الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

3266 11
الدرس الحادي عشر

تفسير آيات الأحكام (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في سلسة بعنوان تفسير آيات الأحكام، يقدمها فضيلة الشيخ الدكتور/ سعد بن ترك الخثلان، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلًا حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{شيخنا الكريم وانتهينا ولله الحمد من تفسير سورة البقرة في آيات الأحكام، والآن ننتقل بإذن الله تعالى إلى سورة النساء، وأول آية في الأحكام هي قول الله تعالى في أول سورة النساء: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ.... ﴾ [النساء: 1]، الآية.
نستأذنكم في سماع تلاوة لها، ثم نعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيب﴾.
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
فبعد ما تكلمنا عن تفسير أبرز آيات الأحكام في سورة البقرة، ننتقل بعد ذلك للكلام عن تفسير أبرز آيات الأحكام في سورة النساء، وإنما تجاوز سورة آل عمران؛ لأن سورة آل عمران ليس فيها آيات بارزة في الأحكام وإنما صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، ثم آيات أخرى نزلت في شأن غزوة أحد وما بعدها وفي الكلام عن النفاق والمنافقين، فالأحكام كانت بارزة في سورة البقرة، يليها بعد ذلك سورة النساء ولهذا انتقلنا مباشرة إلى سورة النساء.
وسورة النساء سورة مدنية، والفرق بين المدني والمكي: أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو نزل في مكة، والمكي ما نزل قبل الهجرة ولو نزل في غير مكة، هذا هو التعريف الصحيح للمكي والمدني، فسورة النساء سورة مدنية، ومن سمات السور المكية أنها قصيرة، مثل: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا القَارِعَةُ﴾ [القارعة: 1- 2]، ﴿إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ﴾ [الواقعة: 1]، قصر الآيات هذه ميزات السور المكية، وقوة الأسلوب، وموضوعها في الغالب متعلق بالتوحيد وتقرير العقيدة.
أمَّا الآيات المدنية فالغالب عليها طول الآيات، مثل: سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة النساء، وموضوعها في الغالب يكون في الأحكام وفي الفروع، وأيضًا الكلام عن النفاق وعن المنافقين وما يتعلق بذلك، والغالب في السور المكية ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ لأن أكثر المخاطبين ليسوا مؤمنين، والسور المدنية ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾، وهذا ليس دائمًا كما في هذه السورة، هذه السورة مدنية ومع ذلك ابتدأت بـ ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ لأن هذا ليس دائمًا وإنما على سبيل الأغلب.
ابتدأ الله -عز وجل- هذه السورة بالكلام عن أصل الخلقة، ثم بعد ذلك تكلم عن المواريث، ثم تكلم عن بعض أحكام النكاح والشقاق بين الزوجين، ثم بعد ذلك بقية هذه السورة في مخاطبة اليهود والمنافقين.
سميت هذه السورة بسورة النساء لذكر النساء فيها في عدة آيات وأحكام متعلقة بالنساء في عدة آيات.
الآية الأولى ابتداءها الله -عز وجل- بقوله: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾، نحن قلنا: إن من سمات السور المدنية أن النداء فيها غالبًا يكون بـ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾، وفي غير الغالب أن يكون النداء بـ ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾ وذلك لبيان أن رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- عامة لجميع الناس، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾، أمر الله -عز وجل- بتقواه، وتقوى الله تعالى هو أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ وهذه النفس الواحدة هي آدم، فإن الله -عز وجل- خلق جميع الناس وجميع البشر من نفس واحدة وهو آدم أبو البشر الذي خلقه الله تعالى من تراب، ثم نفخ فيه من روحه -جل وعلا-، وأراد الله سبحانه أن يظهر شرفه للملائكة بأمرين:
الأمر الأول: أن الله علمه أسماء كل شيء، ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ﴾ [البقرة: 31- 33]، فأظهر الله تعالى شرف أبينا آدم في أفضل وأشرف صفة في الإنسان وهي العلم.
الأمر الثاني الذي أراد الله تعالى أن يظهر به شرف أبينا آدم: أن الله أمر الملائكة بالسجود له، ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾[البقرة: 34]، فسجد الملائكة تكريمًا له، فانظر إلى تكريم الله -عز وجل- لهذا الإنسان وعظيم عنايته به، كيف أن الله أمر ملائكته بالسجود إليه، وعلمه أسماء كل شيء، ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ﴾، هذا يبين أن الله -عز وجل- كرم هذا الإنسان، كرمه على كثيرٍ من المخلوقات كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيل﴾[الإسراء: 70].
فينبغي للإنسان أن يعرف مقدار هذا التكريم، وأن يعبد الله -عز وجل- كما أمره الله -سبحانه وتعالى-، الله فضل الإنسان على أجناس كثيرة، على مخلوقات كثيرة، فضله على جمادات، على نباتات، على حيوانات، على مخلوقات كثيرة، ثم أظهر الله تعالى هذا الشرف وهذا التكريم للإنسان؛ لأن الله أمر الملائكة بأن تسجد لأبينا آدم، وعلمه أسماء كل شيء، ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ﴾، يوصينا الله تعالى شرف هذا المخلوق، ولهذا حسده إبليس ﴿قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِين﴾[الإسراء: 61]، قال في الآية الأخرى: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾[ص: 76]، وفي زعمه أن النار أفضل من الطين، مع أن هذا غير صحيح، ناقش ابن القيم وغيره قال: لا، الطين أفضل، لكن إبليس كان يعتقد هذا، كأنه يقول: كيف أنا أسجد له وأنا أفضل منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ فعلنه الله -عز وجل- وطرده.
﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَ﴾ خلق من هذه النفس الواحدة زوجة وهي حواء، والزوج يطلق على الذكر والأنثى، يكون الأفصح أن يقال زوجة، المقصود به أمنا حواء خلقها الله تعالى من أحد أضلاع آدم اليسرى، «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ» كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلع أعلاه» وأشار إلى اللسان، أن المرأة يعني: يكون في لسانها ما يكون من العوج ومن البذاءة ونحو ذلك، «فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَ».
فالمرأة مخلوقة من الرجل، خلق الله تعالى أمنا حواء من أبينا آدم، ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَ﴾، وهذا أيضًا من تكريم الله -عز وجل- للإنسان، أن الله -عز وجل- خلق زوجها منها ولم يجعلها من جنس آخر وإنما منها، وجعل بين الرجل والمرأة مودة ورحمة، ثم إن الله تعالى أمر أبانا آدم وأمنا حواء بأن يسكنا الجنة، وأن يأكلا منها رغدا حيث شاءا، ونهاهم فقط عن الأكل من شجرة واحدة، ونهاهم عن أن يغرهم الشيطان، ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾[طه: 117]، ومع ذلك أتى الشيطان لأبينا آدم وأمنا حواء ونظر إلى أضعف نقطة في الإنسان، أضعف شيء في الإنسان وهو الطمع، الطمع هذا هو الذي يذهب العقول، ونحن إلى الآن نرى أن كثيرًا من الناس تذهب تجارتهم وتذهب أموالهم بسبب الطمع، الطمع هذا هو الذي يذهب معه عقل الإنسان، لا يفكر بالطريقة الصحيحة، فنظر الشيطان وعلم أن هذه هي نقطة الضعف عند آدم وحواء، أراد أن يطمعهما، ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ﴾[الأعراف: 20]، يعني: هذه الشجرة فيها سر، كان ممكن أن يقول آدم له إذا كنت عرفت السر، لماذا أنت لا تأكل منها وتكون ملكًا وتكون من الخالدين، لكن غره وحلف له بالله العظيم أنه صادق، ﴿وَقَاسَمَهُمَ﴾ يعني: يقسم له بالله ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾[الأعراف: 21].
فأكلا من الشجرة -سبحان الله- لَمَّا أكلا منها ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَ﴾، يعني: طار لباس الجنة عنهم وانكشفت العورة، ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ﴾ [طه: 121]، أخذ ورق الجنة وأصبح يلصقانه على العورة حتى يستر به العورة، وهذا يدل على أن الحياء بكشف العورة أمر فطري، ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[الأعراف: 22]، جعل يبكيان وهما نادمان لكن لم يعرفا كيف يتوبا، ومن رحمة الله -عز وجل- أنه تلقى آدم من ربه كلمات وهي ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾[الأعراف: 23]، فقالها آدم وحواء، فتاب الله عليهما، لكن مع ذلك قال الله: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾[الأعراف: 24]، أنت يا آدم وحواء وإبليس، بعضكم لبعض عدو، اختار الله -عز وجل- هذا الكوكب الأرض الذي نعيش عليه وهيئه لعيش بني آدم عليه؛ لأن الكواكب الأخرى القريبة منها والبعيدة غير مهيأة إما أن تكون شديدة الحرارة أو شديدة البرودة، لكن الأرض هيأها الله -عز وجل- قبل إحضار أبينا آدم، فأهبط الله أبانا آدم وأمنا حواء وهبط معهما الشيطان، وقال: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة: 38 ]، وأرسل الله الرسل وأنزل الكتب وبيَّن ماذا يريد من عباده، وأقام الحجة واتضحت المحجة.
فهذه النفس الواحدة التي خلقها الله -عز وجل-، المقصود بها أبونا آدم ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَ﴾ المقصود بها أمنا حواء، ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً﴾ يعني: بثَّ من آدم وحواء رجالًا كثيرًا ونساءً، يعني: ذكوراً وإناثاً، وهنا قال: ﴿رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً﴾ ولم يقل: ونساءً كثيرات، وهنا المفسرون اختلفوا لماذا لم يقل الله -عز وجل- ونساءً كثير، قال بعضهم: إن الكثرة في الرجال عز بخلاف الكثرة في الإناث، يعني: خاصة عند العرب وعند بعض الناس إلى الآن، حتى في بعض الدول التي فيها كثافة سكانية عالية ولا يسمحون إلا بإنجاب مولود واحد فقط، يذهبون للطبيب ويكشفون على ما في رحم هذه المرأة فإن كان ذكراً أبقوه وإن كان أنثى أجهدوه، فالنفوس مجبولة على حب الذكور أكثر من الإناث، وإن كانت الشريعة الإسلامية حفظت الحقوق للإناث وحمت الإناث وكرمت المرأة تكريمًا عظيماً ليس له نظير في أي دين من الأديان ولا ملة من الملل.
وقال بعضهم: إن الله لم يقل رجالًا كثيرًا ونساء؛ لأن الأصل في النساء القرار في البيت، ينبغي أن لا تظهر كثرتهن وإنما تكون الكثرة للرجال، والله تعالى أعلم وأحكم -جل وعلا.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ كرر الله الأمر بتقواه، والله تعالى أمر بتقواه في مواضع كثيرة في القرآن، وذكر الله تعالى عن الرسل أنهم يأمرون أقوامهم بتقواه -جل وعلا-، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 106]، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 124]، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 142]، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 161]، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 177]، كل الأنبياء والرسل يأمرون بتقوى الله -عز وجل-، فهي أعظم وصية وهي وصية الله للأوليين والآخرين.
ثم قال -جل وعلا-: ﴿وَالأَرْحَامَ﴾، والأرحام فيها قراءتان: قراءة الجر وقراءة الفتح، والأرحام إذا كانت على قراءة الفتح ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾، فتكون على قراءة الفتح، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ يعني: اتقوا الله واتقوا الأرحام، إذا كانت على قراءة الفتح، كأنه قال: اتقوا الله واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
أما على قراءة الجر (الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامِ) يعني: يسأل بعضكم بعضاً بالرحم، كان من عادتهم في العرب أنه يقول: أسألك بالله وبالرحم، أو أسألك بالرحم التي بيني وبينك، فهم كانوا يقدرون الرحم ويحترمونها، ويقولون: أسألك بالرحم التي بيني وبينك أو أسألك بالله وبالرحم، فكانوا يتساءلون بالأرحام، فكلا القراءتين صحيحين ولا منافاة بينهما، فكلا المعنيين صحيح، إما أن يكون المعنى: اتقوا الأرحام أن تقطعوها أو يكون المعنى: الأرحام التي تتساءلون بها، ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ يعني: يسأل بعضكم بعضًا بالرحم، بأن يقول: أسألك بالله وبالرحم، أو أسألك بالرحم التي بيني وبينك، فهو معنيان صحيحان تفيدهم هاتان القراءتان بالنصب وبالجر، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾، (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ).
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيب﴾ لَمَّا أمر الله بتقواه مرتين في الآية، قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيب﴾ يعني: يراقبكم في جميع أحوالكم، هل اتقيتموه أو لم تتقوه، الله مطلع على عباده لا يخفى عليه خافية، ولذلك تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[المجادلة: 11]، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الممتحنة: 3]، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 283]، ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[آل عمران: 153]، ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[الحجرات: 18]، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[البقرة: 74]، يُبَيِّنُ الله -عز وجل- لعباده بأنه مطلع على عباده، لا يخفى عليه شيء، لا يظن الإنسان أن الله تعالى غافل عما يعمل أبدًا، الله تعالى حليم -جل وعلا-، ما أحلم الله على عباده لكنه مطلع على عمل الإنسان، يعلم -جل وعلا- ماذا يعمل الإنسان، يعلم ما في صدره، يعلم ما توسوس به نفسه، يعلم السر وأخفى، وأخفى من السر، حتى ما توسوس به نفس الإنسان قبل أن توسوس به نفسه، فعلمه -جل وعلا- محيط بكل شيء، فلا يظن الإنسان أنه خافٍ على الله -عز وجل- وأن الله غافل عنه أبدًا، فالله مطلع عليه ورقيب -جل وعلا-، فالرقيب عندما يجعل على مستوى البشر، فلان جعل عليه رقيب يراقبه مراقبة، مثلاً مراقبة الطلاب في الاختبار، تجد أن هذا الرقيب يراقب هذا الإنسان ما يغفل عنه، حتى لا يغش إذا كان طالبًا، حتى لا يهرب مثلاً إذا كان هذا الرقيب عسكريًّا، الله تعالى رقيب على عباده -جل وعلا-، لا يخفى عليه خافية سبحانه، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيب﴾.
أبرز فوائد هذه الآية، أولاً: وجوب تقوى الله -عز وجل- على جميع الناس، قد كرر الله تعالى الأمر بالتقوى في هذه الآية مرتين، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾، ثم قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ وهذا يدل على أهمية التقوى وعظيم شأنها.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أن الناس أوجدهم الله -عز وجل- من العدم، وفي هذا رد على الملاحدة وعلى من زعم بأن الإنسان كان أصله قرداً ثم تطور، هذه النظرية كما يقال نظرية غبية، لو كان أصل الإنسان قرد فلماذا لم تتحول القرود الآن؟ من آلاف السنين والقرود على وضعها، لماذا لم تتحول إلى بشر؟ فهذه نظرية من أغبى النظريات، كيف يكون أصل الإنسان قرد، لماذا لم تتحول القرود من آلاف السنين، إذا كان هذا هو أصل الإنسان، لماذا القرود باقية على وضعها وعلى حالها، ثم أيضًا كيف يكون أصل الإنسان قرد ثم يكون ذكر وأنثى؟ لو كان أصل الإنسان قرد لكان شخص واحد، كيف يكون ذكر وأنثى؟ هذا من كلام الملاحدة ومن البعدين عن نور الوحي والنبوة، الإنسان خلقه الله تعالى من عدم وخلقه الله -عز وجل- من طين، ثم نفخ فيه من روح -جل وعلا- وجعل أصل البشر من أبانا آدم، ثم خلق حواء من آدم.
من فوائد هذه الآية: التذكير بنعمة الله -عز وجل- بما خلق الله تعالى من الأزواج، فقال: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَ﴾، فلو كان زوج الإنسان من غير جنسه، فلا يمكن أن يركن إليه ولا يمكن أن يحصل السكن بل ينفر منه، بل من رحمة الله -عز وجل- بالإنسان أن جعل زوج الإنسان من جنسه.
وأيضًا من الفوائد: أن التساؤل بالله تعالى، يقول: أسألك بالله أمر واقع عند العرب، لقوله: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾، أن يقول: تساءلون به، فيقول: أسألك بالله، لكن ما حكم قول الإنسان لغيره أسألك بالله؟
إن كان المقصود بذلك التذكير فلا بأس، أما إذا كان المقصود بذلك الإلزام فهذا قد يكون فيه إحراج على المسئول، ولذلك ينبغي اجتناب هذا، إلا عند الحاجة، إذا قال: أسألك بالله هل تجب إجابته؟ إذا كان في أمر واجب فتجب، ولذلك يقول بعض العلماء في قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: أسألكم بالله يعني: أسألكم حق واجب على المسئول فأجيبوه، أما إذا كان في أمر محرم، فلا، وإذا كان في أمر مباح قد أسألك بالله كذا، فلا تجب إجابته لكن تستحب، إلا إذا كان يحلق الإنسان الضرر، يعني إذا قال: أسألك بالله، تتأكد إجابته إذا تيسر ذلك، لكنها لا تجب إلا إذا كان المسئول أمر واجباً.
أيضًا من فوائد هذه الآية: وجوب صلة الرحم وتأكد حقها، فإن الله -عز وجل- قال: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ على القراءتين، وهذا يدل على تأكد الرحم، والرحم قد دلت النصوص على عظيم شأن صلتها، والأثر العظيم والثواب الجزيل المرتب على ذلك، أيضًا عظيم شأن قطيعتها والعقاب العظيم مرتب على ذلك.
يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين: "لما خلق الله الخلق قامت الرحم وتعلقت بالعرش، وقالت: هَذَا مقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قال: فذَلِكَ لَكِ"، فتكفل الله -عز وجل- بأن يصل من وصل رحمه وأن يقطع من قطع رحمه.
كيف تكون صلة الرحم؟ ما دل عليه العرف، ولذلك الناس يقولون: فلان واصل، فلان قاطع، يعني: كل ما كان في إدخال للسرور على الرحم يدخل هذا في صلة الرحم، وكل ما كان فيه أذية للرحم يدخل هذا في قطيعة الرحم، والرحم ينقسمون إلى قسمين: أرحام تجب صلتهم وأرحام تستحب، فالأرحام الذي تستحب صلتهم جميع الأقارب، لكن الأرحام التي تجب صلتهم ويترتب الإثم على قطيعتهم أرجح الأقوال في ضابط ذلك أنهم هم المحارم وهم الذين لو افترضت أن أحدهم ذكر والآخر أنثى لما جاز له أن يتزوج أحدهم بالآخر، هذا هو الضابط، فالأرحام التي تجب صلتهم الوالدان وإن علوا، والأولاد وإن نزلوا، والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، هؤلاء تجب صلتهم تجب وجوباً، ويأثم الإنسان بقطع هذه الصلة، لكن من عادهم من الأقارب تستحب، مثلاً يعني: ابن عم تستحب ما تجب، ابن خال تستحب ما تجب.
{أخوال الأب، أخوال الأم، أعمام الأب، أعمام الأم}.
تطبق الضابط، إذا طبقنا الضابط فيعني لو كان أحدهم ذكر والآخر أنثى لم يجوز لهم أن يتزوج بهم، لتجب صلتهم، لكن مثلاً أبناء العم لو كان أحدهم ذكر والآخر أنثى جاز أن يتزوج، سيتزوج من بنت عمه، بنت خاله، بنت خالته.
أيضًا من الفوائد: التحذير من مخالفة الله -عز وجل- لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيب﴾، ومن آمن بأن الله رقيب عليه فسوف يحذر من مخالفة الله -عز وجل-، ويؤخذ من ذلك اسم الله الرقيب، ومن أسماء الله -عز وجل- الرقيب، فهو -سبحانه وتعالى- رقيب على عباده مطلع عليهم لا يخفى عليه خافية.
وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام عن الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
* * *

{ثم قال الله تعالى: ﴿وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2].
نستمع إليها ونعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِير﴾.
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.
ثم قال -عز وجل-: ﴿وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِير﴾.
قال: ﴿وَآتُو﴾، ﴿وَآتُو﴾ يعني: أعطوا ﴿اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، اليتامى جميع يتيم واليتيم معناه لغة وشرعًا: هو من مات أبوه قبل البلوغ، يعتبر يتيمًا، أما بعد البلوغ لا يعتبر يتيمًا من مات أبوه، من ماتت أمه قبل البلوغ يعتبر يتيم أو لا يعتبر؟ لا يعتبر يتيم، بعضهم يسميه لطيم، لكن لا يعتبر يتيم؛ لأن فقد الأب أشد، الأم ممكن أن يؤتى بحاضنة تربي هذا الإنسان، لكن الأب هو الذي ينفق على الإنسان ويقوم عليه ويرعاه، ففقده مؤلم أكثر من فقد الأم وإن كانت الأم حقها أعظم، حق الأم أعظم من حق الأب، لكن حضانة هذا الطفل والقيام على شئونه يمكن أن يقوم بها أي أحد، تقوم به جدته، تقوم به خالته، يؤتى بخادم، لكن الأب إذا فقد من الذي يرعى هذا اليتيم ويقوم على شئونه وينفق عليه؟
فلذلك اليتيم معناه في اللغة وفي الشرع: هو من مات أبوه قبل البلوغ.
قال: ﴿وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، هنا قالوا: ﴿وَآتُو﴾ كيف نعطي اليتامى، هو لا زال يتيم نعطيه ماله، هنا قال أهل العلم: هناك فرق بين الإيتاء وبين الدفع، هناك فرق بين الإيتاء والدفع، فالدفع هذا لا يكون إلا بعد ما يبلغ اليتيم ويكون راشداً، كما في الآية التي بعدها، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾، هذا الشرط الأول، ﴿فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْد﴾ هذا الشرط الثاني، ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، دفع المال لليتيم لا يكون إلا بهذين الشرطين: بالبلوغ وبإيناس الرشد، لكن الإيتاء يعني كون نؤتي اليتيم ماله ليس معناه أنه ندفعه له، وإنما المقصود أن أموال اليتامى لا تأخذون منها شيئًا ولا تكتموا منها شيء ولا تفسدوها، بل أعطوهم إياها كما كانت، فاحفظوها لهم ونموها، هذا معنى الإيتاء.
{هل ينفق عليهم منها؟}
ينفق عليهم منها وينمى هذا المال ويحفظ له، هذا معنى الإيتاء.
إذاً فرق بين الإيتاء وبين الدفع، فمعنى الإيتاء أنك تقوم على مال هذا اليتيم تنفق عليه منه وتنميه وتحفظه له، هذا هو الإيتاء، ولا تأكلونه، هذا هو إيتاء اليتيم، أما الدفع هذا شيء آخر، الدفع يكون بعد بلوغ الرشد وبعد إيناس الرشد وهذا ما ستتكلم عنه الآية الآتية، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، فإذاً لا بدَّ أن نفرق بين المعنيين، بين إيتاء اليتيم ماله وبين دفع المال لليتيم، ففرق بين الأمرين.
فكأنه يقول مال اليتيم أحفظه له، لا تأكله، نميه له، أنفق عليه منه، وأكد الله -عز وجل- هذا المعنى فقال: ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ يعني: لا تأخذوا الخبيث بدلاً عن الطيب، وهذا فيه معنيان عند المفسرين.
المعنى الأول: أن لا تأخذوا الطيب من أموالهم وتعطوهم الخبيث، كأن يكون لليتيم مثلاً شاة سمينة وعند وليه شاة هزيلة رديئة، فيأخذ شاة اليتيم ويعطيه شاته الرديئة، وكان هذا موجوداً عند العرب، كان إذا ولي مال اليتيم يأخذ النفيس من مال اليتيم ويعطيه الرديء، فهذا هو المعنى الأول في قوله: ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾.
المعنى الثاني: لا تأخذوا من أموالهم شيئًا، لأن أموالهم حرام عليكم، والحرام خبيث، فيقول لا تأخذوا أموالهم فتستغنوا بها عن الطيب الذي تكتسبونه بوجه حلال، ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ يعني لا تأخذوا أموالهم، فإن أخذتم أموالهم هذا خبيث، وابحثوا عن الطيب مما أباح الله لكم، فهذا هو المعنى الثاني للآية، وكلا المعنيين صحيح.
﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ "إلى" هنا بمعنى مع، أي لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم، وقيل: إن المنى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم وأنها ضمنت معناه لا تضموا أموالهم إلى أموالكم وتأكلوها، وهذا المعنى أقرب، لأن تضمين الفعل معنى فعل آخر كثيرة في القرآن.
والفائدة من تخصيص ذكر الأكل هنا فقط، لأنه هو الغالب وهو الأعم فيما يكون من الانتفاعات وإلا يشمل ذلك حتى غير الأكل، يشمل غير الأكل، ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾.
إنما ذكر الله -عز وجل- هذا ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِير﴾، هذا فيه مغزى وذلك يعني لو قال الله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾ كفى، لماذا قال: ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾؟ لأن ولي اليتيم قد يستتر ويدخل مال اليتيم إلى ماله ولا يعلم به أحد، ولهذا قال: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، فهذا قوله: ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ فيه هذه الفائدة، فتجد أن ولي اليتيم ما يأخذه صراحة أمام الناس، هم يعيبون عليه، يستتر ويضم اليتيم إلى ماله ويأكله بطريقة خفية، فكأن الآية تشير إلى هذا المعنى ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾.
﴿إِنَّهُ﴾ يعني: تبديل الخبيث بالطيب وأكل أموال اليتامى، ﴿كَانَ حُوباً كَبِير﴾ "حوباً" يعني: إثمًا كبيراً، يعني إثمًا عظيماً ومن كبائر الذنوب، هناك من العلماء من قال: أن هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿وَإِن تُخَالِطُوَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾[البقرة: 220]، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن قوله: ﴿وَإِن تُخَالِطُوَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ ليس هو الأكل الذي نهى الله عنه، حتى يقال أن فيه نسخ، وإنما أراد الله تعالى يقول: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ يعني: لا تخلطوها لأجل أن تأكلوها، أما إذا خلطها لأجل الإصلاح أو لأجل مصلحة فلا بأس بذلك.
أبرز فوائد هذه الآية، أولاً: بيان رحمة الله -عز وجل- حيث أوصى بهؤلاء اليتامى؛ لأن اليتيم طفل قد انكسر قلبه بموت والده، فربما لا يعرف مرارة اليتم إلا من جربه، فاليتيم انكسرت نفسه وانكسر قلبه، يرى أقرانه لهم آباء وليس له أب، له حاجات لا يستطيع أن يحصلها بسبب أن ليس له أب يطلب منه هذه الحاجات، فهو منكسر النفس، ولذلك أوصى الله -عز وجل- بهذه اليتامى في مواضع كثيرة، أكثر من عشرين موضعًا بإكرام اليتيم، ليس فقط بحفظ ماله بل حتى بإكرامه وعدم كسره وعدم نهره، فاليتيم ينبغي أن يكون في المجتمع محل الرعاية والعناية والتكريم، وأن لا يشعر بأدنى درجات الإهانة أو الكسر، أوصى الله -عز وجل- بهذا اليتيم.
أيضًا من فوائد هذه الآية: وجوب حفظ أموال اليتامى؛ لأنه يلزم من إيتائهم أموالهم الحفظ ولو فرط الولي وأهمل وضاعت الأموال لم يكن قد آتاهم أموالهم.
أيضًا من فوائد هذه الآية: إطلاق اسم الخبيث على الرديء، وهذا وارد في القرآن في عدة مواضع، كما في هذا الموضع، وكما في قوله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُو﴾ يعني: تقصدوا، ﴿الخَبِيثَ﴾ يعني: الرديء ﴿مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ﴾[البقرة: 267]، فسمى الله الرديء خبيثًا، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- سمى البصل والثوم شجر خبيث، قال: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبْنَا مَسجِدَن».
إذاً الخبيث يطلق في الشرع على الرديء، يعني: الرديء من المال يسمى خبيثًا.
أيضًا من فوائد هذه الآية: تحريم ضم مال اليتيم إلى مال الولي بقصد الإتلاف وبقصد الأخذ منه، لقوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، أمَّا إذا ضم ماله إلى ماله لا لقصد الإتلاف وإنما لقصد الحفظ والتجارة أو الإصلاح، فلا بأس بذلك لأنه إحسان، ولذلك وضع الله -عز وجل- لنا قاعدة عظيمة في هذا الباب، فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾[البقرة: 220]، الله يعلم هل نية هذا الإنسان بهذا التصرف الإصلاح أم نيتها غير الإصلاح؟ الإفساد، هذه التصرفات التي يفعلها ولي اليتيم مع اليتيم، ما غرضك؟ إذا كان غرضك الإصلاح فلا حرج عليك بل أنت مأجور، أما إذا كان غرضك الإفساد فأنت تأثم بهذا، بل مرتكب لكبيرة من الكبائر، ولهذا حتى لا يتحرج ولي اليتيم في أن يتصرف في مال اليتيم تصرفاً بالتي هي أحسن رفع الله الجناح والحرج، قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾، هذه قاعدة، ليس فقط في اليتيم، حتى في غير اليتيم، من يلي أموالاً لغيره، من يلي مثلاً أوقافًا، أو يلي أموالاً مستأمن عليه أو نحو ذلك، نقول له: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾، أنك أنت بهذه التصرفات تريد الإصلاح، فلا حرج عليك بل أنت مأجور، أما إن كنت تريد الإفساد وتراعي مصالحك الشخصية أو أنك تنهب منها بطريق مباشر أو غير مباشر، فتأثم بهذا إثمًا عظيماً ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾، هذه قاعدة عظيمة فيمن يلي أموال الآخرين، نقول له: إن الله يعلم المفسد من المصلح، هل نيتك بهذا التعامل الإصلاح أم الإفساد؟ إذا كانت نيتك الإصلاح فأنت على خير وأنت مأجور، وإذا كانت نيتك الإفساد بطريق مباشر أو غير مباشر، فأنت على إثم كبير ومرتكب لكبيرة من الكبائر.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أن الاعتداء على مال اليتيم من كبائر الذنوب، لقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِير﴾، وصف الله هذا الإثم بأنه كبير؛ لأن الآية كالنص في أن الاعتداء على مال اليتيم أنه من الكبائر، مع الآية الأخرى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِير﴾[النساء: 10]، يعني هل هناك وعيد أعظم من هذا؟ انظر كيف توعد الله -عز وجل- من يعتدي على مال اليتيم بهذا الوعيد الشديد، ووصف الله -عز وجل- هذا الاعتداء على مال اليتيم بأنه ﴿حُوباً كَبِير﴾، ثانيًا قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَار﴾، ثالثًا قال: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِير﴾، أراد الله -عز وجل- أن يحمي هذه الطبقة من المجتمع، هؤلاء الأيتام الضعفاء المساكين، هذا طفل ما له أحد يدافع عنه، يأتي إنسان ويأكل أمواله، فهذا الذي أكل ماله قد ارتكب إثمًا عظيماً، ويأكله وقد أكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيرا، كل هذا لأجل حماية هذا الطفل المسكين، فهذا من عناية الله -عز وجل- بهذه الطبقة من المجتمع وهم هؤلاء اليتامى.
ومع الأسف نجد أكل مال اليتيم والتعدي على مال اليتيم موجود من مسلمين يصومون ويصلون ويحجون ويعتمرون ويتصدقون ومع ذلك يعتدون على أموال اليتامى، وربما بعضهم يتأول وهذا التأول لا ينفعه، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾، بعضهم يتأول يقول أنا هدفي كذا، أنا قصدي أحفظ ماله، أنا قصدي كذا، وهو قصد الاختلاس من ماله، وأن يستخدم ماله لمصالحه الشخصية، ولهذا قال أهل العلم: أنه لا يجوز حتى الاقتراض من مال اليتيم، أن تقترض من مال اليتيم لا يجوز؛ لأن الله قال: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[الأنعام: 152]، فأي تصرف بغير التي هي أحسن لا يجوز، كونك تقترض أو تأخذ من مال اليتيم لأنه ليس من تصرف التي هي أحسن.
أيضًا من الفوائد: هنا في قول الله -عز وجل-: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ قلنا: إن الله قال: ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾؛ لأن الولي قد يستتر ويدخل مال اليتيم إلى ماله، لكن إذا ضم مال اليتيم إلى ماله فخسر، فما الحكم؟
فنقول: لا يخلو أن يكون ضم مال اليتيم إلى ماله بقصد الإصلاح أو بقصد الإفساد، فإنه ضامن، أما كأن يكون مثلاً يتسلف مال اليتيم ثم يخسر، هو ضامن لمال اليتيم، لكن إذا كان بقصد الإصلاح وضعه في تجارة وقليلة المخاطر واتقى الله في ذلك ما استطاع، ثم خسرت هذه التجارة فليس عليه شيء، والله تعالى يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن: 16]، وكل إنسان له ولاية في التصرف حتى لو تبين خطئه فلا ضمان عليه، لأن لو قلنا بهذا ما أحد ولي مال اليتيم، فإذا كان قد تاجر في أموال اليتامى تجارة قليلة المخاطرة لكن خسرت هذه التجارة فليس عليه شيء، لا يأثم ولا يجب عليه الضمان.
ولذلك ينبغي لولي اليتيم، هذا مما يشجع أولياء اليتامى، نقول ولي اليتيم ينبغي أن يتاجر بأموال اليتامى، كما قال: "تاجروا بأموال اليتامى كي لا تأكل الصدقة"، لأنك لو أبقيت مال اليتيم من غير تجارة ومن غير تنمية، ستأكله الزكاة، يعني لو هذا اليتيم أول سنة وخلف أبوه أربعين ألفًا، زكاة الأربعين ألف ألف، فإذا بلغ النكاح والإناث الرشد وعمره عشرين سنة، معنى ذلك يكون قد دفع كل سنة ألف، تقارب العشرين ألف، هي تقل لكن مقاربة، ما يقارب نصف هذا المال ذهب في الزكاة، لكن ينبغي الإتجار بمال اليتامى كي لا تأكله الزكاة.
{ثم ننتقل -بإذن الله- لقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى﴾ [النساء: 3].
نستمع لتلاوة الآيات ونعود -بإذن الله}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُو﴾.
{تفضل يا شيخنا بالتعليق}.
ثم قال سبحانه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُو﴾.
الآية الأولى في أموال اليتامى، وهذه الآية في أبضاع اليتامى، فقال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى﴾، والمقصود به هنا اليتامى من النساء، وكان هذا في الجاهلية إذا تولى الإنسان على يتيمة ابنة عمه مثلاً، فإنه يتزوجها وهي كارهة، يتزوجها بدون مهر أو بمهر قليل، لكنه يريد أن يتحجرها ويظلمها بذلك وقد استضعفها، فنهى الله -عز وجل- عن ذلك، هذا كان شائعًا في الجاهلية، عنده مثلاً يلي ابنة عمه اليتيمة يتزوجها بدون مهر أو بمهر قليل، فنهى الله -عز وجل- عن ذلك، فقال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُو﴾ يعني ألا تعدلوا في هؤلاء اليتامى النسوة، لا تطعوهن مهور كاملة لا تنكح هذا اليتيمة، اعدل إلى غيرها ﴿ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾ من غير هذه اليتيمة، ﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾.
فقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾، يعني: النساء كثيرات، ما بقي إلا هذه اليتيمة حتى تتزوجها، إن خفت أن لا تعدل فانكح غيرها، وقوله: ﴿مَا طَابَ﴾ أي ما حسن ورأيتهم طيباً، وتطيب النفس كما جاء في الحديث: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَ»، هذا مما تطيب به المرأة، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك».
وقوله: ﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ يعني: منكم من ينكح ثنتي ومنكم من ينكح ثلاث ومنكم من ينكح أربع، ثم قال سبحانه: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، إذا خشيتم أن لا تعدلوا بالتعدد، بأن تجوروا فاقتصروا على زوجة واحدة، بعض الناس يعرف نفسه ما عنده قدرة على العدل، إنسان غير مرتب ما يستطيع أن يعدل، هذا يقتصر على واحدة، ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أو ملك اليمين، ملك اليمين يعني الرجل له أن ينكح ما ملكت يمينه من الرقيقات، الرق الآن انقرض في العالم كله وأصبح مجرماً في جميع دول العالم، وأصبح ليس موجوداً، لكن فيما سبق كان موجوداً، في وقت ليس بالبعيد كان موجوداً، وقت نزول هذه الآيات كان موجوداً، والرجل يتسرى فيما شاء من الإماء، وهذا معنى قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾.
﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾ يعني ذلك نكاح الواحد عند خوف عدم العدل، وأيضًا أن يتزوج الإنسان واحدة عند خوف العدل، ﴿ أَدْنَى﴾ يعني أقرب ﴿أَلاَّ تَعُولُو﴾ يعني: ألا تجوروا، وهذا هو قول الجمهور، وروي عن الشافعية أن المعنى أن لا تكثر عيالكم إذا اقتصرتم على زوجة واحدة، لكن هذا القول قول ضعيف؛ لأن كثرة العيال مرغوبة عند الله -عز وجل-؛ ولأن العيال يكثرون إذا وطأ الإنسان أمته، والله تعالى قال: ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، فهذا المعنى معنى ضعيف، ويكون المعنى الصحيح لقوله: ﴿أَلاَّ تَعُولُو﴾ يعني: ألا تجوروا.
أبرز الفوائد والأحكام، أولاً: أن الإنسان إذا كان عنده يتيمة وأراد أن يتزوجها، فيجب عليه أن يعدل ويعطيها مهرها كاملاً، ولا يجوز له أن يبخسها شيئًا من مهرها، وإذا خشي أن يبخسها شيئًا من مهرها فإنه يعدل إلى غيرها من النساء مما أباح الله له إن شاء واحدة أو ثنتين أو ثلاثة أو أربع.
ومن فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان الاحتياط إذا خاف الوقوع في المحرم، لقوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾ يعني ولا تعرضوا أنفسكم للجور.
أيضًا من فوائد الآية: أنه ينبغي الإنسان إذا أراد أن يتزوج، يتزوج من تطيب نفسه بها ولا يتزوج وهو كاره، فهذا أقرب أن يؤدم بينهما، فينظر إلى مخطوبته ويعرف أحوالها، فإذا اقتنع بها وطابت نفسه بها تزوجها، وهكذا أيضًا بالنسبة للمرأة، فالزواج من القرارات الكبيرة في حياة الإنسان، لا يخضع لعاطفة ولا مجاملة أو عجلة، لا بدَّ فيه من اقتناع كامل، وأن تطيب نفس الزوج والزوجة بهذا الزواج، بأن يقتنع هذا الخاطب بمخطوبته والمخطوبة تقتنع بخاطبها، وتطيب نفس كل منهما بالآخر، ولهذا قال: ﴿مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾.
أيضًا من الفوائد: مشروعية التعدد؛ لأنَّ الله تعالى ذكره هنا قال: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ لكن هذا بشرط أن يكون الزوج قادراً على العدل، أما إذا كان لا يقدر على العدل فلا يجوز له أن يعدد، فإنما يقتصر على واحدة، ولذلك قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، وهناك بعض الرجال أساءوا للتعدد، يعددون لكنهم لا يعدلون، يسيئون إما للأولى أو للثانية أو للثالثة أو الرابعة، هذا لا يجوز، وقد جاء في الحديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: « من كانت له زوجتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل »، وهذا يدل على وجوب العدل بين الزوجات.
أيضًا دلت الآية على أنه لا يجوز الزيادة على أربع، لقوله: ﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾، فأقصى ما يتزوجه الرجل أربع زوجات وهذا محل إجماع.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
{شكر الله لكم ونفع بكم وأحسن إليكم}.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










المادة: آيات الأحكام
رقم الدرس: 11
فضيلة الشيخ/ سعد بن ترك الخثلان

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في سلسة تفسير آيات الأحكام، يقدمها فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن ترك الخثلان، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلًا حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{شيخنا الفاضل لازلنا في الحديث في سورة "النساء" وصلنا إلى قول الله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: 4].
نستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات ونعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئ﴾ [النساء: 4].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
يقول الله -عز وجل-: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾ يعني: أعطوا الناس، ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ المقصود مهورهن، والصداق يطلق على المهر، الرجل يجب عليه إذا أراد أن يتزوج أن يبذل عوضاً للمرأة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «الْتَمِسْ ولو خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ»، فلا بدَّ أن يبذل الرجل الصداق، وهذا هو الذي دلت عليه الشرائع وهو الذي يتوافق مع الفطرة السليمة، خلافًا لما يفعله بعض الشعوب من أن المرأة هي التي تدفع الصداق أو أنه مشترك بينهما، هذا كله خلاف شرع رب العالمين، الله تعالى أمر الرجل أن يدفع الصداق للمرأة.
﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ وهنا قوله: ﴿وَآتُو﴾ هل الخطاب للأزواج أو الخطاب للأولياء؟
قولان لأهل العلم، فمن أهل العلم من قال: إن الخطاب للأزواج أمرهم أن يعطوا النساء مُهورهن عن طيبة نفس دون مماطلة.
والقول الثاني: أن الخطاب للأولياء، أن الأولياء إذا أخذوا المهر من الأزواج فيجب عليهم أن يعطوا المولية هذا المهر، وهذا لأن بعض العرب كانوا في الجاهلية إذا زوج الرجل ابنته أخذ مهرها كاملاً ولم يعطها شيئًا، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية، وكلا المعنيين تحتمله الآية، كلا المعنيين صحيح يكون هذا الخطاب موجه للأزواج يجب عليهم عند الزواج أن يدفعوا المهر، وموجهاً كذلك للأولياء أنهم لا يجوز لهم أن يبخسوا مولياتهم مهورهن، فالمهر حق للمرأة، إن طابت نفسها عن شيء كما سيأتي في الآية، فلا بأس وإلا المهر حق لها.
ولذلك قال سبحانه: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، ﴿نِحْلَةً﴾ يعني: عطية طيبة بها نفوس، ويعني هذه الطيبة للنفس هذه مهمة جدًّا في العطية، ولذلك سيتكرر هذا المعنى في آيات أخرى، ﴿وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيب﴾[النساء: 6]، ثم قال: ﴿فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف﴾[النساء: 8].
فالإنسان عندما يعطي مالا لغيره سواء أعطاه حقه الذي أوجبه الله له أو أعطاه صدقة أو هبة أو هدية أو تبرعاً ينبغي أن يصحب ذلك القول المعروف وأن يكون ذلك بطيبة من نفسه، وأن تظهر هذه الطيبة على جوارحه؛ لأن بعض الناس عندما يعطي يُعطي وهو كاره، يعطي مثل ما يقال من غير نفس وهو كاره، أو أنه يعطي بطيبة من نفسه لكن يلحق هذه العطية بالمنة والأذى، هذه العطية التي تكون بالمنة والأذى إن كانت عطية تبرع فقد أفسد تبرعه بهذه المنة والأذى، وإن كان هذا الذي يعطى شيئًا واجب عليه فقد أفسد معروفه وإعطاء هذا الواجب لهذه المنة وهذا الأذى، ولذلك نجد أنه تكرر في القرآن الكريم التوجيه بأن الإنسان إذا أراد أن يعطي غيره حقًّا واجباً أو ليس بواجب فعليه أن يقرن ذلك بطيبة النفس وبالقول المعروف، هذا له أثر في هذه العطية؛ لأن بعض الناس يعطي وهو مع أذية يتكلم بكلام جارح، عندما يعطي هذا الإنسان حقه يتكلم بكلام جارح فيفسد هذا المعروف، أو أنه يعطي الفقير لكن يبدأ يمن عليه بطريق مباشر أو غير مباشر، والمنة تذهب الأجر، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى﴾[البقرة: 264].
هنا قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، يعني: طيبة بها نفوسكم، ﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْس﴾ يعني: طابت نفوسهن من هذا المهر فلا بأس، ﴿فَكُلُوهُ﴾ إذا طابت أنفسهم من هذا المهر بشيء سواءً كنتم أنتم أيها الأزواج أو أنت أيها الأولياء ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئ﴾ وعبر بالأكل لأنه أبرز وجوه الانتفاع.
وقوله: ﴿هَنِيئ﴾ يعني: عند الأكل ﴿مَّرِيئ﴾ بعد الأكل، فالهنيء سهل المساغ والمريء محمود العاقبة، فعندما يقال: كُله هنيئا، يعني: تهنئ به، ويكون أكله سهلاً مستساغاً، مريئًا تكون عاقبته محمودة، هذا معنى الهنيء المريء
ننتقل لأبرز فوائد وأحكام هذه الآية.
أولاً: دلت الآية على وجوب إعطاء النساء مهورهن لقول الله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾، ولذلك لو تزوج رجل امرأة واشترط عليها أن لا مهر لها، فهذا الشرط غير صحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أن النكاح باطل، وهو اختيار ابن تيمية -رحمه الله- وجمع من أهل العلم، فلا بدَّ من المهر، لا بدَّ من أن يعطي الزوج الزوجة عوضاً، ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾[النساء: 24] تكرر هذا في القرآن الكريم، «الْتَمِسْ ولو خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ» كما في السنة.
فلا بدَّ إذاً عند الزواج من أن يعطي الزوج امرأته عوضاً.
أيضًا من الفوائد: أن الزوج لا يجوز أن يبخس من هذه المرأة شيئًا من حقها، فإذا كان المهر المسمى مثلاً خمسون أو أربعون، فيجب عليه أن يعطيها هذا المهر كاملاً، ويجوز أن يكون كله مُقدماً أو كله مُؤخرا أو بعضه مقدم وبعضه مؤخر، وكل هذا جائز ويكون بحسب ما يتفقان عليه.
أيضًا من الفوائد: أنه لا يجوز للولي أن يأخذ شيئًا من صداق من ولي عليها من النساء، لأن الله تعالى قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، حتى وإن كان أذى يجب عليه أن يعطيها هذا المال، ثم إن طابت نفسها منه بشيء تعطيه إياها.
أيضًا من الفوائد: جواز إسقاط المرأة شيئًا من المهر لقوله: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئ﴾، فلو مثلاً كان المهر خمسون وقالت أنا يكفيني عشرين، فلا بأس لأن الله قال: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئ﴾.
أيضًا من الفوائد: أنها لا بدَّ إذا أرادت أن تسقط أو تعطي الولي أن يكون ذلك بطيبة من نفسها، لا يكون خجلاً ولا حياءً لقوله: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ﴾، لا بدَّ من طيبة النفس، وإذ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لاَ يَحِلُّ مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمِ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ»، ويستفاد من هذا فائدة: وهي أنه لا يحل أخذ شيئًا من مال الغير إلا بطيبة من نفسه؛ لأن الله اشترط الحل لأكله أن يكون عن طيب نفس، ولذلك إذا علمت بأن هذا الإنسان كاره ببذل هذا المال أو أنه دفع إليك بسيف الحياء أو الحاجة الملحة أو نحو ذلك، فلا تقبله، لا بدَّ عندما تريد أن تأخذ من أحد مال أن يكون بطيبة من نفسه، إلا أن يكون شيئًا واجباً لك هنا تأخذه ولو بطريق القوة الجبرية، لكن الكلام في غير الشيء الواجب، كأن يكون إهداءً أو نحو ذلك أو صدقة أو نحو ذلك، فلا بدَّ أن يكون هذا بطيبة من نفسه، وبهذا نعرف خطأ الذين يحرجون غيرهم في التبرع، فإن بعض الناس يريدون التبرع لإنسان حصلت له جائحة أو نحو ذلك، فيحرجون غيرهم، يلح على غيرهم إلحاحاً شديداً حتى ربما يتبرع بغير طيبة من نفسه، وهذا لا يجوز، لا يجوز إحراج الناس حتى يدفعوا من أموالهم ما لم تطب به نفوسهم.
فالقاعدة في هذا: أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه.
{ثم قال الله -عز وجل-: ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: 5].
نستمع لتلاوة الآيات ونعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَا وَاكْسُوَهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف﴾.
{تفضل يا شيخنا بالتعليق}.
ثم قال الله سبحانه: ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَا وَاكْسُوَهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف﴾.
قال: ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾ السفهاء جميع سفيه والسفيه هو من لا يحسن التصرف، إما لقصور في عقله أو رشده أو لصغر في سنه، فهذا هو السفيه، والسفه قد يكون في الأموال وقد يكون في الأعمال كما قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾[البقرة: 130]، وهنا قال سبحانه: ﴿أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَام﴾ فاختلف العلماء في معنى الآية، فقال بعضهم: لا تأتوا السفهاء أموالكم الخاصة بكم لأنهم سوف يضيعونها بغير فائدة، وقال بعضهم: إن المقصود بذلك أموالهم هم ولكن أضافها إلينا من أجل الولاية، فكأننا بولاية هذا المال كأننا نملك هذا المال، والآية تحتمل المعنيين ولا تضاد بينهما، فتحمل على المعنيين جميعًا.
وقوله:﴿ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَام﴾ يعني: تقوم بها مصالحكم، والمال سماه الله تعالى خيرًا، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾[العاديات: 8]، حب الخير لشديد يعني: حب المال، وقد مرت معنا في درس سابق: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْر﴾[البقرة: 180]، يعني: ترك مالاً كثيرًا، فسمى الله -عز وجل- المال الخير؛ لأن المال تقوم به مصالح الإنسان، فينتفع به في أمور كثيرة، ينتفع في القيام بحاجاته وحاجات من تلزمه نفقته، يكرم به ضيفاً، يصل به رحماً، يفك به أسيراً، يجبر به قلبًا يتيمًا، فالأموال منافعها عظيمة وفائدتها كبيرة، ولذلك عندما أمر الله بالجهاد قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، بل جميع الآيات التي أمر الله تعالى فيها بالجهاد قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس إلا في آية واحدة وهي آية "التوبة" ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾ [التوبة: 111]، وما عدا ذلك قدم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وذلك لأن الذي يجاهد بالنفس محتاج أصلاً إلى المال، فما الذي يوصله إلى ميدان القتال إلا المال.
ثم قال سبحانه: ﴿وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَ﴾ ولم يقل: وارزقوهم منها، وهذا فيه دلالة بلاغية مهمة لأن الله قال: ﴿وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَ﴾ إشارة إلى أن الولي لا بدَّ أن يكتسب بمال هؤلاء السفهاء الذين يلي أموالهم وأن يتاجر بها وأن يُعطيهم من أرباحها ومن ريعها، فيعطيهم، ويرزقوهم يعني: يعطوهم منها، يعطوهم من هذه الأموال، لكن لم يقل منها، ولكن قال: ﴿فِيهَ﴾ إشارة إلى أنه ينبغي أن نتجر بأموال هؤلاء وأن تنمى وأن يكون إعطاءهم من الريع وليس من رأس المال، وهذا هو -والله أعلم- هي الحكمة التي لأجلها قال: ﴿وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَ﴾ ولم يقول: وارزقوهم منها.
وقوله: ﴿وَارْزُقُوَهُمْ﴾ يشمل الإنفاق عليهم بما يحتاجون من الطعام والشراب والكسوة، وكل ما يحتاجون إليه، لكن الله -عز وجل- خص الكسوة فقال: ﴿وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَا وَاكْسُوَهُمْ﴾ نظرًا لأهميتها، وإلا هي داخلة في الرزق فخصها الله تعالى بالذكر، فيكون المعنى ﴿وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَ﴾ يعني: أعطوهم طعاماً وشرابًا وكل ما يحتاجون إليه، وأكد الله -عز وجل- أيضًا ما يتعلق بشأن الكسوة؛ لأن الكسوة بالنسبة لهؤلاء أمرها مهم، اللباس بالنسبة للإنسان أمره مهم، يعني يحكم على الإنسان من لباسه عندما يُرى مثلاً هذا الإنسان رث الهيئة، رث اللباس أول ما يُرى العكس من ذلك، فهذا يعني إذا كان يتيماً مثلاً ينبغي أن يكسى الكسوة المناسبة واللائقة به.
﴿وَاكْسُوَهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف﴾ يعني: عندما تعطونهم، تنفقون عليهم أو تكسوهم قولوا لهم قولاً معروفاً ولا يكون ذلك مع إهانة لهم أو أذية لهم، وإنما لا بدَّ من القول المعروف -كما ذكرنا قبل قليل-، لأن بعض الناس عندما يعطي من يلي ماله يعطيه بغلظة ويعطيه بجفاء ويعطيه بمنة..، هذه الأذية تفسد هذا المعروف، ما دمت وليت مال هذا السفيه أو اليتيم فينبغي أن تحسن التعامل معهم، أو حتى من ذوي الاحتياجات الخاصة عندما تعطيه شيئًا، تعطيه طعاماً أو تعطيه شراباً أو تعطيه كسوة أو تعطيه شيئًا من ماله ينبغي أن يقترن ذلك بالقول المعروف، ولذلك سبحانه: ﴿وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَا وَاكْسُوَهُمْ َقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف﴾ ولا تقل إن هذا عنده قصور في عقله، هذا ما يفهم، مهما كان هو يشعر، ولذلك الله -عز وجل- حتى في شأن الأعمى، الأعمى الذي أتى النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان مشغولًا بدعوة صناديد قريش يرجو إسلامهم، لأنهم إذا أسلموا أسلم معهم الكثير، فأتاه هذا الرجل الأعمى وقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان منشغلًا كأن هذا الرجل أتاه في وقت غير مناسب أو كذا، أتى إليه وعبس في وجه وتولى، عرض عنه، هذا الرجل أعمى لم يرَ النبي -عليه الصلاة والسلام-، أي: لم يرَ عبوسه، يعني: لكن مع ذلك عاتبه الله تعالى، عاتب الله نبيه، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾[عبس: 1- 2].
إذا كان هذا في شأن رجل أعمى لم يرَ عبوس من عبس في وجهه، فكيف بغيره!؟ ولذلك ينبغي العناية بهؤلاء، هؤلاء الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة عموماً والرفق بهم وإكرامهم واحترامهم وعدم كسر قلوبهم بأية صورة من الصور، هذا أمر مهم، يعني: هذه الطبقة من المجتمع وهم ذوي الاحتياجات الخاصة هم ابتلاء للأولياء الذين ولاهم الله تعالى عليهم وابتلاء للمجتمع كله، فمن كان في بيته أحد من ذوي الاحتياجات الخاصة فهذا من باب رحمة وباب خير، بل باب من أبواب الجنة، لكن أحسن إليه إحسانًا عظيماً، الإحسان لا يكون فقط بأن تعطيه أكلاً وشرباً وكسوة لا، بل الإكرام والاحترام، ولذلك لما أمر الله تعالى بأن يعطوا من أموالهم ﴿وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَا وَاكْسُوَهُمْ﴾ قال: ﴿قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف﴾ لا تفعلوا ذلك بغلظة ولا بإهانة، ليس معنى ذلك أنه لا يؤدب ذلك اليتيم، لا، يؤدب هو كغيره، يعامل كغيره، لكن المعنى أنه لا يتعامل معه بجفاء وبغلظة تشعره بأنه أقل من غيره.
ننتقل لأبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
أولاً: لا يجوز إعطاء السفهاء الأموال، وذلك لأن إعطاء السفهاء للأموال يؤدي إلى ضياعها، والمؤمن منهي عن إضاعة المال، لقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، فهذا السفيه لا يعطى ماله سواءً كان مال الإنسان أو ماله هو، يعني على احتمالين جميعًا، فمثلاً الأب لا يعطي ابنه الصغير إذا كان يضيع هذا المال ويفسده، لا يعطيه هذا المال، أو إذا كان سفيه غير راشد وهو وليه لا يعطيه هذا المال وإنما ينفق عليه مما يحتاج إليه، هذه أموال جعلها الله تعالى قيامًا للناس فلا تعطى السفهاء.
أيضًا من الفوائد: أن السفه موجب للحجر على الإنسان في ماله، وقد قسم الفقهاء الحجر إلى قسمين: حجر على الإنسان لحظ نفسه، وحجر على الإنسان لحظ غيره، أما الحجر على الإنسان لحظ غيره فهو المفلس، وتعريف المفلس من كان دينه أكثر من ماله، فهذا يحجر عليه لحظ غيره، أي لحقوق الغرماء، هذا إنسان كثرت عليه الديون فطلب الغرماء الحجر عليه، فيحجر عليه بحيث لا يتصرف في أمواله لحق هؤلاء الغرماء، تؤخذ أموالهم ويستثنى من ذلك الحاجات الأساسية له وحاجاته حاجات من تلزم نفقته، ويقسم المال الموجود بين الغرماء، هذا حجر على الإنسان لحظ لغيره، هذا حجر على المفلس.
القسم الثاني: الحجر على الإنسان لحظ نفسه والحجر على الصغير وعلى المجنون وعلى السفيه، هذا حجر على الإنسان لحظ نفسه، لمصلحته هو، إذا كان صغيراً يحفظ ماله، لأن هذا الصغير لو أعطي المال لأفسده، المجنون لو أعطي المال لأفسده، السفيه حتى لو كان كبيراً في السن، بعض الناس عنده السفه ما يحسن تدبير المال، فهذا يحجر عليه ما يترك يعبس بالمال، وإنما يحجر عليه، فإذاً الحجر على الإنسان إما يكون لحظه نفسه وإما أن يكون لحظ غيره.
أيضًا من الفوائد: حكمة الله -عز وجل- في المال الذي أعطاه لعباده، وهو أنه قيام للناس في مصالح دينهم ودنياهم، ولذلك يحرم على الإنسان أن يصرف هذا المال في غير ما فيه قيام دينه ودنياه، ولذلك لا يجوز أن يبذر هذا المال ولا أن يصرف في هذا المال وإنما ينفقه في مصارفه الشرعية، وأيضًا أهل العلم استنبط فائدة وهي أنه لا يجوز أن يسلط أحد على شيء يحصل به الفساد بتسليطنا إياه، إذا أعطي الإنسان شيئًا وهذا الشيء تسبب في أن يقوم بالاعتداء على غيره أو إفساد مال غيره أو نحو ذلك، فإن هذا لا يجوز لأن الله تعالى إذا كان نهى عن إعطاء السفهاء أموالهم لأن فيها إفساد لهذه الأموال، وكذلك أيضًا لا يجوز أن يسلط أحد على شيء يحصل به الفساد.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
{أحسن الله إليكم، ثم قال الله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ...الآية﴾[النساء: 6].
نستمع للتلاوة ونعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيب﴾.
{تفضل يا شيخنا بالتعليق}.
ثم قال -عز وجل-: ﴿وَابْتَلُوا اليَتَامَى﴾ لازال الكلام عن أحكام اليتامى، يعني هذه السورة ابتدأت من الآية الثانية بالكلام عن اليتامى، ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 3]، ثم بعد ذلك قال الله تعالى هنا: ﴿وَابْتَلُوا اليَتَامَى﴾، وسبق أن قلنا: إن اليتيم هو من مات أبوه قبل البلوغ، هذا هو تعريف اليتيم.
قال: ﴿وَابْتَلُو﴾ يعني: اختبروا ﴿اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ هذه الآية في إعطاء اليتيم ماله، فالله تعالى ذكر شرطين لإعطاء اليتيم ماله:
الشرط الأول قال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ البلوغ.
والشرط الثاني: ﴿فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْد﴾، وإيناس الرشد يكون بالابتلاء، بأن يبتلى هذا اليتيم بأن يختبر فيعطى مثلاً يجعل يبيع ويشتري، فإذا باع واشترى مرارًا ولم يغبن، فمعنى ذلك أنه راشد، أما إذا كان يغبن، كل مرة يبيع ويشتري فيها يغبن، فهذا ليس براشد، فلا يعطى ماله، فلا بدَّ من أن يختبر هذا اليتيم.
كذلك أيضًا إذا كان اليتيم امرأة تختبر، يعني بحاجات البيت إذا عرفت ضبطها فهي رشيدة، يمكن أن يحكم على هذا اليتيم من خلال النظر لحاله هل هو عنده السفه في تصرفاته أو عنده رشد، إذا أشكل علينا الأمر نبتليه بأن نختبره، نعطيه يبيع ويشتري وننظر إذا لم يغبن مرارًا معنى ذلك أنه عنده رشداً، وهكذا أيضًا بالنسبة للأنثى سواءً في البيع والشراء في الأمور المناسبة لها أو كان أيضًا في حاجات البيت ونحو ذلك.
فإذاً ذكر الله تعالى هذين الشرطين، الشرط الأول: البلوغ، والشرط الثاني: إيناس الرشد، الشرط الأول البلوغ، بما يحصل البلوغ؟ البلوغ يحصل بواحدة من ثلاثة علامات، العلامة الأولى إنزال المني يقظة أو منام، فهذه علامة من علامات البلوغ، العلامة الثانية: بلوغ تمام خمسة عشر سنة، يعني إذا تم خمسة عشر سنة ودخل في السنة السادسة عشر، وليس المعنى أتم أربعة عشر سنة ودخل في الخمسة عشر كما يفهم بعض الناس، إنما المقصود إذا أتم خمسة عشر سنة ودخل في السنة السادسة عشرة، ولهذا بعض الفقهاء يقولوا بلوغ التمام خمسة عشر سنة، وهذه أيضًا مسألة أنبه إليها أن بعض الناس يفهمونها فهماً غير صحيح لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ»، بعض الناس يفهما إذا تم ست ودخل في السابعة، هذا غير صحيح، المقصود إذا أتم السبع سنين ودخل في السابعة، «وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ»، يعني أكمل عشر سنين ودخل في الحادية عشر، ولذلك الناس في الطفل الأقل من سنة المسألة واضحة عندهم، إذا قلت ما عمر هذا الطفل؟ ما يقول سنة، يقول: شهر شهرين، ستة أشهر، عشرة أشهر، إحدى عشر شهراً، ما يقول سنة، متى يقول سنة؟ إذا أتم اثني عشر شهراً، لكن بعد هذا تجد أنهم يعبرون ينقصون في المدة، فمثلاً يقول عمره سبع وهو لم يتم سبع سنين، إنما ست وبعضة أشهر، إذا كان ستة وأشهر ما يقال إن عمره سبع، إنما عمره ست، متى يقال عمره سبع؟ إذا أتم سبع سنين.
ولذلك تجد أن بعض الناس يكبر نفسه في العمر بهذا، مثلاً عمره مثلاً ثلاثون، يجعل عمره واحد وثلاثين، هو في الحقيقة ثلاثون وأشهر، يكون عمره ثلاثون، متى يكون عمره واحد وثلاثون؟ إذا أتم اثني عشر شهراً ودخل في الحادي والثلاثين يقال عمره واحد وثلاثين.
إذًا العلامة الثانية: بلوغ تمام خمسة عشر سنة.
العلامة الثالثة: نبات الشعر الخشن حول الفرج، لا بدَّ أن يكون أيضًا الشعر الخشن احترازًا من الشعر الناعم هذا قد يخرج من بعض الصغار، لكن الشعر الخشن علامة واعتمدها النبي -عليه الصلاة والسلام- في قصة بني قريظة.
هذه ثلاث علامات يشترك فيها الذكر والأنثى، تزيد الأنثى العلامة الرابعة وهي نزول دم الحيض وهي أسرع العلامات، فعلامات البلوغ عند الأنثى أربع وعند الذكر ثلاثة مشتركة، خروج المني يقظة ومناماً، والثانية: بلوغ تمام خمسة عشر سنة، والثالثة: نبات الشعر الخشن حول الفرج، والعلامة التي تنفرد بها الأنثى نزول دم الحيض، هذه إذا ظهرت واحدة من العلامات يحكم عليه بالبلوغ.
فإذاً إذا بلغ هذا اليتيم لا يكفي أيضًا البلوغ لإعطائه ماله وإنما لا بدَّ من أمر آخر وهو إيناس الرشد، وإيناس الرشد إما أن يحكم عليه من خلال النظر لسيرته وحياته وإن كان أمره واضح بأنه راشد فيعطى ماله، وإن كان سفيهًا لا يعطى، إذا أشكل علينا الأمر وشككنا نبتليه كما قال سبحانه: ﴿وَابْتَلُوا اليَتَامَى﴾ بأن يعطى يبيع ويشترى مرارًا فإذا لم يغبن دل ذلك على رشده.
قال: ﴿وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ يعني أعطوهم أموالهم، ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُو﴾ يعني لا يجوز لكم أن تأكلوا أموال اليتامى إسرافاً، والإسراف هو مجاوزة الحد، ﴿وَبِدَار﴾ أنكم تبادرون بأكلها قبل أن يكبروا، ولهذا قال: ﴿وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُو﴾ فيبدأ يأكلها الإنسان قبل أن يكبر هذا اليتيم، فنهى الله تعالى عن أكل مال اليتيم، وهنا في هذه السورة نهى الله عن أكل مال اليتيم بعدة أساليب.
يعني في الآية السابقة قال: ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِير﴾[النساء: 2]، هنا في هذه الآية قال: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُو﴾.
أيضًا في الآية التي بعدها قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِير﴾[النساء: 10]، يعني: انظر كيف أن الله -عز وجل- شدد في هذه القضية، قضية أكل مال اليتيم، لماذا شدد الله تعالى فيها؟ لأن الدافع قوي والمانع ضعيف، الدافع محبة الإنسان للمال، الإنسان يحب المال، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾، ﴿وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَم﴾[الفجر: 20]، المال هذا اليتيم من الذي يحميه ويحفظه؟ ما فيه، إذا كان وليه هو الذي سيأكل ماله، ما الذي يدافع عنه؟ ربما يكون له أم تدافع عنه، قد لا يكون له أم أو تكون أم ضعيفة أيضًا مثله، فلذلك حمى الله -عز وجل- هؤلاء اليتامى، انظر هذه المؤكدات، عدة مؤكدات، يعني في هذه السورة في صفحة واحدة فقط نهى الله تعالى عن أكل مال اليتامى بثلاثة أساليب: ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِير﴾، يعني: إثماً كبيراً من كبائر الذنوب وليس من الصغائر، ثم في هذه الآية قال: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُو﴾، ثم في الآية التي بعدها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِير﴾، كل هذا التشديد لأجل حماية هؤلاء اليتامى ومع ذلك نجد مع الأسف من المسلمين من يأكلون أموال اليتامى ويستغلون ضعف هؤلاء اليتامى، ربما بعضهم يتأول، التأول لا ينفعه، فما أعظم مصيبة من أكل مال اليتيم، ما أعظم مصيبته عند الله -عز وجل-، بئس ما فعل، وسيلحقه الخزي والعذاب، ربما في الدنيا قبل الآخرة، بأن تنزع البركة من ماله أو صحته أو من استقراره أو من غير ذلك بسبب تسلطه على هذا الضعيف وأكله لماله.
فانظر إلى عناية القرآن العظيم بحفظ أموال اليتامى وحماية هؤلاء اليتامى الضعفاء، فهنا في هذه الآية نهى الله -عز وجل- عن أكل مال اليتيم بهذا الأسلوب: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُو﴾ لأن هذا أيضًا كان موجوداً عند العرب، قبل ما يكبر اليتيم يبادر ويأكل ماله.
ثم قال سبحانه: ﴿وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ يعني من كان من أولياء اليتامى غنيًّا ولا يحتاج إلى مال اليتيم ﴿ فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ فليكف عن الأكل ولا يأكل من ماله شيء وإنما يحفظه له وينميه، ﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا كان ولي اليتيم فقيراً أباح الله تعالى له أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف، وهنا قال الفقهاء: يأخذ الأقل من حاجته أو من أجرة مثله، فينظر كم حاجته أو أجرته مثلاً، يأخذ الأقل، هذا هو الأكل بالمعروف، لأنه لا يحل له أن يأكل مطلقًا وإنما بالمعروف، يأخذ الأقل من حاجته أو من كفاية مثله.
أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية، أولاً: عناية الله -عز وجل- بشأن اليتامى وحماية هذه الطبقة من المجتمع؛ لأن هذا اليتيم لما كان ضعيفاً قد انكسر قلبه بفقد والده، إن الله -عز وجل- حمى هذا اليتيم بأن توعد من يأكل ماله بهذا الوعيد الشديد، وصفه الله تعالى أول ذلك ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِير﴾، ثم توعد من يفعل ذلك قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِير﴾، وهذا يقتضي أن أكل مال اليتيم أنه من كبائر الذنوب.
أيضًا من الفوائد: أن ولي اليتيم يجب عليه أن يدفع مال اليتيم إليه إذا تحقق شرطان، الشرط الأول: البلوغ، بأن يبلغ هذا اليتيم بإحدى علامات البلوغ التي ذكرناها.
الشرط الثاني: بإيناس الرشد، فإذا تحققا هذان الشرطان البلوغ وإيناس الرشد، فيجب على الولي أن يدفع للولي ماله ولا يجوز له أن يستبقيه عنده، لأنه أيضًا هناك بعض الأولياء يأخذ مال اليتيم ولا يعطيه حقه، يكون هذا اليتيم بلغ وأناس الرشد ومع ذلك لا يزال محتفظاً به، هذا لا يجوز، عندما يكلم في ذلك يقول: أنا أريد أن أحفظه ماله أخشى أن يضيعه، نقول: إذا تحققا هذان الشرطان لا يجوز لك أن تأخذ ماله، هو ماله وهو حر فيه، لكن بهذين الشرطين: أن يكون قد بلغ وأنس الرشد، إذا بلغ وأنس الرشد يجب عليك أنت الولي أن تعطيه ماله، انتهت مهمتك فيجب عليك أن تنقل مال اليتيم الذي عندك أن تنقله إلى هذا اليتيم.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه إذا لم يُعرف رشد هذا اليتيم بعد بلوغه، فيجب ابتلاؤه وذلك باختباره بأن يعطى يبيع ويشتري مرارًا فإذا لم يغبن عُرف بذلك رشده.
أيضًا دلت هذه الآية على وجوب استعفاف الغني عن مال اليتيم؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾، لكن ماذا لو كان الولي غنيًّا وقال: أنا لن أقوم على مال اليتيم إلا بمقابل، فنقول: الأمر في ذلك يرجع للقاضي؛ لأن القاضي له ولاية عامة على أولياء اليتامى في البلد، فيرجع إلى القاضي، فإذا وجد القاضي من يقوم على مال اليتيم دون مقابل أعطاه إياه إذا كان ثقة، وإذا لم يجد إلا هذا الغني فيعطيه أجرة مثله، ولا يلزم أن يقوم على مال اليتيم مجاناً، لكن الأكمل أن هذا الغني يقوم عليه احتساباً للأجر عند الله -عز وجل-.
أيضًا دلت الآية على أن ولي اليتيم إذا كان فقيراً يجوز له أن يأكل من ماله بالمعروف وذكرنا أن الفقهاء قالوا: إن المعروف هنا أن يأخذ الأقل من حاجته أو من أجرة مثله.
أيضًا دلت الآية على أنه إذا كان فقيراً فأكل، فلا يلزمه إذا أغناه الله -عز وجل- أن يرد ما أكل، لأن الله أباح له ذلك والمباح لا ينقلب حرامًا، ولو قلنا بوجوب الرد إذا أغناه الله لأن يكون هنا فائدة لإباحة الأكل وإن كان قال بعض العلماء بوجوب رد ما أكله، لكن القول الراجح هو القول الأول أنه لا يجب، لأن الله تعالى أباح له ذلك والمباح لا ينقلب حرامًا، لكنه لو أراد أن يرد ما أخذه على سبيل التورع والاحتياط والإحسان لهذا اليتيم، كان ذلك حسنًا.
أيضًا من الفوائد: اعتبار الحال وأن الأحكام تختلف بحسب اختلاف الأحوال، وهذا من حكمة الشريعة، أخذ هذا من قول الله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فرقت الشريعة بين الولي الغني وبين الولي الفقير.
أيضًا من الفوائد: الرجوع للعرف لقوله: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وعند العلماء قاعدة من القواعد الكلية الكبرى وهي قاعدة العادة محكمة، فكل أمر ورد في الشرع وليس له حد في الشرع ولا في اللغة نرجع فيه للعرف، فهذا الولي الفقير عندما يأكل من مال اليتيم فإنما يأكل بالمعروف.
أيضًا أن ولي اليتيم إذا دفع المال لليتيم بعد تحقق الشرطين، وهما البلوغ وإيناس الرشد، فعليه أن يشهد لقوله: ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ وعلى خلاف بين العلماء هل الأمر هنا بالإشهاد للوجوب أو للاستحباب؟ والأقرب -والله اعلم- أنه للوجوب لأن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، لكن لو وجدت وسيلة يحفظ بها الحق غير الإشهاد، فالذي يظهر لا يكون واجباً، كأن يكتب ويوثق، يكتب على هذا ويقر بأن استلمت مثل حقي من كذا، ويصدق مثلاً من جهة رسمية، قد يغني عن الإشهاد، أو أنه يشهد شاهدين على أنه دفع إليه ماله، وإنما أمر الله تعالى بالإشهاد دفعاً للتهمة وقطعاً للنزاع والخصومة، فإن هذا اليتيم قد يتشكك فيما بعد في أن هذا الولي أعطاه حقه، والإنسان يتغير، تتغير أحواله وتتغير أموره وتتغير أفكاره وتتغير عواطفه كما يقول بعضهم يعني هو من الأغيار، فربما ما تراه صوابًا قبل سنوات لا تراه الآن صوابًا، ربما ما تراه خطأً قبل سنوات لا تراه الآن خطأ، الإنسان يتغير، هل نظرتك للحياة الآن مثل نظرتك للحياة قبل عشر سنين؟ نظرتك للحياة بعد عشر سنين ستختلف، فالإنسان يتغير، يتغير في كل شيء، يتغير حتى في بنية جسمه، في قوته، في عواطفه، في نظرته للحياة، في حبه، في كرهه، ممكن الأمور كلها تتغير، ولذلك الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
فالإنسان قد يكون الآن واثقًا عندما يعطي هذا اليتيم ماله يكون واثقاً وتكون الثقة موجودة لكن ربما في المستقبل تتغير الأمور، ربما تحصل بينهم مشكلة، يحصل شقاق، يحصل أمر فيبدأ هذا اليتيم يتشكك، يقول: أنت ما أعطيتني حقي، ولذلك لا بدَّ من التوثيق.
ذكرنا بالحلقة السابقة أن أطول آية في القرآن هي في حفظ الدين، في توثيق الدين، أطول آية في القرآن في توثيق الدين، فينبغي الإنسان أن يحرص على التوثيق وأن يحرص على حفظ الحقوق، لأن بعض الناس فوضوي، تجد مثلاً عندما يعطي اليتيم يعطيه من غير إشهاد ومن غير كتابة ومن غير، هذا اليتيم بعد مدة من الزمن يجحد يقول ما أعطيتني شيء، حتى تحمي نفسك وثق هذا، أشهد شهودا والأحسن أن تشهد مع الكتابة.
هذا يقودنا إلى مسألة وهي: لو أن الولي ادعى أنه دفع لليتيم ماله، واليتيم أنكر، هناك بينة فالقول قول صاحب البينة، لكن لم يكن هناك بينة، فاختلف العلماء هل يقبل دعوى الولي أو دعوى اليتيم، والأقرب والله أعلم أنه لا تقبل دعوى الولي؛ لأن الله تعالى أمر بالإشهاد، وهو قد فرط في هذا الإشهاد، إلا إذا كانت هناك قرائن تدل لذلك، إذا كان هناك قرائن، يعني: الولي معروف بالصدق والأمانة وأن يكون اليتيم معروف بالجشع والطمع، يمكن هنا يرجح قول الولي، لكن لا يكون له قرائن، نحن قلنا لا بينة، لا بينة، فكون هذا الولي لا يشهد هذا يجعل قوله غير مقبول، دعواه غير مقبولة، يقول اثبت أنك دفعت لهذا اليتيم ماله، الأصل أن مال اليتيم عندك وأنت تدعي أنك دفعت إليه هذا المال، فأثبت هذا.
أيضًا من الفوائد: تحذير الولي -ولي اليتيم- أن يخون في ولايته، وتحذير أيضًا اليتيم أن ينكر قول الله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيب﴾، فإذا كان الله هو الكافي على حساب عباده فالإنسان عليه أن يخشى هذه المحاسبة وأن يتوب إلى الله -عز وجل-.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
{أحسن الله إليكم، بعض الأسئلة الله يحفظكم.
المرأة يا شيخنا هل إذا ظهرت لديها بعض علامات البلوغ ولم تحض هل تعد بالغة؟}
ظهرت عليها بعض علامات البلوغ يعني: من العلامات الثلاث، نعم تعد بالغة فقلنا العلامات الثلاثة: خروج المني يقظة ومنامة من الرجل أو المرأة، كذلك أيضًا بلوغ تمام خمسة عشر سنة من الرجل أو المرأة، كذلك أيضًا نبات الشعر الخشن من الرجل أو المرأة، فإذا ظهرت واحدة من العلامات الثلاثة في الذكر أو في الأنثى يكون قد بلغ، الأنثى تزيد علامة رابعة وهو نزول دم الحيض وهو أسرع العلامات، فإذاً إذا ظهرت واحدة من هذه العلامات على الذكر أو الأنثى فإنه قد يكون قد بلغ، وإذا بلغ فقد جرى عليه قلم التكليف، لأنه قبل البلوغ مرفوع عنه القلم، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة» وذكر منهم «وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ»، ولكن إذا كان مميزاً يثاب على الطاعات ولا يعاقب على المعاصي، ولذلك أمر بالصلاة «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ» معنى ذلك أن يثاب، ولما رفعت امرأة الصبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: «نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ»، كونه له حج يدل على أنه يثاب، هو يثاب على الطاعات لكنه مرفوع عنه القلم، فإنه لا يعاقب على المعاصي وهذا من رحمة الله -عز وجل-.
{المرأة تجب عليها الصلاة وتلتزم بالحجاب وكل هذه الأحكام حتى لو لم}.
نعم إذا ظهرت إحدى علامات البلوغ فيجب على المرأة ما يجب على البالغة، هي بلغت الآن، تكون قد بلغت، وهكذا أيضًا بالنسبة للذكر.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا هل تذكرون بحق اليتيم وفضل الإحسان له في ظل الظروف الراهنة وفي ظل وجود كثير من الأيتام بحيث يستشعر الإنسان هذا الأمر وهذا الفضل من أقاربه أو من غيره}.
أولاً اليتيم كما ذكرنا من مات أبوه قبل البلوغ، فأوصى الله تعالى بالإحسان إليه في مواضع كثيرة تجاوزت عشرين موضعا، والإحسان إليه ليس فقط بالمال، بالمال وبالمعاملة، ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾، ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾[الماعون: 1- 2]، ﴿يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾ يعني ينهر اليتيم، يعني الإحسان بالمعاملة قد يكون أهم من الإحسان بالمال، لأن بعض الناس ما يفهم من الإحسان لليتيم إلا الإحسان بالمال، لا، الإحسان بالمعاملة مهم، فهذا اليتيم ينبغي أن لا يشعر بيتمه وأن يكون محل إكرام وعناية واحترام من أفراد المجتمع.
يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أنا وكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ هكذا وأشار بالسَّبَّابةِ والوُسْطى»، وهذه منزلة رفيعة لكافل اليتيم أنه ينال هذه الدرجة العالية، فما أعظم أجر من كفل يتيم، وما أعظم ثوابه عند الله -عز وجل-، لكن هذا يقودنا إلى سؤال؟ ما المراد بكفالة اليتيم؟ بعض الناس يظن أن كفالة اليتيم هي أن يعطي هذا اليتيم مالاً أو يعطيه جمعية وهذه الجمعية تنفق على هذا اليتيم تعطيه مرتبًا شهريًا، هذه ليست كفالة يتيم، هذه صدقة على يتيم، كفالة اليتيم معناها أن هذا اليتيم يضمه إلى بيته مع أولاده ويكفله في كل شيء، ليس فقط في الطعام والشراب، الطعام والشراب والكسوة والرعاية وهذه أهم شيء، أن يراعها يعتبره أنه واحد من أبنائه، يرعاه مثلاً في تعليمه، في دراسته، كل شيء، يعتبره كأنه واحد من البيت، وهذه كفالة اليتيم، كفالة اليتيم الواردة في الحديث «أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين»، معناه أنه يأتي بهذا اليتيم إلى بيته ويتعامل معه كأنه أحد أبنائه، أما مجرد أن يعطي هذا اليتيم مالاً أو يعطي جمعية خيرية تعطي هذا اليتيم مال ويسمونه كفالة يتيم، هذا عمل خير وهذا عمل صالح لكنه هو ليس كفالة اليتيم المراد في الحديث، هذه تسمى صدقة على يتيم وهو مأجور على ذلك.
وهنا عندما نتأمل بلاغة القرآن، هذه ربما فاتنا التنبيه عليها -جزاك الله خيرًا لطرح هذا السؤال-، عندما قال الله -عز وجل- في الآية الثانية: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾[النساء: 3]، ما العلاقة بين اليتامى وبين النكاح؟ النكاح مثنى وثلاث ورباع، هنا بعضهم ذكر أمراً دقيقاً ولطيفاً، قال: إن العناية باليتامى تكون بأن يتزوج هذا الرجل أم هذا اليتيم ويضمه إليه، فهذه تكون هي أقصى درجات العناية باليتامى، لأنه الآن عوضه عن أبيه، فأصبحت أمه زوجة لهذا الولي الكافل اليتيم، وأصبحت كأنها واحد من أهل البيت، هذه أعلى درجات العناية باليتيم، أنه يتزوج أمه ويكفل هؤلاء الأيتام أولاد هذه المرأة ويكون زوجًا لأمهم ويتعامل معهم كأنه أبوهم، هذه أعلى درجات إكرام اليتيم، وهذا -والله أعلم- هو السر.
يعني ما علاقة التعدد بقوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى﴾، ما علاقة التعدد باليتامى؟ ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾، يعني لاحظ هنا الإقساط في اليتامى وتوجيه بالتعدد لمن كان قادر على العدل، أما من لم يكن قادراً على العدل، قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، فهذا يدل على أن إكرام اليتيم والعناية باليتيم لها درجات، أعلى درجاتها هذه الدرجة، ومن أقل درجاته هو فقط أن يدفع له مالاً، هذه درجات من درجات الإحسان إلى اليتيم، لكن إذا أتى بهذا اليتيم عنده في البيت هذه كفالة يتيم، إذا أتى به وبأمه هذه أعلى درجات كفالة اليتيم، فسبحان الله انظر لعناية الشريعة الإسلامية بهؤلاء اليتامى، وقل من كان يتيمًا فله أسوة وسلوه بسيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-، نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- مات أبوه وهو في بطن أمه وماتت أمه وهو عمر أربع سنين، قيل أربع وقيل ست، محل خلاف، فأصبح يتيم الأبوين وهو لم يبلغ سن التمييز، ماتت أمه ومات أبوه، ومع ذلك هو سيد البشر ما ضاره اليتم، وعندما ننظر لسير العظماء نجد أن كثيرًا منهم من الأيتام، الإمام أحمد كان يتيماً، كثير من الأئمة، يعني لو نظرنا لعلمائنا المعاصرين شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز كان يتيم، الشيخ عبد الله بن حميد كان يتيماً، معظم العلماء تجد أن هذه السنة عندهم، أنه لم يضرهم هذا اليتم بل كان دافعاً لكي يتميزوا ويبدعوا وكانوا من عظماء التاريخ.
فاليتم قد يكون دافعاً للإنسان لكي يتميز ويبرز في المجتمع، فمن كان يتيمًا فأسوته محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-، كان يتيم الأبوين ومع ذلك هو سيد البشر -صلوات الله وسلامه عليه-.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
بارك الله فكيم.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك