرم، كذلك في نكاح شرب الخمر، في النبيذ كما عند من يجيزها، يدخل في هذا العموم؛ لأنَّه هنا ما أراد أنَّ هذا النبيذ خمرًا وهكذا.
{قال -رحمه الله: (وَقَوْلِهِ ﷺ، فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ؛ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ الطَّعَّانِينَ وَاللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ»)
}.
هذا في صحيح مسلم، واللعان: أي من جرى اللعن على ألسنتهم، وقوله: «لَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ» هذا وعيد لهم، وهذا فيه التنبيه والتحذير على أن يجري اللعن على لسانه -الله يلعنكم، الله يلعن فلان- فهذا من الشيطان.
أمَّا لعن من لعنهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- جنسًا كاليهود والنصارى والمشركين أو وصفًا كشارب الخمر وبائعه، وآكل الربا وموكله -كما في الأحاديث- أو عينًا كمن لعنهم الله ورسوله بأعيانهم؛ فهذا خارج عن هذا الوعيد بكليته.
{قال المؤلف -رحمه الله: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِصَدِيقِ أَنْ يَكُونَ لَعَّانً» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلْعَنُ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلِ، إلَّا حَارَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ»)
}
في حديث أبي ذر رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلْعَنُ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلِ، إلَّا حَارَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ»[4]، هذا يشمل حتى غير المكلفين، فمن لعن جمادًا أو حيوانًا، فإنه بلعنه له يُخشى عليه أن يعود عليه اللعن؛ لأنَّ اللعن ما هو؟ دعاء بأن يُطرد من -رحمة الله- وهذا ليس لك، وإنما لعنك للبهيمة أو للسيارة تضمن أنه تَشَفَّىَ في نفسه، واعترض اعتراضًا ضمنيًا على ما جرى منها أو بسببها أو فيها من قضاء الله وقدره، وتكلم بكلام لا ينفعه ولا يضر هذا الشيء الذي لُعن؛ فدخل في هذا الوعيد.
المقصود من هذه الأدلة، أنَّ عموم النهي عن اللعن لا يَرِدْ على عبد الله بن عمر لَمَّا لعن المحلل له في أنَّ تكون المرأة التي حلل لها وهي لا تعلم أنها داخلة في عموم اللعن، إنَّمَا المحلل له ممن يستحق هذا الوعيد، وتقصده وتسبب به.
{قال -رحمه الله: (فَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي قَدْ جَاءَ فِي اللَّعْنِ حَتَّى قِيلَ: إنَّ مَنْ لَعَنَ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ، كَانَ هُوَ الْمَلْعُونَ وَإِنَّ هَذَا اللَّعْنَ فُسُوقٌ؛ وَأَنَّهُ مُخْرِجٌ عَنْ الصديقية وَالشَّفَاعَةِ وَالشَّهَادَةِ، يَتَنَاوَلُ مَنْ لَعَنَ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاعِلُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ دَاخِلًا فِي النَّصِّ؛ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا. فَيَكُونُ لَاعِنُهُ مُسْتَوْجِبًا لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَيَكُونُ أُولَئِكَ الْمُجْتَهِدُونَ الَّذِينَ رَأَوْا دُخُولَ مَحَلِّ الْخِلَافِ فِي الْحَدِيثِ، مُسْتَوْجِبِينَ لِهَذَا الْوَعِيدِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَحْذُورُ ثَابِتًا -عَلَى تَقْدِيرِ إخْرَاجِ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَتَقْدِيرِ بَقَائِهِ- عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْذُورِ، وَأنه لَا مَانِعَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَحْذُورُ لَيْسَ ثَابِتًا -عَلَى وَاحِدٍ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ- فَلَا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ أَلْبَتَّةَ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ التَّلَازُمُ؛ وَعُلِمَ أَنَّ دُخُولَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُجُودِ مُسْتَلْزِمٌ لِدُخُولِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَدَمِ، فَالثَّابِتُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا وُجُودُ الْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ، وَهُوَ دُخُولُهُمْ جَمِيعًا، أَوْ عَدَمُ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ، وَهُوَ عَدَمُ دُخُولِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْمَلْزُومُ وُجِدَ اللَّازِمُ؛ وَإِذَا عُدِمَ اللَّازِمُ عُدِمَ الْمَلْزُومُ)
}.
نعم لكن ليس معنى هذا أنه يرد ذلك على ابن عمر، المرأة التي حلت زوجها بنكاح التحليل وهي لا تعلم أنه يدخلها أو يصلها هذا اللعن وهذا الوعيد. فهي لا تعلم فلا يفسدها بذلك، هذا هو اللازم وهذا الملزوم. إنَّمَا يلزم ذلك من علم هذا الوعيد ووقع فيه.
{قال -رحمه الله: (وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي إبْطَالِ السُّؤَالِ؛ لَكِنَّ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ: أَنَّ الْوَاقِعَ عَدَمُ دُخُولِهِمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ. وَذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ تَحْتَ الْوَعِيدِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْعُذْرِ فِي الْفِعْلِ، وَأَمَّا الْمَعْذُورُ عُذْرًا شَرْعِيًّا، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْوَعِيدُ بِحَالِ.
وَالْمُجْتَهِدُ مَعْذُورٌ بَلْ مَأْجُورٌ فَيَنْتَفِي شَرْطُ الدُّخُولِ فِي حَقِّهِ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا سَوَاءٌ اعْتَقَدَ بَقَاءَ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَوْ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا يُعْذَرُ فِيهِ، وَهَذَا إلْزَامٌ مُفْحِمٌ
لَا مَحِيدَ عَنْهُ إلَّا إلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ.
وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ: أَنَا أُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ مَنْ يَعْتَقِدُ دُخُولَ مَوْرِدِ الْخِلَافِ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ، وَيُوعَدُ عَلَى مَوْرِدِ الْخِلَافِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ فَيَلْعَنُ -مَثَلًا- مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، لَكِنْ هُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ خَطَأً يُعْذَرُ فِيهِ وَيُؤْجَرُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ مَنْ لَعَنَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ هُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى لَعْنٍ مُحَرَّمٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَمَنْ لَعَنَ لَعْنًا مُحَرَّمًا بِالِاتِّفَاقِ تَعَرَّضَ لِلْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ عَلَى اللَّعْنِ.
وَإِذَا كَانَ اللَّعْنُ مِنْ مَوَارِدِ الِاخْتِلَافِ لَمْ يَدْخُلْ فِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُخْتَلَفَ فِي حِلِّهِ وَلَعْنِ فَاعِلِهِ، لَا يَدْخُلُ فِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ.
فَكَمَا أَخْرَجْت مَحَلَّ الْخِلَافِ مِنْ الْوَعِيدِ الْأَوَّلِ أُخْرِج مَحَلَّ الْخِلَافِ مِنْ الْوَعِيدِ الثَّانِي. وَأَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ فِي كِلَا الطَّرَفَيْنِ، لَمْ تَشْمَلْ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَا فِي جَوَازِ الْفِعْلِ، وَلَا فِي جَوَازِ لَعْنَةِ فَاعِلِهِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ جَوَازَ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمَ جَوَازِهِ.
فَإِنِّي -عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ- لَا أُجَوِّزُ لَعْنَةَ فَاعِلِهِ، وَلَا أُجَوِّزُ لَعْنَةَ مَنْ لَعَنَ فَاعِلَهُ، وَلَا أَعْتَقِدُ الْفَاعِلَ وَلَا اللَّاعِنَ
دَخلا فِي حَدِيثِ وَعِيدٍ، وَلَا أُغَلِّظُ عَلَى اللَّاعِنِ إغْلَاظَ مَنْ يَرَاهُ مُتَعَرِّضًا لِلْوَعِيدِ، بَلْ لَعْنُهُ لِمَنْ فَعَلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ عِنْدِي مِنْ جُمْلَةِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَأَنَا أَعْتَقِدُ خَطَأَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَدْ أَعْتَقِدُ خَطَأَ الْمُبِيحِ، فَإِنَّ الْمَقَالَاتِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ.
وَالثَّانِي: الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ وَلُحُوقِ الْوَعِيدِ.
وَالثَّالِثُ: الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ الْخَالِي مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ.
وَأَنَا قَدْ أَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ: لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ لَعْنَةِ فَاعِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مَعَ اعْتِقَادِي أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي وَعيدِ الْفَاعِلِ وَوَعيدِ اللَّاعِنِ لَمْ يَشْمَلْ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ)
}.
هذا الإشكال من هذا السائل ناقشه الشيخ ها هنا، فيما يوجب نقاشه والاعتراض عليه.
{(فَيُقَالُ لِلسَّائِلِ: إنْ جَوَّزْت أَنْ تَكُونَ لَعْنَةُ هَذَا الْفَاعِلِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهَا بِالظَّاهِرِ الْمَنْصُوصِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا أَمَانَ مِنْ إرَادَةِ مَحَلِّ الْخِلَافِ مِنْ حَدِيثِ الْوَعِيدِ، وَالْمُقْتَضِي لِإِرَادَتِهِ قَائِمٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.
فإِنْ لَمْ تُجَوِّزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، كَانَ لَعْنُهُ مُحَرَّمًا تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَعَنَ مُجْتَهِدًا لَعْنًا مُحَرَّمًا تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا، كَانَ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ الْوَارِدِ لِلَّاعِنِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا، كَمَنْ لَعَنَ بَعْضَ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
فَثَبَتَ أَنَّ الدَّوْرَ لَازِمٌ، سَوَاءٌ قَطَعْت بِتَحْرِيمِ لَعْنَةِ فَاعِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، أَوْ سَوَّغْت الِاخْتِلَافَ فِيهِ، وَذَلِكَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي ذَكَرْته، لَا يَدْفَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِنُصُوصِ الْوَعِيدِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَهَذَا بَيِّنٌ)
}.
يعني: أن يُصان جانب هؤلاء العلماء. فلا يخاض فيهم باللعن؛ لأنَّ فِعلهم في مخالفة ما تَظنه محل الخلاف إمَّا باجتهاد مسوغ أو بخطأ، فلعنهم والحالة هذه ليس هذا المقام بل هذا من الجرأة عليهم ويدخلك تحت طائلة العقوبة.
{(وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: لَيْسَ مَقْصُودُنَا بِهَذَا الْوَجْهِ تَحْقِيقَ تَنَاوُلِ الْوَعِيدِ لِمَحَلِّ الْخِلَافِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ الْوَعِيدِ عَلَى مَحَلِّ الْخِلَافِ. وَالْحَدِيثُ أَفَادَ حُكْمَيْنِ: التَّحْرِيمَ، وَالْوَعِيدَ، وَمَا ذَكَرْته إنَّمَا يَتَعَرَّضُ لِنَفْيِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْوَعِيدِ فَقَطْ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: إنَّمَا هُوَ بَيَانُ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَإِذَا الْتَزَمْت أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَعِّدَةَ لِلَاعِنِ لَا تَتَنَاوَلُ لَعْنًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، لَمْ يَبْقَ فِي اللَّعْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ اللَّعْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا كَانَ جَائِزًا.
أَوْ يُقَالُ: فَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ، لَمْ يَجُزْ اعْتِقَادُ تَحْرِيمِهِ، وَالْمُقْتَضِي لِجَوَازِهِ قَائِمٌ، وَهِيَ الْأَحَادِيثُ اللَّاعِنَةُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ لَعْنِهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِ لَعْنِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ لَعْنِهِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَهَذَا يُبْطِلُ السُّؤَالَ.
فَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ عَلَى السَّائِلِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا جَاءَ
هَذَا الدَّوْرُ الْآخَرُ، لِأَنَّ عَامَّةَ النُّصُوصِ الْمُحَرِّمَةِ لِلَّعْنِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْوَعِيدِ.
فَإِنْ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِدْلَالُ بِنُصُوصِ الْوَعِيدِ عَلَى مَحَلِّ الْخِلَافِ، لَمْ يَجُزْ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى لَعْنٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ)
}.
واللعن ليس معناه الجرأة على أهل العلم بلعنهم عند أدنى مخالفة، بغير النظر في مسوغات الوقوع فيما يوجب اللعن عند من لعنه، فهذا باب خطير، يستلزم ألا يصفو له أحد، ولا يبقى له أحد، وأن يبقى الناس يلاعن بعضهم بعضًا، بل هذا يضاف إلى ما سبق أنَّ قرره في معرفة حال العلماء في أنفسهم وحسناتهم، ثم في معرفة مُوجب هذا الوعيد، وهل قصده أو لم يقصده، ووقع فيه بموجب أحد حالات الوقوع إمَّا متأولًا أو أنه وقع فيه مخطئًا غير قاصدٍ أو وقع فيه من غلبة هواه وهو يعلم أنه آثم، فهذه أحوال، وطالب العلم يجب أن يصون نفسه عن الحكم على الناس، إلا بمقتضى الدليل إذا توافرت أسبابه، وقامت دلائله، وإلا ما يسألك الله -عَزَّ وَجَلَّ- يوم القيامة عن فلان وعلان، وإنما سائلك عن أحكامه التي كلفك بها، والتي أنزلها عليك، إمَّا في باب الوعيد -على الذنوب- أو في باب الحكم بالتكفير على أهله.
{قال -رحمه الله: (وَلَوْ قَالَ: أَنَا أَسْتَدِلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ اللَّعْنَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
قِيلَ لَهُ: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِ لَعْنَةِ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ.
أَمَّا لَعْنُ الْمَوْصُوفِ فَقَدْ عَرَفْت الْخِلَافَ فِيهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لَعْنَ الْمَوْصُوفِ لَا تَسْتَلْزِمُ إصَابَةَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ، وَارْتَفَعَتْ الْمَوَانِعُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ)
}.
واجتماع الشروط وانتفاء الموانع يختلف من التكفير إلى التبديع إلى التفسيق، لكل مقام من مقاماتها أحوال، ولهذا ذكر العلماء الشروط الجامعة الأربعة والموانع الجامعة الأربعة، وهذه قد تتطرق لهذه الأحوال تكفيرًا أو تبديعًا أو تفسيقًا، العلم وضده الجهل، الاختيار وضده الإكراه، القصد وضده الخطأ ومنه التأويل، التكليف وضده عدمه.
{قال -رحمه الله: (وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ حَمْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَحَلِّ الْوِفَاقِ تَرِدُ هُنَا.
وَهِيَ تُبْطِلُ هَذَا السُّؤَالَ هُنَا، كَمَا أَبْطَلَتْ أَصْلَ السُّؤَالِ.
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ جَعْلِ الدَّلِيلِ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلٍ آخَرَ، حَتَّى يُقَالَ: هَذَا مَعَ التَّطْوِيلِ إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ وَاحِدٌ.
إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي ظَنُّوهُ، هُوَ لَازِمٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَلَا يَكُونُ مَحْذُورًا، فَيَكُونُ دَلِيلٌ وَاحِدٌ قَدْ دَلَّ عَلَى إرَادَةِ مَحَلِّ الْخِلَافِ مِنْ النُّصُوصِ؛ وَعَلَى أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ.
وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرِ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عَلَى مَطْلُوبِ مُقَدِّمَةٍ فِي دَلِيلِ مَطْلُوبٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبَانِ مُتَلَازِمَيْنِ.)
}.
هذا أمر سهل؛ لأنَّ الأدلة تأتي على أشياء يُرَكَّبُ الدين كله في مجموعها، فربما يأتي الدليل على مطلوب يكون مقدمة في دليل على مطلوب آخر، في فعل أو في ترك، فهذا له مقام، وهذا له مقام، والمؤمن على كل حال يدور مع الأدلة، فما جاء في الأدلة تحريمه حَرَّمَه، وهو يعلم ذلك من أهل العلم به، وما جاء في الأدلة إباحته أباحه، وما جاء في الأدلة كراهته كرهة، وما جاء في الأدلة استحبابه استحبه.
ولهذا اختلفوا في المباح، هل هو مشروع في نفسه أو أنه مستوي الطرفين؟
قولان، والحقيقة لا أثر لهذا الخلاف عند التأمل، وإنما يكون مما ليس تحته كبير طائل.
{قال -رحمه الله: (الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ فِيمَا اقْتَضَتْهُ مِنْ التَّحْرِيمِ)}.
ماذا يقتضي الوعيد؟
الوعيد يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم.
{(أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ فِيمَا اقْتَضَتْهُ مِنْ التَّحْرِيمِ.
وَإِنَّمَا خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِآحَادِهَا فِي الْوَعِيدِ خَاصَّةً.
فَأَمَّا فِي التَّحْرِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ مُعْتَدٌّ مُحْتَسَبٌ)
}.
ما معنى: (فَلَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ مُعْتَدٌّ مُحْتَسَبٌ؟) أي: ليس فيه خلاف محل الاعتبار، يعتبر لمن خالفه. فيكون هذا الخلاف من باب السفصفات أو من باب الفلسفات الفارغة التي لا طائل تحتها.
{(فَأَمَّا فِي التَّحْرِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ مُعْتَدٌّ مُحْتَسَبٌ.
وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَجْمَعِينَ فِي خِطَاباتهِمْ وَكُتبِهِمْ، يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي مَوَارِدِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهِ.
بَلْ إذَا كَانَ فِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ، كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي اقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا التَّنْبِيهُ عَلَى رُجْحَانِ قَوْلِ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا فِي الْحُكْمِ وَاعْتِقَادِ الْوَعِيدِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْبَلُ سُؤَالٌ يُخَالِفُ ما اتفقت عليه الْجَمَاعَةَ.)
}.
فهذا رد للسؤال الذي سأل به السائل يتمحل في لوازم هذا الوعيد، على كل حال العلماء في كتبهم وتصانيفهم ما اعتقدوا أنه محرم بالأدلة قالوه، وإن كان هذا المعتقد في أفراده من مسائل الخلاف، لكن هذا الذي ترجح عند هذا العالم قال بتحريمه، ولزم له لوازمه من الوعيد واستحقاق الذم والعقوبة وما يتعلق بها، فان كان المخالف له لا يرى أنَّ هذا من الوعيد، وأن هذا الفعل في نفسه لا يطاله هذا الوعيد في هذا الفرد من أفراده، فهذا معذور بهذا، وإن كان بينهما هذا التضاد فالظاهر، لكن بناء على ثبوت الأدلة أو ثبوت المدلول أو انتفاء الأدلة أو انتفاء هذا المدلول بعينه بهذه الصورة المعينة.
قال -رحمه الله: {(الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ نُصُوصَ الْوَعِيدِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْقَوْلَ بِمُوجِبِهَا وَاجِبٌ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيَّنَ شَخْصٌ مِنْ الْأَشْخَاصِ.
فَيُقَالَ: "هَذَا مَلْعُونٌ" أو "َمَغْضُوبٌ عَلَيْهِ" أَوْ "مُسْتَحِقٌّ لِلنَّارِ". لَاسِيَّمَا إنْ كَانَ لِذَلِكَ الشَّخْصِ فَضَائِلُ وَحَسَنَاتٌ.
فَإِنَّ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ -عليهم الصلاة والسلام- يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ، مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ صِدِّيقًا أَوْ شَهِيدًا أَوْ صَالِحًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مُوجَبَ الذَّنْبِ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بِتَوْبَةِ أَوْ اسْتِغْفَارٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ لِمَحْضِ مَشِيئَة الله وَرَحْمَتِهِ.)
}.
على كل حال، رجع الشيخ هنا إلى العموم، أنَّ نصوص الوعيد -يعني أدلة الوعيد في الكتاب والسنة- كثيرة جدًا، ولو سألت أيهما أكثر نصوص الوعد أم نصوص الوعيد؟
نقول: ما الثمرة المرجوة من هذا السؤال؟ وما الطائل تحته؟
نحن لا يعنينا أيهما أكثر وأيهما أقل؛ لأنَّنا مُتعبدون بما جاء في الوحي، كون هذه أكثر أو هذه أقل لا طائل تحته، لكن نصوص الوعيد كثيرة، ونصوص الوعد كثيرة.
طيب، القول بموجب نصوص الوعيد واجب على العموم، ما موجبها؟
النهي عن هذا الفعل، واستحقاق صاحبه الذم، واستحقاق العقوبة، من غير أن يُعين شخصًا من الأشخاص، فيقال: هذا ملعون أو مغضوب عليه مستحق للنار بمقتضى هذا الوعيد الذي ورد فيه، لا سيما إذا كان لذلك الشخص فضائل وحسنات؛ فإنَّ ربي هو الذي سيحاسبه، وربي -جل وعلا- يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود:114] فإنَّ مَن سوى الأنبياء تجوز عليهم الصغائر والكبائر، هذه مسألة مُهمة في أنَّ الذنب يقع صغيرًا أو كبيرًا، حتى الشرك يقع من غير النبي، فالأنبياء وهو القول الصحيح الذي يرجحه المصنف، أنهم معصومون في ثلاثة:
الأول: النبي معصوم فيما يُبَلِّغُ به من دين الله، فلا يمكن أن يلحقه خطأ أو غلط.
الثاني: الأنبياء معصومون من أن يقعوا في الكبائر، فلا يمكن أن يأتي نبي ويشرب الخمر، وإن كان في كتب أهل الكتاب المحرفة أنَّ لوطا أو غير لوط شرب الخمر، حتى كَذَبُوا على الله وعلى رُسُلِهِ، فقالوا: إنَّ لوطا لَمَّا شرب الخمر وقع على بناته الثلاث -حاشا لله ذلك- فلا يقع كبير من النبي.
طيب موسى وكذا الفرعوني، هل ووكزه للفرعوني وقتله له كبيرة؟
نقول: موسى لم يقصد قتله، بل دفعه ولكن من قوة موسى -عليه السلام- لم يتحمل ذلك هذا الفرعوني، فما قصد موسى فعل الكبيرة.
إذًا، الأنبياء معصومون من الوقوع في الكبائر.
ثالثا: وهذه مهمة لطلاب العلم وللمؤمنين، أنَّ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- معصومون أن يُقرَّوا على فعل صغير، فيقع منهم الغلط والخطأ والذنب الصغير، لكن لا يُقِرُّهُم الله عليه، مثل: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ [عبس:1-2]، الله -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّبَ رسوله بذلك، وإلا ما معنى أنَّ الله يتفضل على نبيه بأن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ وما معنى أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يتمنن على نبيه ويتفضل عليه أن يضع عنه وزره إذ لم يكن عليه وزر، وعنده ذنب؟ وإلا لَمَا كان له معنى أنَّ الله يغفر له.
ولهذا فقد يقع من الأنبياء الصغائر، ولكنهم لا يُقرون عليها، لكن لا يقع منهم الفعل الكبير، ولا يقع منهم التقصير في البلاغ، ولا يُقرهم الله -جلا وعلا- على هذا الفعل الصغير.
{قال -رحمه الله: (فَإِذَا قُلْنَا بِمُوجَبِ قَوْله تَعَالَى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرً﴾ وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ وقَوْله تَعَالَى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرً﴾ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ)}.
إنَّ الله توعد من يأكل أموال اليتامى ظلمًا، وتوعد بالنار لمن يعصي الله ورسوله، وتوعد بالنار من يأكل أموال الناس بالباطل، هذه أنواع من الوعيد؛ فأتى بثلاثة بهذه المواضع الثلاثة، وجاء بالسنة أمثلة لها.
{قال -رحمه الله: (أَوْ قُلْنَا بِمُوجَبِ قَوْلِهِ ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ» أَوْ «عَقَّ وَالِدَيْهِ أَوْ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ»[5].
أَوْ «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ»[6] أَوْ «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ»[7] أَوْ «لَعَنَ اللَّهُ لَاوِيَ الصَّدَقَةِ وَالْمُعْتَدِيَ فِيهَ»[8].
أَوْ «مَنْ أَحْدَثَ فِي الْمَدِينَةِ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[9]. أَوْ {مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
[10] أَوْ {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»[11]. أو «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّ»[12] أَوْ «مَنْ ادّعى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ»[13] أَوْ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»[14])}.
هذا الوعيد الذي جاء في الكتاب والسنة على أنواع من الذنوب لا يجوز أنَّ نقطع بأن هذا الذي وقع منه هذا الذنب أنه ممنوع من -رحمة الله، ولا يجوز أن نعتقد أنَّ من وقع عليه هذا الذنب أنه لا تدركه التوبة، هذا تألِّي وتحجر على الله -سبحانه وتعالى- ثم كم له من الحسنات، والله وعد بغافر الزلات، فلا يجب إطلاق إنفاذ الوعيد على أهله، إنَّمَا هذا هو قول الخوارج وقول المعتزلة في إنفاذ الوعيد؛ ولهذا عند الخوارج المعتدلة أنَّ صاحب الذنب إذا مات على ذنبه وين يكون؟ في النار.
بينما خالف أهل السنة وأنكروا قولهم غاية الإنكار، بل جعلوا صاحب الذنب تحت طائلة العقوبة؛ لكنه تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه فيما معه من إيمان وحسنات، وإن شاء حاسبه وعاقبه بهذا الذنب بالخصوص، لكن لا على جهة الخلود في النار أبد الآبدين.
هذا أصل مهم في هذه الخواتم التي يختم بها الشيخ هذه الرسالة.
{قال -رحمه الله: (أَوْ «مَنْ اسْتَحَلَّ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِ كَاذِبَةٍ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»[15].
أَوْ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِع رحم»[16] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ. لَمْ يَجُزْ أَنْ نُعَيِّنَ شَخْصًا مِمَّنْ فَعَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَنَقُولَ: هَذَا الْمُعَيَّنُ قَدْ أَصَابَهُ هَذَا الْوَعِيدُ؛ لِإِمْكَانِ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُسْقِطَاتِ الْعُقُوبَةِ)
}.
لا يجوز أنَّ نقول: إنَّ هذا الشخص المعين المراد فلان، شارب الخمر فلان، آكل مال أخيه فلان، أصابه هذا الوعيد، ولابد أن يصيبه هذا اللعن والنار لعدة اعتبارات منها: أنَّه بإمكانه أن يتوب، ومنها ما له من مسقطات العقوبة، وهي العشرة التي سبق ذكرها.
{قال -رحمه الله: (وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَقُولَ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَعْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، أَوْ لَعْنَ الصِّدِّيقِينَ أَوْ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: الصِّدِّيقُ وَالصَّالِحُ متى صَدَرَتْ مِنْهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ، مَعَ قِيَامِ سَبَبِهِ)}.
إذا كان هذا في الصديق والصالح، فاطرده يا رعاك الله في العلماء الأعلى، التي ربما يقع منهم ما يقع تظنه في بادئ الأمر، وفي أول وهلة أنه مستجيب للعقوبة، وهو في حقيقته معذور فيه، وغاية ما يقال فيه: إنَّه أخطأ، لكن لا يقال: إنه يستحق اللعن والعقوبة والذم والعقاب.
{قال -رحمه الله: (لِأَنَّهُ يُقَالُ: الصِّدِّيقُ وَالصَّالِحُ متى صَدَرَتْ مِنْهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ، مَعَ قِيَامِ سَبَبِهِ.
فَفِعْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مِمَّنْ يَحْسِبُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ -بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ- غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ امْتَنَعَ لُحُوقُ الْوَعِيدِ بِهِمْ لِمَانِعِ، كَمَا امْتَنَعَ لُحُوقُ الْوَعِيدِ بِهِ لِتَوْبَةِ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ)
}.
وهذا مهم؛ ليعذر المؤمنون العلماء الكبار المجتهدين، ويعذر من كان في مثل مقامه، وإنما يحمدون الله -عَزَّ وَجَلَّ- على أن وفقوا ولا يوافقون العالم إذا أخطأ مهما كان علمه من غير النظر إلى خطأه.
شيخنا الفاضل، ثَمَّ سؤال الحقيقة يَهم طلبة العلم، وهو أنَّ كثيرا من العلماء أو بعض العلماء المعروفين بالعلم والفضل قد تقع منهم أخطاء، يراها بعض الناس عظيمة، فما هو حفظك الله الموقف منها؟ وكيفية تعامل طالب العلم مع هذه الأخطاء؟
هذا سؤال مُهم، وأنا أشكرك وأُثني عليك بعرضه، وهو مهم، والجواب عليه من ثلاث جهات:
أولاً: أنَّ هذا والحمد لله ليس كثيرا لطلاب العلم، إنَّمَا يحصل هذا الانتقاد والتعظيم والتفخيم من بعض المندفعين منهم أو ممن ضاقت صدورهم عن تحصيل العلم، ورجعت أهواءهم وخواطرهم إلى مذمة النفس، فيظن أنَّه لَمَّا حفظ آية أو آيتين أو حديثًا أو حديثين؛ صار من العلماء، ويجعل رأسه في رؤوس هؤلاء الكبار، فَأُعجب في نفسه أو أُعجب في عمله أو ظنَّ نفسه هو الحارس على هذا الدين، والمنافح عن عقيدة الإسلام أو لاعتقاد السلف، وهؤلاء قلة والحمد لله، وإن كان النشاز يفخم أحيانا بعظم من ينشذون به.
الوجه الثاني: أنَّ هذا ليس كثيرًا والحمد لله في العلماء، بل هذا في البعض من شراح الأحاديث، وعلى رؤوسهم الإمام النووي -رحمه الله- الذي شَرْحُه لمسلم من أشهر وأنفع الشروح، على كثرة من شرح صحيح مسلم، مثلهم: الخطابي شارح البخاري -هذا المحقق- مثلهم: الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني -رحمهم الله جميعًا- وسائر علماء المسلمين، وجزاهم عنا أحسن الجزاء، فإنه قد يقع في أغلاط هؤلاء الشراح ما يقع، خصوصًا في باب الأسماء والصفات، أو في باب الإيمان، أو في بعض مسائل القدر؛ فإنَّ هذا الذي يقع من هؤلاء غاية ما يُقال فيه: إنه خطأ، ولا يُوافق عليه المؤول في تأويله، كمن يُؤول علو الله على خلقه أو استواؤه على عرشه بأنواع التأويلات والسفسطات الفاسدة، لا يوافق فيه العالم مهما كان على تأويله، لكن لا يُساء فيه الظن، ولا يُساء فيه القول، ولا يتهم في قصده وعقيدته، ومثل هذا يقال في بعض المفسرين المشاهير، كما قد يقع من البغوي -رحمه الله- أو من هو مثله، أو من هو دونه أو أعلى منه، وينسحب هذا إلى بعض أئمة المذاهب وكبار علمائها؛ فإنه قد يُؤثر عنهم الغلط، والغلط إن تحققناه غلطًا، وعرفناه بموجب الأدلة الشرعية لا بالعواطف النفسانية المجردة عن الأدلة الشرعية أنه غلط؛ فإنه يسعنا ما وسِعَ علماؤنا في مواجهتهم لهذه الأعراض، ومنهم المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية، فلا تراه أقدع أو أفدع القول أو أغلظ النية والسب والشتم على هؤلاء الغالطين، وهو أعلم منَّا بلا شك، وأذود عن عقيدة السلف ومنهاجهم وطريقتهم منا، لكن يجب على طالب العلم أن يعرف قدره، فمن عرف قدر نفسه فإنه يسلم منه العلماء، وعرف بذلك فضل وقدر السابق له من العلماء.
نعم قد تأتي لبعض العلماء من الشراح والمفسرين والفقهاء تأويلات، كمن يُؤول علو الله أو استواؤه على عرشه، أو يقول: إنَّ الله يرى لا في جهة؛ كقول الأشاعرة المتكلمة، وهذا العَالِمُ عُرِفَت سابقته بما أَورث من دين الله من هذه المصنفات والعلوم العظيمة، فلا يجب أن يُحط من قدره، لا هذا في باب المروءة، ولا في باب كرم النفس وأخلاق العرب.
وجانب آخر: لا يجوز في دين الله أن يُحَطَّ وأن يُنسفَ في اليم نسفًا، وأن يُساءَ فيه الظن، أو يحصل كما حصل من بعض الأغمار وأهل البداوة والجهالة أنهم أحرقوا كتبه التي وجد فيها بعض هذه الأغلاط، وهذا تصرف صبيان، وتصرف من ليسوا أهلاً للعلم، ولا عرفوا له طعمًا، ولا أنزلوا أهله في منازلهم.
فعندنا جانبان، الجانب الأول: جانب عدم الموافقة بالخطأ، وهذا دين لا يجوز فيه المجاملة.
والجانب الثاني: وهو جانب ألا نُنسف هذا العالم ونحط من قدره، ولا نُريه شيئًا أو ربما نكفره أو نبدعه كما يقع من بعض هؤلاء -هداهم الله وأصلحهم وردهم إلى الحق ردًا جميلا عاجلاً غير آجل- فنحن بين مسلك هذا وهذا، وجادة العلماء هي الوسط، فلا يُوافق المخطئ من العالم مهما بلغ علمه في خطئه، ولا يحط من قدره ومن منزلته، وبينهما طريق إنَّمَا ينهجه من بَصَّر الله بصيرته، وفقهه الله في هذا الطريق، وعرف قدره وقدر غيره، وسار حقًا وصدقًا على منهج السلف الصالح، لم يسر على منهاجهم لمجرد الدعوة، وإنما سلك سبيل هؤلاء، شيخ الإسلام وشيوخه من قبله، أئمة الإسلام، الإمام أحمد وأمثاله، ومن أصحابه: ابن القيم، ابن رجب، علماء الدعوة، علماؤنا المعاصرون، شيخنا الشيخ ابن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، وفي أمثالهم رحمهم الله وجزاهم خيرًا، رسموا هذا الطريق، وقد ترسموه وساروا عليه فِعلاً قبل القول، ومنهجًا قبل الكلام.
انظر إلى شيخ الإسلام مع النووي كيف يجله؟ ومع الخطابي كيف يعظمه؟ ومع ابن خزيمة مع أنه خالفه في مسائل، ومع ذلك يرون لهم قدرهم، ويرون لهم فضلهم وسابقتهم وعلمهم.
ويكرر الشيخ ها هنا لِمَا له من الحسنات السابقة، وما له من الفضل، فهذا لا يغفله كريم، وإنما يغفله اللئيم، وفي مثل هذا ما يقوله أبو الطيب ما قاله من أبياته، قال -رحمه الله:

كمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً ... وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ

وما زال أهل العلم تعقب بعضهم بعضًا، ويرون لهم الاحترام، بل شيخ الإسلام تخصص في والي مؤلفاته في أبي عبد الله فخر الدين، لا تزال تراه يُعظمه ويُجله وَيحترمه ويُكنيه، قال أبو عبد الله، وفي مواضع يقول: "قال الفخر"، ومع ذلك لم يسكت عن جليل أغلاطه، وهو -أي شيخ الإسلام- الذي نقل عن أبي عبد الله الرازي كتابه أقسام اللذات، ذَمَّه لعلم الكلام نثرًا ونظمًا، لَمَّا قال:

نهايــــةُ إقـــــدام العقــــولِ عِقَــــالُ ... وأكثـــــــر سَعْـيِ العالَميـــــنَ ضَـلَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِــوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيـــهِ قِيــلَ وَقَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَـدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَــا ... رجال فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا

إلى قوله:
لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الكَلامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلاً، وَلا تُرْوِي غَلِيلاً، ورأيت أقرب الطريق طريق القرآن، اقرأ في الإثبات ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، و ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ﴾ [فاطر:10]، واقرأ في النفي: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11].
إلى قوله: فمن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي[17]، مع أنَّ الشيخ -رحمه الله- نَقَلَ عنه في بعض المواضع الكفر، كما في كتابه المنسوب إليه السِّرُّ المكتوم.
لكن شيخ الإسلام أنزل هؤلاء منازلهم، ومثله ما فعله هو وتلميذه ابن القيم مع شيخ الإسلام: الهروي، أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي، ومع غيرهم، فهم يرون للناس قدرهم.
أمَّا أهل البدع الصرف، المعلومة بدعتهم، كبشر المريسي، والجهم، وأضرابهم، وشهاب الدين السهروردي، وابن الفارط وابن سبعين، هؤلاء عرفوا قدرهم، وأنزلوهم منازلهم التي تليق بهم خسَّة ودركة ونذالة، لكن علماء الإسلام الذين خدموا هذا الدين، وألفوا فيه المصنفات، التي ما زال من بعدهم يعول عليها ويستفيد منها، يقترحون هذا الاقتراح الذي يحصل عند الأغمار، هذا مما لا يجوز ولا يصح، لا مروءة ولا عدلاً وإنصافًا، ولا دينًا يتدين به إلى رب العالمين، سبحانه وتعالى.
{أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم وشكر لكم}.
الله يحييكم، ويبارك فيكم، ويجعله علمًا نافعًا لنا ولكم وجميع إخوانا المسلمين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيُّهَا المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله}.
---------------------------
[1] "إنَّ مِن أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، ويَكْثُرَ الجَهْلُ، ويَكْثُرَ الزِّنَا، ويَكْثُرَ شُرْبُ الخَمْرِ" أخرجه البخاري (5231)، ومسلم (2671) عن أنس.
[2] "ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها" أخرجه أبو داود (3688)، وأحمد (22900) مختصراً، وابن ماجه (4020) واللفظ له، وصححه الألباني.
[3] متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه بلفظ: (لعن المؤمن كقتله) وهو جزء من حديث طويل.
[4] حارت عليه: يعني رجعت وعادت إليه، والحديث رواه أبو داود، والترمذي وابن حبان في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظه: (أن رجلاً لعن الريح عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تلعن الريح فإنها مأمورة، من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)
[5] رواه أحمد، ومسلم، والنسائي عن علي رضي الله عنه بلفظ: (لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض).
[6] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتُقطع يده، ويسرق الحبل فتُقطع يده).
[7] رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه مسلم عن جابر رضي الله عنه بلفظ: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الرب).
[8] رواه أحمد في "مسنده" بإسنادين أولهما ضعيف لضعف الحارث الأعور، والثاني صحيح، ولفظه قال عبد الله: (آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده إذا علموا به، والواشمة، والمستوشمة للحسن، ولاوِيَ الصدقة، والمرتد أعرابياً بعد هجرته، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة).
[9] رواه مسلم ص 995 عن أنس، وتمامه: (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، ومن ادعى على غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدل).
[10] رواه أحمد، والبخاري، ومسلم وأصحاب السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] رواه مسلم ص 93 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[12] رواه الترمذي بهذا اللفظ، ورواه مسلم في "صحيحه" بلفظ: (من غش فبيس من).
[13] رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة، بلفظ: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام)، وروى مسلم عن علي مرفوعاً: (من ادعى إلى غير أبيه أو تولى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
[14] رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب "السنن" عن الأشعث بن قيس، وعن ابن مسعود رضي الله عنهما.
[15] رواه مسلم ص 122 عن أبي أمامة ولفظه: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة).
[16] رواه مسلم ص 1981 في "صحيحه" والبخاري في "الأدب المفرد" ورواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي بلفظ: (لا يدخل الجنة قاطع) .
[17] سير أعلام النبلاء للذهبي (٥٠٠،٥٠١/٢١).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك