الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

2367 11
الدرس الثاني

تفسير آيات الأحكام (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدون الكرام في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم على مائدة كتاب الله في تفسير آيات الأحكام مع فضيلة شيخنا الشيخ/ سعد بن ترك الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية، باسمي وباسمكم أرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلًا حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
شيخنا الكريم وقفنا عند قول الله تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾، نستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود -بإذن الله- للشرح والتعليق.
﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 229- 230].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
فأسأل الله تعالى أن يبارك في هذا اللقاء وينفع به.
كنا قد وصلنا في تفسير آيات الأحكام إلى قول الله -عز وجل-: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وهذه الآية أنزلها الله -عز وجل- كأنها ناسخة لِمَا كان في أول الأمر، لأنه كان في أول ابتداء الإسلام للرجل أن يراجع امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلم يكن هناك عدد محدد بالتطليقات في العدة، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية، بعض أهل العلم يعتبرها ناسخة لِمَا كان عليه الأمر في أول الإسلام، ولهذا قال أبو داود في سننه: "باب نسخ المراجعة بعد الطلاقات الثلاث"، فحدد ربنا -سبحانه- في هذه الآية ثلاث تطليقات فقط، بينما كان في أول الأمر للرجل يطلق ما شاء ما دامت المرأة في العدة ولو مائة طلقة، فحدد الله الطلاق بثلاث تطليقات، الطلقة الأولى والثانية يحق له معها المراجعة، ولهذا قال: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾ يعني: الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، بأن يُطلق مرة، ثم يُراجع، ثم يُطلق مرة أخرى، ثم يُراجع، ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ فعليكم إمساك بمعروف ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أو إطلاق لهذه المرأة بإحسان.
فأمر الله -عز وجل- بالإحسان في الأمرين جميعًا، فإذا أراد الرجل أن يُمسك المرأة المطلقة طلاقًا رجعيًّا يُمسكها بمعروف، ولا يُمسكها ضرارًا، وإذا أراد أن لا يُرجعها، يُسرحها بإحسان، ولا يُسرحها بإضرار، وهذا تكرر في القرآن الكريم، تكرر أمر الزوجين بتقوى الله سبحانه، وخاصة الزوج وأمر الله تعالى بالإحسان، وقال: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾.
ولو نتأمل مثلًا سورة "الطلاق"، سورة "الطلاق" ليست طويلة في المصحف صفحة ونصف، كم تكرر الأمر بتقوى الله -عز وجل-؟
عدة مرات: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْر﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْر﴾، نجد أن الأمر بالتقوى والحث عليه بأساليب شتى في سورة "الطلاق"، فذلك أيضًا هنا في آيات "البقرة" الأمر بتقوى الله -عز وجل-، الوصفية بالإحسان، عند الإمساك يكون بالمعروف، عند التسريح يكون بإحسان، لماذا؟ لأن النفوس أثناء الطلاق تكون متهيجة محتقنة سواءً من جهة الزوج أو من جهة الزوجة، يكون فيه نوع من الاحتقان، والإنسان إذا كان محتقنًا ضد أحد أو كان عنده شيء من الحقد عليه أو احتقان ضده، فإنه ربما يفجر بخصومه، وهذا أمر معروف، يعني: إخوة يوسف -عليه الصلاة والسلام- ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾[يوسف: 8]، مجرد أنه يعقوب فضل يوسف وبنيامين في المحبة، وأيضًا يعقوب متأول؛ لأنه يرى أن أمهما ميتة بينما أم أخوته موجودة، كان يعطف عليهم لكن ما عذروا أباهم يعقوب، ومع ذلك ماذا قالوا عنه؟
﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾، ضلال ومبين أيضًا ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْض﴾، كل ذلك لماذا؟ لأجل فقط أنه فضَّل يوسف وأخاه، هذا الحق جعل الإنسان لا يستبصر، يتصرف تصرفات هائجة، كيف تقل أخاك لأجل هذا الأمر البسيط؟ مع أن يعقوب يكون معذور في هذا، فعل هذا يعطف عليهم أمهم غير موجودة وأنت أمك موجودة في البيت، فالحقد إذا كان في النفس، يجعل النفس تتصرف تصرف أهوج، يجعل ردة الفعل كبيرة أكبر من ردة الفعل التي ينبغي أن تكون.
ولهذا في مسائل الطلاق يأتي مثل هذا الحقد، ويأتي مثل هذا الاحتقان، ولهذا فالله تعالى يُوصي الزوجين بتقوى الله -سبحانه-، كرر الله تعالى الأمر بالتقوى في آيات الطلاق، في سورة "البقرة" وفي سورة "الطلاق" وبين ثمرات هذه التقوى، ثمرة هذه التقوى ما هي؟ ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْر﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْر﴾، كل ذلك ورد في آية الطلاق، كأنه يقال: اتق الله أيها الزوج، وأنت أيها المرأة اتقي الله، فعند الطلاق ينبغي أن يكون إذا كان ليس لها رغبة فيها، يكون بإحسان، التسريح بإحسان، اتق الله تعالى وسرحها بإحسان، إذا أردت أن تمسكها وترجعها يكون بالمعروف، ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
ثم قال سبحانه: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، الزوج عندما يتزوج المرأة فلا بدَّ أن يبذل لها المهر، فعندما يريد أن يُطلقها لا يجوز أن يأخذ شيئًا من هذا المهر، أنت أعطيتها واستحللت فرجها واستمتعت بها، لا يجوز لك أن تأخذ مما أعطيتها شيئًا، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾،
إذا خشي الزوجان أن لا يقيما حدود الله، أن لا تقوم الزوجة بحق الزوج أو خاف الزوج أن لا يقوم بحق الزوجة، فهنا لا جناح عليهما فيما افتدت به، لا جناح عليهما في الخلع، أن تطلب المرأة مخالعة زوجها، وهذا يدل على أن الخلع إنما يجوز عند الخشية والخوف من عدم إقامة حدود الله، من عدم القيام بالحقوق، فإذا كانت هذه المرأة لم تسعد مع هذا الزوج، لم تستقر معه وتريد أن تخالعه.
مثلًا: امرأة تزوج رجل مدمن مخدرات، وترى أن بقاءها معه لا يحقق مقاصد النكاح، وتريد أن تطلب الخلع لعل الله أن يرزقها بزوجٍ صالح، هنا لا بأس أن يكون هذا سبب مُعتبر، لكن أن تختلع بدون سبب فهذا لا يجوز، أن تطلب الخلع بدون سبب هذا لا يجوز أو بسبٍ غير مُعتبر، كأن تقيم علاقة مع رجل أجنبي ويعدها بالزواج وتذهب تخالع زوجها لأجل أن تتزوج بذلك الرجل، هذا حرام عليها لا يجوز، ولهذا يقول -عليه الصلاة والسلام-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ»، ويقول -عليه الصلاة والسلام- الحديث الذي رواه النسائي بسند جيد: «المُخْتَلِعَاتِ والمنتزعاتِ هُنَّ المُنافِقَاتُ» يعني: المرأة التي تطلب الخلع من غير سبب أو بسب غير مُعتبر، هذه فعلها فعل منافقين، تقيم علاقة مع رجل أجنبي وتطلب من زوجها الخلع لأجل أن تتزوج بذلك الرجل، فهذا حرام عليها لا يجوز، لا يجوز ذلك.
فالخلع إذًا إنما يجوز عند وجود السبب المعتبر شرعًا، ومن ذلك أن المرأة تخشى أن لا تقوم بحقوق الزوج، فإذا خشيت ذلك أو أن الزوج يخشى أن لا يقوم بحقوق زوجته، فيتفق معها ويتفاهم معها على المخالعة، يقول: رُدي علىَّ المهر أو جزءًا منه ويكون هناك الخلع، فهذه الآية هي الأصل في الخلع ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَ﴾ يعني: لا إثم على الزوجين، ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ يعني: فيما بذلت الزوجة من عوض افتداءً لنفسها من البقاء مع هذا الزوج.
وهذا قد وقع في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- لَمَّا أتت امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: "يا رسول الله ثابت بن قيس ما أنقم عليه في خلقه ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام"، يعني: أكره كفران الزوج وعدم القيام بحقه، قيل: إنها كانت جميلة جدًّا وكان هو دميم الخلقة، ولذلك جاء في بعض الروايات أنها قالت: "فوالله لولا مخافة الله لبصقت عليه إذ دخل بي".
هي ما أرادت أن تبقى معه، لا تنقم عليه في خلق ولا دين لكنها تكرهه، ما تحبه، ربما لدمامة كما ذكر أن فيه دمامة في خلقته، وقيل: إنه قد ضربها حتى كسر يدها، قيل ذلك -والله أعلم- بصحة هذا، لم يثبت هذا في الرواية الصحيحة، المهم أن امرأة ثابت بن قيس خشيت أن لا تقوم بحقوق الزوج، ولذلك قالت: "ولكني أكره الكفر" يعني: كفر الزوج في الإسلام، وإلا فهو رجل فاضل لا أنقم عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره ولا أحب المقام معه وأخشى من أن يلحقني الإثم، ولكني أكره الكفر في الإسلام، يعني: كفران الزوج في الإسلام، إذا كانت المرأة تكره الزوج ما تطيق البقاء معه، لا تجبر في البقاء مع رجل هي تكرهه، لكن لا تكرهه لأنها تعلقت برجلٍ آخر كما تفعل بعض النساء، تعشق لها رجل أجنبي وتكره زوجها وتطلب منه الخلع، هذا لا يجوز، لكن بعض الناس من حين ما دَخَلَ بها الزوج، أي: من حين تزوجها وهي ما تحبه وتكرهه لأي سبب، لدمامة في خِلقته أو خُلقه أو غير ذلك، أو عدم التوافق بينهما، فهنا يجوز لها أن تطلب الخلع.
ولهذا لَمَّا قالت هذا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «أتردِّينَ عليهِ حديقتَهُ»، كانت حديقته هي المهر، قالت: نعم، قال: «اقبَلِ الحديقةَ وطلِّقها تَطليقةً»، فهذا هو الخلع في الإسلام.
فالخلع يعني: أن المرأة تبذل العوض للزوج مُقابل فسخ هذا العقد، والأصل في هذه الآيةـ ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَ﴾، يعني: لا تتجاوزوها، وحدود الله إذا كانت مما يجب فعله فترد في القرآن بـ ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَ﴾، أما إذا كانت الحدود من المحرمات فترد ﴿فَلاَ تَقْرَبُوهَ﴾.
﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ يعني: من يتجاوز حدود الله، والمقصود بها أوامره ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ثم قال سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَ﴾ يعني: الطلقة الثالثة؛ لأنه قال في الآية الأولى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾، ثم قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَ﴾ يعني: الطلقة الثالثة ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ﴾، لا تَحل هذه المرأة لمطلقها بعد الطلقة الثالثة ﴿حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾، حتى تتزوج برجل آخر ويَطأها أيضًا، وهذا قد دلت عليه السُّنة، فمجرد العقد لا يكفي وإنما لا بدَّ مِنَ الوطء.
ولهذا لَمَّا رفاعة بن رافع طلق امرأته، فتزوج بها عبد الرحمن بن الزبير، فهي أرادت أن ترجع لزوجها الأول، حَنَّت له، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "يا رسول الله إن زوجي ليس معه إلا مثل هُدبة الثوب، وجعلت تقول بعباءتها هكذا، تريد أنه غير قادر على الوطء، وعدم القدرة على الوطء من أسباب فسخ النكاح، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- عرف مَقصودها، قال: «أتريدينَ أن ترجِعي إلى رفاعةَ لا حتَّى تذوقي عُسَيلتَهُ ويذوقَ عُسَيلتَكِ»، يعني: حتى يحصل الوطء، وأنت تقولين: إنه غير قادر على الوطء، فإذًا لا يمكن أن ترجعي إلى زوجك الأول، الخبر انتشر في المدينة، مثل هذه الأخبار الغريبة تنتشر بسرعة، انتشر الخبر في المدينة، بلغ ذلك عبد الرحمن بن الزبير، أتى مُسرعًا ومعه ابنان له، فأتى النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: يا رسول الله والله إنها لكاذبة، وأنها تريد أن ترجع إلى رفاعة، فقال: من هؤلاء؟ قال: أبنائي، قال: «أتقولين ما تقولين ومعه ابناه والله إنهم لأشبه من الغراب بالغراب»، يعني: معه ابنان معنى ذلك أنه قادر على الوطء، وأنجب ابنين ويشبهانه، هذا دليل على أنها كاذبة وتريد أن ترجع إلى زوجها الأول رفاعة.
فهنا قوله: «حتَّى تذوقي عُسَيلتَهُ ويذوقَ عُسَيلتَكِ» المقصود بذلك الجماع، كنى عن متعة الجماع بالعسيلة، فهذا أخذ من العلماء أن الزوج الذي تزوج امرأة بعد ما طلقها الأول ثلاث تطليقات، لابد أن يطأها، أن ينكحها نكاح رغبة وليس محللًا وأن يطأها، ثم يُطلقها، فإن طلقها حَلَّ لزوجها الأول أن يتزوجها، فلابد أن ينكحها نكاح رغبة وليس تحليلًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وسماه بالتيس المستعار، ولا يجوز أن يتزوجها لأجل أن يحللها لمطلقها، لا بدَّ أن ينكحها نكاح رغبة.
لكن ماذا لو أن المرأة أو وليها هو الذي طلب الزواج برجل بأجل تحليلها للأول؟
يعني: هذه امرأة طلقها زوجها ثلاث تطليقات، أفتاه العلماء قالوا: لا تحل لك حتى تنكح زوج غيرك، هذه المرأة ووليها قال نعرضك على فلان يتزوجك، ثم يطلقك، ونحن نريد بذلك لعله يطلقه وترجعي إلى زوجك الأول، هذا الرجل لا يعلم ولم يتواطأ معهم ولم يتفق معهم، فعرض عليه نكاح هذه المرأة لكن قد أضمر أنها ستطلق منه وترجع لزوجها الأول، فهذه النية من الزوجة ومن الولي لا أثر لها، ولا يلحق المرأة فيها أي إثم، لماذا؟ لأن العصمة ليست بيدها، وهذا قد نص عليه الفقهاء، ذكر هذا موفق بن قدامة في المغني وغيره، وقالوا: إن النية من المرأة أو من وليها لا أثر لها؛ لأن العصمة بيد الزوج، حتى لو قالت المرأة لهذا الزوج: طلقني، يرفض العصمة بيده، إنما الممنوع أن الزوج نفسه هو الذي يتزوجها لأجل أن يحللها لزوجها الأول، أو أن زوجها الأول يطلب منه أن يتزوجها من أجل أن يحللها له، فهذا حرام ولا يجوز، وهذا هو الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له، أما أن المرأة أو وليها يرغبان في الزواج برجل لعله يطلقها وترجع إلى زوجها الأول، فهنا لا أثر لهذه النية ولا يحرم ذلك، وهذا قد نص عليه فقهاؤنا -رحمهم الله-.
فإذًا ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ﴾ يعني: لا تحل لمطلقها الأول ﴿حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ نكاح رغبة وليس تحليلًا، ولا بدَّ أن يطأها أيضًا، ﴿فَإِن طَلَّقَهَ﴾ يعني: الزوج الثاني بعدما وطئها ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَ﴾ لا إثم على الزوج الأول وزوجته المطلقة من الزوج الثاني أن يتراجعا، لا بأس أن ترجع لزوجها الأول في هذه الحال، ﴿إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، غلب على ظن الزوج والزوجة أن يقيما حدود الله تعالى وما أوجب الله تعالى عليهم من المعاشرة بالمعروف.
إذًا هذا هو حُكم الطلاق في الشريعة الإسلامية، للرجل ثلاث تطليقات، الطلقة الأولى له أن يراجعها ما دامت في العدة بغير إذنها وبغير رضاها، الطلقة الثانية كذلك، الطلقة الثالثة تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا حتى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة ويطأها، ثم يطلقها، ثم بعد ذلك لزوجها الأول أن يتزوجها، أمَّا إذا لن تتزوج بزوج آخر فلا تحل له، وتكون محرمة عليه تحريمًا مؤبدًا، هذا هو حكم الشريعة في هذا.
قال سبحانه بعد ذلك: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يعني: مُشار إليها من الأحكام السابقة، أحكامه التي حَدَّها لعباده، ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ لقوم ذوي استعداد وقبول للعلم.
ننتقل بعد ذلك لفوائد هاتين الآيتين:
الفائدة الأولى، أولًا: أن الطلاق ثلاث تطليقات وبعده لا تحل المرأة لزوجها حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا بالنص وبالإجماع، بنص الآية الكريمة ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾، ثم قال: ﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْج﴾، وأجمع أهل العلم على ذلك، وكانوا في الجاهلية يُطلق الرجل زوجته عدة تطليقات، فإذا قاربت انتهاء العدة أرجعها، ثم طلق، ثم أرجع، ثم طلق، ثم أرجع، فتكون المرأة مُعذبة لا هي بالمتزوجة ولا هي بالمطلقة، فالله تعالى جعل الطلاق في ثلاث فقط، المرة الأولى والثانية طلاق رجعي، الثالثة الطلاق الذي تحرم معه على زوجها حتى تنكح زوجًا غيره.
أيضًا من فوائد هذه الآية: حِكمة الله -عز وجل- في حصر الطلاق بالثلاث، وذلك أن الطلقة الأولى قد تحصل بسبب نزاع، بسبب نزوات في النفوس، فتتاح له الفرصة، له الفرصة أن يرجعها، الطلقة الثانية كذلك تتاح له الفرصة، قد تحصل لخلاف، لشقاق، لنزوة في النفس، إذا طلقها الطلقة الثالثة معنى ذلك أن استمرار الحياة الزوجية بهذه الطريقة لا يمكن، يعني: ثلاث مرات يُطلق، هذا فيه مشكلة، فلا بدَّ إذًا أن يكون هناك تغير في حياة الزوجين، يقال لهذه المرأة لا، لا بدَّ أن تتزوجي برجل آخر، تجربي غيره، الرجل أيضًا يقول له المرأة هذه حرمت عليك، يكون هذا تأديب له، لو لم يحدد ذلك لربما استمر الزوج يطلق ويرجع، يطلق ويرجع، ثلاث مرات، الثالثة هي الحد الفاصل، هي حد النهاية، إذا طلقها الطلقة الثالثة حرمت عليه، معنى ذلك أن عندك مشكلة في حياتك الزوجية، بهذه الطريقة تطلقها ثم تتاح لك الفرصة، تطلقها ثانية ثم تتاح لك الفرصة، تطلقها المرة الثالثة لا تتاح لك الفرصة، أنت وصلت إلى مرحلة أنك لا تتيح لك الفرصة إلا إذا تزوجت ونكحت نكاح رغبة لرجل آخر ووطئها ثم طلقها، هنا يُتاح له الفرصة في أن يتزوجها من جديد، فهذا من حكمة الله -عز وجل-، وهو سبحانه أعلم بما تصلح به أحوال النفوس.
أيضًا اختيار الثلاث، يعني: الطلقة الثالثة هي التي تحرم عليها بسببها تحريمًا مؤبدًا، اختيار التكرار بالثلاث هذا له نظائر في الشريعة الإسلامية، السلام يكون ثلاث مرات، إذا سَلَّم الإنسان على قوم لم يسمعونه يكرر المرة الثانية، ثم يكرر المرة الثالثة، كان -عليه الصلاة والسلام- إذا سَلَّم سَلَّمَ ثلاثًا، أيضًا الاستئذان ثلاث مرات، «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ»، إذا طرقت الباب ثلاث مرات يكفي، طرقت مثلًا المنبه أو الجرس ثلاث مرات يكفي.
كذلك أيضًا في الوضوء، الوضوء تغسل الأعضاء في الوضوء ثلاث مرات ما عدا المسح مرة واحدة، كذلك أيضًا في كثير من العبادات ترجع فيه إلى ثلاث، الكلام إذا لم يُفهم من أول مرة فالسنة أن نعيده إلى ثلاث مرات، كان -عليه الصلاة والسلام- إذا ألقى الكلمة أعادها ثلاثًا، يعني: إذا لم تُفهم المرأة الأولى، أعادها المرة الثانية، ثم أعادها المرة الثالثة، فالثلاث إذًا تعتبر تكرارًا يكتفى به في كثير من الأمور.
أيضًا من فوائد هاتين الآيتين: أن الخلع فسخ وليس بطلاق، من أين أخذنا هذه الآية؟ أخذنا هذه الآية كما أشار ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إن الله -عز وجل- ذكر تطليقتين، ثم ذكر الخلع، ثم ذكر التطليقة الثالثة، فلو كان الخلع طلاقًا لكانت التطليقة الثالثة تطليقة رابعة"، هذا هو استنتاج ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن الله قال: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾، ثم ذكر الخلع: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، ثم قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ﴾، لو كان الخلع طلاقًا لكان قوله: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ﴾ كانت هي الطلقة الرابعة، هذا خلاف النص وخلاف إجماع المسلمين، وهذا استنباط ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهذا دليل قوي وظاهر.
فالله تعالى قال: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾، ثم ذكر الخلع، ثم قال فإن طلقها الطلقة الثالثة، لو كان الخلع طلاقًا لكان قوله: ﴿فَإِن طَلَّقَهَ﴾ الطلقة الرابعة، وهذا خلاف إجماع المسلمين، وهذا ظاهر الدلالة في أن الخلع فسخ وليس طلاق، وعلى ذلك لا يحتسب الخلع من التطليقات، يعني رجل خالع امرأته لا تحتسب عليه طلقة.
{ولو بلفظ الطلاق}.
إذا كان الخلع بلفظ الطلاق فهذه المسألة خلاف بين الفقهاء، الجمهور يَرون أنه يقع طلاقًا، هناك قول آخر اختاره ابن تيمية وابن القيم وهو قول عند الحنابلة: أنه يكون فَسخًا، وهذه المسألة الخلاف فيها قوي؛ لأنك إذا نظرت إلى لفظ طلاق هو أتى بلفظ طلاق، فيدخل في عموم النُّصوص، وإذا نظرت إلى أنَّ هذا الطلاق طلاق بعوض، فالطلاق بعوض المقصود منه هو الخلع، ولذلك هذه المسألة محل إشكال عندي أنا متوقف فيها، هل يُرجح قول الجمهور باعتباره طلاقًا، أو يرجع القول الآخر بأنه يعتبر فسخًا، ولذلك ينبغي للقاضي في الخلع أن يأتي به بلفظ الخلع وليس بلفظ الطلاق؛ لأنه إذا أتى به بلفظ الخلع فلا يعتبر طلاقًا عند الجميع، هو فسخ، لكن إذا أتى به بلفظ الطلاق فعند جمهور أهل العلم يُعتبر طلاقًا، لهذا ينبغي أن يتنبه القضاة لهذا، عند الخلع يؤتى به بلفظ الخلع وليس بلفظ الطلاق، فيقول الرجل لزوجته خالعت امرأتي فلان، ويقول القاضي: إنه قد خالعها وأفهمته بأن هذا فسخ وليس بطلاق، لكن لو قال: طلقت زوجتي فلانة بعوض، فهذا يرد فيه الخلاف، أكثر أهل العلم يرون أنه طلاق، فينبغي التنبيه لهذه الألفاظ.
{ما أثر ذلك؟}
أثر ذلك أننا إذا اعتبرناه طلاقًا يحسب من ضمن الطلقات الثلاث، وإذا اعتبرناه فسخًا لا يحسب من ضمن الطلقات الثلاث، هذا أثر كبير مُؤثر.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أنَّ الواجب على المرء الذي طلق زوجته طلاقًا رجعيًّا يجب عليه أحد أمرين: إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، إما أن يمسكها بمعروف يرجعها بمعروف أو يسرحها بإحسان، أما أن يردها ويرجعها بقصد الأذية والمنة، فهذا لا يجوز، أو أنه يسرحها بجفوة وعدم إحسان، هذا أيضًا لا يجوز، على المسلم أن يكون محسنًا، هذه المرأة لم يكتب الله تعالى بينك وبينها وفاق، سرحها بإحسان، إذا أردت أن تبقيها أبقيها بالمعروف، هذا يدل على أهمية العناية بالأخلاق في كل شيء، حتى في هذا الأمر، حتى لو كان بينك وبينها خصومة أو خلاف، فالفجور في الخصومة هذه من أخلاق المنافقين.
النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكر صفات المنافقين وذكر منها: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، بعض الناس إذا اختلف معك يفجر، يأتي بكل شيء ولا يكتفي بذلك، بل يكذب عليك ويفتري ويضخم الأشياء الصغيرة ويفشي الأسرار، ما يبقي شيء إلا أتى به، هذا يسمى الفجور في الخصومة، هذه ليست من أخلاق المؤمن، هذه من أخلاق المنافقين، المنافق هو الذي إذا خاصم فجر، المؤمن عند الخصوم يحتفظ بالأخلاق، يحتفظ بالإحسان، فعند الطلاق يقال لهذا الرجل إما أن تمسك بمعروف أو تسرح بإحسان، لكن لا تمسك ضرارًا ولا تسرح أيضًا بإضرار وبجفاء، وإنما يكون ذلك بإحسان.
أيضًا من الفوائد: بيان حكمة الله -عز وجل- في شرعه، فإن قال في الإمساك: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾، فإذا ردها جبر قلبها بهذا الرد، فيكون ذلك بالمعروف وبالتألف وبالحسنى، وعند التسريح قال: ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ لأنه سيفارقها، فاحتاج إلى زيادة في معاملتها بالإحسان؛ لأن الطلاق مهما كان فهو جرح لهذه المرأة ومؤلم، ما فيه امرأة ترضى بالطلاق حتى وإن أظهرت بعض النساء خلاف ذلك، المرأة تريد أن تبقى مع هذا الرجل وأن تعيش معه عيشة سعيدة، فهذا الطلاق يُعتبر نوع من الجرح لمشاعرها، فلا بدَّ من الإحسان، ولهذا قال -سبحانه وتعالى- ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
أيضًا من الفوائد: تحريم أخذ الزوج شيء مما أعطى زوجته من المهر أو غيره إلا أن يُطلقها قبل الدخول والخلوة، فله نصف المهر؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾[البقرة: 237]، ويدل لهذا الحكم قول الله تعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، ويستثنى من ذلك أن المرأة إذا أرادت أن تخالع الزوج، فهنا يجوز له أن يأخذ العوض، لكن لو قال: لا أطلقك إلا بكذا مثلًا وهي تتشوف وما عندها مبلغ مالي ولا عندها شيء، لا يجوز ذلك، لا يجوز للرجل ذلك، أنت قد عقدت عليها واستمتعت بها وتريد أن تأخذ الذي أعطيتها، إلا أن المرأة إذا بذلت ذلك بطيبة من نفسها، بذلت ذلك المرأة هذا العوض هذا يسمى خلعًا، فيجوز في هذا الحال الخلع، إذا خافا ألا يقيما حدود الله.
لكن هل الخلع يكون بالمهر أو بأقل أو بأكثر؟ يجوز بالمهر ويجوز بأقل من المهر، لكن هل يجوز أن يكون الخلع بأكثر من المهر؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إنه يجوز وهو قول الجمهور، قالوا: لعموم الآية فإن الله تعالى قال: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، يشمل قدر المهر بأكثر منه.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها؛ لأن هذا أكل المال بالباطل، يأخذ هذا المال بدون مُقابل، وقد جاء في إحدى الروايات في قصة ثابت بن قيس «ولا يزداد» يعني: ولا يزداد على ما أعطاها، وجاء في روايات أخرى بهذا المعنى، والراجح -والله أعلم- أنه لا يجوز أن يزيد الخلع على مقدار المهر؛ لأنه إذا فعل ذلك كان ذلك من أكل مال بالباطل، كيف تدفع لها مهر ثم تطالب أن تدفع لك أكثر من المهر، هذا فيه نوع من التجني والتعدي، ولذلك إذا دفعت المرأة المهر كامل يجبر القاضي الزوج على قبول ذلك؛ لأن بعض الناس نفس دنيئة وعنده طمع، فيريد أن يستغل هذه المرأة الضعيفة، هي دفعت له المهر كاملًا ومع ذلك يُريد أكثر من المهر، هذا لا يمكن على القول الراجح، لا يمكن، يقول له القاضي ترد عليك المهر ويخلعها القاضي منه، ولا يترك المجال لذوي النفوس الدنيئة للتلاعب بهؤلاء النساء الضعيفات.
أيضًا من فوائد هذه الآية: هذه الآية تدل على القاعدة الفقهية وهي دفع أعلى المفسدتين بالتزام أدناهما، هذه قاعدة مقررة عند أهل العلم، أن تدفع أعلى المفسدتين بالتزام أدناهما، وذلك لأن الأصل في الأخذ من مال الزوجة ومما أعطاها الرجل، الأصل فيه أنه محرم، لكن المرأة تريد بذلك دفع مفسدة أعظم، من تضييع حدود الله -عز وجل، ومن استمرار هذه العلاقة الزوجية التي لا تتحقق معها مقاصد النكاح، فكان ذلك جائزًا، فدفعت أعلى المفسدتين بالتزام الأدنى منهما، وهذه قاعدة مقررة عند أهل العلم، ومن أدلتها قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام: 108]، فسب آلهة المشركين هذا واجب، لكن إذا كان يخشى من ذلك أن يُسَبَّ الله عدوًا بغير علم؛ فكان سَبُّ آلهتهم ممنوعًا، فهذه قاعدة مُقررة عند أهل العلم، دفع أعلى المفسدتين بالتزام أدناهما.
ومن الفوائد: أن المخالعة ليست رجعية، فالفراق والبينونة في الخلع فراق بائن فلا سبيل له عليها، وليس له أن يُرجعها إلا بعقد ومهر جديدين، لقول الله سبحانه: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، فإذا كان فداءً، فالفداء عوض عن شيء، فإذا استلم الفداء لا يمكن أن يرجع المفدى عنه وهو الزوج إلا بعقدٍ جديد، وإلا لم يكن لدفع هذا الفدى فائدة، وعلى ذلك فالمخالعة تبين من زوجها بينونة صغرى، البينونة تنقسم عند الفقهاء إلى قسمين:
بينونة كبرى، وبينونة صغرى، البينونة الكبرى تكون في المطلقة ثلاثًا، لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجًا غيره، هذه البينونة الكبرى.
البينونة الصغرى: تكون في مثل المختلعة، تبين منه، إذا خالعت المرأة الزوج ثم بعد ذلك رغب أن يتزوجها، نقول: بانت منك بينونة صغرى، فتحل له برضاها وبعقد ومهر جديدين.
نفترض مثلًا أن هذا رجل طلبت زوجته منه الخلع، فخالعها، ثم بعد مدة ندمت وندم هو وربما يكون بينهما أولاد، فأرادا الرجوع، فما العمل؟ نقول: لا بدَّ من عقد ومهر جديد ومن رضاها، لا بدَّ من ولي وشاهدين كأنه يتزوجها من جديد، هذا يسميه الفقهاء بينونة صغرى.
مثل أيضًا لو طلقها طلقة واحدة حتى انتهت عدتها، تبين منهم بينونة صغرى، لو أراد أن يرجعها لا بدَّ من عقد جديد ومهر وولي وشاهدين، هذه يسميها الفقهاء بينونة صغرى.
فإذن المخالعة بمجرد الخلع تبين منه بينونة صغرى، لا يملك إرجاعها إن أراد أن يتزوجها لا بدَّ من رضاها، لا بدَّ من عقد ومهر جديد، لا بدَّ من ولي وشاهدين كأنه يتزوجها لأول مرة.
{فيه فرق شيخنا بين البينونة الصغرى والكبرى}.
الفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن البينونة الكبرى لا تحل له حتى لو تراضيا، طلقها ثلاث تطليقات لا تحل له حتى لو رضي الزوج والزوجة، لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة ويطأها، ثم يطلقها، أما البينونة الصغرى إذا رضيت المرأة فيخطبها الرجل مرة ثانية ويتزوجها بعقد ومهر جديد.
أيضًا من الفوائد: جواز تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها، لقوله: ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، وهذا فيه رد على من قال من العلماء: إن المرأة ليس لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها، واستندوا في ذلك لحديث لكنه ضعيف لا يثبت، والأحاديث الصحيحة تدل على أنَّ المرأة حُرة في مالها، المرأة حرة في مالها تتصرف فيه كيف تشاء ما دامت رشيدة.
والشريعة الإسلامية حفظت حقوق المرأة وحفظت حريتها وأكرمتها، ليس هناك دين من الأديان أو ملة من الملل أكرمت المرأة وحفظت لها حقوقها مثل دين الإسلام، تجد في بعض المجتمعات غير المسلمة المرأة إذا تزوجت حتى اسمها ينقلب لاسم الزوج، يعني هويتها تطمس، ينتقل اسمها لاسم الزوج، هذا فيه امتهان للمرأة، المرأة تبقى تنتسب لأبيها، يبقى نسبها لأبيها، ومالها تتصرف فيه كما تشاء، ليس لزوجها أن يظلمها، ليس لزوجها أن يبخسها، بل حتى لو قصر زوجها عليها أصبح عاجز عن النفقة لها أن تطلب الفسخ، ليس خلعًا وإنما الفسخ من غير عوض، حتى لو كان الزوج عاجزًا عن الوطء لها أن تطلب الفسخ، يعني الشريعة الإسلامية أعطت المرأة حقوقها كاملة، لأن هذه الشريعة من لدن عزيز حكيم خالق البشر الذي هو أعلم بما تصلح به أحوال البشر.
أيضًا من الفوائد: عِظم شأن النكاح وما يتعلق به؛ لأن الله تعالى ذكر هذه التفصيلات الدقيقة في النكاح وفي الطلاق، ورتب على ذلك أمورًا، فقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَ﴾، فبين أن هذا من حدود الله ونهى عن تعديه، عن تعدي حدود الله -عز وجل-، ويحرم تعدي حدود الله سبحانه قال: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، فالتعدي لحدود الله يُعتبر ظلمًا عظيمًا، فقوله: ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أتى بجملة اسمية، يعني كأنه لا ظالم إلا هم، إلا هؤلاء المتعدون لحدود الله، وهذا يدل على عظيم شأنه، وأن على الزوج أن يتقي الله -عز وجل-، ولا يتعدى حدود الله تعالى في أمر النكاح وفي أمر الطلاق.
أيضًا من الفوائد في قوله: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾، من الفوائد: أن المرأة إذا طلقها الزوج الطلقة الثالثة، فإنها تحرم على زوجها ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا بإجماع المسلمين -كما ذكرنا.
ومن الفوائد: أن نكاح الزوج الثاني لا بدَّ أن يكون نكاح رغبة وأن يطأها كما بيَّنا، فإن كان لأجل التحليل فلا يجوز، ولعن الله الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له، وسماه النبي -عليه الصلاة والسلام- بالتيس المستعار.
أيضًا قوله: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَ﴾ يدل على أنها تحل لزوجها الأول بعد ما يطلقها الزوج الثاني، وظاهر الآية أن بمجرد العقد، لكن دلت السنة على أنه لا بدَّ من الوطء كما ذكرنا في قصة امرأة عبد الرحمن بن الزبير، وقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «حتَّى تذوقي عُسَيلتَهُ ويذوقَ عُسَيلتَكِ»، والسنة مبينة للقرآن، فلا بدَّ للجمع بين النصوص، فلا يأتي أحد ويأخذ بظاهر الآية، يقول إن الله تعالى قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَ﴾، فيكفي مجرد العقد، نقول: لا، السنة بينت أنه لا يكفي مجرد العقد، بل لا بدَّ من الوطء، السنة مبينة لما في القرآن، وطريقة أهل السنة والجماعة وأهل الحق الجمع بين النصوص، أما طريقة أهل الزيغ والضلال هو الأخذ بطرف من النصوص وترك طرف آخر.
ولذلك الطوائف التي ضلت كانت بسبب أنها تأخذ بطرف من النصوص وتترك النصوص الأخرى، يعني مثلًا على سبيل المثال: الخوارج أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فكفروا مرتكب الكبيرة وقالوا هو مخلد في النار، مقابلهم أخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد وقالوا لا يضر مع الإيمان ذنب، أهل السنة والجماعة جمعوا بين النصوص، قالوا: مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته في الدنيا وفي الآخرة تحت مشيئة الله لكنه لا يخلد في النار.
فإذًا المنهج الصحيح هو منهج أهل السنة والجماعة وهو الجمع بين النصوص، فلا يأتي إنسان يأخذ نصًا ويترك بقية النصوص، هذه طريقة أهل الزيغ، وبعضهم أيضًا تبع المتشابه، يأتي بنص متشابه في القرآن أو في السنة ويقول القرآن يقول كذا، السنة تقول كذا، نقول اجمع بين النصوص، وهذا ذكره الله تعالى في القرآن، قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ﴾[آل عمران: 7]، فالذين قلوبهم الزيغ هم الذين يتبعون المتشابه، والذين في قلوبهم الزيغ هم الذين يأخذون بطرف النصوص ويتركون النصوص الأخرى، فنقول الصحيح من ظاهر الآية أنه مجرد العقد، لكن دلت السنة أنه لا بدَّ من وطء الزوج الثاني لقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتفق عليه: «حتَّى تذوقي عُسَيلتَهُ ويذوقَ عُسَيلتَكِ».
أيضًا من الفوائد: إطلاق المراجعة على عقد النكاح لقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَ﴾، والرجعة عند الفقهاء هي إعادة المطلقة غير بائن إلى عصمة زوجها، لكن هنا هذا اصطلاح خاص في القرآن، أن الرجعة قد تطلق على عقد النكاح، لأن الله قال: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾، ثم قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾، قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَ﴾ يعني الزوج له الثاني ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَ﴾ يعني على زوجها الأول وهذه المرأة ﴿أَن يَتَرَاجَعَ﴾، هذه ليست رجعة بالمصطلح الفقهي وإنما المقصود أن يتزوجها، أطلق الله تعالى لفظ النكاح على الرجعة.
ولذلك فلفظ الرجعة شرعًا تطلق عدة طلقات: قد تطلق ويراد بها عقد النكاح كما في هذه الآية ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَ﴾ يعني المقصود أن يتزوجها ويعقد عليها، وقد يُراد بها إعادة المطلقة رجعيًّا إلى عصمة زوجها كما هو مصطلح عند الفقهاء، وقد يُراد بالمراجعة أن تعاد المرأة إلى عصمة زوجها بدون الطلاق، كما في قصة ابن عمر «مُرْهُ فليُراجعها ثمَّ إن شاءَ طلَّق».
أيضًا من الفوائد: قال بعض أهل العلم: لا يجوز للزوجين أن يتراجعا حتى يغلب على ظنهما إقامة حدود الله تعالى؛ لقول الله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، قالوا فهذا شرط، إذا ظنا الزوج الأول والمرأة أنهما سيقيما حدود الله جاز له أن يتزوجها، أما إذا ظن أنه لا يقيم حدود الله وأن المشاكل السابقة ستستمر، ولن يقوم هو بحقوقه وهي لن تقوم بحقوقها فلا يجوز لها أن يتزوجها في هذه الحالة، فهذا قول قوي قال به بعض أهل العلم، قال به ابن تيمية وغيره، فقالوا: إن الزوج الأول إذا أراد أن يتزوجها فلا بدَّ أن يغلب على ظنه وعلى ظنها أن يقيما حدود الله وأن يقوم كل واحد منهما بالحقوق التي عليه، وأن الحياة ستستقيم بعد ذلك، ويكون كل منهما أخذ درسًا، يكون الزوج أخذ درسًا حرمت عليه ولم تحل له لعل بعد أن تزوجت رجل آخر ووطئها، والمرأة أيضًا أخذت درسًا أنها أيضًا جربت زوجًا غيره ثم طلقها، فكل منهما أخذ الدرس فإذا ظن أنه فعلًا هو استفاد من هذا الدرس وأن حياتهم الزوجية ستستقيم، فلا بأس حينئذٍ أن يتزوجها، أما إذا كان يغلب على ظنهما عدم الوفاق، يعني هذا الرجل يعرف من طبع زوجته أنه لا يمكن أن تستقيم معه، والزوجة تعرف من طبع زوجها كذلك، هنا لا يجوز له أن يتزوجها في هذه الحالة، هذا قول قوي قرره بعض أهل العلم، وهو ظاهر الآية الكريمة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَ﴾ يعني أن يعقد عليها زوجها الأول، لكن الله تعالى شرط شرطًا، قال: ﴿إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾.
ومن فوائد هذه الآية: الاكتفاء بالظن في الأمور المستقبلية؛ لأن طلب اليقين في المستقبل قد لا يتحقق، بل ربما قد لا يطاق، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، يكفي غلبة الظن، الإنسان قد لا يتيقن أن يقيم حدود الله في مثل هذا، يكفي هنا غلبة الظن، فإذاً يكتفى بغلبة الظن، وفي الشريعة الإسلامية تكتفي بغلبة الظن في العبادات وفي أمور كثيرة يكتفي فيها الإنسان بغلبة الظن.
أيضًا من الفوائد في قول الله تعالى في آخر الآية: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، أن من لا يعرف هذه الحدود ويتبينها فليس من ذوي العلم، لأن الله تعالى قال: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فهذه إنما تتبين لذوي العلم ولأهل العلم، فكلما كان الإنسان أعلم كانت الحدود في حقه أظهر وأبين، وهذا يُبَيِّنُ لنا فضل طلب العلم وطالب العلم يتعلم من اللفظ مسائل أخرى، كما يقال أن العلم يغذي بعضه بعضًا، هذا ليس كطالب المال الذي يشتري السلعة ويظن أنه يربح ثم يخسر، أما طالب العلم لأي مسألة فهذه المسألة تكون مفتاح حله لعلوم أخرى، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
ونختم الفوائد بأن هاتين الآيتين: تدلان على تعظيم شأن النكاح، فإن الله تعالى ذكره حدودًا في عقده وفي حله وذكره تفصيلات وحذر وانذر وجعل الالتزام بهذا من الالتزام بحدود الله، وأن التعدي هذا من تعدي حدود الله -عز وجل-، فهذا يُبَيِّنُ لنا عظيم شأن النكاح، ولهذا سماه الله تعالى ميثاقًا غليظًا، لا بدَّ أن يستشعر الزوجان أن النكاح أنه ميثاق غليظ، وأن الزوج إذا أراد حل هذا الميثاق الغليظ فعليه أن يتقي الله -عز وجل-، إذا أراد أن يطلق المرأة يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ولهذا تجد أن من يتقي الله تعالى في الطلاق لا يحتاج إلى فتية، لا يحتاج إلى أحد يفتيه، ونحن نجد الآن مئات الاستفتاءات الآن عن مسائل الطلاق، بسبب أن هؤلاء المطلقين لم يتقوا الله سبحانه، تجد أنه يطلقها وهي حائض، أو يُطلقها في طُهر قد جامعها فيه، يطلقها ثلاث تطليقات دفعة واحدة، لكن لو أنه اتقى الله تعالى ما احتاج لأحد يفتيه، يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، له الفرصة في مراجعتها ثلاثة أشهر، إذا مضت ثلاثة أشهر وليس له رغبة فيها، معنى ذلك أن النفس طابت منها، فلن يندم ولن يحتاج إلى من يفتيه أصلًا.
الآن هذه الاستفتاءات عن مسائل الطلاق، بسبب أن هؤلاء المطلقين لم يتقوا الله -عز وجل- في أمر الطلاق، وإلا لو اتقوا الله تعالى لما احتاجوا إلى الاستفتاء أصلًا، لأنه سيطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه وسيكون له فرصة مراجعتها طيلة العدة ثلاثة أشهر.
وكذلك أيضًا تعظيم شأن النكاح من جهة حِله، الطلاق له حدود، له أحكام، فهذا يُبَيِّنُ لنا عظيم شأن هذا العقد، هذا الارتباط بين الرجل والمرأة أمر عظيم، ليس بالأمر الهين، سماه الله ميثاقًا غليظًا، تصبح هذه المرأة قريبة من هذا الرجل الأجنبي عنها، وهذا الرجل الأجنبي عنها يرى منها ما لا يرى أقرب الناس إليها، يرى منها ما لا يرى منها أبوها ولا أخوها، ويصبح هذا الرجل هو بعلها وهو قوام عليها، فهذا العقد عقد سماه الله ميثاقًا غليظًا، فلا بدَّ من أن الزوجين يستشعران عظم الشأن هذا العقد.
وكذلك أيضًا يستشعران أيضًا مسئولية حله بالطلاق أو بالخلع، وأن لا يلجأ الزوجان إلى الطلاق أو الخلع إلا عند الضرورة القصوى، وعند استيفاء جميع الحلول واستنفاذ جميع الحلول، فإذا استنفذت جميع الحلول وغلب على الظن أن استمرار هذا العقد لا يحقق مقاصد النكاح، وأنه يكون معه النكاح عنتًا ومشقة، فحينئذٍ وكانت المرأة تتشوف الطلاق مثلًا، والرجل أيضًا يرغب فيه، فحينئذٍ يطلق المرأة طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فإذا انقضت العدة حينئذٍ تخرج من عصمته، والله تعالى يقول: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ﴾[النساء: 130]، ربما يرزق هذا الزوج بامرأة تناسبه ويسعد معها، وربما ترزق هذه المرأة بزوج يناسبها وتسعد معه، ويتفرقا يغنِ الله كُلاًّ من سعته، لكن لا يلجئان إلى هذه الخطوة وهي الطلاق إلا عند الضرورة القصوى، عندما تستنفذ جميع الحلول وجميع وسائل العلاج.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
بارك الله فيكم وشكرًا لكم وللأخوة المشاهدين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة -بإذن الله- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك