الدرس الثالث

فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

3266 11
الدرس الثالث

تفسير آيات الأحكام (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي"، نستكمل وإياكم تفسير آيات الأحكام مع فضيلة ضيفنا الشيخ/ سعد بن ترك الخثلان، رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية، باسمي وباسمكم أرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلًا حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{شيخنا الفاضل كنا قد وقفنا عند قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾، فنستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 231- 232].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد.
فكنا قد وصلنا في تفسير آيات الأحكام إلى قول الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُو﴾، فنبدأ أولًا بالكلام عن معاني الكلمات والمعنى الإجمالي للآيات، ثم بعد ذلك كالمعتاد ننتقل للفوائد والأحكام.
قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾، هذا خطابٌ لعامة الناس، أي إذا طلق الأزواج النساء، ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ المقصود بالأجل هنا العِدَّة، هل المقصود إذا انتهت العِدَّة أو المقصود إذا قاربنا انتهاء العِدَّة؟
قولان لأهل العلم: فمن أهل العلم من قال: إنَّ المقصود إذا قاربنَ بلوغ أجلهن، فيكون معنى قوله: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: قاربنَ بلوغ أجلهن، قالوا: لأنَّ الإمساك إنما يكون في العِدَّة.
وقال بعض أهل العلم: إنَّ المقصود إذا بلغنَ أجلهن حقيقة، وذلك بناءً على القول بأن الرجل يجوز له أن يُراجع زوجته بعد انتهاء الثلاث حيضات وقبل أن تغتسل، وهذا هو المذهب عند الحنابلة ووردت فيه آثار عن بعض الصحابة -كما سيأتي إن شاء الله-، فتحمل الآية على ظاهرها بناءً على هذا القول، وهذا القول هو الأقرب خاصة أنه مُؤيد بآثار عن الصحابة، فعلى ذلك العدة لا تنتهي بانقضاء الحيضة الثالثة وإنما تنتهي باغتسال المرأة، فتكون الفترة الزمنية ما بين انقضاء الحيضة الثالثة والغسل أيضًا فرصة ومجالًا للإرجاع، وهذه -إن شاء الله- سنتكلم عنها بالتفصيل عند الكلام عن الفوائد والأحكام.

على هذا يكون القول الراجح في معنى الآية، أنها على ظاهرها ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ يعني انقضت العدة وقبل أن تغتسل المرأة، فإن شئتم فأمسكوهن أو سرحوهن، هذا هو معنى الآية، ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ المقصود بذلك أرجعوهن إن أردتم الإرجاع، ويكون هذا الإرجاع بالمعروف ولا يكون إضرارًا بالمرأة أو أذية لها.
والخيار الثاني: ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، إذا كنتم لا ترغبون في هؤلاء الزوجات المطلقات اتركوهن بدون رجعة، لكن يكون ذلك أيضًا بإحسان، فإما إمساك بمعروف أو إمساك بإحسان، فهذا هو الواجب على الزوج إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أمَّا أن يُمسكها بقصد الإضرار بها فهذا لا يجوز، ويوجد من الأزواج من يمسك زوجته فتبقى هذه المرأة المسكينة مُعلقة لا هي بالمرأة المزوجة التي تنال حقوقها ولا هي بالمرأة المطلقة التي تنال حقوق المطلقة أيضًا.
فإنَّ المرأة المطلقة بعد انقضاء عدتها ربما تخطب وربما تتزوج برجل تسعد معه ويعطيها حقوقها ويعوضها عمَّا فات مع زوجها الأول، فهذا الإمساك بإضرار وتعليقها بقصد الأذية لها لا يجوز وهو ظلم عظيم للمرأة؛ ولهذا فإن الله -عز وجل- في هذه الآية قال: ﴿فَأَمْسِكُوهُن بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرحُوهُن بِمَعْرُوفٍ﴾، ويقال للزوج: إمَّا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أمَّا أن تمسكها بإضرار فهذا لا يحل لك، وبعض الرجال يستقوي على المرأة الضعيفة، ربما تكون هذه المرأة الضعيفة ليس لها من يُسندها من أهل، وربما أيضًا يَستغل ضعفها لتعلقها بأولادها أو لفقرها أو لغير ذلك، فيمسكها إضرارًا بها، ولذلك يمسكها ولا يعطيها نفقة، ويمسكها ولا يُعطيها حقها في الفراش، فتكون هذه المرأة مسلوبة لحقوقها، فيظلمها بذلك.
وهذا الظلم العظيم لهذه المرأة الذي ربما تدفع معه زهرة شبابها، هذا الظلم سيعاقب عليه هذا الزوج، وربما تكون العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، ربما يسلط الله عليه أصنافًا من العقوبات، يُسلط الله عليه من يفعل به كما فعل بهذه المرأة الضعيفة، أو أن الله يسلط عليه أمراضًا أو يُسلط عليه عقوبات بحسب ما تقتضيه حكمة الله -عز وجل-؛ لأنَّ الظلم عاقبته وخيمة، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُو» ، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: «اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حجابٌ» ، دعوة المظلوم مستجابة.
فهذه المرأة التي أمسكها زوجها بقصد الإضرار، هذا من أعظم الظلم لها، فعلى الزوج أن يتقي الله -عز وجل-، فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولهذا قال سبحانه: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾،
ثم أكد الله -عز وجل- على هذا المعنى مرة أخرى بعبارة أخرى: قال: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُو﴾، فنهى الله -عز وجل- عن إمساك الزوجات لأجل الإضرار، وأن هذا نوع من الاعتداء، وأي اعتداء أعظم من هذا؟ من يعتدي على هذه المرأة، ربما تذهب زهرة شبابها معه، فتكون مسلوبة من حقوقها، وتكون امرأة معلقة، وربما أنها ليس لها حول ولا قوة، ليس لها من يسندها، وربما تكون فقيرة، وربما تكون محتاجة لهذا الزوج، فلا يجوز إمساكها لقصد الإضرار بها، وقد كان هذا الإمساك لأجل الإضرار كان موجودًا في الجاهلية، فكانوا يطلقون المرأة، كان الرجل يطلق المرأة ثم إذا قاربت عدتها على الانتهاء أرجعها، ثم يطلقها، ثم أرجعها، فالله -عز وجل- حدد المراجعة باثنتين، قال: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، ثم قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ﴾، فكان هذا الإمساك بقصد الإضرار كان موجودًا في الجاهلية فأبطله الإسلام، لكن لا يزال موجودًا عند بعض المسلمين مع الأسف الشديد، أنه يمسك المرأة بقصد الإضرار بها، وهذا نوع من الاعتداء عليها والظلم، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُو﴾.
ثم أكد الله -عز وجل- النهي عن ذلك أيضًا بعبارة أخرى، انظر إلى عِظم شأن المسألة، قال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ يعني: أنه يمسكها بقصد الإضرار ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، فاعتبر الله -عز وجل- يعني هذا أولًا ظلم للمرأة، وظلم لنفس الإنسان؛ لأنه أوقعها في الإثم، وإذا أوقع الإنسان نفسه في الإثم فقد ظلمها، ولهذا الكلمات التي تلقاها آدم لما وقع في المعصية، وأكل من الشجرة هو وحواء: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾.
فالإنسان بوقوعه في المعصية يظلم نفسه ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾.
ثم أكد الله -عز وجل- هذا المعنى أيضًا بعبارة أخرى: ﴿وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُو﴾ يعني: خذوا هذا الأمر مأخذ الجد، لا تتخذوا هذه التعليمات مأخذ الهزل، ﴿وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُو﴾ آيات الله عمومًا، وما أمر الله تعالى به في هذا الموضع على وجه الخصوص.
وقد جاء عن عُبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "كان الرجل على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول للرجل: زوجتك ابنتي، ثم يقول: كنت لاعبًا، فأنزل الله -عز وجل-: ﴿وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُو﴾.
فإذن، أكد الله -عز وجل- النهي عن ظلم المرأة بإمساكها بقصد الإضرار بِعِدَّةِ مؤكدات:
الأمر الأول: أن الله سبحانه قال: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
الأمر الثاني: أن الله تعالى قال: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَار﴾.
الأمر الثالث: أن الله وصف ذلك بأنه اعتداء، قال: ﴿لِّتَعْتَدُو﴾.
الأمر الرابع: أن الله تعالى وصف ذلك بأنه مِن ظُلم النفس، قال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾.
الأمر الخامس: أن الله تعالى أشار إلى أن هذا من اتخاذ آيات الله هزوا.
فلاحظ هنا خمس مؤكدات لهذا النهي، فأي مسلم يسمع مثل هذا، ثم يقع في هذا المحظور، لا يجوز إمساك المرأة بقصد الإضرار بها، فالله -عز وجل- نهى عن ذلك، وأكد هذا النهي بهذه المؤكدات الخمسة.
وقوله: ﴿وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُو﴾، هذه عامة، تشمل النهي في هذه الآية، وتشمل غيره، فلا يجوز اتخاذ آيات الله هزوا، وعلى المسلم أن يعظِّم آيات الله، وما جاء في النصوص، وأوامر الله ونواهيه، أن يعظمها، ولا يتخذها هزوا.
ثم قال سبحانه: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾.
أمر الله تعالى بذكر نعمة الله تعالى على الإنسان، وهذا الذكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، فنِعم الله -عز وجل- عظيمة، والمطلوب من العبد أن يشكر هذه النِّعم، وحتى يشكرها لا بدَّ من ذكرها؛ لأن عدم ذكر النِّعم يقتضي عدم الشكر، فتذكر نِعم الله سبحانه من أسباب شكرها.
ولهذا نجد أن الله -عز وجل- كرر هذا الأمر، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، لو تأملت كم ورد في القرآن من مرة؟ ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾ [المائدة: 20]، اذكروا نعمة الله عليكم، هذا جزء من الشكر.
فعلى المسلم أن يحرص دائمًا على أن يتذكر نِعم الله عليه، وأن يحدِّث بها على سبيل الشكر؛ لأنَّ بعض الناس تجد أنه كفور، ينعم الله عليه بالنعم العظيمة، ومع ذلك تجده مُتسخطًا مُتبرمًا متشكيًا وكأنه ما عنده نعم، والواجب على المسلم أن يشكر الله -عز وجل- على نعمه، وأن يذكر نعم الله تعالى عليه، فتقول: الله تعالى أنعم علي، أعطاني الصحة، وأعطاني المال، وأعطاني الزوجة، وأعطاني الأولاد، وأعطاني كذا، وأعطاني كذا، فتحمد الله على هذه النِّعم، أحمدك يا ربي وأشكرك على هذه النِّعم، هذا هو المطلوب.
من أسباب الشكر أن يذكر المسلم نِعم الله عليه، وأن يذكرها أيضًا أمام الآخرين ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11]، فعندما يتشكى مثلًا بعض الناس ويتضجرون، يقول: لا، نحن الآن في نعم، نحن في أمن، في أمان، في رخاء، في كذا، في كذا، يذكرهم بنعم الله عليه، ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوك﴾، قال هذا موسى لبني إسرائيل.
بنو إسرائيل جعل الله فيهم أنبياء، أنبياء كثيرين، وهذه نعمة من النعم، أن يجعل فيهم أنبياء؛ لأن الأنبياء وجودهم خير عظيم، وبركة، يدعونهم إلى الله -عز وجل-، يأمرونهم بطاعة الله، هم الواسطة بينهم وبين الله -سبحانه وتعالى- في تلقي الوحي والأوامر والنواهي، ووجود الأنبياء نعمة، ﴿وَجَعَلَكُم مُّلُوك﴾، يقول موسى لبني إسرائيل: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوك﴾.
قال ابن عباس: "كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان عنده دار ودابة وخادم، عَدُّوهُ مَلِكًا"، دار ودابة وخادم يعتبرونه ملكًا، ولهذا جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو يستفتيه، هل يأخذ من العطاء أم لا؟ قال له عبد الله بن عمرو: هل عندك دار تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: هل عندك زوجة تسكن إليها؟ قال: نعم، قال: فهل عندك خادم؟ قال: نعم، قال: فأنت من الملوك، واستدل بالآية: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوك﴾، كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان عنده دار ودابة وخادم عدّوه ملكًا، كم من الناس الآن من يعيش عيشة ملوك، ومع ذلك تجد أنه يعتبر نفسه كأنه فقير، وتجد أنه متبرم متسخط متشك، هذا من كفران النعم.
فينبغي للمسلم أن يذكر نعمة الله عليه، أن يذكر نعم الله عليه، نعم الله تعالى علينا عظيمة، ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَ﴾ [النحل: 18]، نعم الله علينا، تأمل نعم الله عليك، نعمة الصحة فقط، هذه نعمة لا يوازيها نعمة، نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة العقل، نعمة الإدراك، نعم أيضًا النعم الأخرى التي ينعم الله بها على الإنسان، فنعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى، يعني هذا المعنى يغفل عنه كثير من الناس، وهو تذكر نعم الله، مع أن الله تعالى كرر الأمر به في عدة آيات، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [الأحزاب: 9]، ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، تكرر الأمر بذكر نعم الله تعالى في عدة آيات؛ لأنَّ تذكر نعم الله يَقتضي الشُّكر، وهو من أسباب الشكر، فعلى المسلم أن يجعل هذا مبدأً له في حياته، أن يتذكر نعم الله عليه، وأن يشكر الله تعالى على نعمه، فإن الشكر رأس الحكمة، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ [لقمان: 12]، قال العلماء: رأس الحكمة الشكر؛ لأنك إذا شكرت الله تعالى يزيد عليك النعم، ليس فقط تقر النعم، بل تزيد ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ﴾
الله تعالى قال: اذكروا نعمة الله عليكم عمومًا، وخص الله تعالى نعمة عظيمة أفردها بالذكر، وهي: ما أنزل الله تعالى من الكتاب، يعني القرآن، والحكمة أي: السنة.
إنزال القرآن والسنة، لا شك أن هذه من أعظم وأجل وأكبر النعم، القرآن والسنة هما النور اللذين يستنير بهما المسلم، كيف يعرف المسلم مراد الله -عز وجل- وأوامره ونواهيه إلا عن طريق القرآن والسنة، فإنزال القرآن والسنة هذا من أعظم وأجل النعم، ولهذا خصها الله تعالى بالذكر، ﴿وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ﴾.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله: ﴿يَعِظُكُم بِهِ﴾ يعني: يذكركم به، بهذه النعم، ثم قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
ونجد الأمر بتقوى الله تعالى ورد في آيات كثيرة في القرآن، وذلك لأنه بتقوى الله تصلح القلوب، وتصلح الأعمال، ونجد أن الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- يذكر الله تعالى عنهم أنهم يأمرون أقوامهم بتقوى الله، ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 123- 124]، ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 141- 142]، ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾[الشعراء: 176- 177]، لاحظ: ألا تتقون، ألا تتقون تجد أنها أول ما يأمر به الأنبياء أقوامهم، ﴿أَلاَ تَتَّقُونَ﴾، ذكر الله تعالى هذا عن الأنبياء أنهم يأمرون أقوامهم بتقوى الله، تقوى الله أي اتباع أوامره واجتناب نواهيه، تقوى الله تعني: اتباع النواهي، واجتناب النواهي.
وثمرات التقوى عظيمة في الدنيا والآخرة، في الآخرة ثمرات التقوى الجنة، وأمَّا في الدنيا فإن الله تعالى يرزق هذا المتقي بخيرات عظيمة، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2- 3]، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْر﴾[الطلاق: 4]، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْر﴾[الطلاق: 5]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾[الأنفال: 29]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الأحزاب: 70- 71].
ثمرات التقوى كثيرة، ولهذا من اتقى الله -عز وجل- فاز الفوز العظيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: 71] يعني: يتقي الله ﴿فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيم﴾، ولهذا ختم الله الآية بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
أمر الله تعالى عباده بأن يعلموا بأنه سبحانه بكل شيء عليم، هذا العلم من أعظم وأشرف العلوم، أنت علمت أن الله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، لا يخفى عليه خافية، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، يرى دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء -جل وعلا-، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، الورقة إذا كان يعلم بحركة النبات، الورقة من النبات إذا سقط، ما بالك بحركة الحيوان وحركة الإنسان؟ هو سبحانه بكل شيء عليم، علمه أحاط بكل شيء، بكل شيء عليم، السر والجهر عنده سواء، ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ [الملك: 13]، هذا يدل على عظمة الرب -سبحانه وتعالى-، ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْم﴾ [الطلاق: 12].
هذا العلم يورث الخشية، ولهذا قال: ﴿واعلموا أن الله بكل شيء عليم﴾، من أسباب الخشية، من أسباب قوة الخشية لله -عز وجل- هذا العلم، أن يعلم المسلم بأسماء الله تعالى وصفاته، ومن ذلك يعلم أن الله بكل شيء عليم، وأن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، لا شك أن هذا سيكون له أثر على المسلم في تعبده وفي سلوكه وفي أموره كلها، ولهذا أمر الله تعالى بهذا العلم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
ثم في الآية التي بعدها أيضًا وهي لها صلة بهذه الآية، قال سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، نقول فيها كما قلنا في تفسير الآية السابقة، يعني على القولين: قاربن بلوغ أجلهن أو انقضت العدة وقبل الاغتسال من الحيض.
قال: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ﴾، ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ يعني لا تمنعوهن أنتم أيها الأولياء أن ينكحن أزواجهن إذا تراضى، إذا اتفق الزوج والزوجة على النكاح ليس لكم أنتم أيها الأولياء أن تمنعهن.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها"، يمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله الأولياء عن أن يمنعوها، حتى لو انقضت عدتها، ولهذا فالآية ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ على ظاهرها ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: انقضت عدتهن، لأنه أصلًا قبل انقضاء العدة ليس للمرأة خيار وليس للولي خيار، للرجل أن يُراجع زوجته بدون رضاها؛ لأنها لازالت في عصمته، لكن الآية ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ يعني: انقضت عدتهن، هذه المرأة انقضت عدتها، ثم بعد ذلك خطبها زوج يريد أن يتزوجها مرة أخرى، ورضيت هي بذلك، فليس للولي أن يعترض ويمنعها من هذا.
عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلًا، ثم أنه طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم بعد ذلك خطبها، وقال له معقل بن يسار: يا لكع أكرمتك وزوجتك، فطلقتها فوالله لا ترجع إليك أبدًا، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ﴾، فهذا معقل بن يسار زوج أخته طلقها وانتهت العدة، خطبها والمرأة تريده، فمعقل امتنع ورفض، قال له: يا لكع زوجتك وأكرمتك ثم في الأخير تطلقها، والله لا ترجع إليك أبدًا، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية، فلما سمع معقل -انظر إلى امتثال الصحابة -رضي الله عنهم- لَمَّا سمع معقل الآية نزلت، قال: يا ربي سمعًا لك وطاعة، ثم دعا هذا الرجل وقال: أزوجك وأكرمك طاعة لربي، انظر إلى مبادرة الصحابة لَمَّا نزلت الآية فامتثل، سمعًا يا ربي لك وطاعة.
هذه الآية نزلت في معقل، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ففي نهي للأولياء أن يمنعوا مولياتهم من الزواج بأزواجهم السابقين، إذا كانت المرأة تريد زوجها لا يجوز الولي أن يقف حجر عثرة ويمنعها من أن تتزوج بزوجها حتى وإن انقضت العدة، لأن ولاية الولي هي ولاية نظر وإصلاح، وليست ولاية تسلط، فبعض الأولياء عندها تسلط، يقول لا، هذا الزوج فعل بك كذا وكذا وطلقك، هي تريده، ربما أنها ترى أن هذا في مصلحة الأولاد أو أن هذا في مصلحتها، أو أنها لو بقيت في بيت أبيها كانت مطلقة، فما دام أنها تريده وهو يريدها، فلا يجوز لك أنت أيها الولي أن تمنعها من ذلك، لا يجوز، لأن ولايتك هي ولاية نظر في مصلحتها، ما دام أنها تريد هذا الزوج وهو يريدها، فلا يجوز أن تمنعها، وهذا المنع يُسمى عضل، ولهذا قال سبحانه: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ﴾، سمى الله -عز وجل- هؤلاء أزواج مع أنه خرجت من عصمته، لكن هذا باعتبار ما سيكون وباعتبار ما كان أيضًا، باعتبار ما يكون أنه إذا عقد عليها أصبح زوجًا لها، وباعتبار ما كان أنه زوجها السابق.
ثم أكد الله -عز وجل- هذا المعنى قال: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ يعني هذا التوجيه يوعظ به ﴿مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ﴾، والذي يؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يمتثل لهذه الأوامر ويجتنب النواهي، أما الذي غفل عن الدار الآخرة فتجد أنه لا يمتثل، يغلب جانب الأعراف والعادات وحظوظ النفس، يغلبها، لكن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، لا، يقول ما دام أن الله تعالى نهى عن عضل هذه المرأة، إذًا أنا لا أعضلها أنا أمتثل لربي كما قال معقل بن يسار: سمعًا لك يا ربي وطاعة.
﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ يعني: هذه الأحكام التي ذكرها الله تعالى أزكى لكم من الزكاة، أزكى لكم في أعمالكم؛ لأنكم أطعتم الله ورسوله، وأطهر لكم من الذنوب، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، الله تعالى أعلم بكم وأعلم بمصالحكم من أنفسكم، وأرحم بكم من أنفسكم، والله تعالى أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأنتم لا تعلمون ذلك، والجملة هنا اسمية في إسناد العلم إلى الله، وفي نفي العلم عن عباده، والله تعالى أعلم وأحكم هو الذي شرع هذه الأحكام، ولهذا قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام من هاتين الآيتين:
أولًا: في الآية الأولى، قال سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، من فوائد الآية أن لكل طلاق أجلًا؛ لأن الله قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، لكل طلاق أجل، والمراد بالأجل هنا العدة، وتكلمنا عن العدة في الحلقة السابقة.
قلنا: المرأة التي تحيض عدتها ثلاث حيضات، والمرأة التي لا تحيض إما لكبرٍ أو لصغرٍ أو لغير ذلك، عدتها ثلاثة أشهر، ﴿وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: 4].
وأيضًا هناك القسم الثالث: المرأة الحامل عدتها وضع الحمل، فهذا المعنى بلوغ الأجل، فلكل طلاق أجل، لكل طلاق أجل يعني عدة وهذه العدة فسرت في آيات أخرى بأنها ثلاثة قروء لمن تحيض، ثلاث حيضات، وثلاثة أشهر لمن تحيض، ووضع الحمل للمرأة الحامل.
من فوائد هذه الآية: استدل بعض أهل العلم بهذه الآية على جواز المراجعة بعد انقضاء العدة وقبل الاغتسال من الحيض؛ لأن الله قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ يعني انقضت عدتهن ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم: هل يجوز للزوج أن يراجع زوجته بعد انقضاء عدتها، بعد انقضاء الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل من الحيض أو لا يجوز؟
فمن أهل العلم من قال: إنه لا يجوز، وأن المراد بالآية ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن بلوغ أجلهن، وقالوا: إنه لا رجعة له عليها بعد انقضاء الحيضة الثالثة.
والقول الثاني في المسألة: أن للزوج أن يراجع زوجته بعد انقضاء الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل، وهذا قد رويت فيه آثار عن بعض الصحابة، روي ذلك عن أبي بكر وعن عمر وعن علي وعن ابن مسعود، قالوا: له أن يُراجعها لوجود أثر الحيض المانع للزوج من الوطء، فألحقت بالحيض، وهذا هو المذهب عند الحنابلة وهو القول الراجح، ما دام أنه قد وردت فيه آثار عن الصحابة، والصحابة هم أعلم الأمة بشريعة الله وبمراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعلم الناس أيضًا بلغة العرب وما دون لغة العرب، ما دام أن هذه المسألة وردت فيها آثار عن الصحابة وأن الصحابة فهموها هذا الفهم، فهذا يرجح هذا القول، ثم أيضًا هذا هو ظاهر الآية لأن الله قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، لماذا نقول: أن المراد فقاربن بلوغ أجلهن؟ هذا تأويل، الأصل أنه لا يثار إليه مع إمكان أن يثار إلى المعنى الظاهر.
فعلى هذا تكون الآية على ظاهرها ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، يعني انقضت العدة بانقضاء الحيضة الثالثة لكن قبل الاغتسال.
أيضًا من فوائد هذه الآية: وجوب المعاشرة بالمعروف حتى بعد الطلاق، لقوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وفي الآية قال -عز وجل-: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، في آية أخرى قال: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229].
فتجب إذًا المعاشرة بالمعروف قبل الطلاق وبعد الطلاق أيضًا، قبل الطلاق يعني وهي في عصمته وهذا ظاهر، وبعد الطلاق، التسريح بالمعروف كيف يكون؟ التسريح بالمعروف نقول: يكون بأن يُحسن الإنسان في طلاق زوجته، يحسن إليها لا يؤذيها لا بالقول ولا بالفعل ولا بمنع الحقوق، والواقع أنه أحيانًا عند الطلاق تكون النفوس مشحونة، فكل من الزوجين يريد الانتقام من الآخر، فيؤذيه بأي طريقة وبأي صورة، يحاول أن يُؤذيه وأن يضغط عليه نفسيًّا، وأحيانًا يكون بين الزوجين مماحكات وأحيانًا تصل الخصومة إلى القاضي، تصل الخصومة إلى المحكمة بين الزوجين بسبب هذه المماحكات، الواجب على الزوجين أن يتقيا الله -عز وجل-، ونقول لك أنت أيها الزوج: أنت الآن طلقتها، طلقها بمعروف، سرحها بإحسان، لا يجوز لك أن تبقى تضارها وتلحق بها الأذى، إذا أمسكت أمسكها بمعروف، سرحتها سرحها بمعروف، سرحها بإحسان.
أيضًا من الفوائد: تحريم إمساك المطلقة ومراجعتها بقصد الإضرار بها، وهذا قد ذكرناه، وقلنا أن الله أكد ذلك بخمسة مؤكدات:
المؤكد الأول: أن الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾.
الثاني: قال: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَار﴾، فنهى الله عن الإمساك ضرارًا.
الثالث: أن الله وصف هذا بأنه اعتداء، قال: ﴿لِّتَعْتَدُو﴾.
الرابع: أن الله وصف من فعل ذلك أنه قد ظلم نفسه، قال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾.
الخامس: أن الله تعالى أشار إلى أن هذا يدخل في اتخاذ آيات الله هزوا، قال: ﴿وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُو﴾.
فلا يجوز إذًا إمساك المرأة بقصد الإضرار بها.
أيضًا من الفوائد: أن كل من عامل أخاه بقصد الإضرار فهو مُعتدٍ، فإن الله تعالى قال: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُو﴾، فلا يحل للمسلم أن يضار أخاه المسلم، قد قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ»، وقال: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ».
وقوله: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» هو كقاعدة في الشريعة «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ»، هل هناك فرق بين الضرر والضرار؟ من العلماء من قال: إنه لا فرق، والصحيح أن بينهما فرقًا، فعطف الضرار على الضرر يقتضي المغايرة، والفرق بينهما: أن الضرر معناه أن يُدخل ضررًا على غيره وهو ينتفع بذلك، وأما الضرار فمعناه أن يدخل الضرر على غيره وهو غير منتفع، لكن بقصد الأذية، وهذا قد رجحه هذا المعنى في الفرق بين الضرر والضرار، رجحه ابن عبد البر وابن الصلاح وهو الأقرب.
فالضرر يضر غيره وهو منتفع، لكن الضرار يضر غيره وغير منتفع بقصد الانتقام أو بحقد أو كذا، فلا يجوز لا الضرر ولا الضرار كلاهما محرمان لا يجوزان، وهو نوع من الاعتداء، ولهذا قال: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُو﴾.
أيضًا من الفوائد: تحريم ظلم الإنسان لنفسه؛ لأن الله تعالى لَمَّا نهى عن هذه الأشياء، قال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، وهذا يقتضي أن فعل المعاصي ظلم للنفس، ولهذا -كما ذكرنا- أن الكلمات التي تلقاها آدم وحواء من الله -عز وجل- لما أكلا من الشجرة، ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 37]، ما هي هذه الكلمات؟ جاءت مفسرة في الآية الأخرى، ﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23]، هذه الكلمات هي أفضل ما يقولها التائب، أفضل ما يقولها التائب من المعصية أن يقول: رب إني ظلمت نفسي وإن لم تغفر لي وترحمني لأكونن من الخاسرين؛ لأنَّ أبانا آدم تلقاها من الله -عز وجل-، فقالها فتاب الله عليه هو وحواء.
فكل مَعصية هي ظلم للنفس، فلا يقول الإنسان أنا حر أفعل ما أشاء، لست حرًّا فنفسك مملوكة لله -عز وجل-، نفس الإنسان مملوكة لله سبحانه، ليست ملكًا للإنسان يفعل بها كما يشاء، فإذا ارتكب الإنسان معصية فقد ظلم نفسه.
وأيضًا من الفوائد: دلَّ قوله: ﴿وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُو﴾ على تحريم اتخاذ آيات الله هزوا سواءً اتخاذها بالكلية أو اتخذ بعضها هزوا، أمَّا بالكلية فكأن يسخر من شرع الله -عز وجل-، يسخر من شريعة الله، ويرى أنها تخلف، ويرى أنها تعيق عن التنمية، ويرى أنها كذا، هذه السخرية وهذا الاستهزاء كفر وخروج عن الملة، أو تكون السخرية ببعض الشريعة، كأن يسخر مثلًا من حكم قطع يد السارق أو من رجم الزاني، أو يسخر بأي حكم من الأحكام الشرعية، أو إعفاء اللحية أو حجاب المرأة أو بأي أمر من أمور الشريعة، فمن سخر بالشريعة جملة أو بأي شيء من أمور الشريعة، فإنه يكون كافرًا كفرًا أكبر مخرج عن ملة الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[التوبة: 65 - 66].
مع أن هؤلاء الذين فعلوا ذلك في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، ماذا قالوا؟ انتقدوا فقط الصحابة حتى ما تعرضوا للقرآن والسنة، قالوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرائنا هَؤُلَاءِ -يريدون الصحابة- أرغبَ بُطُونًا، وَلَا أكذبَ أَلْسُنًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فأنزل الله هذه الآية، قال: يا رسول الله نحن نمزح، نقطع الطريق أنهم كانوا في سفر، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾، فجعل الله تعالى الاستهزاء بالمؤمنين لأجل إيمانهم، أو الاستهزاء بالمتدينين لأجل تدينهم هو استهزاءٌ بالله ورسوله؛ لأن هؤلاء المنافقين ماذا قالوا؟ سخروا من الصحابة فقالوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرائنا هَؤُلَاءِ، أرغبَ بُطُونًا، وَلَا أكذبَ أَلْسُنًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فأنزل الله هذه الآية: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾.
فالاستهزاء بشرع الله -عز وجل- إذا كان هذا استهزاء فقط بالصحابة، جعله الله استهزاءً بالله ورسوله وآياته، وقال: إنه كفر، فكيف بمن استهزأ بالقرآن والسنة أو استهزأ بشيء من أمور الشريعة؟ هو أولى بالكفر.
أيضًا من الفوائد: أن المخالفة نوع من الاستهزاء، لأنك إذا أمنت بأن الله -عز وجل- هو الرب العظيم الذي له الحكم، فمخالفته ومعصيته نوع من الاستهزاء به وإن كان هذا ليس من الاستهزاء الذي يقع به الكفر والذي يخرج عن الملة.
أيضًا من الفوائد: مشروعية تذكر نعم الله سبحانه، وأنها من أسباب الشكر، ويشرع للمسلم أن يتذكر نعم الله عليه، بقلبه ولسانه وجوارحه ويتحدث بذلك عند الآخرين ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[الضحى: 11]، وأن تظهر عليه النعمة كما قال -عليه الصلاة والسلام- لذلك الرجل الذي رآه بحالة بئيسة، فقال: «هل عندك مال؟» قال: نعم، عندي إبل وعندي كذا وعندي كذا، قال -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يُرى أثر نعمته عليه»، فينبغي أن تظهر أثر النعم على الإنسان، وأن تظهر عليه بالشكر أيضًا، وأن يتذكرها، فيقول الحمد لله منَّ الله بكذا وكذا، نحمد الله ونشكره، فتذكر نعم الله -عز وجل- هو من أسباب شكرها.
أيضًا من الفوائد: أن نعمة إنزال القرآن والسنة أنها من أعظم وأجل النعم، لأن الله تعالى خصها بالذكر، قال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالأخص هذه النعمة، ﴿وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ﴾.
أيضًا من الفوائد: تحذير المرء من المخالفة، لأنه إذا علم أن الله بكل شيء عليم، فإنه يحذر من مخالفته ولهذا أعقبها بعد الأمر بالتقوى، قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
ننتقل للآية الثانية لأبرز الفوائد والأحكام، من أبرز الفوائد: أنه لا يحل عقد النكاح قبل انقضاء العدة، لقوله: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾، فالنكاح في العدة باطل، بل إن بعض أهل العلم وهو مذهب الإمام مالك يرون أن من تزوج امرأة في عدتها، فإنه تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا وإن كان الجمهور لا يرون ذلك.
ومنها تحريم منع الولي موليته من أن تتزوج ممن رضيته حتى ولو كان ذلك بعد انقضاء العدة أو كانت المرأة غير متزوجة، لكن تقدم لها الخاطب الكفء، فلا يحل لوليها أن يعضها وأن يمنعها من الزواج به، لقوله سبحانه: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾، لا يجوز العضل، فهذا الولي ولايته ولاية نظر في المصلحة وليس ولاية التسلط، ولذلك إذا عضل الولي موليته فتسقط ولايته، وتتنقل لمن بعده، ثم لم بعده حتى ربما تصل إلى القاضي، فالمرأة التي يعضلها وليها لا تبقى ضحية له، بعض الأولياء قد يكون سيء التدبير، بعضهم قد يكون لديه مشاكل نفسية، بعضهم قد يكون متسلطًا، فلا تبقى هذه المرأة ضحية لهذا الولي، إذا عضلها عن أن تتزوج برجل قد رضيته وهو مرضي الدين والخلق، فتسقط ولايته لكن يكون ذلك عن طريق المحكمة وعن طريق القاضي.
أيضًا من الفوائد: أن النكاح لا بدَّ فيه من ولي وأن المرأة ليس لها أن تزوج نفسها، لأنه لو كانت المرأة تملك العقد لنفسها ما كان للعضل تأثير، ما الفائدة إذًا من العضل؟ ولما كان هناك حاجة لنهي الأولياء عن العضل، قال: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾، وهذا هو قول الجماهير من المالكية والشافعية والحنابلة خلافًا لمن قال بأن المرأة لها أن تزوج نفسها، وهو قول ضعيف، الأدلة من القرآن والسنة تدل على أنه لا بدَّ من الولي، «أيُّما امرأةٍ نَكَحَت نَفْسَها بغيرِ إذْنِ وَليِّها فنِكاحُها باطلٌ، باطلٌ، باطلٌ».
أيضًا من الفوائد: اعتبار الرضا في عقد النكاح سواءً كان من الزوج أو من الزوجة، لقوله: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ﴾، وهذا يؤكد رجحان القول بأنه لا بدَّ من رضا المرأة حتى وإن كانت بكرًا، فلا بدَّ من أن ترضى بالنكاح، أما إذا لم ترضى به فلا يجوز لوليها أن يزوجها كارهة، ليس له أن يكرهها، هذا هو القول الراجح في المسألة.
أيضًا من الفوائد: أن المرأة لو رضيت بزوج على وجه غير معروف، يعني على وجه منكر لا يقره الشرع فلا تمكن من ذلك، لأن الله قال: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ﴾، فإذا اختارت مثلًا رجلًا فاسقًا لأجل فسقه، لا تمكن من ذلك، أو اختارت إنسانًا ملحدًا مثلًا وهي امرأة مسلمة، أو اختارت رجلًا لا يحل لها أن تتزوج بها، فلوليها أن يمنعها من ذلك لأن الله قال: ﴿بِالْمَعُروفِ﴾.
أيضًا من الفوائد: أن الاتعاظ بأحكام الله فيه تزكية للنفس، لقوله: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾، فالالتزام بأحكام الله تعالى وشرعه فيها طهارة للنفس وتزكية للنفس، لأن الله قال: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾.
أيضًا من الفوائد: الإشارة إلى سعة علم الله سبحانه وأن الله بكل شيء عليم، وقال هنا في هذه الآية: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وفيها إشارة أيضًا إلى نقص الإنسان ونقص علمه، فالإنسان ضعيف ومحدود المدارك وعلمه قليل، ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيل﴾[الإسراء: 85]، ولهذا فعليه أن يسلم ويستسلم لحكم الله تعالى ولشريعته، والله تعالى إذا أمر أو نهى عن شيء لا يأمر بشيء إلا لحكمة ولا ينهى عن شيء إلا لحكمة، فلله الحكمة فهو شرعه وأمره ونهيه حكمة الحكم وغاية الحكم، سواءً عرفنا الحكمة أو لم نعرفها، لأننا على يقين بأن الله تعالى حكيمٌ عليم وأنه سبحانه أحكم الحاكمين.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهاتين الآيتين.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم، شيخنا الفاضل نلاحظ في آيات الطلاق أن الله -عز وجل- أكثر من الوصية بالتقوى، فهل يصح أن نقول أن سبب كثير من مشكلات اليوم الطلاق ونحوها بسبب قلة التقوى عند كثير من الناس؟}
نعم هذا صحيح، من اتقى الله -عز وجل- في أمر الطلاق، فلا تتعلق نفسه بامرأة أولًا، ولا يندم ولا يحتاج أصلًا إلى أحد أن يفتيه، كما قال ابن عباس: "لو أن الله اتقوا الله تعالى لما احتاجوا لم يفتيهم"، لأن من يتقي الله فسيطلق المرأة طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويبقى له حق المراجعة ما دامت في العدة، إن كانت ممن تحيض ثلاث حيضات، وإن كانت ممن لا تحيض ثلاثة أشهر، يعني ثلاث حيضات أيضًا غالبًا أنها ثلاثة أشهر، ثلاثة أشهر إذا لم يراجع المرأة فيها معنى ذلك أنه نفسه قد طابت منها، ثم أيضًا طلقة واحدة لو أراد أن يراجعها راجعها حتى لو انقضت العدة، فله أن يتزوجها بمهر وعقد جديد، فمن اتقى الله -عز وجل- فإنه لا يندم، لكن تأتي المصيبة من عدم تقوى الله -سبحانه وتعالى-، عندئذ لما يتقي الله الزوج في الطلاق فهنا يقع الندم وأيضًا يحتاج إلى من يفتيه ويبحث عن من يفتيه في مسألة الطلاق، وربما يترتب على ذلك أيضًا الفتوى بتحريمها عليه، خاصة إذا طلقها ثلاث تطليقات وربما يفتى بتحريمها عليه، ويتسبب ذلك في تشتيت أسرته وفي أمور كثيرة، لكن لو أنه اتقى الله سبحانه، سيطلقها طلقة واحدة فقط وله حق المراجعة ما دامت في العدة، ولذلك تكرر الأمر بتقوى الله في آيات الطلاق.
{أحسن الله إليكم، وأثابكم ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين، في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة -بإذن الله-، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك