الدرس التاسع
فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن تركي الخثلان
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من
برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم على مائدة كتاب الله -عز وجل- وفي تفسير آيات
الأحكام مع فضيلة شيخنا، الشيخ الدكتور/ سعد بن ترك الخثلان، أستاذ الفقه في كلية
الشريعة بجامعة الإمام، مرحباً بكم يا فضيلة الشيخ}.
أهلًا حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{شيخنا الفاضل كنا قد وصلنا إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[البقرة: 277].
نستأذنكم في تلاوة لهذه الآية، ثم نعود بإذن الله للشرح والتعليق.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ﴾.
تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى
بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا اللقاء وأن يبارك فيه.
كنا قد وصلنا في شرح آيات الأحكام وتفسير آيات الأحكام إلى قول الله -عز وجل-:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ﴾، بدأنا
بالكلام عن آيات الربا: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ
كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ﴾ [البقرة: 275]،
والآية التي بعدها: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَ﴾ [البقرة: 276]، تكلمنا عن معاني
وفوائد وأحكام هاتين الآيتين في الحلقة السابقة.
والآن نستكمل الحديث من حيث توقفنا، وصلنا عند قول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ﴾، وهذه الآية وقعت بين آيات الربا؛ لأن الآية التي بعدها: ﴿يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَ﴾[البقرة:
278]، والتي قبلها: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَ﴾، وهذا فيه إشارة لأهمية الإيمان
والعمل الصالح وأن الإيمان والعمل الصالح من أعظم ما يردع الإنسان عن التعاملات
الربوية، إذا كان الإيمان قويًّا وتبعه عملٌ صالح، فهذا يردع الإنسان عن التعامل
الربوي، لكن إذا كان مستوى الإيمان ضعيفاً، فإن الإنسان يتجرأ على الربا ولا يبالي،
وهذا كأن الآية فيها إشارة إلى هذا المعنى.
فقال -عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُو﴾ يعني بجميع ما يجب الإيمان به، الإيمان
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجميع ما أمر الله تعالى بالإيمان به،
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: عملوا الأعمال الصالحة، والعمل الصالح لا يكون
صالحاً إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون صالحاً لله -عز وجل-.
والشرط الثاني: أن يكون موافقاً للنبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني الإخلاص
والمتابعة.
فإذا لم يكن العمل خالصاً لله لم يكن صالحاً، وإذا كان خالصاً لكن لم يكون متابعًا
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن صالحاً، فلا بدَّ أن يكون العمل صالحاً أن
يتحقق فيه هذان الشرطان: الإخلاص والمتابعة.
وطريقة القرآن أنه يقرن الإيمان بالعمل الصالح، تجد في آيات القرآن ﴿آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، لا يكتفي بالإيمان ولا يكتفي بالعمل الصالح، لا بدَّ من
إيمان وعمل صالح؛ لأن الإيمان بدون عمل صالح لا يُفيد، إنسان يقول: أنا مؤمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لكن لا يصلي ولا يصوم ولا
يزكي، هل ينفع صاحبه؟ من ترك الصلاة بالكلية فهو كافر، «بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ
الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ»، ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ *
إِلاَّ مَن تَابَ﴾ [مريم: 59- 60].
هذا دليلٌ على أن من أضاع الصلاة ليس مؤمن، لا يكفي أن الإنسان يقول أنا مؤمن ولا
يعمل صالحاً، وأيضًا لا يكفي أن الإنسان يعمل صالحاً من غير إيمان، يشترط لقبول
العمل الصالح أن يكون الإنسان مؤمناً، لو أن كافراً صلى ما تنفعه صلاته ولا تقبل
منه، صام، لا ينفعه صيامه، زكى لا تنفع زكاته، لا بدَّ أولاً أنك تصحح الأصل، لا
بدَّ أن تكون مؤمناً موحداً، تشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فتؤمن وتعلن
إسلامك، ثم بعد ذلك تأتي بالأعمال الصالحة.
الأعمال الصالحة بدون إيمان غير مقبولة، العمل الصالح بدون إيمان غير مقبول،
والإيمان بدون عمل لا ينفعه صاحبه، لا بدَّ من الأمرين جميعًا، الإيمان والعمل
الصالح، ولعل هذا هو السر في أن الله تعالى يقرن الإيمان والعمل الصالح في آيات
القرآن، ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، لا يكتفي الله -عز وجل- بالإيمان فقط،
لا يقول آمنوا فقط، ولا يقول عملوا الصالحات فقط وإنما يقرن بينهما، هذه هي طريقة
القرآن أنه يقرن بين الإيمان والعمل الصالح.
ثم أيضًا القرن بين الإيمان والعمل الصالح، الإيمان القوي المقرون بالإذعان لا بدَّ
أن يتبعه عمل صالح وإلا ما كان صادقاً، يعني من يقول أنا مؤمن ولكنه لا يصلي ولا
يصوم ولا يزكي، هل هذا صادق في دعوى إيمانه؟ غير صادق، فالإيمان الصادق المقرون
بالإذعان لا بدَّ أن يتبعه عمل صالح، ولا بدَّ أن يثمر عملاً صالحاً ﴿إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ﴾، ﴿وَأَقَامُو﴾ ما قالوا أدوا وإنما إقامة للصلاة بجميع أركانها
وشروطها وواجباتها، فأتوا بها كما أمر الله -عز وجل- ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ أعطوا
الزكاة مستحقيها.
إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أليس تدخل في عمل الصالحات؟ بلى، لماذا خُصت بالذكر مع
أنها تدخل، يعني: كان يكفي أن يقول الله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم
أجر؛ لأن الصلاة والزكاة تدخل في عمل الصالحات، لكن خص الله تعالى الصلاة والزكاة
بالذكر لأهميتهما، ولأن الصلاة هي أعظم العبادات البدنية والزكاة هي أعظم العبادات
المالية، ومن أتى بهما سهل عليه أن يأتي بأي عمل صالح آخر، من أتى بالصلاة كما أمر
الله وبالزكاة كما أمر الله، سيأتي ببقية الأعمال الصالحة، يسهل عليه، لأن بعض
الناس مستعد لأن يبذل المال، لكن العبادة البدنية تصعب عليه، ما يصلي، ما يصوم، لكن
الأموال عنده أمرها سهل، ينفق، يبذل، يتصدق، لكن بعض الناس العكس، مستعد أنه يصلي
ويصوم ويأتي بالعبادات البدنية لكن إخراج المال شاق عليه، يصعب عليه أن يزكي، حتى
تظهر العبودية لله -عز وجل-، يكون عبداً لله سبحانه لا بدَّ أن يجمع الأمرين.
العبادة البدنية ورأسها الصلاة والعبادة المالية ورأسها الزكاة، لا بدَّ أن يجمع
الأمرين حتى يكون عبداً لله -عز وجل-، وحتى يأتي بالعبودية كما أمره الله -عز وجل-،
فرأس العبادات البدنية الصلاة ورأس العبادات المالية الزكاة، من آتى بها فسيأتي
ببقية الأعمال الصالحة في الغالب، وهذا هو السر في تخصيص هاتين العبادتين.
بعض الناس تجد أنه في العبادات البدنية يأتي بها على الكمال، لكن يشق عليه جدًّا أن
يأتي بالعبادة المالية، يعني رجل صالح يقولون أنه كان عابدًا وأول من يأتي المسجد،
لكنه لا يزكي، يصعب عليه، يشق عليه أن يزكي، وأذكر أن استفتاني أحد أبنائه في هذا
رغم أن يعظوه، لكنه أصر حتى مات، فطلبت من أولاده أن يخرجوا الزكاة من ماله لأنها
دين الله -عز وجل-، الشاهد أن هذا موجود في المجتمع، فتجد أنه يؤدي العبادات
البدنية على وجه الكمال لكن العبادات المالية مقصر فيها، بعض الناس العكس، في البذل
وفي الإنفاق ويؤدي الزكاة وليس فقط الزكاة، الزكاة والصدقات والبذل والإنفاق لكنه
في العبادات البدنية تصعب عليه، يصعب عليه أن يصلي، يصعب عليه أن يأتي بالعبادات
البدنية، فإذا أتى بهما جميعًا، أقام الصلاة وآتى الزكاة سيأتي ببقية الأعمال
الصالحة.
فلعل هذا هو السر في تخصيص هاتين العبادتين العظيمتين ﴿وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ يعني: ثوابهم عند الله -عز
وجل-، وقوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ يقتضي تضخيم هذا الأجر والثواب؛ لأن العطية بقدر
معطيها، إذا كان الثواب والأجر من أكرم الأكرمين سيكون هذا الأجر عظيماً والثواب
جزيلاً، لم يقل لهم أجر فقط بل عند ربهم، لهم أجرهم عند ربهم، وعطاء الله عظيم،
فسيكون الأجر عظيم والثواب جزيلاً.
أيضًا ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ لا خوف عليهم فيما يستقبل
من أمرهم ولا يحزنون فيما مضى من أمرهم، والإنسان إنما يأتيه القلق ويتكدر إما من
الخوف من المستقبل أو في الحزن على الماضي، إما في أمور مضت يحزن عليها كيف تصرف
بهذا؟ وكيف وقع؟ وكيف تورط في كذا؟ أو يخاف من المستقبل، يقلق أن يحصل له كذا وقد
يحصل له كذا، فالله -عز وجل- يقول أن هذا المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لهم الأجر والثواب من الله -عز وجل- ولهم
الطمأنينة، فلم يخافوا من المستقبل ولن أيضًا يحزنوا على الماضي، وهذا يقتضي أن لهم
السعادة الحقيقية، وهذه لا تكون إلا لهؤلاء المؤمنين، كما قال الله تعالى في الآية
الأخرى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ يعني في الدنيا، وفي الآخرة
﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]،
وعد الله -عز وجل- ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيل﴾[النساء: 122]، والله
سبحانه لا يخلف الميعاد.
قال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾ مع أن من تشمل الذكر والأنثى
لكن هذا بالتأكيد، على أن هذا أيضًا ليس خاص بالذكور، الذكور والإناث، ﴿مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ لاحظ هنا جمع بين الإيمان
والعمل الصالح، لكن هنا قدم العمل الصالح على الإيمان، وفي الآية الأخرى الآية التي
معنا الإيمان والعمل الصالح، والغالب تقديم الإيمان على العمل الصالح، لكن أحيانًا
كما في هذه الآية آية النحل قدم العمل الصالح على الإيمان، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ يعني: جمع بين الإيمان والعمل الصالح،
﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾، حياة طيبة ليست بالضرورة أن يكون ثريًا،
كثير المال، لا، الحياة الطيبة تعني أن يعيش سعيدًا، باختصار أن يعيش سعيداً في
الدنيا، يعيش مرتاح البال، يعيش مطمئنًا بعيداً عن الخوف وعن الحزن وعن القلق وعن
التوتر، رضيًا بقضاء الله وقدره، يعني يعيش حياة سعيدة، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً﴾، وأما في الآخرة ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ﴾.
السعادة إذاً في طاعة الله -عز وجل- ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
فَازَ فَوْزاً عَظِيم﴾ [الأحزاب: 71]، وعمر الإنسان قصير، يعني: بعض الناس يسوف
يقول أنا -إن شاء الله- فيما بعد أتوب وأستقيم على طاعة الله لكن العمر قصير، هل
تضمن أن تعيش إلى العمر الذي تتمناه، ثم تستقيم على طاعة الله -عز وجل-؟ أبدأ من
الآن في التوبة الصادقة إلى الله -عز وجل- والاستقامة على طاعة الله -سبحانه-، تنال
السعادة في الدنيا والآخرة، تنال الحياة الطيبة في الدنيا والثواب العظيم بالجنة في
الآخرة، الجنة التي غاية منى المؤمنين، «فِيها مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ
سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»، لا نصب فيها ولا تعب ولا هم ولا غم
وأنتم فيها خالدون.
فالله تعالى تكفل لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح بأن الله يحيه حياة طيبة في
الدنيا وأنه في الآخرة يجزيه الأجر العظيم، وذلك بأن يدخله هذه الجنة وهذه الدار
التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون، فهذه هي ثمرة الإيمان
والعمل الصالح.
{شيخنا الله يحفظك، بعضهم يقول: نرى بعض أهل الإيمان يُبتلون، فكيف نجمع بين الحياة
السعيدة وبين الابتلاء؟}
الابتلاء لا بدَّ منه؛ لأن دعوى الإيمان سهلة، كلٌ يدعي أنه مُؤمن، كلٌ يدعي أنه
صادق، لكن لا بدَّ من التمحيص حتى يتبين أنه صادق في إيمانه أم لا، كما قال تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ *
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾[العنكبوت: 2- 3]، دعوى الإيمان كلٌ يدعيها
لكن يمحص الإنسان، إن كان صادقاً ثبت، وإن كان غير ثابت تزعزع، ﴿وَمِنَ النَّاسِ
مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ
ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ﴾[الحج: 11].
فالدنيا ليست بدار نعيم، لا للمؤمن ولا لغير المؤمن، الدنيا دار كدر، ﴿لَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾[البلد: 4]، الإنسان يكابد مصاعب هذه الحياة
ومتاعبها وهمومها وغمومها، لكن المؤمن عاقبته حسنة وإلى خير، المؤمن حتى لو ابتلي
فيعطيه الله -عز وجل- طمأنينة والسعادة حتى مع ابتلاءاته، فإن الله تعالى يعطيه
طمأنينة ويشرح الصدر، يتعلق قلبه بالله -عز وجل-، بينما غير المؤمن لا، يعيش في قلق
وتوتر ويصاب بأمراض نفسية، ربما يصاب بأمور نفسية وربما بعضهم ينتحر، وإلا الدنيا
ليست بدار نعيم، لو كانت الدنيا دار نعيم كما يتمناها الإنسان ما تمنى الناس الجنة.
الدنيا لا بدَّ فيها من كدر، الدنيا متقلبة أحوالها، وقد خُلق الإنسان في كبد، وليس
هذا خاص بالمؤمن، المؤمن وغير المؤمن، لكن المؤمن يبتليه الله -عز وجل- ليختبر صدق
إيمانه، لأن الناس في الرخاء كلٌ يدعي الإيمان، لكن عندما يبتلي الله -عز وجل-
الإنسان يتبين هل هو صادق أو غير صادق، عند الناس عند أدنى ابتلاء يسقط ويفشل في
هذا الاختبار وينتكس، والله تعالى أخبر أن من سننه كما قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ
اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ﴾[آل عمران: 179 ].
فالله تعالى لا يترك الناس بدون أن يتميز الخبيث من الطيب، لا بدَّ من التمحيص، لا
بدَّ من الابتلاء حتى يتميز الخبيث من الطيب، كيف يعرف الناس الخبيث من الطيب؟ بما
يقدره الله -عز وجل- من هذه الابتلاءات، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الغَيْبِ﴾، يعني كيف تعرف الخبيث من الطيب؟ لن يطلعك الله على الغيب، لا يتبين هذا
إلا بالتمحيص والابتلاء، ولذلك يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أشدُّ الناسِ
بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، إنَّ كان في دينِه صَلابة شدد عليه» حتى
يكون في ذلك تمحيص ويكون في ذلك رفعة لدرجاته.
لكن الله تعالى قال: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ الحياة الطيبة كما
ذكرنا لا تنحصر في الأموال أو الأولاد أو نحو ذلك، المقصود بها السعادة، أن يعيش
الإنسان سعيدًا في هذه الحياة.
أبرز الفوائد من هذه الآية: الحث على الإيمان والعمل الصالح، أن الله تعالى ذكر
الثواب وهذا الثواب يقتضي الحث على الإيمان والعمل الصالح، وهذا في آيات كثيرة من
كتاب الله -عز وجل-، وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة بإيمانه وعمله الصالح.
وأيضًا من الفوائد: أن العمل الصالح لا ينفع صاحبه إلا إذا اقترن بالإيمان، إذا كان
عملاً بدون إيمان فلا يفيد صاحبه، كما قال الله تعالى عن الكافرين: ﴿وَقَدِمْنَا
إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُور﴾ [الفرقان: 23].
وأيضًا من الفوائد: أن العمل الصالح حتى يكون صالحاً لا بدَّ له من شرطين وهما:
الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن عمل عملاً لم يخلص فيه
لله لم يكن صالحاً، ومن عمل عملاً لم يتابع فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم
يكن صالحاً، لا بدَّ من الشرطين جميعًا.
ومن الفوائد: بيان أهمية الصلاة والزكاة، لأن الله تعالى خصهم من الأعمال الصالحة
مع دخولهما فيها، لكن لأهميتهم أخص الله -عز وجل- بالذكر، ونجد أن الله تعالى أمر
بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في آيات كثيرة من القرآن الكريم، لأن هما رأس
العبادات، رأس العبادات البدنية الصلاة ورأس العبادات المالية الزكاة، ومن أتى بهما
كما أمر الله سيأتي ببقية الأعمال الصالحة، وستسهل عليه بقية الأعمال الصالحة.
أيضًا من الفوائد: أن الله سبحانه ضمن الأجر لمن آمن وعمل صالحاً وأقام الصلاة وأتى
الزكاة، لقوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾، وهذا الأجر يكون في الآخرة،
كما قال -عز وجل-: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾[البقرة: 281]، التوفية إنما تكون في الآخرة،
وقد يعطي الله -عز وجل- جزاءً معجلاً للإنسان في الدنيا قبل الآخرة، لكن الأصل أن
التوفية إنما تكون في الآخرة، وهذا الأجر العظيم من الله -عز وجل- لمن آمن وعمل
صالحاً يكون بأن يدخله الجنة وهي دار النعيم وهي غاية مُنَى الإنسان، هذه الدار
العظيمة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ﴿فَلاَ
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾[السجدة: 17]، يعني
فيها من النعيم ما لا يستطيع العقل البشري أن يتخيله مجرد تخيل، ما تستطيع أن تتخيل
-سبحان الله-، النعيم الذي في الجنة شيء عظيم لا يمكن للإنسان في الدنيا أن يتخيله
مجرد تخيل -سبحان الله-، «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا
خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، جميع المتع التي
تخطر ببالك موجودة في الدنيا وفوق ما تتخيل، وحتى أن الله -عز وجل- ذكر التمتع
بالأكل، أصناف الأكل وأنواعها والشرب وأنواع الشرب، اللبس أيضًا يتمتع به الإنسان،
ذكر الله أنواعاً من المتع باللبس، يلبسون ثيابًا من سندس واستبرق، يحلونها أساور
من ذهب ولؤلؤ، يتمتع بمتعة اللباس، كذلك أيضًا بالزواج، يزوج الله -عز وجل- الرجال
في الجنة بزوجاتهم وبالحور العين أيضًا، وكذلك النساء أيضًا في الجنة، وكما قال
-عليه الصلاة والسلام-: «وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ»، الجنة ليس فيها أعزب،
يتمتعون بنعمة النكاح والزواج.
وكذلك أيضًا ﴿عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾ [يس: 56]، هذا أيضًا نوع من المتعة،
إخواننا على سررٍ متقابلين، وعلى الأرائك متكئون يتحدثون فيما أمورهم في الدنيا وفي
غيرها، فهذه أيضًا من المتع، فكل المتع التي تخطر ببالك موجودة في الجنة وفوق ما
تتصوره وفوق ما تتصوره، وفوق ذلك كله أن الله تعالى يسلم عليك ويرونه كما يرى الناس
القمر ليلة البدر، ﴿وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾
[القيامة: 22- 33]، ينظرون إلى الرب -عز وجل- وما أعطوا شيئًا من النعيم أعظم من
هذا النعيم.
وأيضًا ﴿وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: 71]، الخلود، هب أن إنساناً مع أن
هذا مفترض افتراضا، هب أن إنساناً حقق جميع متع الدنيا لكن هل ستستمر معه؟ أبدًا،
لا يمكن، لا بدَّ أن يفارق هذه النعم أو تفارقه، لا بدَّ أن يموت ويترك هذه النعم،
لكن نعيم الجنة نعيم خالد باقٍ أبد الآباد، لا يقال ألف سنة ولا مليون سنة ولا
ملايين السنين، إلى ما لا نهاية، فهذا النعيم على الإنسان أن يعمل له، ﴿لِمِثْلِ
هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ﴾ [الصافات: 61]، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
المُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26].
فالله -عز وجل- ضمن الأجر عنده بهذا النعيم لمن آمن وعمل صالحاً.
ثم قال سبحانه أيضًا، وعد الله -عز وجل- من جمع بين الإيمان والعمل الصالح بأنه لا
خوف عليه ولا يحزن، يعني لا يخاف مما أمامه ولا يحزن على ما ترك وما خلف، فنفى الله
عنه الخوف والحزن، وهما أكثر ما يتعري الإنسان، المكروه الوارد على القلب إن كان
على أمر مستقبلي أحدث خوفًا وهماً، وإن كان على أمر مضى أحدث حزنًا، وإن كان على
أمر حاضر أحدث غمًا، ولذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يكثر من أن يقول:
«اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ،
والجُبْنِ والبُخْلِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهرِ الرِّجالِ»، فالله تعالى ضمن
للمؤمن أنه لا خوف عليه ولا يحزن، أنه آمن وعمل صالحاً، قد يغتم الإنسان هذه طبيعة
الحياة لكن لا يخاف لأنه مؤمن وقد أتى بالإيمان والعمل الصالح والله وعده الأجر،
وما عند الله خير وأبقى ولا يحزن على ما مضى، ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ
وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن فوائد وأحكام هذه الآية.
* * *
{ثم قال الله -عز وجل-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَ﴾، والآية التي تليها، نسـتأذنكم في تلاوة لهذه الآيات، ثم
نعود بإذن الله}.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ
تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278- 279].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآيتين}.
قال -عز وجل- بعد ذلك: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، فنادى الله تعالى المؤمنين
بوصف الإيمان، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾، كما قال ابن مسعود: "إذا سمعت الله
يقول في القرآن: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾ فأرعى لها سمعك، فإنها خير تؤمر
به أو شر تنهى عنه".
فالله تعالى نادى المؤمنين بوصف الإيمان وأمرهم بتقوى الله، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾
يعني أجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية باتباع أوامره واجتناب نواهيه، فتقوى الله
-عز وجل- هي وصية الأوليين والآخرين، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾[النساء: 131]، ونجد
أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أول ما يأمرون أقوامهم بتقوى الله، ﴿إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوَهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 106]، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ
أَخُوَهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 124]، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ
صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 142]، ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ
تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 177]، جميع الأنبياء يأمرون بتقوى الله -عز وجل-، فتقوى الله
هي وصية الله للأولين والآخرين.
ثم قال: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَ﴾، ﴿وَذَرُو﴾ بمعنى: اتركوا، ﴿مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَ﴾، أي: دعوا ما بقي من الربا الذي لم تقبضوه، وهذا إنما في
المعاملات الربوية القائمة الحاضرة، أما المعاملات الماضية التي قبضها الإنسان
وانتهى فبين الله حكمها في الآية السابقة، قال: ﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن
رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة: 275]،
أما المعاملات الربوية الحاضرة القائمة فالله تعالى يقول: اتركوا الربا، اتركوا ما
بقي من الربا ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
وقوله: ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ هذا من باب الإغراء، يعني: إن كنتم مؤمنين حقًّا
فذروا ما بقي من الربا، وهذا له نظائر في القرآن، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
آمِنُو﴾ [النساء: 136]، هنا يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، فهذا يعني من
أساليب القرآن الكريم، هذا من باب التأكيد، يعني: إن كنتم مؤمنين يا أيها المؤمنون،
يا من اتصفتم بصفة الإيمان فذروا ما بقي من الربا.
ثم قال -عز وجل-: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُو﴾ يعني: إن تذروا ما بقي من الربا
واستمريتم في أكل الربا ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، وقوله:
﴿فَأْذَنُو﴾ الأصل في الأذن أنه الإعلام، أي: اعلموا ذلك واستيقنوه، استيقنوا
حربًا من الله ورسوله، كما قال ابن عباس: "ويقال لأكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك
للحرب" من باب التبكيت له.
﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ والحرب من الله -عز وجل-، يعني:
آكل الربا إذا لم يتب واستمر في أكل الربا، نقول له: استيقن أنك محارب لله، وأنك
فتحت جبهة حرب مع الله -عز وجل-، ومن يفتح جبهة حرب مع ربه سبحانه يتوقع مصيبة
تأتيه من أي طريق، وتأتيه في أية صورة، حرب يعني تصور جيش يقاتل جيش، يتحاربون، كل
جيش يحاول أن ينال من الجيش الآخر بأي طريقة، وبأية صورة، هذه حرب بين هذه الطائفة
وهذه الطائفة، آكل الربا فتح جبهة حرب مع رب العالمين، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾[المدثر: 31].
فمعنى ذلك أن هذا الذي يتجرأ على أخذ الربا ولم يتوب يتوقع أن تأتيه مصائب بأية
صورة ومن أي طريق ومن أية جهة، تأتيه مصيبة في ماله، تأتيه مصيبة عرضه، تأتيه مصيبة
في أهله، تأتيه مصيبة في ولده، تأتيه مصيبة في ولده، لأنه فتح جبهة حرب مع رب
العالمين، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾، يسلط
الله عليه من جنوده من ينتقم منه لأنه فتح جبهة حرب مع الله، وهذا فيه تغليظ شديد
وتحذير بليغ من الربا، يكفي المسلم الذي يقرأ القرآن ويرى أن رب العالمين يقول:
﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، هل
سيستمر في تعاطي الربا؟ حتى لو بلغ الإنسان حد الضرورة لا يقع في الربا، حتى لو بلغ
حد الضرورة، لأن الربا أمر شديد، ما من شيء اسمه حد الضرورة في الربا، وحتى وإن
يأكل من الميتة ولا يقع في الربا، الربا أمر عظيم، لأنه يفتح جبهة من الله، أكل
الميتة أباحه الله عند الضرورة لكن الربا لا يجوز مطلقًا، ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
قال -عز وجل-: ﴿وَإِن تُبْتُمْ﴾ يعني: رجعتم إلى الله سبحانه بترك الربا ﴿فَلَكُمْ
رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾، وهذا كما ذكرنا الآية
إنما المراد به المعاملات الربوية القائمة، إن تبتم فخذوا رأس المال واتركوا الربا،
﴿لاَ تَظْلِمُونَ﴾ غيركم لأنكم لم تأخذوا الزيادة، ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ لأنكم لم
تنقصوا من رؤوس أموالكم، ليس معنى الربا، يعني المرابي إذا تاب نقول له: اترك
أموالك كلها، لا خذ رأس مالك لا تظلم أنت، خذ رأس مالك لكن اترك الزيادة، اترك
الربا فقط، وهذا من عظمة هذه الشريعة، من تمام عدل الله -عز وجل-، يعني حتى هذا
المرابي الذي تجرأ على الربا ما نقول اترك أموالك كلها، لا خذ رأس المال واترك
الربا فقط.
﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ﴾ يعني غيركم بأخذ
الزيادة، ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ بالنقص من رؤوس أموالكم.
ننتقل لأبرز الفوائد، فوائد وأحكام هاتين الآيتين.
أولاً: وجوب تقوى الله لقوله -عز وجل-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ﴾ وذكرنا أن هذه وصية الله للأوليين والآخرين، الوصية التي ذكرها الله تعالى
عن الأنبياء لأممهم، ولذلك ينبغي التذكير بها دائمًا، ولهذا عند بعض الفقهاء من
فقهاء الحنابلة ذكروا أن من أركان الخطبة الوصية بتقوى الله -عز وجل-.
أيضًا من الفوائد: وجوب ترك الربا، إذا كانت المعاملة قائمة وحاضرة فيجب على
الإنسان أن يترك الربا، أن يأخذ رأس ماله ويترك الربا، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَ﴾، وفي الآية الأخرى قال: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾، أما المعاملات الربوية
القديمة التي قبضها الإنسان وانتهى منها يكفي فيها التوبة ولا يلزمه أن يرد شيئًا،
لقوله سبحانه: ﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾.
إذاً من وقع في الربا له حالتان:
الحالة الأولى: أن تكون المعاملة الربوية قائمة، فنقول له: خذ رأس مالك ويجب عليك
أن تترك الزيادة، لا تظلم ولا تُظلم، لا تظلم غيرك بأخذ الزيادة، ولا تظلم بنقص رأس
مالك، ولا تتم توبتك إلا بهذا.
الحالة الثانية: أن تكون معاملات ربوية وسابقة وتاب منها الإنسان، معاملات ربوية
وسابقة وقبضها الإنسان وانتهى منها، فهنا لا يلزمه أن يرد شيئًا وإنما تكفي التوبة
إلى الله -عز وجل-: ﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾.
أيضًا من الفوائد: أنه لا يجوز تنفيذ العقود المحرمة في الإسلام وإن عقدت في حال
الشرك لعموم قول الله تعالى: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَ﴾، وبيَّن هذا
النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال في خطبته في عرفة في حجة الوداع، قال: «وَرِبَا
الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا العَبَّاسِ بنِ عبدِ
المُطَّلِبِ، فإنَّه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ».
أيضًا من فوائد هذه الآية: أن هذه الآية أصلاً في نقض المعاملات الفاسدة من البيوع
الفاسدة وغيرها يجب أن تنقض وأن تصحح، لأن الله -عز وجل- أمر بتصحيح هذه المعاملات
الربوية بأن يأخذ الإنسان رأس ماله ويضع الربا، هكذا أيضًا إذا كانت المعاملة محرمة
فيبطل هذا العقد ويعاد تصحيحه من جديد، يعاد تصحيح هذا العقد من جديد.
أيضًا من الفوائد الربوية: أن ممارسة الربا أخذاً أو نفعاً أنها تنافي الإيمان
لقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ولكن ليس معنى قوله أنها تنافي الإيمان، أن
الإنسان يكفر بذلك، كما بينا في حلقة سابقة أن آكل الربا مرتكب لكبيرة، ومرتكب
الكبيرة عند أهل السنة والجماعة لا يكفر، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته في
الدنيا، وأما في الآخرة فهو تحت مشيئة الله -عز وجل- إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه،
لكنه لا يخلد في النار، فلا بدَّ من جمع النصوص بعضها مع بعض.
فقد ضل في هذا طائفتان: طائفة الخوارج والمعتزلة، أما الخوارج فكفروا مرتكب الكبيرة
والمعتزلة قالوا في الدنيا في منزلة بين المنزلتين وفي الآخرة جميعهم قالوا: إن
مرتكب الكبيرة كافر، مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأما المرجئة قالوا: لا يضر مع
الإيمان ذنب، وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا: أن مرتكب الكبيرة في الدنيا مؤمن
بإيمانه فاسق بكبيرته وفي الآخرة فهو تحت مشيئة الله، لكنه لا يخلد في النار، والحق
ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة.
وعلى ذلك نقول: أن أكل الربا من الكبائر لكنها لا تخرج الإنسان عن دائرة الإيمان،
وبيننا في الحلقة السابقة معنى قول الله -عز وجل-: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة: 275]، أن المقصود بذلك الخلود
المؤقت وليس المقصود به الخلود المؤبد، وإنما قلنا ذلك جمعًا بين النصوص، فهي كآية
القتل، ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً
فِيهَ﴾[النساء: 93]، المقصود بذلك الخلود المؤقت وليس الخلود المؤبد، هذا هو معتقد
أهل السنة والجماعة، وإنما قالوا بذلك جمعًا بين النصوص الواردة، فأهل الحق وأهل
السنة والجماعة يجمعون بين نصوص الوعد والوعيد، بينما الوعيدية وعلى رأسهم الخوارج
والمعتزلة أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، والمرجئة أخذوا بنصوص الوعد
وتركوا نصوص الوعيد، أما أهل السنة والجماعة جمعوا بين نصوص الوعد والوعيد.
أيضًا من الفوائد: بيان عظيم رحمة الله -عز وجل- بعباده حيث حرم عليهم ما يتضمن
الظلم وأكد هذا التحريم، وأنزل القرآن فيه بذلك، فتحذير وإنظار وإعذار،
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، كل هذا يدل على عظيم رحمة الله -عز وجل- بعباده
وعنايته به -جل وعلا-.
أيضًا من الفوائد: أن المصر على الربا أنه معلن للحرب على الله ورسوله، ﴿
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، وأن الله تعالى قد توعده بالحرب،
ومعنى ذلك أنه يتوقع مصائبه تأتيه من أية جهة، تأتيه بأية طريق لأنه فتح جبهة من
الحرب مع رب العالمين، وهذا لو لم يرد في التحذير من الربا إلا هذه الآية كفى، لو
لم يرد في التحذير من الربا إلا قول الله -عز وجل-: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ هذا يكفي، أي إنسان عاقل يقال له: إن رب العالمين يقول إن لم
تتوب من الربا فأنت قد فتحت جبهة حرب مع الله يقول هذا الله في القرآن، أي عاقل
يسمع هذا الكلام ومع ذلك يبقى مصر على الربا ويتجرأ على الربا، وعندما يقول رب
العالمين هذا في القرآن، في كتابه الذي يتلوه جميع الناس وجميع الأجيال جيلاً بعيد
جيل وقرنًا بعد قرن، لا بدَّ أن هذا يتحقق، لا بدَّ يقيناً أن هذا يتحقق، فأي مسلم
يسمع هذه الآيات ثم بعد ذلك يستمر على تماديه وعلى تجرئه على الربا، يقول إذا فعل
ذلك فقد حارب الله ورسوله، فتح جبهة حرب مع الله -عز وجل.
والربا قد جاء فيه من الوعيد ما لم يأتي على غيره من الذنوب ما عدا الشرك كما قال
ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: ولذلك كان محرمًا في جميع الشرائع السماوية، في جميع
الشرائع حرم على الناس كلهم لعظيم مفاسده.
أيضًا من الفوائد: أنه يجب على كل من تاب من الربا أن لا يأخذ شيئًا مما استفاده من
الربا وإنما يكتفي بأخذ رأس ماله لقوله: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾.
أيضًا من الفوائد: مراعاة العدل في معاملة الناس بعضهم مع بعض، لقوله: ﴿فَلَكُمْ
رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾، فالإنسان لا يظلم غيره
ولا يُظلم، لا يظلم ولا يُظلم، فالإنسان في تعاملاته عموماً ينبغي أن يسير على هذا
المبدأ، يحرص أن لا يظلم أحدًا ويسأل الله أن لا يظلمه أحد، ولهذا كان من الأدعية
العظيمة التي كان يدعوا بها النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ
بِك مِن أَن أضِلَّ أو أزِلَّ أو أظلِمَ أو أُظلَمَ أو أجهَلَ أو يُجهَلَ عليَّ»
هذا دعاء عظيم، فالإنسان لا يظلم ويسأل الله تعالى أن لا يُظلم، فهذا يعني مبدأ
للإنسان في حياته، ﴿ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ
تُظْلَمُونَ﴾.
{يا شيخ أحسن الله إليك، بعض الناس إذا سمع كلامكم -حفظكم الله- عن أن صاحب الكبيرة
غير مخلد في النار يتساهل في المعصية، فيقول: المؤمن مصيره إلى الجنة، الموحد،
فيتساهل بالمعاصي، فما نصيحتكم؟}
نعم هذه طريقة المرجئة وأهل البدع، حتى وإن قلنا إنه لا يخلد في النار، لكن عذاب
النار شديد يكفي في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نارُكُم هذِهِ الَّتي توقِدون
جزءٌ مِن سبعينَ جزءًا مِن نَارِ جَهَنَّمَ» . قالوا يا رسول: إنها واحدة لَكافيةً،
قالَ: «إنَّها ضُعفت عليها تِسعَةٍ وستِّينَ مرة»، ثم أيضًا مدة مقام العاصي في
النار طويلة ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاب﴾[النبأ: 23]، إلا أن يعفو الله عنه،
فعذاب النار شديد، وهذا المعنى نفسه هو الذي قاله اليهود، ﴿وَقَالُوا لَن
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾[البقرة: 80]، يتجرءون على
المعاصي وعلى حرمات الله -عز وجل- بهذه الحجة، هي نفسها، ﴿وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ ونخرج من النار وندخل الجنة، فرد الله -عز
وجل- عليهم وقال: ﴿وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً
مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، فمن مات على الكفر
فهو مخلد في النار أبد الآباد، لكن من كان مسلماً مؤمناً لكنه مرتكب للكبيرة فهو
تحت مشيئة الله، لكنه إن دخل النار لا يخلد فيها أبد الآباد، لأن هذا من تمام عد
الله سبحانه، أن هذا مؤمن لكن عنده معاصي، عنده موبقات، عنده كبائر، هو تحت مشيئة
الله إن عذب يعذب لكنه لا يخلد في النار.
وهذا المعنى بينه النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لأبي ذر: «أن من قال لا إله إلا
الله خالصة من قلبه حرمه الله على النار»، قال: "وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟"، قال:
«وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ»، كررها أبو ذر ثلاثة، قال: "وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ"،
قال: «وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ»، قال في الثالثة: «رَغِمَ أنْفُ أبِي ذَرٍّ»، وفي
حديث معاوية قال: "ألا أبشر الناس"، قال: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ. فَيَتَّكِلُو»، فهذا
يدل على عظيم شأن التوحيد، وأن الإنسان ينبغي أن يحرص على تحقيق التوحيد، لأنه إذا
مات على التوحيد فمآله إلى الجنة حتى وإن وقع منه معاصي، مآله في الأخير إلى الجنة،
المصيبة فيمن يموت على الشرك والكفر وهذا هو المخلد في النار وهو الذي حرم عليه
الله الجنة، لكن هذا لا يقتضي التساهل في المعاصي والذنوب، لا يقتضي التساهل، على
المسلم أن يحذر من المعاصي كلها صغيرها وكبيرها، لكن من رحمة الله -عز وجل- بعباده
المؤمنون إذا أتوا بالإيمان وإنما وقع منهم ذنوب ومعاصي لأنهم لا يخلدون في النار
وإنما يكونون إلى رحمة أرحم الراحمين.
ثم أيضًا بعض الكبائر قد تؤدي بصاحبها إلى الوقوع في الشرك والكفر، مثل: ترك
الصلاة، ترك الصلاة يؤدي إلى الخروج من دائرة الإيمان، «العَهدُ الَّذي بيننا
وبينهم الصَّلاةُ، فمَن تركَها فَقد كَفرَ»، قتل النفس وإن كان في الأصل وهو كبيرة
ولا يقتضي الخروج من الإيمان لكن قد يضيق على الإنسان دينه، كما قال -عليه الصلاة
والسلام-: «لَا يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَمًا
حَرَامً» رواه البخاري، قد يكون إذا أصيب دمًا حرامًا يضيق عليه حتى ربما يخرج عن
دائرة الإيمان -نسأل الله السلامة والعافية-، الإنسان يكون حذرًا لا يأمن، فهذه
القضية من القديم وذكرها الله -تعالى- عن اليهود ، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾[آل عمران: 24].
وهي أيضًا فكرة المرجئة، هذا هو الفكر الإرجائي، أنه يقول لا يضر مع الإيمان ذنب
حتى لو دخل النار سيكون مآله الجنة، ولذلك تجد أنهم يتجرءون على المعاصي، وهذا كله
مسلك خطأ، الإنسان يكون بين الرجاء والخوف، يجمع بين الرجاء والخوف، يرجو رحمة الله
ويخاف من عذاب الله -عز وجل- ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 98].
{إذاً ننتقل إلى الآية التي تليها يا فضيلة الشيخ}.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 280].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.
الآية التي بعدها قول الله -عز وجل-: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
فبعد آيات الربا تكلم الله -عز وجل- عن المعسر؛ لأن المعسر في الجاهلية كانوا إذا
حل الدين على المدين أتى الدائن إلى المدين وقال له: إما أن تقضي وإما أن تربي، إما
أن تسدد وإذا كنت مُعسرًا وما تستطيع يبقى الدين عليك ويتضاعف أضعاف مضاعفة، فأبطل
الله -عز وجل- هذا، وهذا لعل هذه الحكمة وقوع هذه الآية بعد آيات الربا، ﴿وَإِن
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ يعني إنسان معسر، صاحب إعسار لا يستطيع الوفاء ﴿فَنَظِرَةٌ
إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ فالواجب على الدائن أن ينظره إلى ميسرة، لا يفعل كما يفعل أهل
الجاهلية من أنه إذا حل الدين على المدين يقول الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما أن
تربي.
﴿وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ يعني أن تبرءوا المعسر من دينه هذا خيرٌ لكم
وسماه الله صدقة، فهو عمل صالح إبراء المعسر، هذا من الأعمال الصالحة العظيمة،
ولذلك قال: ﴿تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، يعني: ما أعد
الله -عز وجل- الثواب لمن فعل ذلك.
أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
أولاً: وجوب إنظار المعسر، يعني: إمهاله حتى يُيسر، لقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾، فلا تجوز مطالبته بالدين ما دام معسراً، ما
دمت تعرف أنه معسر لا يجوز أن تطالبه، فضلاً عن أن ترفع فيه شكاية، وهذا أمر يخطئ
فيه كثير من الناس، تجد أنه يرفع شكايته في المعسر، ثم هذا المعسر يحبس بسببه، يسجن
بسببه، فيبوء بإثمه، القاضي يقول: يحبس حتى يثبت إعساره، ربما إثبات إعساره يحتاج
إلى مدة طويلة، ربما يحتاج إلى سنوات حتى يثبت الإعسار، فيبوء الذي رفع فيه الشكاية
بإثمه، فنقول: لا يجوز مطالبة المعسر بالدين فضلاً عن رفع شكايته، ومن فعل هذا فهو
آثم وظالم لهذا المعسر، وبعض الناس يقول هو دينه حق لي، نقول هو حقك لكن أنت ابتليت
معه، هو ابتلي بإعساره وأنت ابتليت بأنك قد داينته وقد تعاملت معه، فأنت مبتلى مثله
فواجب عليك الصبر وواجب عليك أن تنذره، ثم أيضًا هذا هو أخوك المسلم، فينبغي أن
تنظر له بمنظار الرحمة والعطف، ولا تكون العلاقة بينك وبين إخوانك المسلمين علاقة
مادية بحتة، ولهذا أمر الله تعالى بإنظار المعسر.
وقد ورد الفضل العظيم في حق من أنْظَرَ معسرًا كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَن
أنْظَرَ مُعْسِرًا أوْ وضَعَ لَهُ أظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ تَحْتَ ظِلِّ
عَرْشِهِ» كما جاء في صحيح مسلم، وكما يقول -عليه الصلاة والسلام-: «حُوسِب رجُل
ممن كان قَبْلَكُمْ، فلم نجد له من أعماله شيء، إلا أنه كان يداين الناس وكان يقول
لغِلْمَانَه خففوا عن المُعْسِر»، فقال: «ما حملك على ما صنعت؟»، قال: رحمتك أرجو،
فقال الله تعالى: «نحن أحَقُّ بذلك منه»، وغفر الله له بسبب ذلك، بسبب أنه كان يضع
عن المعسر وأيضًا يتسامح مع الميسر.
أيضًا من الفوائد: أن إنظار المعسر أنه واجب ليس للدائن فيه منة، هذا هو حكم الله
-عز وجل-، يجب على الدائن أن ينظر المعسر وجوباً وليس له فيه منة.
أيضًا من الفوائد: أنه يستحب التخفيف عن المدين حتى وإن كان موسرا يخفف عنه ما
أمكن، ويراعي أحواله ولا يحرجه.
أيضًا من الفوائد: أن الله سمى الإبراء من الدين على المعسر سماه صدقة، قال: ﴿وَأَن
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، بل إنها صدقة من أعظم الصدقات، من أفضل وأعظم
الصدقات، ولهذا قال -عز وجل-: ﴿وَأَن تَصَدَّقُو﴾ يعني: بإبراء المعسر ﴿خَيْرٌ
لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، خير عظيم وأن الله تعالى يظله تحت ظل عرشه،
ويكون ذلك سببًا في مغفرة الذنوب، فهذه من الصدقات العظيمة التي يغفل عنها بعض
الناس، أنك تبرئ المعسر هذه من أعظم وأفضل وأجل الصدقات عند الله -عز وجل.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
بارك الله فيكم.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله-
في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
3283 11
-
4908 6