الدرس السادس
فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، نحن وإياكم في شرح كتاب (رفع المنام عن الأئمة الأعلام) يشرحه ويعلق عليه فضيلة الشيخ/ الأستاذ الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل.
باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
مرحبًا بك، وأنا كذلك أرحب بك، وعبر هذا الأثير أرحب بإخواني وأخواتي من المسلمين، ولا سيما من طلاب العلم، نسأل الله -عز وجل- أن يُوفقنا وإيَّاكم لطاعته ومرضاته، ويُجنبنا أسباب سخطه ومغاضبه وعقوباته.
وانتبهوا فأنا لا أشرح هذا الكتاب -كما أخبرتكم في أول المجالس- لست أهلاً للشرح، وإنما هو تعليق بما يفتح الله -عز وجل- به مما يوضح كلام شيخ الإسلام، وإلا فلست أهلا لأن أشرح هذا الكلام المتين لجليل لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- وأنت جزاك الله كل خير -يا شيخ- محسن الظن، فلا تستَسْمَنْ ذا ورَمٍ، مَا كُلُّ بَيْضَاء شَحْمَةً، ولاَ كُلُّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً.
{قال رحمه الله: (وَكَذَلِكَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ، ثُمَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ فَقَطْ)}.
هذا مثال على ما يحصل فيه من المعارضة، وما يلتمس فيه لأهل العلم الكبار، جاء في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها وعن أبيها- أنَّ النبي ﷺ قال: «لَعَنَ اللَّهُ الواصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ»[1]، والوصل يكون في الشعر سواء في شعر الرأس أو في شعر الحاجبين أو في الرمش، وهذا كثير في أوساط النساء -هداهن الله- أو ربما يأتي وصف في اللحية، بأن تغدو اللحية في إطالتها مُوضة عند الناس، أو إطالة الشنب، كما هي الآن ظاهرة وبدأت تظهر.
الوصل: لعن النبي ﷺ فيه.
يقول الشيخ: (ثُمَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ فَقَطْ) أي: يجعل النَّهي للكراهة؛ لمخصصات رأوها، وإن كانت هي في الميزان العلمي لا تقوى. ووجه ذلك أنَّ النبي ﷺ لعن، واللعن لا يُحمل على كراهة التنزيه، وإنما اللعن محمول على الوعيد والزجر والتشديد.
إذًا هؤلاء الفقهاء رخصوا فيه، نقول: غاية ما يقال في ترخيصهم فيه وأنهم جعلوا اللعن للكراهة هو اجتهاد، وهم مخطئون فيه ولا نوافقهم على الاجتهاد، ولكن لا نُنزلهم عن رتبة أهل العلم والفقه والديانة.
قال رحمه الله: {(وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ)}.
نعم هذا حديث أم سلمة، هند بنت أبي أمية -رضي الله عنها- أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وذكر بعض الفقهاء وهذا أشار إليه النووي -رحمه الله- في المجموع، أنَّ الأكل في صحاف الذهب أو الفضة قد نَصُّوا عليها في أكثر ما رأيت أنها للتنزيه، منهم من فرَّق بين الذهب والفضة، ومنهم من جعلها شيئًا واحدًا.
نقول: هذا الاجتهاد محل نظر؛ لأنَّه اجتهاد في مُقابل الحديث الذي جاء فيه الوعيد، وأحاديث الوعيد سواء باللعن أو بالطرد أو بالنار لا يمكن حملها على مجرد الكراهة.
نعم قد تحمل على الكراهة إذا جاء حديث آخر مُعارض للوعيد ولم يعارض النهي، فإذا جاء ما يُعارض الوعيد قد تتساقط، فهنا يقال: هؤلاء اجتهدوا لَمَّا جعلوا أنَّ الأكل في صحاف الذهب والفضة وملاعقها وأشواكها وأوانيها أنها للتنزيه فقط.
نقول: هذا اجتهاد في مُقابل وعيد النبي عليه الصلاة والسلام وزجره وتهديده، فلا يوافقون على اجتهادهم، ولا ينزلون عن رتبة أهل العلم فيما اجتهدوا فيه ولم يوفقوا فيه إلى الصواب وإلى القول الصحيح.
قال رحمه الله: {(وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ اقْتِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَمَلِ وصِفِّين لَيْسُوا فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ لَهُمَا عُذْرًا وَتَأْوِيلًا فِي الْقِتَالِ، وَحَسَنَاتٍ مَنَعَتْ الْمُقْتَضى أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ)}.
نعم، حديث أبي بكرة نُفيع بن الحارث رضي الله عنه، قال: قال ﷺ: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» هذا على جهة الوعيد إذا كان الحامل لهما حظُّ النفس المحض، فإذا التقى المسلمان بسيفيهما، هذا يدافع عن جماعة المسلمين، وهذا مع الخوارج، كلاهما مسلم، ولكن الشريعة سوغت قتل الثاني، فلا يدخل في هذا العموم، وهذا معنى التأويل الذي أشار إليه شيخ الإسلام فيما وقع في أهل الجمل؛ فإنَّ أهل الجمل وكان جُلُّ الصحابة قد اتفقوا تلك الليلة على أن ينصرفوا ولا قتال، ولكن الغوغائية من الخوارج انتبهوا لهذا الاتفاق، وخشوا أن يرتدوا عليهم، فأنشبوا القتال مع طلوع الفجر، فَأُوقع في أيديهم، ثم كذلك ما كان في الجمل؛ فإنَّ لهؤلاء تأويل يمنعهم من دخولهم تحت طائلة هذا الوعيد.
مثاله الآن: بُويع لخليفة ثم جاء من بايعوا لآخر، نحن مأمورون بقتل الثاني، «إذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فاقْتُلُوا الآخِرَ منهم» أخرجه مسلم وغيره في الصحيح.
طيب، قَتْلُنَا للثاني وهو مسلم يقتضي الالتقاء بالسيفين، فلا يدخل تحت طائلة هذا الوعيد، إنما طائلته مكانًا لأجل حظِّ النَّفسِ، أو لأمر من أمور الدنيا محض، لا عملاً بأدلة أخرى دَلَّتْ على ذلك.
ومثله لَمَّا قال القائل لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- لَمَّا انفتل في شعب من الشعاب وتبعه أسامة ورجل من الأنصار -رضي الله عنهم-، فلمَّا حجروه في الشِّعب رفع أسامة السيف عليه فقال ذلك الرجل: (أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله)؛ فكفَّ عنه الأنصاري -رضي الله عنه-، بينما أمضى أسامة عليه، فحصل ها هنا في ظاهره التقاء المسلِمَينِ بسيفيهما، هذا بقوله: (لا إله إلا الله) وأسامة بأنَّه لم يقبل عذره. قال: إنما قالها متأولاً.
فبلغ ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- فغضب غضبًا عظيمًا من أسامة، ولم يمنعه حبه لأسامة أنَّ يؤنبه، وأن يؤدبه ويُعْظِمَ النِّكارة عليه، فقال: «أقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟» فقال: (يا رسول الله إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذً). قال: «أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟» وهذا فيه الإشارة إلى أنَّ اليقين لا يزول بالشك، أو توهم الشك.
على كل حال لم يدخل تحت طائلة هذا الوعيد، لماذا؟ لأنَّه فعل ذلك مُجتهدا مُتأولا معذورًا له في هذا العمل؛ ولهذا ذكر الشيخ ها هنا أن من دخلوا في الجمل وصفين من الصحابة لهم من الحسنات العظيمة، بل من الوعد مغفرة الذنوب منعت هذا المقتضي أنَّ يكون في النار أن يعمل عمله في هؤلاء الأفراد المعينين من الصحابة.
قال رحمه الله: {(وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ، وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاك، وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنْيَا، إنْ أَعْطَاهُ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ سَخِطَ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا: لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ» فَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ، مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهِ.
فَلَا يَمْنَعُنَا هَذَا الْخِلَافُ أَنْ نَعْتَقِدَ تَحْرِيمَ هَذَا مُحْتَجِّينَ بِالْحَدِيثِ، وَلَا يَمْنَعُنَا مَجِيءُ الْحَدِيثِ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ الْمُتَأَوِّلَ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ، لَا يَلْحَقُهُ هَذَا الْوَعِيدُ)}.
جاء في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنَّ النبي ﷺ قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ، وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» والشاهد منه: «رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ» فإنه جاء عن الإمام الشافعي، وعن غيره أنهم أجازوا أنَّ يبيع الرجل ما زاد عن حاجته من الماء إذا بَرَّدَه أو هَيَّأَهُ، وما إلى ذلك، فهذا التجويز يخالف عموم هذا الحديث، فنحن نقول بعموم الحديث لكن لا نقول: إنَّ الشافعي وأمثاله ممن يدخلون تحت هذا الوعيد، أنَّ الله لا يُكلمهم، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم يوم القيامة.
تأول بأن الماء له، حازه، حمله، برده، وهذه أعمال زائدة على قدر مجرد حيازة الماء، فهذا نعذر به هؤلاء الأئمة الكبار، ولا نعتقد أنَّهم قصدوا مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام أو تخصيص كلامه بمفهومهم المحض، لا، ولكن الكلام له سياقاته وله قرائنه التي تجعل العالم يجعل لهذه القاعدة العامة مُستثنيات، من ذلك ما ذكروه من أنَّه إذا حاز الماء الزائد فقد نقله، وهو يبيع أجرة نقله أو برَّدَه أو حَفِظَه، وما إلى ذلك.
قال رحمه الله: {(وَقَالَ ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَدْ رُوِيَ عَنْ رسول الله ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ -رضي الله عنهم- مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ صَحَّحُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ مُطْلَقًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْعَقْدِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَعْذَارٌ مَعْرُوفَةٌ.
فَإِنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ عِنْدَ الْأَوَّلِ: أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ؛ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ.
وَقِيَاسُ الْأُصُولِ عِنْدَ الثَّانِي: أَنَّ الْعُقُودَ الْمُجَرَّدَةَ عَنْ شَرْطٍ مُقْتَرِنٍ لَا تُغَيِّرُ أَحْكَامَ الْعُقُودِ.
وَلَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ الْمُتَقَدِّمَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ.
وَلَوْ بَلَغَهُمْ لَذَكَرُوهُ آخِذِينَ بِهِ أَوْ مُجِيبِينَ عَنْهُ؛ أَوْ بَلَغَهُمْ وَتَأَوَّلُوهُ؛ أَوْ اعْتَقَدُوا نَسْخَهُ؛ أَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَا يُعَارِضُهُ.
فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ لَا يُصِيبُهُ هَذَا الْوَعِيدُ لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ التَّحْلِيلَ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَلَا يَمْنَعُنَا ذَلِكَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ سَبَبٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ)}
هذا مثال يجمع الأعذار السابقة أي: لِمَا ذكَره رحمه الله من الأعذار العشرة وما ذكره بعد ذلك من أنواع الدلالات، فإنَّ حديث «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» جاء كما أشار شيخ الإسلام عن جمعٍ من الصحابة، جاء عن علي، وعن ابن مسعود، وعن ابن عباس، وعن عقبة بن عامر الجهني، وغيرهم -رضي الله عنهم.
من أهل العلم من جَوَّزَ ذلك مُطلقًا باعتبار النظر إلى ظاهر العقد، واجتماع أركانه الثلاثة، وتحقق شروطه الأربعة. قال: إنَّ الشارع لم يقصد المقاصد في العقود، وإنما هي في الألفاظ، ولهذا قال: إنَّ المقصود العقود المجردة عن الشرط.
والذين قالوا بالمنع أخذوا بهذا الحديث، وإن اكتملت أركانه وتوافرت شروطه، وهو القول الراجح.
منهم من خفي عليه هذا الحديث.
ومنهم من لم يخفَ عليه، لكن لم يَثْبُتْ عنده، إمَّا أنَّه لم يثبت عنده في سنده، أو لم يثبت عنده لعلة في متنه.
ومنهم من حَمَلَه على حالة أخرى وهي أن يرد هذا الشرط -شرط التحليل في العقد- لا أن يكون مجردًا عن العقد.
فهذه أنواع داخلة في دلالة مفهوم الحديث، واعتبار العالِم والمفتي به، فكلها وردت إمَّا أنَّه لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده أو فيه علة أو أنَّ العموم في مفهومه غير مُراد عنده أو أنَّ هذا مراد به في مجلس العقد لا فيما ينويه في قلبه، مع أنَّ القول الصحيح أنَّ هذا اللعن والوعيد عام، سواء كتب هذا الشرط في العقد أو لم يكتب، وسواء نواه أحدهما ولم ينوه الثاني؛ فالتابعة على الناوي، ومن لم ينوِ لا تبعة عليه، مع أنَّ من لم ينوِ دخل في هذا العقد، فهل يناله عموم اللعن؟
لا يقول بهذا أحد، وربي جل وعلا أجل من أن يُكلف عبده أمرًا لا يَعلمه وأمثال ذلك.
فهذا الحديث والكلام فيه، يصلح أن يكون مثالا على القواعد السابقة في إعذار أهل العلم فيما تحققت به مخالفتهم للأحاديث، فهي: إمَّا بعدم العلم به، وإمَّا بأنَّه لم يثبت عندهم من كل وجه، أو أنَّه ثبت لكن مفهومه له عندهم نوع مختلف أو مُقيد بأشياء أخرى، رحمهم الله وجزاهم خيرا.
قال رحمه الله: {( وَكَذَلِكَ اسْتِلْحَاقُ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ الْمَوْلُودَ عَلَى فِرَاشِ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ؛ لِكَوْنِ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ مِنْ نُطْفَتِهِ مَعَ أَنَّهُ ﷺ قَدْ قَالَ: «مَنْ ادَّعى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» وَقَالَ: «مَنْ ادَّعى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلً» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَهُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا.
فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ الْأَبِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ ﷺ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَيَّنَ أَحَدٌ دُونَ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَنْ الصَّحَابَةِ، فَيُقَالُ: إنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَاحِقٌ لِه، لِإِمْكَانِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْوَلَدَ لِمَنْ أَحْبَلَ أُمَّهُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ هُوَ الْمُحْبِلُ لِسُمَيَّةَ أُمِّ زِيَادٍ.
فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، لَا سِيَّمَا قَبْلَ انْتِشَارِ السُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ هَكَذَا؛ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَانِعِ الْمَانِعَةِ هَذَا الْمُقْتَضِي لِلْوَعِيدِ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ: مِنْ حَسَنَاتٍ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)}.
لله در شيخ الإسلام في استحضار هذه الأمثلة، وهذا -أيُّها الإخوة والأخوات- يدل على إحاطته -رحمه الله- بهذه العلوم؛ فإنَّ استحضارها في هذه المعاني واستحضارها بعد هذا التنظير لا يُوفق له كل أحد إلا من جعل الله عز وجل العلم بين عينيه، يأخذ منه ما شاء ويدع ما شاء.
حديث «مَن ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ غَيْرُ أبِيهِ فَالجَنَّةُ عَلَيهِ حَرامٌ»[2] هذا الحديث متفق عليه من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى عليه وسلم، وتأمل في قوله: «وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ غَيْرُ أبِيهِ». أو أنه غير أبيه. أحيانًا ينتسب يظن أنه أباه، لا سيما ها هنا أبو سفيان -رضي الله عنه- أخبره في آخر حياته أنَّ زياد من نطفته بالرغم من أنه ولد في فراش الحارث إلا أنه من نطفة أبي سفيان، وكانوا في الجاهلية يتناكحون النساء من غير عدد، والشريعة أبطلت ذلك، لكن لَمَّا وقع هذا وأقرَّ به أبو سفيان خفي عليهم حديث «الوَلَدُ لِلفِرَاشِ وَلِلعَاهِرِ الحَجَرُ»[3]، والفراش أي لم ولدت وهي في فراشه، وهذا الأمر مجمع على مدلوله.
لكن هذه المخالفة تُحمل على عدة معانٍ، منها أنه لم يبلغه الحديث، أو أنه بلغه ولكنه حمله على صورة أخرى بخلاف الصورة التي قالها، وإلا فحاشا أن يعتقد في هؤلاء الجلة من الصحابة فضلا عمن دونهم من أهل العلم أن يُعتقد أنَّ هذا الوعيد ينالهم فيكونون من أهل النار، ونظائر هذا كثيرة عند الشيخ بما ساقه من الأمثلة وفي غيرها مما لم يأت في هذه العجالة.
{قال رحمه الله: (وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ)}
ما هو الباب الواسع؟
هذه الأمثلة التي ذكرها فيمن يأتي من أهل العلم، سواء من جلة الصحابة أو من جلة التابعين أو من بعدهم من فقهاء الإسلام وأئمته، ما قد يخالفون فيه حديثًا ثابتًا عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ فتحمل هذه المخالفة على الأسباب العشر التي سبقت، وهي مدارها على أمرين:
أولا: عدم علمه بأن النبي قاله، وهو عدم الثبوت أو يعلم -وهذا السبب الثاني الجوهري أو الرئيس- يعلم أنَّ النبي ﷺ قاله لكن له مخصصات وله دلالات وله صوارف تصرفه عن معناه، هذا الباب صارف يدخل في كل ما حرم في الكتاب والسنة ووجد من هؤلاء العلماء الكبار ما يبيح ما حرم أو يحرم ما أبيح؛ لأن له في هذا عذر، سواء علمناه نحن المتأخرون من طلاب العلم من العلماء أو من عامة الناس أو لم نعلمه فلا بد من استحضار هذا الأمر؛ لأنهم لم يقصدوا المخالفة وبها ترتفع الملامة واللائمة على هؤلاء المخالفين من العلماء الكبار ومن دونهم لأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام الصريحة بالتحريم.
{قال رحمه الله: (وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ بِكِتَابِ أَوْ سُنَّةٍ إذَا كَانَ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ فَاسْتَحَلُّوهَا، أَوْ عَارَضَ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى رَأَوْا رُجْحَانَهَا عَلَيْهَا، مُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ التَّرْجِيحِ بِحَسَبِ عَقْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ)}
اللائق: (بحسب فهمهم وعلمهم) أو (بحسب معقولهم).
على كل حال حتى (بحسب عقلهم) فالسياق يعني: (بحسب فهمهم بعقولهم لهذا المدلول).
قال: {(فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَهُ أَحْكَامٌ: مِنْ التَّأْثِيمِ وَالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ وَالْفِسْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنْ لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ)}.
وهذا أصل عام أنَّه ما جاء فيه الوعيد؛ فإنَّ الوعيد ينطبق على من تُوعد به إذا اجتمعت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، كما يقال هذا في تكفير المعين يقال كذلك هذا في استحقاق العقوبة على من فعل فعلا مجرمًا رتب عليه العقوبات في الدنيا وفي الآخرة، اجتماع الشروط وأعظمها العلم وانتفاء الموانع وأعظمها الجهل.
{قال رحمه الله: (فَقَدْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُنْتَفِيَةٌ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا، أَوْ وُجُودِ مَانِعها؛ أَوْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُنْتَفِيًا فِي حَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ مَعَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ)}.
نعم، ثابت في شخص لا يثبت في غيره، مثله ما جاء في قصة حاطب بن أبي بلتعة المشهورة في الصحيحين، لَمَّا كتب إلى أهل مكة يخبرهم بمقدم النبي ﷺ عليهم، وقد أمر النبي بتعمية ذلك على أهل مكة.
أوحى الله لنبيه بهذه الكتابة وأنَّه بعثها مع امرأة، وأنكم تجدونها في روضة خاخ، بعث عليه الصلاة والسلام الثلاثة: عليا والزبير والمقداد؛ فأدركوا المرأة في هذه الروضة -روض خاخ- وهي غير بعيدة عن المدينة، روضة سبخة، مجمع سيول تتحذر من الحرار، فأناخوا بعيرها، وقالوا لها: ادفعي لنا كتاب حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسله إلى أهل مكة فنفت وأنكرت، فقال لها أبو الحسن والحسين -رضي الله عنهم- والله ما كذبنا ولا كذبنا، لا تخرجن الكتاب أو لننزعن عنك ثيابك، نفتشك يعني، فلما رأت العزم والجزم منهم قالت: إذًا أخروا عني -رضي الله عنها- وهذا فيه حشمة العربية، حشمتها وحرصها على ألا ينكشف سترها؛ فأخرجت له الكتاب من قصاع شعرها، جدلت على هذا الكتاب شعرها، لماذا؟ لأنَّ حاطبًا -رضي الله عنه- أمرها أنَّ تخفيه، فلما وجدوا الكتاب كما أخبرهم به النبي عليه الصلاة والسلام أخذوا الكتاب ورجعوا بالمرأة إلى رسول الله ﷺ، لماذا لم يتركونها لتذهب؟ حتى لا تخبر أهل مكة.
واستدعى النبي ﷺ حاطبًا، وأراه ما فعل، وقال: «ما حملك على هذا يا حاطب؟» قال: يا رسول الله والله ما فعلته ردة عن ديني، ولا شك في إسلامي، وقد أقره النبي ﷺ على هاتين الجملتين، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد عند أهل مكة. يراعون بها أهله وقراباته، وأنَّه ليس لي ليس لي عندهم يد؛ فأردت أنَّ يكون بهذا ليد عندهم يراعون فيها قرابته.
إذا جس على رسول الله وعلى المسلمين لماذا؟ هل بغض للإسلام؟ حاشاه.
هل محبة لانهزام رسول الله؟ أبدًا. هل هي كراهية لظهور دين الإسلام؟ أبدًا.
وإنما لمصلحة محضة من مصالح الدنيا، أراد راتبًا أو رتبة، أراد جاهًا وغيره من زينة الدنيا، فقال عمر -رضي الله عنه- وقد أخذته الحمية -وهي ليست غريبة عن عمر- دعني يا رسول الله لأضرب عنقه. قال: «دعه يا عمر. ألم تعلم أنَّه من أهل بدر؟ وأن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
لو كان ما فعله حاطب بن أبي بلتعة كفر أكبر لم يعذره من كونه من أهل بدر؛ لأن خيرًا من أهل بدر من؟ الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
لو وقع منهم -أي: من الأنبياء والرسل- الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر لم يعذروا، كما في قول الله جل وعلا في آية الزمر: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وفي آية الأنعام في ذكر الأنبياء، قال: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الكفر الأكبر لا يغفره الله لأهل بدر ولا الشرك الأكبر، وإنما ذكر النبي ﷺ هذا لعمر لأنَّه أقرب مذكور يَعذر به هذا الغائر لله أخيه الذي أخطأ، وأتى هذا الذنب وهذه الكبيرة، ومن الغلط البين ما يُنسب أنَّ حاطبًا -رضي الله عنه- وقع في الخيانة العظمى أو الجاسوسية العظمى التي كفر بها، هذا غلط وهذا تعقب لمقام النبوة؛ لأنَّ النبي أقره لَمَّا قال: "والله ما فعلته ردة عن ديني ولا شك في إسلام"، وأمثال ذلك مما قد يرد؛ فيؤخذ بهذا من مجموع النصوص مع ملاحظة حسن الظن بأهل العلم.
المبدأ أنَّ يكون ظنك في قلبك حسنًا، وقصدك في قلبك صالحًا تجاه أهل العلم، لا يكن منهجك منهج الخوارج، بمجرد الذنب تنسف هذا المذنب في اليم نسفًا، تكفره، تضلله، تبدعه، لا، ما كان على هذا هدي السلف ولا طريقتهم ولا منهجهم، وإنما ما كان للعذر ولرفع اللائمة مدخل قالوا به؛ لأننا لسنا مكلفين بمحاسبة العباد، هذا واحد.
ولقد أُمرنا بإحسان الظن بالمؤمنين، فكيف بعلمائهم! هذا الثاني.
ثالثا: ما يتعلق بحسن القصد وحسن الظن، وهو المدار الذي نهينا عنه عن التحسس والتجسس؛ لأنها من وسائل سوء الظن بالمتحسس عليه والمتجسس عليه، وهذا مما يجب أن يتأدب به طلبة العلم وأن ينتهجوه، وأن تَسْلَمَ نياتهم وقصودهم وقلوبهم تجاه إخوانهم، وأولى من يكونون، تجاه المؤمنين وتجاه العلماء.
ماذا قال الله جل وعلا في آية سورة الحشر ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي: بعد المهاجرين والأنصار، قالوا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُو﴾ [الحشر:10] القلب إذا انطوى على الغل أتى بهذه الأوساخ والأنتان، منها: سوء الظن، منها: القدح، منها: الحسد، منها: السب، منها: أنَّ هذا خالف طريقتنا ننسفه في اليمِّ نسفًا، وما كان هذا منهج السلف، ولا طريقة من جاء بعدهم من راسخ علماء الخلف.
{نستأذنكم شيخنا في الاستفادة من بقية الوقت في أسئلة فيما مضى من الدروس}
أبرك الساعات بشرط أني أجيب على ما أعلم، ويعذرني الإخوان على ما لم أعلم أو أني أجبت بشيء ما أراده السائل.
{أحسن الله إليكم شيخنا الكريم.
لماذا لم يقم الصحابة بجمع الأحاديث الصحيحة كما تم ذلك في جمع القرآن؟}.
أحسنت هذا سؤال وجيه، وهو سؤال يُردده المستشرقون وأذنابهم من المستغربين، لماذا؟ لأنَّه اتكأ على متكأ القدح في الصحابة، والقدح في الشريعة وفي نقلتها.
والجواب على السؤال إجمالاً مما يناسب هذا المقام، أنَّه وقع الخلاف الداعي إلى جمع القرآن، ولهذا جاء حذيفة بن اليمان -كما نقول: جاء طائرًا، أي مُسرعًا- من المدائن إلى المدينة، قائلاً لأمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "أدرِكْ هذِهِ الأمَّةَ قبلَ أن يختلِفوا في الكتابِ كما اختلفتِ اليَهودُ والنَّصارَى"[4]، وذلك لَمَّا اختلفوا في القراءات، واختلفوا في وجوه أحرف القرآن، فَوُجِدَ الباعث؛ فاجتمعوا على جمع المصحف وأجمعوا عليه.
أمَّا الأحاديث فلم يقع فيها الخلاف، بل كانوا -رضي الله عنهم- إذا بلغهم الحديث عن رسول الله ﷺ قبلوه، وأخذوا به ثقة بقائله، ما لم يكن مقدوحًا فيه أو واهمًا أو لم يُقم البينة إذا احتاج إلى بينة، ثُمَّ اتسعت الدائرة بعدهم في التابعين، واتسعت بعدهم في تابعي التابعين، وتأمل في جابر بن عبد الله بن حرامٍ الأنصاري -رضي الله عنهما- رَحَلَ من المدينة على مَطيته شهرًا إلى حمص؛ ليسمع حديث عبد الله بن أنيس، ولم يقل: قد يكون ابن أنيس واهمًا، وإنما واحد أخبره بأنَّ النبي قاله فصدقه.
إذًا الأصل في الصحابة الصدق والعدالة رضي الله عنهم.
{أحسن الله إليكم.
هل نحن مأمورون باتباع الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- فيما اجتهدوا فيه؟
ما اجتهد فيه الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: اجتهدوا في شيء جاء الدليل بخلافه، وهذا لم يقع، إنما يأتي بها بالقسمة العقلية، ولم يقع هذا، أن يتفق الأربعة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليٌّ على أمر جاء الدليل بخلافه.
الحالة الثانية: أن يجتهدوا على أمر في حُكمٍ شرعي لم يأت الدليل به، فنحن مأمورون باتباع اجتهادهم، من أين أخذناه؟ من حديث العرباض ابن سارية -رضي الله عنه- وفيه قول النبي ﷺ: «فَعَلَيكُم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، تمسكوا بهات وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ»[5].
الحالة الثالثة: أنَّ يجتهدوا في أمر من العاديات لا من العبادات وجوبًا واستحبابًا، أو تركًا لتحريمه أو لكراهة التنزيه، بل من الأمور العادية، فهذا الأولى في اتباعه كما يقال في عموم الأمور العادية، من لبس الثياب وركوب الرواحل ووضع الدواوين، هذه أمور عادية، فالاجتهاد بها أولى من تركها.
لو قال قائل: أنا ما أبغي أن يكون عندي دواوين، وأبغى أن أصل الحقوق لأهلها من غير دواوين، نقول الله يقويك، ولكن مسلك الخلفاء الراشدين والسلف الصالح أسدُّ منك وأحسن.
ثم من هم الخلفاء الراشدون؟
هم الذين عليهم حديث سفينة رضي الله عنه مولى النبي ﷺ، فيما أخرجه مسلم في الصحيح، قال ﷺ: «خلافةُ النُّبوَّةِ ثلاثون سنةً، ثم يُؤتي اللهُ الملكَ مَن يشاءُ»
فهذه الثلاثون سنة تمت بخلافة عليٍّ -رضي الله عنه- المجمع على إمامة هؤلاء الأربعة، وليس كل من يدعي الخلافة نصفه بأن له خلافة راشدة -كما ادعى ذلك متأخري أمراء بني عثمان أو السلاجقة أو بني العباس أو غيرهم.
{أحسن الله إليكم.
هل يصح للعالم أن يكون في مكتبته كتب لا يحيط بكل ما فيها؟}
نعم هذا أمر سهل، أن يكون عنده كتب لم يطلع عليها، فضلا أن يحيط بها، إنما الذي يتكلم عليه أهل العلم أن يكون عنده كتب وقفية، وهو يعلم قطعًا أنَّه لن يستفيد منها أو يُفيد منها، فهذه يأثم ببقائها عنده، إذا كان الوقف عامًّا على طلاب العلم أو على المنتفعين به، فإن كانت وقفت عليه هو فلا غضاضة أن لا يكون منتفعًا بها، إذ قد تأتي الحاجة إلى انتفاعه بها في المستقبل.
{أحسن الله إليكم}.
وهنا ودي أن ألفت الانتباه وهو أنَّ من طلاب العلم في الأزمنة المتأخرة من كان همه التكاثر بالكتب، ثم جَرَّ ذلك إلى التكاثر بالطبعات والتحقيقات والنسخ والجلد والورق وما إلى ذلك، ثم أيضا يتوسع بها إلى أن يزين بها مجلسه ومكتبته، فهذه من الأمور القادحة للنية، وربما يُسلب معها بركة هذا العلم الموجود في الكتب.
ونصيحتي لنفسي أولاً ولطلاب العلم ألا يأخذ من الكتب إلا ما يحتاجه، ويجمع نفسه على كتب محددة يُراجعها ويختلف إليها حتى يستوعب ما فيها من العلم، أمَّا أن يستكثر وثمرة ذلك أنَّ يتشتت، وعندئذ لا يُحصل إلا الملل؛ فيترك العلم، ويترك ربما السعي في الكتب، وكذلك قواعد المعلومات وغيرها هي وسائل لوصول العلم، وليست هي العلم بذاته. والله أعلم.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا الفاضل هذه مسألة تكثر حقيقة بين الناس، وهي إذا اختلف رأي عالمٍ عن عالمٍ آخر في مسألة، فالعامي يحتار ماذا يفعل؟ وماذا يتَّبع من الأقوال، فما الذي يجب عليه؟}.
هذا كان نادرًا في عهد النبي ﷺ ثم صار قليلاً جدًا في عهد الصحابة في الصدر الأول، ثم أقل منه إلى أن كَثُرَ في الأزمان المتأخرة.
أنت أيُّها العامي، وأنت أيُّها المبتدئ في الطلب، ويدخل فيه كل من لم يتحصل على شيء من الاجتهاد، سواء اجتهاد المسألة أو اجتهاد في المذهب أو الاجتهاد المطلق، ما هو فرضك؟
فرضك ما ذكره الله في آيتي سورة النحل والأنبياء، حيث قال الله جل وعلا فيهما: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وأهل الذكر هم: أهل علم وأهل ديانة، فمن وثقت في علمه وديانته سؤالك إيَّاه هو قطع ما بينك وبين الله في الحجة والمعذرة، فإذا وجد أكثر من عالم لابد أنَّ أحد هؤلاء إمَّا بشخصه أو بهيئته الاعتبارية إن كانت مَجْمَعًا أو مجتمع من العلماء، هم الأوثق عندك في علمهم وفي دينهم، فاستعن بالله واقتدي واعمل بما يُفتونك به، وإن خالف ذلك غيره، ولا يكن الحادي لك أيُّها العامي وأيُّها المستفتي أن تبحث عن الفتوى المناسبة لرغبتك المفصلة على مقاسك، فتجعل هذا القول لهذا العالم الكبير مَرجوحًا؛ لأنَّه قال به غيره، وهذا القول الذي قال به غيره وهو الذي يناسب هواك ومرادك. لا، ما تكون قد اتبعت الحق، بل تكون قد اتبعت هواك وحظَّ نفسك، واتخذت من سؤال أهل العلم ذريعة للوصول إلى هذا المقصد، والله المستعان.
{أحسن الله إليكم.
هل رأي العالم يُعدُّ حجة مثل الدليل الشرعي؟}
هذا يختلف، أولاً العالم ليس معصومًا، وبالتالي فرأيه لا ينال هذه العصمة، هذا من ناحية العموم.
رأي العالم في نوع الاستدلال من الحديث داخل في الاستدلال نفسه في الآية أو الحديث، فالآية عند العالم أفادت الوجوب والحديث أفاد الوجوب، فإذا قال برأيه: هذا يفيد الوجوب، فليس هذا برأي محض، وإنما مبناه على مدلول هذا الدليل؛ فعندئذ صار حجة لارتباطه بالدليل لا بمحض رأيه، والله أعلم
{أحسن الله إليكم
شيخنا الفاضل، هناك شبهة تثار بين الحين والأخر، أثيرت قديمًا وتثار في هذه الأزمنة، وهي: حديث الآحاد كان يجب العمل بها أم لا يجب؟}
بادئ ذي بدء، وألفت الانتباه لإخواني أنَّ الكلام فيها كثير، والمؤلفات فيها أكثر، والنزاع والأخذ فيها لا ينتهي، مِن تَرَسُّمِ سنن السلف الصالح، والعمل على منهاجهم، والاقتداء بطريقتهم، أن ينظر الإنسان ماذا كان موقفهم مما يسمى الآن بأخبار الآحاد.
في عهد النبي ﷺ أرسل أحاد أصحابي للأطراف، كل جهة أرسل لها واحد يعلمهم دين الله، ويأمرهم وينهاهم، هل قال الناس: لا نقبل منك؟ أو النبي قال: لا تقبلوا حتى يأتي له ثان وثالث ومتواتر! هذا في أصل الدين وفي عموم شرائعه.
في الصلاة تحول الناس عن القبلة في المدينة في موضعين، في مسجد قباء في صلاة العصر، وفي مسجد بني سلمة المسمى بذي القبلتين، تحولوا مئة وثمانين درجة من الشمال للجنوب، وجاءهم المخبر وهو واحد أثناء الصلاة، على أي شيء يدل هذا لَمَّا أقرهم الله وأقرهم عليه الرسول ﷺ بإقراء الله له؟
دلَّ على أنَّ هذا تشريع.
قل مثل ذلك في عهد الصحابة، في عهد التابعين، لم تأتنا هذه البدعة إلا من جهة أهل التعطيل، من جهة المتكلمين، حمل رايته المعتزلة، وتلقفها بعده متكلم الأشاعرة والماترودية والصفاتية، حتى صار هذا القول شائعًا ذائعًا عند المتأخرين، مع أنَّه لم يكن معروفًا في الصدر الأول، وفي السلف الصالحين.
وأخذوا على مدلوله، فقالوا: إنَّ أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين، وإنما تفيد الظن، والظن يُعمل به في العمليات دون الاعتقاديات، هذا كله من قول المتكلمين، على اختلاف مشارب كلامهم، وهو في حقيقته هدم للشريعة، وإبطال لأدلة ثبتت فيها مدلولات العلم والعمل.
والقول الصحيح أنَّ الحديث إذا صحَّ مخرجه إلى النبي ﷺ -وهي الرواية- وصحت في دلالته وجب العمل به والقول به، سواء في باب الاعتقاد أو في باب العمل والفروع -فروع الشريعة- والله أعلم.
{أحسن الله إليكم
شيخنا الفاضل. هل يصح للعالم أن يترك العمل بالدليل لرأي رآه أو اجتهاد اجتهده؟}.
يصح للعالم أن يترك العمل بالدليل لاجتهاد اجتهده، إمَّا قام عنده المعارض أو شك في علة في هذا الخبر، سواء علة في سنده أو علة في متنه، أو وجد له المعارض الآخر في عمومه ومدلوله دون لفظه؛ فهذا إعلال للحديث أو إعلال للخبر باجتهاده. أمَّا لمحض رأيه فلا يصح هذا لعالم، بل لا نتصوره واقعًا من علماء المسلمين الكبار، نُنزههم -رحمهم الله- ونحسن بهم الظن، أنَّ هذا ليس عندهم، أن يترك أحدهم عملا بحديث بلغه لمحض رأيه أو أنَّه يرده، هذا لا يكون في عوام الطلبة، فكيف بعلماء المسلمين الكبار! وهذا هو الذي يجب أنَّ تظنه أيُّها المسلم وأنت يا طالب العلم في أئمة الإسلام وعلمائه الكبار.
نعم قد يكون في علماء المتأخرين -علماء الدنيا- من قد يترك العمل بالحديث؛ لأنَّه يخالف هواه هوى من يعظمه، هذه حالات استثنائية يتحمل جريرتها، وهي تكثر في آخر الزمان، وفي عمومها قول النبي عليه الصلاة والسلام كما روى أهل السنن وغيرهم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قلنا بلى يا رسول الله. قال: «أَخْوَف مَا أَخَاف عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّة الْمُضِلُّونَ»؛ لأنَّ من ضلالهم أن يرد النَّصَّ والحديث والآية لمحض هوى، سواء يتعلق به أو يتعلق بمن يعظمه ويقدمه.
نسأل الله الثبات على دينه، ولا حول ولا قوة إلا به.
{شيخنا نختم بهذا السؤال، كيف للعالم أنَّ يجمع بين الأدلة إذا اختلفت؟}
أنا أظنُّ أنَّ السائل ما درس أصول الفقه، ولا مباحث الجمع في هذا المصطلح، وإلا لو درس هذين الأمرين -قواعد ومباحث الجمع والترجيح بين الأدلة في أصول الفقه، وفي آلة علم الحديث وهي المصطلح وعلوم الحديث- لعرف أنَّ هذا ميدان لأهل العلم، يظهر الله عز وجل فيه رحمته بهم وإحسانه إليهم، ويظهرون التمايز والتسابق في هذا العلم جمعًا لِمَا يظن في ظاهره التعارف، وألفوا فيه المؤلفات، كان الأوائل يسمونها: بالمشكلات، مُشكل الحديث، ومشكل القرآن، ومشكل كذا، والمتأخرون يسمونها: الأدلة المتعارضة، منها الكتب الكبار عند ابن جرير -رحمه الله- وعند أبي جعفر الطحاوي، شرح مشكل الأثار ومعاني الأثار، وما يعتني به العلماء في كتب الخلاف، فهذا هو ميدانها، والقاعدة عندهم أنَّه ما أمكن الجمع بين الأدلة فهذا هو المنهج الأسد والأكمل، فإنَّ لم يتيسر الجمع فيكون الترجيح لبعضها على بعض بأنواع المرجحات، ومن حضر دروس شيخنا الشيخ محمد صالح بن عثيمين أو استمع لها يجد هذا المسلك ظاهرًا في شيخنا فيما يكون فيه الخلاف، والأدلة فيه يظن فيها التعارف، وهذه تأتي بالدربة مع ترسم هذا الخط -الخط العلمي في دراسته في أصول الفقه وفي مصطلح الحديث، والله أعلم.
{شكر الله لكم شيخنا ونفعنا بعلمكم، وأثابكم أحسن الثواب}.
الله يجزاكم خير وإخواننا المسلمين أجمعين، ويمنحنا وإيَّاكم العلم النافع المتبوع بالعمل الصالح المحقق لرضوان الله علينا في الدين والدنيا والآخرة، ووالدينا ومشايخنا وولاتنا وجميع المسلمين.
{في ختام هذه الحلقة، نشكركم أيُّها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم بإذن الله تعالى في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------------
[1] أخرجه البخاري (5940)، ومسلم (2124).
[2] متفق عليه.
[3] أخرجه البخاري (6818)، ومسلم (1458).
[4] أخرجه البخاري (4987).
[5] أخرجه أبو داود (4607) واللفظ له، وأحمد (17185).
سلاسل أخرى للشيخ
-
9163 9
-
20931 9