الدرس الرابع
فضيلة الشيخ أ.د. سعد بن تركي الخثلان
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من
برنامجكم "البناء العلمي"، نسعد وإياكم باستكمال شرح تفسير آيات الأحكام لفضيلة
الشيخ/ سعد بن ترك الخثلان، باسمي وباسمكم أرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلًا حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{شيخنا الفاضل كنا قد وقفنا عند قول الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ﴾، نستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود -بإذن الله- للشرح
والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا
لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى
الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم
بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 233].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى
بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
كنا قد وصلنا في تفسير آيات الأحكام إلى قول الله -عز وجل-: ﴿وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا....﴾
إلى آخر الآيات.
نبدأ أولاً بالكلام عن معاني الكلمات والمعنى الإجمالي للآية، ثم بعد ذلك ننتقل
للكلام عن الفوائد والأحكام.
قوله سبحانه: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ يعني: اللاتي ولدن، ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾
الأولاد إذا أطلقت في الكتاب والسنة وأيضًا هو معناها في اللغة العربية يشمل البنين
والبنات، يشمل الذكور والإناث، ولذلك قال سبحانه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، خلافًا لِمَا
عليه عُرفُ بعضِ العامَّة، بعض العامة يُسمي الذكر ولد والأنثى بنت، لا التسمية
الدقيقة أن تقول للذكر ابن ليس ولد، فالولد يمكن أن يكون ابناً ويمكن أن يكون
بنتاً، فالبنت يقال لها: ولد في اللغة العربية وفي الشرع أيضًا ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾، الولد بمعنى المولود،
على ذلك كلمة ولد تشمل الذكر والأنثى، الذكر يقال له: ابن، والأنثى يقال لها: بنت.
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾ أولادهن يعني: من بنين وبنات،
﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ الحول بمعنى السَّنة، والمقصود بالسَّنة إذا ذكرت في
القرآن، المقصود بها السنة الهجرية القمرية وهي التي تترتب عليها الأحكام الشرعية،
وليس المقصود بها السنة الشمسية الميلادية؛ لأن الأحكام الشرعية تتعلق بالسَّنَةِ
القمرية وليس بالسَّنَةِ الشمسية، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189].
﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ الحول ثلاثمائة وأربع وخمسين يوم إلا إذا كانت السنة
كبيسة ثلاثمائة وخمس وخمسين يوم، قوله: ﴿كَامِلَيْنِ﴾ يعني: بدون نقص، ﴿لِمَنْ
أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، يعني: هذا لمن أراد أن يتم الرضاعة، ومن لم يرد
فلا حرج عليه، ﴿وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ﴾ المولود له: يعني هذا الزوج الذي قد وُلِدَ له هذا الولد، هو والد
الطفل، وعليه ﴿رِزْقُهُنَّ﴾ يعني: رزق هذه المرأة، المقصود بالرزق النفقة، يعني:
يجب عليه أن ينفق على هذه المرأة وعلى ولدها، ﴿وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ أيضًا واجب عليه أن
يكسوها، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يكون هذا الرزق يعني: هذه النفقة وهذه الكسوة تكون
بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار، وإنما تكون بالمعروف ﴿لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ
إِلاَّ وُسْعَهَ﴾ يعني: أن هذه النفقة والكسوة تكون بحسب يساره أو إعساره، كما قال
الله تعالى في الآية الأخرى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْر﴾[الطلاق: 7]،
هذا يتفق مع قوله هنا: ﴿لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَ﴾ يعني: يكونُ بحسب
يُسْرِهِ أَوْ عُسْرِهِ، فتكون النفقة على هذه المرأة المرضعة بالمعروف بحسب يساره
أو إعساره.
﴿لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَ﴾ لا
تُضارَّ أصلها لا تُضارر ثم أدغمت الرائين فأصبحت لا تضارَّ، ﴿وَالِدَةٌ﴾ يحتمل أن
تكون فاعلاً فتكون الوالدة هي التي تضار بولدها بأن تدفعه عنها لقصد الإضرار بأبيه
لتربيته، فلا يحل لها ذلك حتى ترضعه وتسقيه اللبن؛ لأنَّ بعض النساء إذا أرادت أن
تُضارَّ بالزوج رمت الطفل عليه، فيكون الضحية هو هذا الطفل، هذا لا يجوز، هي الآن
تريد أن تضارَّ والد هذا الطفل وهي في الحقيقة أضرت هذا الطفل، جعلت هذا الطفل
ضحية، حمى الله -عز وجل- هؤلاء الأطفال، لماذا يكون هؤلاء الأطفال ضحية لهذا الشقاق
والنزاع بين الزوجين؟ ما ذنب هذا الطفل؟ فنهى الله -عز وجل- المرأةَ أن تضارَّ
بولدها بهذا الولد، يجب عليها أن ترضعه ما دام أن فيها لبن، يجب عليها أن ترضع هذا
الطفل، ويحتمل أن تكون والدة نائب فاعل، لا تضارَّ هذه الوالدة، أي: لا يُنتزع منها
الولد بقصد الإضرار بها، وكلا المعنيين صحيح وهذا من إعجاز وبلاغة القرآن، لاحظ هذا
اللفظ يشمل معنيين جميعًا: وهما: أن المرأة لا يجوز لها أن تضار بهذا الولد فتدفعه
لأبيه بقصد الإضرار بأبيه، ولا يجوز أيضًا أن المرأة هي التي تُضارَّ، ينتزع الأب
هذا الولد من أمه لكي يحرمها منه، فيضارها بذلك، لا يجوز لها هذا ولا هذا، فكلا
المعنيين تشملهم الآية.
﴿وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ أيضًا لا يجوز الإضرار بالمولود له، يعني الأب
لا يجوز له الإضرار بالولد بأن يُنْتَزَعَ الولد منه أو أنه هو الذي ينتزع الولد من
أمه، فإذاً لا يجوز الإضرار بجميع صوره، لا يجوز الإضرار بهذه الوالدة ولا بالمولود
له، ولا يجعل هذا الولد سبيلاً للإضرار، لا بالوالدة ولا بالمولود له.
ثم قال سبحانه: ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ يعني: على القريب الوارث مثل ما
على والد الطفل من النفقة والكسوة، وهذا يدل على وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض،
نفترض مثلاً أنَّ والد هذا الطفل تُوفي، مَن الذي ينفق على هذا الرضيع؟
ينفق عليه الوارث، من هو الوارث لهذا الأب؟ الوارث له أخوة هذا الطفل، إذاً نقول:
أنتم أيها الإخوة يجب عليكم أن تنفقوا على هذا، يعني هذا الرجل له زوجة وابن وولدت
زوجته وأنجبت مثلاً بنتًا، ثم توفي، من الذي ينفق على هذه البنت الرضيعة؟
ابنه الذي هو أخوها، فالوارث هو الذي تجب عليه النفقة، فإذاً الوارث للمولود له يجب
عليه النفقة والكسوة، ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾.
﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَ﴾.
الضمير في قوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَ﴾ يرجع على الوالدة والمولود له، أي لو أراد والد
الطفل ووالدته فطام هذا الطفل قبل الحولين للمصلحة وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا
جناح عليهما، هذا معنى الآية، ﴿فَإِنْ أَرَادَ﴾ أي: والد ووالدة الطفل، فصالاً،
يعني: فطام الطفل عن الرضاعة، لكن عن تراضٍ منهم وتشاور ﴿فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَ﴾.
ويؤخذ من هذا: أنه لو انفرد أحدهم بذلك دون الآخر فإن هذا لا يكفي، ولا يجوز
لأحدهما أن يستبد بالرأي من غير مشاورة الآخر، بل لا بدَّ أن يتفقا على فطامه قبل
الحولين، لكن لو قال الأب: لا، أنا لا أرضى بفطامه قبل الحولين، والأم تقول: لا،
أنا أريد فطامه قبل الحولين، لا يُفطم، أي: لا يجوز فطامه، وإذا كان الأب يريد
الفطام والأم لا تريد الفطام فلا يجوز، لا بدَّ من اتفاق الطرفين، لا بدَّ من اتفاق
الأب والأم على الفطام ولا يستبد أحدهم بالرأي.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره"، هذا كله
من باب احتياط الطفل، هذا الطفل الضعيف المسكين حماه الله -عز وجل-، لا يكون ضحية
لخلاف وشقاق الزوجين، لكن لو اتفق الزوج والزوجة ووالد الطفل والمولود له اتفقا
جميعًا على فطامه قبل الحولين عن تراضٍ وتشاور ونظرًا في المصلحة لا بأس بشرط أن
يتفقا على ذلك، أما أن أحدهم يرضى والآخر لا يرضى، فلا يجوز فطامه في هذه الحالة،
هذا هو معنى الآية ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ
فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَ﴾.
﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾
يعني أن أردتم أن تطلبوا لأولادكم من يرضعهم فلا إثم عليكم، يعني: يؤتى بمرضعة،
﴿إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني: إذا أعطيتم ما اتفقتم عليه
في العقد على الإرضاع في المعروف، يعني أعطيتم المرضعة، وقيل: إنَّ المعنى أي إذا
سلم للأم أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، ويظهر أنها تشمل المعنيين جميعًا؛ لأن
عندنا من قواعد التفسير، أنَّ الآية إذا احتملت معنيين لا تضادُّ بهما بأي وجه من
الوجوه، فتحمل على المعنيين جميعًا، فيشمل ذلك إذا سلمتم للمرضعة التي اتفقتم معها
بالمعروف من غير مماطلة، وأيضًا إذا كان الأم حق بأنها أرضعت بأجر فتسلم الأم
أجرتها الماضية، وكان معروفاً عند العرب أنهم كانوا يسترضعون لأولادهم، والنبي
-عليه الصلاة والسلام- لَمَّا وُلِدَ أَتته مرضعات، المرضعات عادة يأتين من
البادية، فأتين وأخذن كل واحدة لها مولود، وكانت المرضعة ترغب في أن يكون والد
الطفل غنيًّا حتى يكثر لها الأجرة، النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يتيمًا، اليتيم
كان غير مرغوب فيه، حليمة السعدية ما بقي لها إلا هذا الطفل الذي هو الرسول -عليه
الصلاة والسلام-، فأخذته لكن -سبحان الله- منذ أن أخذته كانت أتت هي وزوجها على
بعير هزيل، فرأيا منه العجب والنشاط وكثرت أحوالهم وكثرت أموالهم وكثر الرخاء
والخصب عندهم ببركة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
فحليمة السعدية أرضعت النبي -عليه الصلاة والسلام-، أخذته من والدته وأرضعته فترة
الإرضاع ثم أرجعته، فكان الإرضاع معروفاً عند العرب، أن المرأة إذا ولدت الطفل
وربما لا يكون في ثديها الحليب الكافي، يعطى لمن يرضع هذا الطفل بأجر، ولهذا قال
الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ﴾ لكن تعطون المرضعة حقها، ﴿إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم
بِالْمَعْرُوفِ﴾.
لاحظ هنا أيضًا تكرار الأمر بالتقوى -سبحان الله- يعني هذه القضايا الاجتماعية نجد
كثرة الأمر بالتقوى فيها، لماذا؟ لأن الإنسان لا يحجزه حاجز ولا يمنع مانع من
التعدي فيها إلا تقوى الله، هذه الأمور الاجتماعية ينبغي أن يكون التقوى ملازماً
للمسلم فيها، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ﴾، ﴿وَاعْلَمُو﴾ كما في الآية السابقة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، هنا ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وهذا العلم علمٌ بأن نعلم بأن الله -عز وجل- بصيرٌ بأعمالنا،
لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، يعلم أعمالنا وأقوالنا وأفعالنا وما في الصدور،
﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ [الملك: 14]، السر والجهر عنده سواء -جل وعلا-، فهو
بصير بما نعمل.
ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام.
أولاً: دلت الآية على وجوب الإرضاع، إرضاع الأم لولدها لقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾، ليس للمرأة أن تتنصل من إرضاع ولدها، هذا واجبٌ عليها
ما دام أنها قادرة وثديها يُدر لبناً، يجب عليها أن ترضع ولدها، حتى مع وجود حليب
البقرة المجففـ لأنه لا يغني عن حليب الأم، الفرق العظيم الشاسع بينهما، حليب الأم
فيه فائدة كبيرة للطفل وهو المناسب له، وأجمع الأطباء على أنَّ حليب الأم هو الأنفع
للطفل؛ ولذلك تجد أن الطفل الذي يتغذى على حليب أمه تكون صحته أفضل وأكمل وأحسن من
الطفل الذي إنما يعتمد على حليب الأبقار.
ومن الفوائد: أن الرضاع التام يكون حولين كاملين، لقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ﴾، وقوله: ﴿كَامِلَيْنِ﴾ هذا من باب تأكيد اللفظ لينتفي احتمال النقص،
وهذا له نظائر في القرآن، منه قول الله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾[البقرة: 196]، هذا
من باب التأكيد حتى لا يتوهم متوهم بأن تفريق الثلاثة والسبع يقتضي أن يكون كل واحد
منفرداً عن الآخر، قال: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، هنا أيضًا حتى لا يتوهم متوهم
أيضًا بأنه ينقص عن الحولين، قال: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾.
وأيضًا من الفوائد: أن الرضاع المحرم هو ما كان دون الحولين، فلو ارتضع الولد بعد
الحولين فإن هذا الرَّضاع لا يُحَرِّم عند جماهير أهل العلم، الرضاع المحرم ما كان
دون الحولين.
أيضًا من الفوائد: أنه يجوز النقص عن الحولين لكن ذلك بالتشاور والتراضي من والد
الطفل ووالدته؛ لقوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَ﴾، ولقوله: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ﴾ لمن أراد، فلو كان الإتمام واجباً لم يكن هناك خيار.
لكن هل تجوز الزيادة في الإرضاع عن الحولين؟ تجوز أو لا تجوز؟
نقول: ينظر في حال الطفل إن كان يحتاج لذلك فلا بأس بهذا، أمَّا إن لم يكن محتاج
لذلك فقد انتهت مدة رضاعته، يظهر أن الأمر فيه سعة وأن هذا كله على سبيل الإرشاد،
يعني لو اقتضت المصلحة أن يستمر إرضاع الطفل بعد سنتين ما يضر وليس هذا حرامًا، هذا
كله على سبيل الإرشاد والتوجيه.
أيضًا من الفوائد: اعتبار العرف في تعاملات الناس، لقوله: ﴿إِذَا سَلَّمْتُم مَّا
آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ﴾، وأيضًا ﴿وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لاحظ كم تكررت كلمة المعروف في الآية؟ يعني هنا في
أول الآية قال: ﴿وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ﴾، ثم قال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ
فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ﴾ لاحظ
تكررت مرتين في آية واحدة، وهذا يدل على اعتبار العُرف ما لم يخالف الشرع،
فالنَّفقة والكسوة يُرجع فيها للعرف، أيضًا إعطاء المرضعة يرجع فيه للعرف.
هناك قاعدة عند أهل العلم وهي أن كل ما ورد وليس له حد في الشرع ولا في اللغة،
فالمرجع فيه للعرف، هذه قاعدة مُفيدة لطالب العلم، كل ما ورد وليس له حدٌ في الشرع
ولا في اللغة فالمرجع فيه للعرف، وعند العلماء إحدى القواعد الكلية الكبرى الخمس
قاعدة العادة محكمة، يعني العرف.
أيضًا من الفوائد: أنه يجب على المولود له رزق وكسوة الوالدة بالمعروف، لقوله:
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ
أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ﴾.
وأيضًا من الفوائد: وجوب الإنفاق على المولود له من زوج أو غيره للمرضع، وظاهر
الآية أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة في حباله أو بائناً منه، وقال بعض أهل العلم:
إنه النفقة والكسوة واجبة على المولود له، لكن لو أن المرأة طالبت بأجرة والله
تعالى يقول: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ﴾، ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6]،
إذا كانت المرضعة طبعًا ليست أمه وهذا واضح أنها تستحق الأجرة، لكن لو أنَّ الأم
نفسها طالبت الأب بأجرة لها على الرضاعة، فهل لها ذلك؟
الله تعالى يقول: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، فبعض
العلماء قال: إن لها ذلك، والقول الثاني في المسألة: هو التفصيل، فإن كانت هذه
المرأة في حبال الزوج فليس لها أن تطالب زوجها بأجرة على الرضاعة؛ لأنَّ أجرة
الرضاعة داخلة في النفقة والكسوة، أمَّا إذا كانت المرأة ليست في حبال الزوج فلها
أن تُطالب بأجرة الرضاعة وعلى ذلك تحمل الآية ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، وهذا القول بالتفصيل هو القول الراجح وهو اختيار ابن
تيمية وابن القيم وجميع المحققين من أهل العلم -رحمة الله تعالى على الجميع-، فيفرق
بين ما إذا كانت المرأة في حبال الزوج أو ليست في حباله، إن كانت في حبال الزوج
فليس لها أن تطالب بأجرة على الرضاعة، لأنها أصلاً لها النفقة والكسوة تدخل في ذلك،
أما إذا لم تكن في حباله مطلقة فلها أن تطالب بأجرة على الرضاعة؛ لقوله سبحانه:
﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم
بِمَعْرُوفٍ﴾.
أيضًا من الفوائد: أن المعتبر في رزق وكسوة الزوجة، هل هو حال الزوج أو حال الزوجة؟
هذا محل خلاف بين أهل العلم، والقول الراجح أنه المعتبر حال الزوج، لقوله سبحانه:
﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَ﴾ [الطلاق:
7] وفي هذه الآية قال: ﴿لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَ﴾، وهذا يدل على أن
المعتبر هو حال الزوج، فينفق الزوج بحال يساره أو إعساره.
أيضًا من الفوائد: أنَّ الله لا يكلف نفساً إلا ما تطيق؛ لقوله: ﴿لاَ تُكَلَّفُ
نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَ﴾، وهذا يدل على عظيم رحمة الله تعالى بعباده وإحسانه
العظيم إليهم.
أيضًا من الفوائد: تحريم المضارَّة، لقوله: ﴿لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا
وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾، فلا يجوز لكلٍ من الزوجين أن يضار الزوج الآخر،
أن يضار الطرف الآخر، لا يجوز لكل من الزوجين أن يضار الطرف الآخر، فلا يجوز للزوج
أن يضار الزوجة بأن يأخذ هذا الطفل منها مثلاً بقصد الإضرار بها، أو أن الزوجة
أيضًا تضار الزوج بهذا الطفل، فالمضارة ممنوعة شرعًا، ﴿لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ
بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ بأي صورة من صور الإضرار، ولهذا قال
النبي -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ ضَارَّ، ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ،
شَقَّ اللَّهُ بِهِ»، وقال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، فلا يجوز لا للزوج ولا
للزوجة الإضرار بالطرف الآخر، ما دام أنه قد حصل الطلاق تسريح بإحسان، فينبغي أن
يكون المسلم حريصاً على الإحسان، يعني هذه المرأة كان بينك وبينها عشرة وأنجبت لك
طفلاً أو أطفالاً، ثم طلقتها لا تلحقها بالأذى وبالمضارة، ماذا تستفيد من هذا؟
تستفيد أوزاراً وآثاماً، سرحها بإحسان تنال أجراً من الله -عز وجل-، وأيضًا المرأة،
المرأة أحيانًا يكون الإضرار منها، تريد أن تنتقم من هذا الزوج وتحرص على الإضرار
به بأي صورة من الصور، هذا لا يجوز أيضًا، وربما يساعدها أهلها على ذلك، على
الانتقام من هذا الزوج وعلى الإضرار به، فما دام أنه حصل الطلاق فتسريح بإحسان
﴿وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، فهذه معاني ينبغي أن يستحضرها الزوجان عند
الطلاق.
ومن فوائد أيضًا هذه الآية: وجوب النفقة للمولود على الوارث إذا لم يكن المولود له
موجوداً، إذا كان المولود له غير موجود، كان مثلاً ميتاً فتجب النفقة على الوارث
لقول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، يعني وعلى الوارث أن ينفق على
هذه المرضعة لأجل الرضيع، وأيضًا أن ينفق على هذا الرضيع نفسه، ينفق على هذا الرضيع
وعلى المرضعة؛ لأن الله قال: ﴿وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ يعني:
المرضعات، ﴿وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ثم قال: ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ﴾ فتجب نفقة الرضيع ووالدته على المولود له، فإن كان غير موجود فتجب على
وارثه.
أيضًا من الفوائد: وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، من أين أخذنا هذه الفائدة يا
شيخ محمد؟
{من كون الوارث ينفق على المولود}.
من أي جزء من الآية، وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، من قوله: {﴿وَعَلَى
الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾}.
أحسنت، ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾
فاستنبط العلماء من قوله -جل وعلا-: ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ وجوب نفقة
الأقارب بعضهم على بعض، والضابط في ذلك الإرث، فكل قريب يرث غيره يجب عليه أن ينفق
عليه إذا لم يوجد من هو أقرب منه.
مثال ذلك: أطفال توفي أبوهم نفقتهم تجب على من؟ أقرب وارث، إذا كان أقرب وارث هو
أخوهم الكبير، يجب على أخيهم الكبير أن ينفق عليهم وجوباً ليس له منة عليهم، يجب
عليه أن ينفق عليهم، إن كان أخوهم غير موجود، فلهم في الأقرب وارث، إذا كان أقرب
وارث عمهم، ينفق عليهم عمهم، والضابط في هذا هو الإرث ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ﴾.
وأخذ بعض العلماء أيضًا من هذه فائدة: وهي هل يجوز دفع الزكاة للقريب؟ قال: إن
القريب إذا كان محتاجاً يجوز دفع الزكاة إليه بشرط أن لا يكون بينهما توارث، فإذا
كان سيرثه لو مات فيجب عليه أن ينفق عليه من حُرِّ مَاله وليس من الزكاة، أما إذا
لم يكن بينهم توارث فلا بأس أن يُعطيه من الزكاة، بل هي من الأفضل؛ لأنها تكون زكاة
وصلة رحم.
مثال ذلك: رجلٌ له أخٌ فقير أو أختٌ فقيرةٌ، هل يجوز له أن يعطيها من زكاته؟ للنظر
فيه تفصيل، إذا كان سيرث أخاه لو مات هنا ليس له أن يُعطيه من زكاته، وإنما الواجب
عليه أن يُعطيه من حُرِّ ماله؛ لأنَّ النفقة واجبة عليه، أمَّا إذا كان لم يرثه لو
مات وذلك بأن يكون الأب موجوداً مثلاً، الأب موجود لكن له أخ فقير وأخت فقيرة يجوز
أن يعطيها من الزكاة، أو يكون هذا الأخ الفقير أو الأخت الفقيرة له أو لها أبناء،
معنى ذلك أنه لم يرث أخاه أو أخته لو مات، فيجوز أن يُعطيهم من الزكاة، فالضابط في
هذا أنَّ القريب يجوز له أن يدفع الزكاة إلى قريبه المحتاج بشرط أن لا يكون وارثًا
له لو مات، لأنه لو كان وارثًا له لو مات لوجب عليه أن ينفق عليه من حر ماله وليس
من الزكاة، هذا فيما يتعلق بالإنفاق.
لكن لو أراد أن يُسدد عنه دينًا فلا بأس حتى لو كان يرثه، بل حتى الأب يجوز له أن
يسدد الدين عن ابنه من الزكاة، والابن يجوز له أن يسدد الدين عن أبيه من الزكاة،
الدين هذا أمر آخر، كلامنا في الإنفاق الآن.
فإذًا كل هذه الفوائد أخذنا من قوله سبحانه: ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾،
وهذه مسألة يكثر السؤال عنها.
بعض الناس يقول: لي أخ فقير، أو لي أخت فقيرة هل يجوز أن أعطيها من الزكاة؟
نقول: إذا كنت سترثه لو مات فليس لك أن تعطيه من الزكاة، وإنما يجب عليك أن تنفق
عليه من حُرِّ مَالِكَ، لكن لو كنت لن ترثه لو مات، بأن كان الأب موجوداً أو كان له
أبناء، فهنا لا بأس أن تعطيه من زكاتك إذا كان محتاجاً بل يستحب ذلك؛ لأن هذا يجمع
بين كونه زكاة وصلة رحم، فانظر إلى إعجاز القرآن، كيف أخذنا هذه الفوائد كلها
والأحكام من قوله: ﴿وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾؟
أيضًا من الفوائد: عناية الله -عز وجل- بالرضع، لأن الله سبحانه لم يبيح فطامهم قبل
الحولين إلا بعد التراض بين الوالد والمولود له والتشاور، ولكون الله سبحانه أنزل
قرآناً في ذلك، ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾ انظر إلى عناية الله
سبحانه بهؤلاء الأطفال الرضع، وهذا يدل على عظيم رحمة الله تعالى وإحسانه بعباده،
هؤلاء الأطفال الرضع أنزل الله تعالى بشأنهم قرآناً لكي يكون في ذلك حماية لهم، وأن
لا يكون ضحية للنزاع والشقاق بين الزوجين.
أيضًا من الفوائد: جواز استرضاع الإنسان لولده، لقوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، ولو أنَّ الأم طلبت أن
ترضعه وقال الأب ترضعه غيرها، أجبر الأب على موافقة الأم لقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾ ولأن الأم أشفق على ولدها من غيرها، أما إذا طلبت الأم
أجرة على هذا الإرضاع، فالقول الراجح أن الأم إذا كانت في حبال الزوج فلا تستحق هذه
الأجرة، أما إذا لم تكن في حباله فلها أن تطلب أجرة على إرضاع هذا الطفل، ولهذا قال
الإمام ابن تيمية -رحمه الله: "إرضاع الطفل واجبٌ على الأم بشرط أن تكون مع الزوج،
ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها، لقول الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾، ولم يوجب الله لهن إلا الكسوة والنفقة".
أيضًا من الفوائد: إثبات بصر الله تعالى وعلمه بما نعمل، لقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وأيضًا أن هذا من العلم النافع الذي يورث
الخشية والتقوى لله سبحانه، أن يعلم الإنسان بأن الله بما يعمل بصير وخبير -جل
وعلا-.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
{أحسن الله إليكم، ننتقل يا فضيلة الشيخ إلى الآية التي تليها، فنستأذنكم في سماع
التلاوة، ثم نعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: 234].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.
نعم ننتقل بعد ذلك لقول الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْر﴾، هذه الآية نزلت في شأن عدة المتوفى عنها زوجها والإحداد، لكن هل هذه
الآية ناسخة للآية التي بعدها: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾
[البقرة: 240]؟
الجمهور قالوا: إنها ناسخة لها؛ لأن الله ذكر عدة المتوفى عنها زوجها بحول،
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً
لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ﴾ قالوا: أن عدة المتوفى عنها زوجها كانت
حولاً ثم نُسخت بهذه الآية بأربعة أشهر وعشر، وهذا قول الجمهور.
القول الثاني: نقل ابن كثير عن ابن عباس أن هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ
غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أنها لا تدل على وجوب الاعتداد بسنة للمتوفى عنها زوجها كما ذكر
ذلك الجمهور، حتى يكون في ذلك نسخ بالأربعة أشهر وعشر، وإنما دلت الآية على أنه من
باب الوصاة بالزوجات بأن يُمَكَّنَّ من السكن في بيوت أزواجهن بعد وفاتهن حولاً
كاملاً إن اختارن ذلك، ولهذا قال: ﴿وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم﴾ أي: يوصيكم الله تعالى
بهن وصية ولا يمنعن من ذلك غير إخراج، فإذا انقضت الأربع أشهر وعشر بوضع الحمل
واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فلا يُمنعن من ذلك، ولذلك قال تعالى:
﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن
مَّعْرُوفٍ﴾.
وأيضًا بعضهم فهم الآية فهماً آخر، قال: إن الآية هذه ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم﴾ [البقرة: 240] قال: إنها
خاصة بما إذا أوصى الأزواج بزوجاتهم أن يبقوا في بيوتهم حولاً كاملاً، فلا يجوز
إخراجهن من البيوت، إلا بعد أربعة أشهر وعشر إن اختارن الخروج فلا حرج، وهذا رجحه
الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-، وعلى هذا فتكون الآية هذه، الآية الثانية لا
تتكلم عن عدة المتوفى عنها زوجها، إنما تتكلم فقط عن سكن المتوفى عنها زوجها لمدة
حول، سواءً قلنا إن هذا بوصية من الزوج أو أن وصية من الله تعالى، وهذا القول هو
اختيار ابن تيمية واختيار أيضًا الحافظ ابن كثير في تفسيره، قالوا: ‘ن هذه الآية
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً
لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أنها لا تتكلم عن عدة
المتوفى عنها زوجها، إنما هي خاصة بالكلام عن الوصية بسكن المرأة المتوفى عنها
زوجها لمدة سنة بعد وفاة الزوج، فيقولون أصلاً ما فيها نسخ، الآية ما فيها نسخ
أصلاً.
فإذًا عندنا قولان: قول بأن هذه الآية منسوخة بالآية التي بعدها ﴿وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم﴾ وهو قول
الجمهور.
والقول الثاني: أنها ليست منسوخة، وأن هذه الآية تتكلم عن عدة المتوفى عنها زوجها،
بينما الآية الثانية تتكلم عن موضوع آخر، وهي سُكنى المتوفى عنها زوجها بعد وفاة
الزوج لمدة سنة، إلا إذا رغبت في الانتقال عن هذا البيت من نفسها، ﴿وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً
إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ يعني: برغبتهن ﴿فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾، وهذا هو القول
الأقرب -والله أعلم-، وعلى هذا فلا تكون الآية منسوخة، لا يكون قوله: ﴿وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم﴾ منسوخًا،
والأصل عدم النسخ، والجمهور القائلون بالنسخ، يقولون هذا من باب نسخ الحكم وبقاء
اللفظ، يعني النسخ له أنواع، قالوا هذا من باب نسخ الحكم وبقاء اللفظ، ولكن القول
الراجح أن هذه الآية غير منسوخة وأنها تتحدث عن موضوع آخر وهو سكنى المتوفى عنها
زوجها بعد وفاة الزوج لمدة سنة، أمَّا الآية هذه التي بين أيدينا فتتكلم عن عدة
المتوفى عنها زوجها، هذا هو الأقرب -والله أعلم- لأن الأصل عدم النسخ.
فعلى هذا تكون هذه الآية تقرر عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرا.
قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ﴾ يعني ينتظرن مُدَّة العدة ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾ أربعة
أشهر هلالية قمرية وعشرة أيام، فقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾ يتوفون
يعني بقبض أرواح، الوفاة تعني: مفارقة الروح البدن، الإنسان مكون من روح وبدن، إذا
فارقت الروح البدن هذا هو الموت وهذه هي الوفاة، وكما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ
يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَ﴾ [الزمر: 42]، هذه الوفاة هي التي ينتقل بها
الإنسان من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة عندما تفارق الروح البدن، البدن هذا يتحلل
ويعود لأصله، لتراب، وتأكله الديدان حتى لا يبقى منه إلا عجب الذنب ومنه يركب الخلق
يوم القيامة إلا من استثنى الله تعالى من الأنبياء ومن شاء من الصديقين والشهداء
والصالحين، فلا تأكل الأرض أجسادهم، أما بقية البشر يصبحون تراباً، وأما الروح هي
التي يقع عليها النعيم أو العذاب، هذه حقيقة الوفاة، والله تعالى تارة يضيف التوفي
إليه كما في قوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَ﴾، وتارة يضيف
التوفي إلى ملك الموت، كما في قوله سبحانه: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ
الَّذِي وَكِّلَ بِكُمْ﴾[السجدة: 11]، وتارة يضيف التوفي إلى الملائكة، كما في
قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَ﴾[الأنعام:
61]، فإضافتها إلى الله لأنها بأمره، وإضافتها إلى ملك الموت لأنه هو الذي يقبض
الروح، وإضافتها إلى الرسل لأن هم الذين يقبضونها من ملك الروح ويصعدون بها إلى
السماء، ملك الموت من هو؟
{هل يُعرف له اسم}.
لا، لا يعرف له اسم، وما يقال إنه عزرائيل لم يثبت، والأحسن أن يقال ملك الموت،
الله تعالى سماه ملك الموت ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وَكِّلَ
بِكُمْ﴾.
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاج﴾ يعني يتركون أزواجاً
بعدهم، ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾ يعني ينتظرن ويحبسن أنفسهن فترة العدة،
فالمرأة فترة العدة تحبس نفسها وتجتنب الزينة في البدن والزينة في اللباس والطيب
والحلي والخروج من البيت إلا لحاجة، ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾ أربعة أشهر
قمرية هلالية وعشرة أيام، فإذا كان هناك رؤية وحساب للأشهر بالرؤية يعتمد على هذا،
إذا لم يكن فتحسب مائة وثلاثين يوماً، ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ يعني انقضت
العدة هذه الأربعة أشهر وعشراً ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ عليكم الخطاب لمن؟
لأولياء النساء، وهذا يدل على أن الولي مسئول عن هذه المرأة، الله تعالى أسند
الخطاب للأولياء، فلا جناح عليكم أنتم أيها الأولياء، ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي
أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ﴾، يعني بعد انقضاء العدة لا حرج أن تتزين في بدنها وفي
لباسها وأن تخرج من البيت، لا حرج عليها في ذلك كله، يعني الأشياء التي كانت ممنوعة
عنها في العدة تزول بعد انقضاء العدة، هذا معنى الآية.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، لاحظ الآية
السابقة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، هنا ﴿وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، الخبير معناه العليم ببواطن الأمور -جل وعلا-، فالله
تعالى لاحظ هنا في الآية السابقة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ﴾، وفي هذه الآية ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، هو يعلم عمل
الإنسان ظاهره وباطنه، فخبير يعني العليم ببواطن الأمور، وإذا كان يعلم ببواطن
الأمور فيعلم بظواهرها من باب أولى -جل وعلا-.
أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية: وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها،
لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ﴾ وهذا خبر بمعنى الأمر، وتجب العدة عن المتوفى عنها زوجها سواءً
كانت كبيرة أو صغيرة لقوله: ﴿أَزْوَاج﴾ وسواءً دخل بها أو لم يدخل بها لعموم
الآية، ولذلك لو أن رجلاً عقد على امرأة وتوفي قبل أن يدخل بها، فهل يجب عليها عدة
الوفاة؟
الجواب: يجب باتفاق العلماء، يجب لمجرد العقد يجب عليها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة،
هل لها مهر؟ لها المهر كاملاً، وأيضًا ترث منه، يعني حصلت غنائم كلها بسبب هذا
العقد، هذا يدل على أهميته، لذلك سماه الله ميثاقاً غليظاً.
هذا رجل عقد على امرأة ثم مات تستحق المهر كاملاً، وترثه إذا لم يكن له ولد أخذت
الربع، وإذا كان له ولد أخذت الثمن، وأيضًا تعتد عدة الإحداد كاملة أربعة أشهر
وعشرة، كل ذلك مترتب على مجرد العقد.
وهذه العدة أربعة أشهر وعشرة سواءً كانت المرأة ممن تحيض أو ممن لا تحيض، يعني ليس
لها علاقة بالحيض، بخلاف الطلاق، الطلاق فصلنا فيه، قلنا التي تحيض ثلاثة قروء
والتي لا تحيض ثلاثة أشهر، لكن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً سواءً
كانت تحيض أو لا تحيض إلا إذا كانت حاملاً، فعدتها وضع الحمل، لقوله: ﴿وَأُوْلاتُ
الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4].
قال العلماء: حتى لو وضعت وهو في مغتسله يغسل تخرج من العدة -سبحان الله-، هذا رجل
توفي بعد وفاته بدقيقة وضعت زوجته، ولدت زوجته تخرج من العدة، عدتها دقيقة واحدة،
والحكمة في تقدير عدة المتوفى عنها زوجها إذا لم تكن حاملاً بأربعة أشهر وعشرا،
قيل: أن الحكمة الاحتمال اشتمال الرحم على حمل، قاله سعيد بن المسيب، "قال قتادة:
قلت لسعيد: ما بال العشر؟ قال: فيه ينفخ الروح"، لكن هذا يرد عليه إشكال، وهو أن
هذه العدة تكون حتى لغير المدخول بها، لو كان المقصود حتى يتبين الحمل ويتأكد من
براءة الرحم، لما وجب على غير المدخول بها عدة، وتجب أيضًا حتى على الآيسة وعلى
الصغيرة، وهذا يشكل على القول المقصود هو براءة الرحم.
بعض أهل العلم قال: إن الحكمة -والله أعلم- هو أن المرأة كانت في الجاهلية تبقى
حولاً كاملاً، ثم خفف الله تعالى عن الناس بأن جعل العدة ثلث هذه المدة، ثلث السنة
كم؟ أربعة أشهر وأقل الكثير الثلث، الثلث والثلث الكثير، وثلث الشهر عشرة أيام،
فقالوا: إنها خففت، كانت المرأة في الجاهلية في أول الإسلام قبل نزول الآية عدتها
سنة كاملة، فخفف الله تعالى هذه العدة وجعلها على الثلث، لأن الثلث هو أقل الكثير،
الثلث هو الثلث الكثير، فأقل السنة يعني ثلث السنة أربعة أشهر، وثلث الشهر عشرة
أيام، فجعلت أربعة أشهر وعشراً، هذا ذكره الشيخ ابن عثيمين والله تعالى أعلم لله
تعالى الحكمة، يعني لماذا هذا التقدير؟ لماذا ما كانت ستة أشهر؟ لماذا ما كانت
أربعة أشهر؟ لماذا أربعة أشهر وعشرة؟ فلله تعالى الحكمة البالغة في هذا والله تعالى
أحكم الحاكمين.
أيضًا من الفوائد: أن العدة إذا انتهت جاز للمرأة أن تفعل ما كانت ممنوعة منه في
العدة، والمرأة إذا كانت في العدة -عدة الوفاة- تمنع من التجمل في البدن بأية صورة
من الصور، والتجمل في اللباس ومن الطيب ومن الحلي ومن الخروج للبيت إلا لحاجة، فإذا
انتهت عدتها جاز لها فعل ما كانت ممنوعة منه.
أيضًا من فوائد الآية: أن الأولياء مسئولون عن مولياتهم، لقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ﴾، وهذا فيه إشارة إلى
أن الرجال لهم ولاية على النساء، وإن لو لم يكن لهم ولاية ومسئولية لَمَا خاطب الله
الرجال، لاحظ الآية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ﴾ ما قال فلا جناح عليهن، ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: أنتم أيها
الأولياء، ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ﴾، فهذا يدل على مسئولية
الأولياء، وبيَّن هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «كُلُّكُمْ راعٍ،
وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ وهو مَسْئُولٌ عن
رَعِيَّتِهِ»، فعلى الأب أن يستشعر هذه المسئولية، أن يستشعر مسئوليته على من ولاه
الله تعالى عليه، فإنه مسئول عنها يوم القيامة.
أيضًا من الفوائد: اعتبار العُرف، وهذه تكلمنا عنها لقوله: ﴿بِالْمَعْروفِ﴾ تكررت
في الآية مرتين، في الآية السابقة تكررت مرتين، هنا أيضًا وردت في هذه الآية، يعني
في الآية السابقة ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾ هنا تكررت مرتين
بالمعروف، في هذه الآية أيضًا وردت كلمة بالمعروف ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ﴾، لاحظ تكرر كلمة بالمعروف ومن معروف، هذا
يدل على اعتبار العُرف وعند العلماء قاعدة كلية كبرى: العادة محكمة، وقلنا: إن
الشيء إذا ورد في الشرع وليس له حد في الشرع ولا في اللغة، فالمرجع فيه إلى العُرف.
نختم بهذه الفائدة: وهو إثبات علم الله تعالى بالظاهر والخفي، لقوله: ﴿وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، والخبير هو العليم ببواطن الأمور -جل وعلا- فالله
تعالى لا يخفى عليه خافية، يعلم كل شيء، ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا
بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك: 13].
وبهذا قد انتهينا من الحديث عن أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية، -والله
أعلم- وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم}.
اللهم آمين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله-
في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
3266 11
-
4880 6