الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

2368 11
الدرس الخامس

تفسير آيات الأحكام (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم على مائدة كتاب الله وفي تفسير آيات الأحكام مع ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن ترك الخثلان، أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام، مرحباً بكم يا فضيلة الشيخ}.
أهلًا حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{فضيلة الشيخ كنا قد وقفنا عند قول الله تعالى: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾، نستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِراًّ إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 235].
تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآيات.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
كنا قد وصلنا في تفسير آيات الأحكام إلى قول الله -عز وجل-: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ...﴾ إلى آخر الآية.
نبدأ أولاً بمعاني الكلمات، ثم بعد ذلك نذكر أبرز الفوائد والأحكام.
يقول سبحانه: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ الجناح معناه الإثم والحرج، أي: لا حرج عليكم ولا إثم عليكم، والخطاب لجميع الناس، أن هذا القرآن موجه لجميع الناس، ﴿فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾، فيما عرضتم، التعريض معناه أن يأتي الإنسان بكلام لا يُصرح فيه بمراده لكنه مُقارب، فيأتي بكلام بصيغة ليست صريحة للتعبير عن مراده، لكنها مقاربة لذلك، مثل أن يقول للمرأة المتوفى عنها زوجها وهي في عدتها: إني في مثلك راغب، أو يقول: إنك امرأة يرغب فيك الرجال أو يُثني على نفسه مثلاً، إنني بخير أو أمور حسنة، أو يقول: إذا انقضت عدتك فأخبريني، هنا هذا تعريض بالخطبة وليس تصريحًا، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم﴾ يعني: هذا التعريض لا بأس به في العدة، لكن لا يجوز التصريح، لا يجوز أن يقول سأتزوجك وإنما يعرض بذلك لا بأس.
وقوله: ﴿مِنْ خِطْبَةِ﴾ بكسر الخاء، الخِطبة هي أن يعرض الإنسان نفسه على المرأة ليتزوجها، وهي بكسر الخاء، هي هذه الخِطبة، أمَّا الخُطبة بضم الخاء هي القول المشتمل على التوجيه والموعظة والتذكير ونحو ذلك، ولذلك يقال: خِطبة المرأة، ويُقال خُطبة الجمعة أو خُطبة العيد، فإذاً فرقٌ بين الخِطبة والخُطبة، فالخاطب للمرأة خاطب خِطبة، لكن مثلاً الذي يلقي كلمة أو خُطبة جمعة يقال: خُطبة جمعة، خُطبة عيد، ألقى خُطبةً بليغَةً، فإذاً بكسر الخاء المقصود بها خِطبة المرأة، وبضم الخاء المقصود بها الكلام المشتمل على الموعظة والتذكير والتوجيه ونحو ذلك.
وقوله: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ المقصود بالنساء هنا: من مات عنهن أزواجهن، وكذلك أيضًا من كانت في العدة ممن يباح خطبتها تعريضاً كما سيأتي.
﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ﴾ يعني: أخفيتم وأضمرتم في أنفسكم، ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ أي: تكلمونهن مُعربين عن رغبتكم في نكاحهن، تتكلمون يعني، ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ يعني: ستتكلمون معربين عن رغبتكم في نكاحهن، يتكلم الإنسان بذلك لصديقه، لأبيه، لقريبه ونحو ذلك بأنه يرغب في أن يتزوج فلانة، والإنسان إذا وقع في باله أنه سيتزوج هذا الأمر يشغل باله ويسيطر على تفكيره، ولذلك لا بدَّ أن يتحدث به لخاصته، فالإنسان مثلاً إذا وضع في باله أنه سيتزوج هذه المرأة المتوفى عنها زوجها، فلا بدَّ أن هذا سيسيطر على تفكيره ويكون في باله وسيتحدث بهذا مع خواصه أو مع أصدقائه، أو مع أبيه، أو مع أخيه، ونحو ذلك.
هذا معنى قوله -جل وعلا-: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾، ﴿وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِر﴾ يعني: لا تجوز أن تواعد هذه المرأة المعتدة سرًّا، ما معنى كلمة سرًّا؟ اختلف المفسرون في معنى كلمة سرًّا، فمنهم من قال: إنَّ السر معناه الزنا وروي ذلك عن ابن عباس واختاره ابن جرير، يعني لا يجوز أن تواعدهن زناً وهن في العدة.
والقول الثاني: ﴿لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِر﴾ يعني: نكاحاً، قالوا: لأنَّ السر من أسماء النكاح.
والقول الثالث: إن معنى ﴿لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِر﴾ على ظاهرها، بأن يعد الرجل المرأة سرًّا فيما بينه وبينها بأنه سيتزوجها، وإذاً نهي عن ذلك سرًّا فعن العلانية من باب أولى، ومن ذلك أن يأخذ عهدًا على المرأة أنها إذا انقضت عدتها لا تتزوج بغيره، والذي يظهر -والله اعلم- أن كل هذه المعاني صحيحة، فنهى الله تعالى عن مواعدة المعتدة سرًّا سواءً كان هذا زناً وهذا محرم، أو كان ذلك نكاحاً أو حتى تحدث معها سرًّا أنه سيتزوجها، كل ذلك ممنوع شرعًا وكل ذلك لا يجوز.
﴿إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوف﴾ هذا يقول المفسرون إن قوله -جل وعلا-: ﴿إِل﴾ استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع علامته أن يكون بمعنى لكن، يعني: ولكن أن تقولوا قولاً معروفاً، لماذا قلنا: ﴿إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوف﴾ ليس استثناء متصلاً وإنما هو استثناء منقطع، لأنه ليس من جنس ما قبله، فإن مواعدتها سرًّا ليست من القول بالمعروف، ولذلك فقوله: ﴿إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوف﴾ هذا استثناء منقطع، ولكن أن تقولوا قولاً معروفاً، والقول المعروف هو ما ذكره الله تعالى في أول الآية وهو التعريض بخطبة المعتدة دون التصريح.
ثم قال -عز وجل-: ﴿وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ﴾، ﴿وَلاَ تَعْزِمُو﴾ تعزموا من العزم وهو فعل الشيء من غير تردد، ومن ذلك العزيمة فلان عنده عزيمة، قوة عزيمة، ومن أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ»؛ لأن بعض الناس يؤتى من جهة التردد، يريد أن يفعل الخير يتردد، يريد أن يصوم نافلة يتردد، يريد أن يقرأ القرآن يتردد، يريد أن يتصدق يتردد، تجد أنه متردد، يتردد ثم تغلبه نفسه أو يغلبه الشيطان، لكن الذي يعطيه الله قوة عزيمة يقدم على فعل الخير، ولهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يدعو يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ».
فقوله -جل وعلا- هنا: ﴿وَلاَ تَعْزِمُو﴾ يعني المقصود بذلك فعل الشيء بغير تردد، على ماذا؟ ﴿وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ يعني: عقد النكاح الذي يكون بين الزوج والزوجة، وهذا يدل على أن نكاحنا عقد كسائر العقود، هو عقد بين الزوج وزوجته.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ الكتاب المقصود به العدة، وسماه الله تعالى كتاباً لأنه يفترض أنه يكتب ويربط؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَأَحْصُوا العِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1]، ويكون الكتاب بمعنى العدة، الكتاب المكتوب الذي فيه بيان العدة، وهذا يدل على أهمية العدة وأهمية ضبطها، كأنها كتاب يكتب.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ أجله يعني: منتهاه وغايته، يعني لا يجوز أن تعقدوا عقد النكاح حتى تنقضي عدة هذه المرأة، فلا يجوز أن يعقد عليها وهي لازالت في العدة، ثم ختم الآية بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ واعلموا يعني: أنتم أيها المخاطبون، فأمر الله بأن يعلموا بأن الله -عز وجل- عليم بكل شيء، وأنه سبحانه يعلم ما في أنفسهم، فهو -سبحانه وتعالى- السر والجهر عنده سواء، ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ [الملك: 13]، سبحان الله من عظمة الله -عز وجل- أنه السر والجهر عنده سواء، ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾[الملك: 14]، ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾.
فالله -سبحانه وتعالى- السر والجهر عنده سواء، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾[طه: 7]، يعلم السر وأخفى من السر وهو ما يحدث به الإنسان نفسه قبل أن يحدث به نفسه، فهو -سبحانه وتعالى- مطلع على كل شيء، لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ولهذا قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾، إذا علمتم هذا العلم وأن الله مُطلعٌ عليكم ولا يخفى عليه خافية ويعلم ما في أنفسكم، فاحذروا أن تضمروا في أنفسكم ما لا يرضاه الله -عز وجل-، ثم قال: ﴿وَاعْلَمُوا ﴾ أيضًا علم أمر الله تعالى أن يعلموا علماً آخر، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ يعني: إذا أضمرتم في أنفسكم ما لا يرضاه الله تعالى، فاعلموا أن مغفرة الله واسعة فاستغفروا الله تعالى وتوبوا إليه، فهو حليم -جل وعلا- لا يعجل بالعقوبة وإنما يؤخرها، هو -سبحانه وتعالى- ما أحلمه على خلقه، نجد هناك من يتجرأ على حرمات الله -عز وجل- وعلى الظلم وعلى البغي وعلى الطغيان، ولكن الله تعالى حليم عليه، الله تعالى حليم بعباده -جل وعلا-، فمن أسمائه الحليم، لكن الله تعالى الحليم أيضًا هو شديد العقاب، ولذلك قال سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[المائدة: 98].
فالله تعالى غفور رحيم وغفور حليم على من تاب إليه وأناب وأقبل، لكن على من تمادى في طغيانه وفي ظلمه وفي تجبره، فإن الله تعالى شديد العقاب -جل وعلا-.
هذه أبرز معاني هذه الآية الكريمة، وننتقل بعد ذلك إلى أبرز الفوائد والأحكام.
أولاً: دلت هذه الآية على جواز التعريض في خطبة المتوفى عنها زوجها، لقول الله تعالى: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾، وذلك من يأتي بلفظ غير صريح يفهم منه رغبته في نكاح هذه المرأة، كأن يقول: إني في مثلك لراغب، أو يقول: إنني بخير وأموري طيبة وحسنة، أو يقول: إذا انتهت عدتك فاخبريني، ونحو ذلك من العبارات، هذا كله جائزٌ بنص الآية الكريمة.
من الفوائد: تحريم التصريح لخطبة المعتدة من وفاة، لقول الله -عز وجل-: ﴿فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾، فيفهم من نفي الجناح عن التعريض بخطبة المعتدة أنه يلحق الجناح وهو الإثم والحرج لمن صرح بخطبة المعتدة، ويؤيده قول الله تعالى: ﴿وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِر﴾ هذا يؤكد هذا المعنى، وأنه لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة.
ويمكن تقسيم خطبة المعتدة إلى ثلاثة أقسام: قسم يحرم تصريحًا وتعريضاً، وقسم يجوز تصريحًا وتعريضًا، وقسم يباح تعريضًا لا تصريحًا، أمَّا الذي يحرم تصريحاً وتعريضاً فهذا في حق الرجعية لغير زوجها، فيحرم خطبتها تصريحًا وتعريضاً؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة، الرجعية هي التي طلقها زوجها طلقة واحدة أو طلقتين وهي لا تزال في العدة، هذه يحرم خطبتها تصريحًا أو تعريضًا؛ لأنها لازالت زوجة وفي حكم الزوجة، ولذلك لو توفي مُطلقها أو توفيت هي حصل التوارث بينهما، بل قال أهل العلم يُستحب أن تستشرف لزوجها وأن تتزين له لعله أن يراجعها، فالرجعية يحرم خطبتها تعريضاً وتصريحاً، هذا هو القسم الأول.
القسم الثاني: من يحل خطبتها تعريضاً وتصريحاً في العدة، وهي البائن من زوجها بينونة صغرى، فهذه يُباح خطبتها ممن بانت منه فقط دون غيره تصريحًا وتعريضاً كالمختلعة، امرأة طلبت الخلع فخلعها زوجها ولا تزال في العدة، يُباح لزوجها الذي اختلعها أن يخطبها ما دامت في العدة تصريحًا وتعريضاً، يعني: ما كانت في العدة طبعًا وبعد العدة من باب أولى، لكن الكلام الآن عن الخطبة في العدة، فيباح لمطلقها أو لمختلعها أن يخطبها في العدة تصريحًا وتعريضاً، وهكذا أيضًا المطلقة على عوض، وهكذا الذي فسخ نكاحها، فهذه ما دامت في العدة يعني: بعبارة عامة البائنة بينونة صغرى، يُباح لمن أبانها أن يخطبها في العدة تصريحًا وتعريضاً.
القسم الثالث: هي التي يباح خطبتها تعريضاً لا تصريحاً وهي المذكورة في هذه الآية، كالمتوفى عنها زوجها، فيباح خطبتها تعريضاً لا تصريحاً لهذه الآية ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾.
ماذا عن البائن بينونة كبرى؟ المطلقة ثلاثاً ما دامت في العدة هل يباح خطبتها تعريضاً لا تصريحًا كالمتوفى عنها زوجها؟
الجواب: نعم، البائنة بينونة كبرى، المطلقة ثلاثاً يباح خطبتها في العدة تعريضاً لا تصريحًا، ويدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس: «إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي» فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاث تطليقات، ثم وهي في العدة خطبها معاوية وأبو جهل، فذهبت تستشير النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: يا رسول إنه خطبني معاوية وأبو جهم، طبعًا هذا الخطبة بعد العدة، لَمَّا طلقها زوجها البتة، قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي»، يعني: لا تتزوجي حتى ترجعي لي، فبعد ما انتهت من العدة، خطبها أبو الجهم ومعاوية، فذهبت للنبي -عليه الصلاة والسلام- وأخبرته بناءً على توجيهه أنها إذا انتهت عدتها تأتي إليه، قالت: إني انتهيت من العدة فخطبني أبو الجهم ومعاوية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما معاوية صعلوك لا مال له، فقير، وهذا يدل على أن المال في الخاطب أيضًا يعتبر، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه.
ما معنى لا يضع العصا عن عاتقه يا شيخ محمد؟
{أحد معنيين: إما يضرب النساء أو كثير السفر}.
أحسنت، أحد هذين المعنيين، قيل: أنه كثير الضرب للنساء وقيل: إنه كثير الأسفار وكلاهما عيب في الخاطب، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: ولكن انكحي أسامة بن زيد، فأشار عليها -عليه الصلاة والسلام- بأن تقبل الزواج بأسامة، أسامة كانت بشرته سمراء، وفاطمة كانت بيضاء البشرة، فكرهته، كيف تقبل الزواج برجل أسود وهي بيضاء!؟ لكن رأت الذي أشار بهذه المشورة هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يمكن أن يشير إلا بما هو رشد وما هو خير، فقبلت الزواج من أسامة لأجل مشورة النبي -عليه الصلاة والسلام-، فاغتبطت به، يعني سعدت بهذا الزواج وهنئت به وارتبطت به ببركة مشورة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
الشاهد من هذه القصة: أن فاطمة بنت قيس لَمَّا طلقها زوجها ثلاثاً، النبي -عليه الصلاة والسلام- خطبها تعريضاً لأسامة، كأنه يريد أن يخطبها، قال: «إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي»، فدل ذلك على أنه يجوز خطبة المطلقة البائن بينونة كبرى في عدتها تعريضاً لا تصريحًا، على هذا البائنة بينونة كبرى ما دامت في العدة هي مثل المتوفى عنها زوجها ما دامت في العدة، يباح خطبتها في العدة تعريضاً لا تصريحًا.
أيضًا من فوائد هذه الآية: جواز إضمار الإنسان في نفسه خطبة امرأة لكن ما دامت في العدة لا يجوز له التصريح بذلك، لكن في نفسه معفو عن هذا لقول الله تعالى: ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ﴾، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتي عَمَّا حَدَّثَتْ به أَنْفُسَهَا، ما لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلَّمْ بهِ» .
أيضًا من الفوائد: أنه لا يجوز مواعدة المعتدة من الوفاة أو من الطلاق وهي في العدة، لا يجوز ذلك سرًّا ولا علانية لقول الله تعالى: ﴿وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِر﴾، إنما يجوز فقط التعريض وأمَّا المواعدة لا تجوز.
أيضًا جواز ذكر الإنسان المعتدة في نفسه وفي غيرها، لقول الله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ يعني أنفسكم ولغيركم.
أيضًا من الفوائد: أن التعريض بخطبة المتوفى عنها زوجها والبائن بينونة كبرى، أنه من القول المعروف وليس منكرًا لقول الله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوف﴾.
أيضًا من الفوائد: تحريم عقد النكاح أثناء العدة إلا من زوجها، لقول الله -عز وجل-: ﴿وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ وهذا بالإجماع، يحرم عقد النكاح أثناء العدة بإجماع العلماء، لكن مع إجماع العلماء على تحريم عقد النكاح والمرأة في العدة إلا أنه اختلفوا هل تحرم هذه المرأة عليه إذا عقد عليها في العدة تحريماً مؤبداً أو تحريماً مؤقتاً؟
قولان للجمهور، الجمهور على أنها لا تحرم عليه تحريماً مؤبداً لكن يحرم عليه عقد النكاح ما دامت في العدة، لكن إذا انتهت العدة يجدد عقد النكاح مرة أخرى مع التوبة إلى الله -عز وجل-، هذا هو قول الجمهور.
والقول الثاني: أنها تحرم عليه تحريماً مؤبداً، وهذا مذهب المالكية معاقبة له بنقيض قصده، لأن القاعدة الفقهية أن من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، فهذا الرجل استعجل وعقد على هذه المرأة وهي في العدة، فيعاقب بحرمانه من نكاحها أبدًا تحريماً مؤبداً، هذا هو قول المالكية وليس عليه دليل ظاهر، الأقرب والله أعلم هو قول الجمهور لأن الأصل في نكاح المرأة الإباحة، وأما كونه قد أساء وأخطأ وعقد على هذه المرأة في عدتها، فنقول: هذا النكاح باطل وهو آثم بذلك، لكن يكفيه التوبة والاستغفار يكفي في هذا، أما أننا نرتب عقوبة أخرى زائد على ذلك وهي التحريم المؤبد، فهذا يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل ظاهر يدل لهذا، وعلى هذا فالقول الراجح هو قول الجمهور، لأن من عقد على امرأة وهي في العدة فإن هذا النكاح باطل، وأنه آثم ويجب عليه التوبة من ذلك، لكن إذا انقضت عدتها يجوز له أن يتقدم لخطبتها ويعقد عليها.
أيضًا من الفوائد ولعلنا نختم بها: بيان إحاطة علم الله -عز وجل- بكل شيء لقول الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾، فالله تعالى علمه محيط بكل شيء، ولهذا نجد أنه يتكرر في القرآن ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، ﴿اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ﴿ والله بصير بما تعملون ﴾، والله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد لكنه سبحانه غفور حليم ولطيف بعباده ورحمن رحيم ورحمته وسعت كل شيء، وقد يؤخر الله تعالى العقوبة للظالم وللباغي في الآخرة، كما قال الله سبحانه: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾[إبراهيم: 42].
فهذا العلم من أجل العلوم، يعلم الإنسان عظمة الله -عز وجل- وأسمائه وصفاته -جل وعلا-، ولهذا قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾، ثم قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ هو -سبحانه وتعالى- واسع المغفرة غفور غفار، وهو -سبحانه وتعالى- حليم -جل وعلا- ورحيم ولطيف ورفيق بعباده -جل وعلا-.
بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
{أحسن الله إليكم يا فضيلة الشيخ، لعلنا نكمل في بقية الوقت تفسير الآيات التي تليها، قال الله -عز وجل-: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾، نستأذنكم يا فضيلة الشيخ في تلاوة الآيات}.
هذه الآية والتي بعدها.
{نعم بإذن الله}.
﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[البقرة: 236- 237].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.
ننتقل بعد ذلك للآيتين: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ ﴾، ثم قال: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
أولاً نبدأ بأبرز معاني الكلمات في هاتين الآيتين:
قوله سبحانه: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ كما قلت في الآية السابقة يعني: لا إثم ولا حرج، ﴿إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ أباح الله تعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول، ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ المقصود بالمس هنا الجماع، لكنَّ الله -عز وجل- يُعبر عَمَّا يُستحي من ذكره صريحاً بما يدل عليه، وهذا هو المطلوب من الإنسان أنه لا يصرح بمثل هذه الألفاظ، وإنما يأتي بكلمة يُفهم منها المراد من غير تصريح بتلك الكلمات التي يُستحي من التصريح بها، فعبَّر الله تعالى عن الجماع بالمسيس، قال: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾، فأباح الله تعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها وإن كان في هذا انكسار لقلبها، فإنَّ الطلاق مهما كانَ يكونُ مؤلمٌ للمرأة وفيه كسر لخاطرها ولقلبها؛ ولذلك لَمَّا أذن الله -عز وجل- في طلاق هذه المرأة، أمر بالإمتاع وقال: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، فقوله: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ المقصود بالفريضة هنا المهر، يعني: المرأة التي لم يُسم لها مهر، عقد رجل على امرأة ولم يسم لها المهر ولم يدخل بها، فهذه لا بأس أن يطلقها ولكن متعوهن ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، فأمر الله تعالى بإمتاع هذه المرأة المطلقة.
وفي الآية الأخرى لعلها تأتي في الحلقة القادمة -إن شاء الله- ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241]، فاختلف العلماء في حكم الإمتاع، حكم المتعة للمرأة، والمتعة هي شيء يُعطيه الرجل لامرأته بعد طلاقها، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الكسوة"، والصحيح أن متعة الطلاق لا تحدد بشيء مُعين لعدم ورود الدليل، وإنما هي مال يدفعه الرجل المطلق لهذه المرأة جبراً لخاطرها ولانكسار قلبها بهذا الطلاق.
فما حكم هذا الإمتاع وهذه المتعة للمطلقة؟ هل تجب لكل مطلقة أو أنها تستحب أو أنها تجب لمطلقة دون مطلقة؟
هذا فيه خلاف كثير بين أهل العلم، والأقرب -والله أعلم- إذا نظرنا لظاهر هاتين الآيتين أن المتعة تجب لغير المدخول بها إذا لم يسمِّ لها المهر تبعا لهذه الآية؛ لأن الله قال: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ﴾، فالله تعالى لَمَّا أباح الطلاق لغير المدخول بها لكن لم يسمِّ لها المهر، أمر بإمتاعها ﴿عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾.
ثم أكد ذلك بقوله: ﴿مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ﴾، ثم في الآية التي بعدها قال: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، هنا لم يذكر المتعة وإنما قال: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾، ففي الآية الثانية لم يذكر متعة وإنما ذكر فقط نصف المهر، بينما في هذه الآية أمر بالإمتاع، وهذا يؤكد أن القول الراجح -والله أعلم- أن المتعة تجب للمطلقة غير المدخول بها التي لم يسمَّ لها مهر، وأمَّا غيرها فإنها ستنال شيئًا أصلاً من الزوج، التي قد فرض لها المهر سيكون لها نصف المهر، كذلك أيضًا المدخول بها المهر أيضًا مستقر لها، لا يجوز للزوج أن يسترد مهره إلا عن طريق الخلع، هذه مسألة أخرى.
الخلع هذا مسألة أخرى ولا بدَّ في الخلع من التراضي، لكن الكلام إذا طلق الرجل المرأة إذا كانت مدخول بها فهي أصلاً استقر المهر لها، إذا كانت غير مدخول بها وقد فرض لها المهر، فسيكون لها نصف المهر، لكن تبقى حالة المرأة المسكينة التي غير المدخول بها ولم يسمى لها مهر، فهذه لا بدَّ من إمتاعها لأنها لن يكون لها شيء أصلاً وقلبها سينكسر بهذا الطلاق، ولذلك فأمر الله بإمتاعها، فيكون إمتاعها واجباً، ولهذا ذكر الله تعالى الأمر بالإمتاع في هذه الآية فقط ولم يذكرها في الآية الأخرى، إلا في قوله في آخر آية الطلاق في البقرة: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241].
يعني يستحب أصلاً الإمتاع لكل مطلقة، هذا مُستحب، لكن الوجوب الذي يظهر -والله أعلم- أنه يختص بالمطلقة المذكورة في هذه الآية، أي التي لم يدخل بها ولم يسمى لها المهر، فيكون إمتاعها واجباً، وهذا الإمتاع مما يؤكد أنها واجب أن الله تعالى فصل فيه، قال: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾، ثم قال: ﴿عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، فذكر الله هذا التفصيل هذا لا يكون إلا في الأمر الواجب، ثم قال: ﴿مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ﴾، ثم أكد ذلك فقال: ﴿حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ﴾ وهذا يؤكد وجوبه، ثم أيضًا أن هذه المرأة بدونه لم تأخذ من الزوج شيئًا بخلاف التي قد فرض لها المهر، ستأخذ نصف المهر، بخلاف المدخول بها قد استقر لها المهر، وفي هذا الإمتاع جبر لقلبها وتطيب لخاطرها.
فالقول الراجح في المتعة إذاً: أنها تجب لغير المدخول التي لم يسمَّ لها المهر.
في هذه الآية: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾، وفي هذه الآية ﴿حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ ﴾، فذكر الله تعالى هذا التنويع وحقًّا على المحسنين، ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ﴾، ثم ذكر الله -عز وجل- بعد ذلك توجيهاً عاماً بالإمتاع لكل مطلقة، فقال سبحانه: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾، فوصف الله تعالى من يفعل ذلك بأنه متقي وبأنه محسن، وهذا يؤكد إمتاع المرأة المطلقة مطلقًا حتى المدخول بها، يعني ينبغي أيضًا أن يعطيها الزوج شيئًا من المهر تطيباً لخاطرها، سواءً كانت مدخول بها أو غير مدخول بها، مفروض لها الصداق، غير مفروض لها الصداق، لكن إذا كانت غير مدخول بها ولم يسمى لها المهر، فهذه يجب إمتاعها لهذه الآية.
إذاً قلنا؛ إن إمتاع هذه المرأة المطلقة واجب، ثم قال الله -عز وجل- مفصل لذلك، قال: ﴿عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، وفي قراءة سبعية ﴿قدره﴾ وكلاهما قراءتان صحيحتان، الموسع هو الغني فيعطيها مالاً أكثر من الفقير، والمقتر هو الفقير الذي ليس عنده شيء، فالله تعالى أمر بإمتاع هذه المطلقة بأن يعطيها الغني متاعاً مناسباً لغناه، وأما الفقير يعطيها متاعاً مناسباً لفقره، فهو بحسب حال الزوج يساراً أو إقتاراً.
ثم قال الله تعالى: ﴿مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بما يقتضيه العرف، يعني ليس المطلوب من هذا الزوج يعطيها مالاً كثيرًا خارجاً عن المألوف وعن المعروف، وإنما يكون بالمعروف، وأيضًا لا يعطيها مالاً زهيداً خارج عن المألوف والمعروف وإنما يكون بالمعروف، ثم أكد الله تعالى بقوله: ﴿حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ﴾ وهذا يؤكد أن هذه المتعة أنها واجبة، ووصف الله تعالى بأن من يفعل ذلك بأنه محسن، وتكرر في القرآن الكريم في خمسة مواضع قول: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ أو ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ في خمسة مواضع، وهذا يدل على عظيم شأن الإحسان، وأن من اتصف بهذا الوصف، فإن الله تعالى يحبه، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90].
على المسلم أن يحرص على أن يكون محسناً في تعامله مع الآخرين، خاصة مع هذه المرأة المسكينة الضعيفة التي قد كُسر قلبها بطلاقها.
ثم قال سبحانه في الآية الأخرى: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ كما ذكرنا، المسيس هنا الجماع، ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يعني: سميتم لهن المهر، قلت مثلاً مهرها أربعين ألف مثلاً، ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ يعني: يكون لهذه المرأة المطلقة غير المدخول بها نصف المهر؛ لأنه قد فرض وسمي لها المهر، بخلاف المرأة في الآية السابقة لم يُسمَّ لها المهر، وهذا هو الفرق بين المرأة في الآية الأولى والمرأة في الآية الثانية، المرأة في الآية الأولى لم يسمّ لها المهر، عقد رجلٌ على امرأة ولكن لم يسمِّ لها المهر، فهذه الواجب إمتاعها بما تيسر، بما تجود به نفس الزوج، لكن ينبغي أن يكون إمتاع الغني مناسباً لغناه والفقير مناسباً لفقره.
المرأة غير المدخول بها لكن سمي لها المهر يكون لها نصف المهر، معنى ذلك تأخذ هي نصف المهر وترجع للزوج نصف المهر المتبقي.
﴿إِلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾ يعني إلا أن يعفوا هؤلاء النسوة المطلقات، أن تعفو هذه المرأة عن نصيبها وترد المهر كاملاً للزوج فلا بأس، ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ أو يعفو من؟ من الذي بيده عقدة النكاح؟ هل هو الولي أو الزوج؟
قولان للعلماء: من العلماء من قال: إنه الولي، وهذا قال به ابن تيمية وابن القيم وجمع من أهل العلم، وهو قول له وجاهته.
القول الثاني: أن المقصود به الزوج، وهذا هو ظاهر الآية؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح إن شاء أبقى النكاح وإن شاء أحلها بالطلاق هو الزوج وليس الولي، وهو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الذي يعقد النكاح وهو الذي يحل النكاح بالطلاق، فعقدة النكاح الذي يحلها هو الزوج وليس الولي، ثم أيضًا الولي ليس له أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الولي لا يملك شيئًا من مال موليته، والمهر مالها وكيف يقال: إن الولي هو الذي يعفو؟ يعفو ليس من ماله من مال موليته، وهذا لا يحل له، وهذا يؤكد أن المقصود بالذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وليس الولي، والقول الراجح هو قول جماهير الفقهاء وجماهير المفسرين أيضًا: أن المقصود بالذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وليس الولي، هذا قول أكثر أهل العلم وهو ظاهر الآية الكريمة.
ثم قال سبحانه: ﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، قوله -عز وجل-: ﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ يعني هذا ترغيب في العفو وأن الذي يعفو عفوه أقرب للتقوى، وخوطب بهذا الرجال أو النساء، نقول: الرجال والنساء جميعًا، ولهذا قال ابن عباس: أقربهم للتقوى الذي يعفو من رجل أو امرأة.
ثم قال سبحانه: ﴿وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ الفضل المقصود به الإحسان، يعني لا تنسوا الإحسان خاصة بين الرجل والمرأة وقد أفضى إليها وأفضت إليه، فلا ينبغي أن ينسى الإنسان الإحسان، الإحسان من الرجل للمرأة ومن المرأة للرجل، فالله تعالى يوصي بالإحسان، الإحسان في كل شيء لكنه في هذا الأمر متأكد، ثم ختم الله تعالى الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ مطلع على أعمالكم، لاحظ -سبحان الله- يعني هذه المعاني يكررها الله تعالى في كثير من الآيات، وهي أن يستحضر العباد أن الله مطلع على أعمالهم، لا يخفى عليه شيء، في الآية السابقة قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، في هذه الآية قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وأيضًا في الآيات الأخرى: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، ﴿اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾، هذه المعاني نجد أنها كثير في القرآن لترسيخ هذا المعنى لدى المسلم، وهو أن يستحضر أن الله تعالى بصير بعمله ومطلع عليه -جل وعلا-.
ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام من هاتين الآيتين:
أولاً: جواز طلاق الرجل امرأته من قبل أن يمسها، يعني بعد العقد، فيجوز للرجل أن يطلق امرأته بعد العقد وقبل الدخول، لقوله سبحانه: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾.
وقوله: ﴿لاَ جُنَاحَ﴾ يشعر بأن الأولى عدم الطلاق، لأن طلاقها إياها قبل أن يسمها وقد خطبها وقدم إليها الصداق، يعني هذا فيه شيء على المرأة وغضاضة وكسر لخاطر هذه المرأة وإيلام لها، فينبغي أن لا يفعل ذلك الإنسان إلا عند وجود الحاجة الملحة أو المصلحة الراجحة.
أيضًا من الفوائد: أنه يجوز للإنسان أن يتزوج المرأة بدون تسمية مهر، وحينئذٍ يكون لها مهر المثل، يعني: يقول الولي: زوجتك، ويقول الزوج: قبلت، لكن لا يسميان مهر، فيكون لها مهر المثل، لكن لا يجوز أن يتزوج امرأة ويشترط أن لا مهر لها، لا يجوز، وهل الشرط باطل أو النكاح باطل؟
قولان للعلماء: من أهل العلم من يقول: نكاح باطل أصلاً، ومنهم من يقول: إن هذا الشرط باطل وأنه يثبت لها مهر المثل، المرأة لا بدَّ لها من مهر، لقول الله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم﴾ [النساء: 24]، فلا بدَّ أن يكون لها مهر ولو قليلاً، لكن يشرط أن لا مهر لها، فهذا الشرط شرط باطل بل بعض أهل العلم يرى أنه يبطل النكاح.
أيضًا من فوائد هذه الآية: وجوب المتعة على من طلق امرأته قبل الدخول ولم يسمي لها مهراً وأشرنا لهذا قبل قليل، وقلنا: أن القول الراجح في متعة المرأة أنها تجب للمرأة المطلقة غير مدخول بها التي لم يسمى لها المهر، وأنها تستحب لسائر المطلقات، لقول الله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾، وإنما قلنا بذلك لأن المطلقة غير المدخول بها التي لم يسمى لها مهر هي التي لا تأخذ شيئًا من الرجل، بينما المطلقة المدخول بها استقر لها المهر، والمطلقة غير المدخول بها التي فرض لها المهر يكون لها نصف المهر، فيكون إمتاع تلك المطلقات مستحب، أما هذه المرأة فيكون واجباً، ولهذا أكد الله -عز وجل- بإمتاع هذه المرأة، قال: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ يعني: على الغني ﴿وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ ثم أكد ذلك بقوله: ﴿مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ﴾.
لكن إذا خلى الرجل بالمرأة ولم يمسها، ثم طلقها فهل لها نصف المهر أو لها المتعة فقط؟
محل خلاف بين العلماء والقول الراجح أن لها المتعة فقط، وأنها لا تأخذ حكم المدخول بها، وسيأتي الكلام عن هذا مفصلاً -إن شاء الله-.
أيضًا من الفوائد: أن العبرة بقدر المتعة للمطلقة بحال الزوج لقوله: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، وليس بحال الزوجة وإنما بحال الزوج.
وأيضًا من الفوائد: أن للعرف اعتباراً شرعيًّا لقوله: ﴿مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهذا يدل على اعتبار العرف.
وأيضًا من الفوائد وفوائد الآية الثانية: أن الرجل إذا طلق امرأته قبل المسيس وقد فرض لها صداقاً أن لها نصف المهر، لقوله سبحانه: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾، وإذا خلى بها ولم يمسها فعندنا الآن هل تلحق بالمطلقة في هذه الآية أو المطلقة في هذه السابقة؟ يعني هل يثبت لها نصف المهر أو ليس لها إلا المتعة؟
قولان لأهل العلم، والقول الراجح أنه ليس لها إلا المتعة، وأنه لا يثبت لها نصف مهر وأيضًا ليس عليها عدة، لأن الله تعالى قال في سورة "الأحزاب": ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَ﴾ [الأحزاب: 49]، والمسيس هو الجماع، ولهذا قال ابن عباس: "فالرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها، ثم يطلقها"، قال: "ليس لها إلا نصف الصداق"، قال الشافعي: "وهذا أقوى".
والقول الثاني: أن المرأة إذا خلى بها الزوج وأغلق الباب وأرخى الحجاب، حكمه حكم المدخول بها، وقالوا: لأثار رويت عن الخلفاء الراشدين، لكن هذه الآثار لا تثبت من حيث الصناعة الحديثية، أثر زرارة بن أبي أوفى أن الخلفاء الراشدين قالوا: إذا أغلق الباب وأرخى الحجاب يكون حكمها حكم المدخول بها، فإن هذا لا يثبت، تأتي عليها العدة أن هذا لا يثبت، فالأثر لا تثبت وظاهر الآية أنها لا تثبت العدة إلا بالمسيس وهو الوطء، وكذلك أيضًا فيما يتعلق باستقرار المهر.
وعلى هذا نقول: إذا خلى بها فلا يخلو إلا أن يكون سمى لها صداقاً، إذا خلى بها ولم يطأها، فلا يخلو إلا أن يكون قد سمى لها صداقا أو لم يسمي، إن كان قد سمى لها صداقاً فلها نصف المهر، إن كان لم يسمي لها صداقا فلها المتعة، لكنها لا تأخذ حكم المدخول بها على القول الراجح.
أيضًا من الفوائد: أن تعيين وتحديد المهر إلى الزوج وليس للزوجة، لقوله: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾.
أيضًا من الفوائد: أن المرأة يجوز لها أن تسقط ما وجب لها من المهر من الزوج كله أو بعضه لقوله: ﴿إِلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾ بشرط أن تكون هذه المرأة حرة عاقلة بالغة رشيدة.
وأيضًا من الفوائد: أن المرأة يجوز لها أن تتصرف في مالها ولو على سبيل التبرع من غير إذن وليها، لقوله: ﴿إِلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾.
وأيضًا من الفوائد: أن الزوج يجوز له أن يعفو عما تبقى له من المهر، وإذا طلق قبل الدخول، لقوله: ﴿يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾، لكن قد يرد إشكال، كيف يسمى هذا عفوا؟ يعني الزوج تقول لا يجب عليك إلا نصف المهر، كيف يقال: إن هذا عفو؟
نقول الجواب عن هذا: أنه جرت عادة أكثر الناس أنهم يقدمون المهر كاملاً، فمعنى ذلك أنه لا يسترد نصف المهر إنما يعفو عنه، هذا هو المقصود.
أيضًا من الفوائد: أن النكاح عقد من العقود لقوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾، هو عقد من العقود كسائر العقود وعلى ذلك يجوز التوكيل في عقد النكاح، يجوز للولي أن يوكل في عقد النكاح لموليته، ويجوز للزوج أن يوكل في قبول النكاح، هو عقد من العقود.
أيضًا من الفوائد: الترغيب في العفو، لقوله: ﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ولكن هنا قال ما قال أن العفو من صفات المتقين، قال أقرب للتقوى، فالعفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق، لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى، لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، يعني لو أن أحد تمسك بحقه الزوج أو الزوجة، هذا لا ينافي الصفة بالتقوى، لكن كونه يسمح هذا أقرب للتقوى من كونه يتمسك بحقه، لكن لو تمسك بحقه لا ملامة عليه ولا يقال أن هذا ينافي التقوى، بل كونه يسمح هذا أقرب إلى التقوى من كونه لا يسمح.
أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للإنسان أن لا ينسى الفضل مع من يعامله وخاصة الزوجة، لقوله: ﴿وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، كذلك أيضًا مع من يتعامل مع من إخوانه وأصحابه، ﴿وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ يعني الزوجان ينبغي أن لا ينسيان الفضل من كل واحد منهم على الآخر، ومن ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف والرجل بإكمال المهر، وهو إرشاد لترك التقصي والمسامحة، وكذلك أيضًا هذا يقال بعموم هذه الآية في جميع التعاملات، يعني صاحب لك، صديق لك، إخوان لك، نقول: ﴿وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، يعني المطلوب السماحة، السماحة في التعامل، «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى» .
المطلوب من المسلم أن يكون هيناً، ليناً، سمحاً، لا يتقصى في أخذ حقه ولا يكون صلباً شديداً، فهذا هو معنى الآية، ﴿وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ﴾ يعني الإحسان ﴿بَيْنَكُمْ﴾.
وأيضًا نختم بهذه الفائدة: إحاطة علم الله -عز وجل- وبصره بكل ما يعمله العباد، لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أبرز الفوائد والأحكام لهاتين الآيتين الكريمتين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
وشكرًا لكم ولإخوتي المشاهدين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك