الدرس الخامس
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين. حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في هذه الحلقات في تفسير قصار المفصل، يشرحه ويفسره لنا فضيلة الشيخ/ محمد المعيوف.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
يا مرحبا يا شيخ محمد، حياك الله، أهلا وسهلا بك وبالإخوة جميعًا.
{أحسن إليكم شيخنا. نستأذنكم في القراءة}.
تفضل..
{بسم الله الرحمن الرحيم
(﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرر أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد؛ فهذه السورة العظيمة -وهي سورة البينة- قال فيها المصطفى ﷺ لأبيِّ بن كعب: «إِنَّ الله تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأ عَلَيكَ هَذِه السُّورة». قال أُبَيٌّ: وَسَمَّانِي رَبِّي يا رسول الله؟ قال ﷺ: «نَعَمْ». فَبَكَى أُبَيٌّ رضي الله عنه وأرضاه.
يقول تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾.
أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، نسبوا إلى الكتاب الذي أُنزل على نبيهم موسى -عليه السلام- وأنزل عليه التوراة، وعيسى وأنزل عليه الإنجيل، وقد ذُكر أهل الكتاب في القرآن الكريم بأربع صيغ:
الصيغة الأولى: "أهل الكتاب" كما في هذه الآية، وهذا اللفظ يعم الجنس كله، ويتناول مَن يمدح ومَن يذم، مَن يذم كهذه الآية، ومَن يمدح كقوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: 113]، فذمهم في هذه الآية، ومدحهم في الآية الثانية.
الصيغة الثانية: "الذين آتيناهم الكتاب"، وهذه لا تكون إلا في معرض المدحِ دائمًا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الرعد: 36].
الصيغة الثالثة: "الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، وهذه لا تأتي إلا بصورة الذَّم دائمًا، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 51].
الصيغة الرابعة والأخيرة: "الذين أوتوا الكتاب"، وهذا أعم مما قبله، وقد يتناولهما – الثاني والثالث-، ولكنه لا ينفرد بالمدح أبدًا، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ [النساء:47].
قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ سَوَّى الله تعالى بينهم بالكفر، وإن كانوا أهل الكتاب إلا أنهم كفرة؛ لأنهم كفروا بمحمد ﷺ وكذَّبوه، وكذَّبوا القرآن، وردوا ما جاء به من الشريعة؛ بل وكذبوا كتبهم، لأن في كتبهم النص على مَبعث محمدٍ ﷺ.
قال تعالى في ذكر حالهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 150، 151].
قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، أي: منتهين عن كفرهم.
قال: ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾، أي: تقوم عليهم الحجة. والبينة هنا: هي مبعث محمد ﷺ، ولهذا قال بعدها: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾، رسول أرسله الله -عز وجل-.
﴿يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾، أي: يقرأ صحفًا مطهرة من الكذب والباطل، وكان يقرأها -صلوات ربي وسلامه عليه- عن ظهر قلبٍ.
والتلاوة في القرآن تطلق ويراد بها أحد معنين:
- إما التلاوة اللفظية: وهي القراءة المعروفة.
- وإما التلاوة الحكمية: وهي تلاوة الاتباع، فبعض الآيات ظاهرها إطلاقها على المعنى الأول، وبعضها على المعنى الثاني، وغالبها تتناول النوعين جميعًا.
قال: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾، يعني في هذه الصحف المطهرة كتبٌ قيمةٌ. والكتب هنا: معناها المكتوب، فالمكتوب فيها من الآيات ومن الأحكام قَيمةٌ عادلةٌ مستقيمةٌ ذات قيمةٍ وقدرٍ وشأنٍ.
وقوله: ﴿كُتُبٌ﴾، مأخوذ من الكَتْب. والكَتْبُ معناه: الجمع، ومنه سميت الكتابة كتابة لاجتماع الحروف والكلمات فيها.
قال: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾، أي: ما تفرق هؤلاء الذين أوتوا الكتاب في شأن محمد ﷺ إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة، فمنهم مَن آمن به ومنهم مَن كفر، ولا عجب! فقد تفرقوا على أنبيائهم -صلوات الله وسلامه عليهم- قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الجاثية: 16، 17]، فلما جاءهم العلم اختلفوا، والعلم يفترض أن يَتفقوا عليه ويجتمعوا عليه، لكنهم تفرقوا بغياً وعدواناً، كما ذكر ربنا عز وجل.
قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، أي: لم يؤمروا في هذا القرآن العظيم إلا بعبادة الله -عز وجل- وتوحيده، والذي أمرتْهم به أنبياؤهم، فإن الأنبياء كلهم من لدن نوح -عليه السلام- إلى محمد ﷺ متفقون في أصل الشريعة، فكلهم يدعون إلى عبادة الله وتوحيده.
قال تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾، وقال: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾، وقال: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾، حتى قال ربنا عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، فهم وإن اختلفوا فيما بينهم في الشرائع والمناهج كما قال عز وجل: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، أما الأصل -وهو التوحيد- فهم متفقون فيه، ولهذا قال ﷺ: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد وأمهاتنا شتى»، شبَّه النبي ﷺ الأنبياء بالإخوة أولاد العلات، وأولاد العلات هم الإخوة لأب، لأنَّ الأب تزوج المرأة الأولى فنهل منها، وتزوج الثانية فعلَّ بها، فسمي أولادهما أولاد علات، فالأنبياء كأولاد العلَّات، وأولاد العلات أبوهم واحد، والأنبياء توحيدهم وعبادتهم واحدة، وأولاد العلات أمهاتهم شتى، والأنبياء ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾.
قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ فأول الأوامر وأعظم الأوامر عبادة الله -عز وجل- والعبادة تعريفها من حيث المصدر -وهو التعبد- هي: تذلل لله -عز وجل- محبة وتعظيمًا، فبالمحبة تُفعل المأمورات، وبالتَّذلُّل والخضوع تُترك المحظورات.
وتعريفها باعتبار اسم المفعول -أي المتعبَّد فيه- هو التعريف المشهور عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
قال: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ فالإخلاص شرط في صحة العبادة، فإنَّ العمل الصالح لا يكون عملًا صالحًا إلا بشرطين:
الأول: الإخلاص، بأن يكون خالصًا لوجه الله لا تشوبه شائبة من شرك. ودليله هذه الآية، والحديث المشهور حديث عمر: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ مَا نَوَى»[1].
الشرط الثاني: المتابعة لرسول الله ﷺ وللشريعة التي جاء بها، قال ﷺ: «منْ أَحْدَثَ فِي أَمْرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدْ»، فَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ عَمَلًا صَالِحًا حَتى يقومَ على هذين الركنيِن الأساسيين.
وأيضًا أُمِروا بإقامة الصلاة، وإقامة الصلاة: أن يأتي بها قائمةً مستقيمةً كاملةً تامَّةً بشرطها وأركانها وواجباتها وبسننها أيضًا.
ولهذا لا يأتي في القرآن الكلام عن الصلاة إلا بلفظ "الإقامة" أقيموا، المقيمين الصلاة، وما أشبه ذلك، ولم تأتِ الصلاة بلفظ "أدّوا الصلاة" وإنما جاءت بلفظ "الإقامة".
قال: ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾، الزكاة: هي الحق الواجب في المال للمحتاجين، فشملت الآية حق الله -عز وجل- بعبادته وبإقامة الصلاة، وشملت أيضًا حق المخلوقين بإعانتهم ومساعدتهم وإعطائهم من الزكاة.
قوله: ﴿وَذَلِكَ﴾، اسم إشارة إلى ما تقدم، وجاء اسم الإشارة هنا باللام مع أنَّ المشار إليه قريب في الآية، والمشار إليه القريب عادةً يشار إليه بـ "هذا" فيُقال: "وهذا دين القيمة" إلا أنه -عز وجل- أشار إليه باسم الإشارة والذي تضمَّن اللام الدالة على البُعد؛ ليدلَّ على بعدِه في العلوِّ والمدحِ والثناءِ.
قال: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، أي: دين الملة المستقيمةِ العادلةِ التي لا عوج فيها بحال من الأحوال.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾)}.
شرع -عز وجل- في تفصيل أحوال الفريقين الذين كفروا بمحمد ﷺ من أهل الكتاب والمشركين، فذكر حالهم ومآلهم، والذين آمنوا بالمصطفى ﷺ ذكر أوصافهم ومآلهم، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾، جزاؤهم أن عاقبهم الله تعالى وعذَّبهم بدخول النار، وسميت النار "جهنم" لجهمتها وظلمتها وسوادها.
قال: ﴿أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾، والبرية: هي الخليقة، فهم شر من برأ الله عز وجل، أي مَن خلق الله -عز وجل- من البشر.
قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، آمنوا بقلوبهم وصدقوا بجوارحهم ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾، فهم خير من برأ الله -عز وجل- وخلق، وإنما وُصف أولئك بالشَّر لسوءِ صنيعهم، ولأن أعمالهم كلها من الشَّر، ووُصف المؤمنون بأنهم خير البرية؛ لأن أعمالهم كلها أعمالٌ صالحةٌ وأعمالُ خيرِ وهدًى ورشاد.
قال: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، أي: ثوابهم عند ربهم، ونتأمل -يا أخوان- قول ربنا عز وجل: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، فكل الجزاء من عند الله -عز وجل- فيه إشارة إلى أنه جزاءٌ مضمونٌ، لا يضيع على أهله بحال من الأحوال، وأيضًا جزاءٌ لا يُقدر قدره، فالعطية من معطيها، والمتفضل بها هو ربنا -عز وجل- أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
قال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، أحسن ما يقال في تعريف أو وصف "الجنة" ما قاله النبي ﷺ عن ربه في الحديث القدسي: «أَعْدَدت لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَينٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ، واقرأوا إذا شِئْتُم: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّتِ عَينٍ﴾» الآيات، فالجنة هي الدور التي أعدها الله تعالى لعباده الصالحين، والتي وصفها -عز وجل- بهذه الأوصاف الجليلة، فلا «عَينٌ رَأَتْ»؛ بل ولا ما هو أعظم من ذلك «وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ»، فإن الأذن تسمع ما لا تراه العين؛ بل وما هو أعظم من ذلك «وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ»، فإنه يخطر على القلوب ما لا تسمعه الآذان، وذكرت الجنة بهذا الوصف وهو قوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ والعدن معناه: المكث والإقامة في المكان، فهم مُقيمون في الجنات، قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ مخلدين أبدَ الآباد، لا يبرحون عنها ولا يخرجون منها.
قال: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، يعني: من تحت أشجارها وبساتينها لا من تحت الجنة نفسها؛ بل مِن تحت ما فيها من الأشجار والبساتين.
قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، فمكثهم دائم وخلودهم سرمديٌّ أبديٌّ لا يزول.
قال: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾، فقد رضي الله تعالى عنهم، ورضاه -عز وجل- هو أعظم نعيم الجنة بعد النَّظر إلى وجهه الكريم -سبحانه وبحمده- قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72]، الرضا أكبر من كل ما ذُكر وما تقدَّم في وصف الجنة، وفي حديث أبي سعيد المخرج في الصحيحين قال ﷺ: «إنَّ اللهَ تبارَك وتعالى يقولُ : يا أهلَ الجنَّةِ فيقولونَ: لبَّيْكَ ربَّنا وسعدَيْكَ والخيرُ في يدَيْكَ فيقولُ: هل رضِيتُم؟ فيقولونَ: ما لنا لا نرضى وقد أعطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحدًا مِن خَلْقِكَ فيقولُ: ألا أُعطيكم أفضَلَ مِن ذلكَ فيقولونَ: يا ربِّ وأيُّ شيءٍ أفضَلُ مِن ذلكَ؟ فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ بعدَه أبدًا»[2] اللهم إننا نسألك رضاك والجنة يا أرحم الراحمين.
وأعظم نعيم الجنة لذة النظر إلى وجه ربي الكريم، ولهذا ورد في الدعاء المأثور: «وأسألُك لذَّةَ النَّظرِ إلى وجهِك الكريمِ، والشَّوقَ إلى لقائِك، في غيرِ ضرَّاءَ مُضرَّةٍ ولا فِتنةٍ مُضِلَّةٍ»[3]، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، فأعظم نعيم الجنة النظر إلى وجه الرب الكريم، ثم رضوانه -سبحانه وتعالى- عن أهل الجنة، وأعظم نعيم الدنيا هو الشوق إلى لقاء الله، ولهذا قال: «والشوق إلى لقائك» عطفه على أعظم نعيم في الجنة.
قال: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾، فقد رضوا في دنياهم فرضوا به تعالى ربًّا، وبمحمد نبيًّا، وبالإسلام دينًا، قال ﷺ: «ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ باللَّهِ رَبًّا، وبالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسولًا»[4]، فهم رضوا في دنياهم بما قضاه الله تعالى وقسمه عليهم، فآمنوا بقضائه وقدره، ورضوا بما حكم به وقضاه -سبحانه وتعالى- عليهم، فحالهم دائر بين الشكر على السَّراء والصبر على الضَّراء، قال ﷺ: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له»[5].
قال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾، ذلك الجزاء العظيم والنعيم المقيم في جنات النعيم؛ ذلك جزاء من خشي الله -عز وجل- فخشي ربه في السر والعلانية، فأورثته خشية الله -عز وجل- تعظيمًا لله وهيبة وإجلالًا وطاعةً له -سبحانه وبحمده، قال تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: 44]، وقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، اللهم اجعلنا جميعًا من أهل جناتك يا أرحم الراحمين.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ هذه السورة الوجيزة البليغة العظيمة في بيان فضل هذه الليلة المباركة، سماها ربنا "ليلة القدر"؛ لأن لها قدرًا وشأنًا ومكانةً ومنزلةً، ولأنه يُقدَّر فيها ما يكون في تلك السنة، ولأنَّ للعمل الصالح فيها قدرًا ومكانةً، وقد صفها ربنا في آية أخرى بأنها مباركة، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾ [الدخان:1-3]، في هذه الليلة المباركة نزل القرآن العظيم.
قال عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وفيه تعظيم لهذا الكتاب الكريم، ووجه تعظيمه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الله أعاد الضمير فيه دون أن يذكر المرجع، لم يذكر "القرآن" وإنما قال ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾، وهذا لأنه معروف في الذِّهن أن المراد به كتاب ربي، فلا حاجة أن يُذكر، وهذا لا شك تعظيم له.
الوجه الثاني: أن الله تعالى اختص نزوله في هذه الليلة المباركة، فهو كتابٌ مباركٌ، ونزل في ليلة مباركة، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29]، ونزل في هذه الليلة المباركة، فكان نزوله في هذه الليلة تعظيمًا له.
الوجه الثالث: أن الله -سبحانه وتعالى- أضاف الإنزال إليه بضمير الجمع، فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ ولم يقل: "إني أنزلته"، وكما في قوله عز وجل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، خمسة ضمائر تقريبًا في هذه الآية كلها جاءت بصيغة الجمع، ومجيء ضمير الجمع مضافًا إلى الرب يُراد به التعظيم، فهو سبحانه وتعالى العظيم، وكتابه الذي أنزله أيضًا كتاب عظيم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر: 87].
قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، هذا الأسلوب -كما مر في درس مضى- يتكرر في السور المكية، وفي هذا الجزء يتكرر أيضًا في آيات، مر بنا قول الله تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾.
إذًا؛ المراد هنا تفخيم تلك الليلة، وبيان قدرها ومنزلتها، قال العلماء: وإذا جاء "وما أدراك" خطابًا للنبي ﷺ فهو مما يعلمه، وما جاء "وما يدريك" فهو مما لا يعلمه، كما قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب: 63].
قال: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، أي العمل في هذه الليلة المباركة خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وألف شهر تزيد على ثلاث وثمانين سنة، ليلة واحدة العمل فيها يعدل أو يزيد؛ لأنه خير من ألف شهر، والله أعلم بمقدار هذه الخيرية، يزيد على هذه السنوات الطوال مما يدل على عِظَمِ شانها، وفيه حرص على اغتنامها، والحرص عليها وتلمُّسها، وهذه الليلة في رمضان، وهي في العشر الأواخر، وفي أوتاره آكد، والأوتار هي: ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وخمس وسبع وتسع وعشرين". وقال العلماء: وليلة سبع وعشرين آكد.
والقول الذي اختاره المحققون من أهل العلم أن هذه الليلة تنتقل في العشر الأخيرة، فقد كانت في عهد النبي ﷺ مرة ليلة إحدى وعشرين، ومرة ليلة سبعٍ وعشرين، والله أعلم.
وفي إخفائها حكمة، حتى لا يتواكل الناس على ليلة لو علموها، وإنما يجتهدون في العشر كلها لتلمسها، فمن اجتهد في هذه العشر أصابها، وأصاب الليالي كلها، قال ﷺ في حديث مقرر في الصحيح: «مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»[6].
قال: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ تنزل الملائكة يعني: تنزل الملائكة في هذه الليلة، والروح: جبريل عليه السلام، وعطفه على الملائكة وهو منهم من قبل عطف الخاص على العام، وهذا يدل على مزيد فضل ومزية له عليه السلام.
والملائكة ينزلون في كل يوم وليلة، وفي الحديث المخرج في الصحيح «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وهو أعْلَمُ بهِمْ: كيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيَقولونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ»[7]، صلاة هي أعظم الصلوات صلاة الفجر وصلاة العصر وشهادة ما أغلاها أن تشهد الملائكة لمن صلى مع الجماعة بهذه الشهادة الغالية بين يدي رب العالمين والملائكة ينزلون أيضا يتتبعون مجالس الذكر وحلق القرآن وفي الحديث المخرج عند مسلم «ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم، إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ»[8] ملائكة تنزل.
قال: ﴿الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ يعني في هذه الليلة بإذن ربهم من كل أمر فهم ينزلون بإذن الله -عز وجل- وينزلون بكل أمر قضاه الله سبحانه وتعالى في تلك السنة لأنه يصل من اللوح المحفوظ إلى أيدي الكتبة ما يكون في ذلك العام، كما قال -عز وجل-: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4].
قال: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ أي هذه الليلة كلها سلام وسلامة من كل محذور وسلامة من كل آفة حتى مطلع الفجر أي إلى أن يطلع الفجر وفيه أن الليل في الشرع ينتهي بطلوع الفجر.
{(بسم الله الرحمن الرحيم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾)}.
هذه سورة العلق، وهي سورة لا يخفى قدرها وعظمتها على كل مسلم؛ لأن آياتها الخمسة هي أول ما نزل من هذا القرآن المبارك الكريم، فقد كان ﷺ يحب الانفراد عن الناس، ويجلس في غار حراء يتعبد الله -عز وجل-، ثم يرجع إلى خديجة ويتزود، ثم يرجع ثانية إلى غار حراء، وفي مرة نزل عليه جبريل الأمين فضمه إليه، وقال له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ، لم يكن قارئا صلوات ربي وسلامه عليه ولا كاتبا بل كان أميا.
ثم أرسله، ثم ضمه ثانية فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ. ثم أرسله، ثم ضمه الثالثة فقال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ونزلت هذه الآيات المباركات الخمس منها أولا.
فرجع النبي ﷺ إلى خديجة وهو يقول «دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي» أتاه أمرٌ لم يكن يعهده، ولم يكن يعلم به صلوات الله وسلامه عليه.
بدأ ربنا هذه السورة بأول كلمة، وهي قوله: ﴿اقْرَأْ﴾، يعني: اقرأ هذه الآيات وهي بدايات هذا القرآن الكريم، ففي الحثُّ على قراءة كتاب الله -عز وجل- حيث أول كلمة نزلت فيه فيها الأمر بقراءته. ثم نزلت بعدها سورة المدثر ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1، 2] ثم المزمل ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1، 2].
وهذه السور الثلاث جاءت مشتملة على ما تضمنته رسالة محمد ﷺ، ففيها العلم في سورة "اقرأ"، وفيها العمل الصالح في سورة "المزمل" في: "قم الليل"، وفيها الدعوة إلى الله -عز وجل- في المدثر "قم فأنذر"، فمنهج محمد ﷺ وما اشتملت عليه رسالته: العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه.
قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ أي: اقرأ مُتبركًا مفتتحًا باسم ربك الذي خلق، أي مفتتحًا متبركًا وذاكرًا.
قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ تفصيل بعد إجمال والإنسان جنس يحمل كل إنسان وقوله ﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ جمع مفرده علقة، والعلقة هي قطعة من الدم، فإن الإنسان خلق أول ما خلق من نطفة، ثم من علقه.
قال: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ أعاد الأمر بالقراءة مرة ثانية؛ تأكيدا لقراءة هذا القرآن الكريم.
قوله: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ فهو تعالى الأكرم والأجل والأعظم سبحانه وبحمده، ومن كرمه إنزال هذا القرآن الكريم، فإنَّ هذا القرآن نزل من الرب الكريم، ونزل به جبريل الكريم كما قال -عز وجل-: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾.
ونزل على هذا النبي الكريم كما قال -عز وجل-: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾ [الحاقة:40-41].
وهو ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس:13-16]، فالصحف مكرمة، والملائكة كرام بررة، فقد اكتنف الكرم هذا القرآن من كل ناحية، ولم يبق إلا القارئ فهل يكون كريما مع كتاب الله عز وجل؟! فإنه إن كان كريما ناله من خيرات هذا الكتاب ولطائفه وفوائده وبركاته، خير لا يُحد ولا يُعد.
قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ومن كرمه -سبحانه وتعالى- أنه عَلَّمَ بالقلم، وبالقلم يُكتب العلم، وتنشر المعارف والفضائل.
﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أي: علَّمَهُ شيئا لم يكن يعلمه، فدلَّ على شرف العلم بعامة، وشرف العلم بكتاب الله -عز وجل- بخاصة.
وبعد أن ذكر أدوات العلم وهي القراءة والكتابة بالقلم قال: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ و (كلا) هذا حرف يتكرر في القرآن، وفي النصف الثاني منه، ولعله ذكر في درس مضى أن المراد به أحد أمرين:
- إمَّا أن يكون المراد به الردع والزجر.
- وإما أن يكون معناه حقا، ويتبين المعنى من السياق
وهنا يراد به الردع والزجر لهذا الإنسان الطاغي الذي تجاوز الحد في طغيانه، وذكر -عز وجل- سببًا من أسباب الطغيان وهو الغنى إذا كان مصحوبا بالبطر والفخر والكبرياء.
قوله: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ المآل والمرجع إلى الله -عز وجل-، فإنَّ الإنسان الذي أعطاه ذلك المال سوف يرحل من هذه الدنيا ويترك هذا المال لمن وراءه، يترك المال ويَقدم على الأعمال، إن كانت صالحة كانت حاله في سعادة وسرور، وإن كانت سيئة أره الله تعالى ما يسوؤه ويكدر حياته.
والمال إن وظفه صاحبه في الخير فنعم هو صاحب المؤمن كما قال النبي ﷺ: «ما أطعم من اليتيم والمسكين والسبيل».
وإن استعمله في معصية الله كان جاحدا منكرا لنعمة الله، وكان وبالاً عليه؛ لأنه سيسأل يوم القيامة عن ماله، من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟!
وقد ذكر الترف في القرآن في ثمانية مواضع، لم يمدح في واحد منها، والمراد بالترف: الترف المصحوب بالفخر والتعالي والخيلاء والتكبر على الناس.
{(بسم الله الرحمن الرحيم ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾)}.
قال تعالى ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾ أرأيت بمعنى: أخبرني عن هذا الذي ينهى، ومَن ينهى؟! إنه ينهى ﴿عبدًا إِذَا صَلَّى﴾ ينهاه على الصلاة عياذًا بالله.
قال: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ﴾ هذا المنهي ﴿عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ أمثلُ هذا يُنهى عن الهدى وعن طريق التقوى؟!
أرأيت إن كان هذا الناهي ﴿كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ واتصف بهذين الوصفين، وإليهما يَرجع كل كفر، فهما أصل الكفر "الكذب والتولي"، قال تعالى: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، وقال: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [القيامة:31-32]، وقال -عز وجل- عن موسى وهارون: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [طه: 48].
قيل لسبب نزول هذه الآيات: أن أبا جهل قال لأصحابه يومًا، هلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قالَ: فقِيلَ: نَعَمْ، فَقالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذلكَ لَأَطَأنَّ علَى رَقَبَتِهِ -أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ، فرأى النبي ﷺ يُصلي يوما فأقبل ثم نكس على عقبيه ورجع القهقرى، ووضع يديه أمامه، فقيل له: ما شأنك؟! فقال: رأيت خندقا وهولا وأجنحة. قال ﷺ «لوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا»[9].
قال: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ ألم يعلم أن الله -سبحانه وتعالى- يراه ناظر إليه مطلع عليه، سامع لمقاله، عالم بحاله، وفي الآية وعيد وتهديد.
﴿كَلَّا﴾ ردع له وتوبيخ وزجر.
﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ عن مقاله ذلك، وعن سوء فعاله.
قال: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ أي: لنأخذنه ونجذبنه جذبا شديدا بناصيته، والناصية هي مقدمة الوجه، قال تعالى: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ [الرحمن 37 - 41].
قوله: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ كاذبة في مقالها، خاطئة في حالها، والخاطئ يا إخواني هنا هو المتعمد، والمخطئ هو الذي وقع في العمل دون قصد أو باجتهاد، وهذا يرد في القرآن في مواضع، قال تعالى: ﴿لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ [الحاقة: 37]، ليس المخطئ هنا وإنما المتعمد.
وقال إخوة يوسف لأبيهم: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 97]، وقيل لامرأة العزيز: ﴿إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 29]، وإنما كانت عامدة.
والمقصود أن هناك فرقًا بين الخاطئ والمخطئ، فالخاطئ الذي وقع في العمل تعمدًا، والمخطئ الذي وقع فيه دون قصد.
قال: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ توعدَ هو بأن يدعو ناديه، وذكر أنه لا يوجد أحدٌ مثله في كثرة أنصاره وأعوانه.
قال تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾، أي: أنصاره وأصحابه وعشرته.
قال: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وهم ملائكة العذاب.
قال تعالى: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ لا تطع هذا الأفاك الأثيم، الذي ينهى عبد الله عن الصلاة.
قال: ﴿وَاسْجُدْ﴾ أي: لربك ﴿وَاقْتَرِبْ﴾ إليه سبحانه وبحمده، وفيه أنَّ الساجد أقرب ما يكون إلى ربه، كما قال ﷺ: «أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ»[10].
وقد استفتحت السورة بالعلم وختمت بالعمل.
{أحسن الله إليكم شيخنا وكتب الله أجركم.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري: (54)، ومسلم (1907).
[2] أخرجه البخاري (7518)، ومسلم (2829).
[3] أخرجه النسائي (1305)، وأحمد (18351).
[4] أخرجه مسلم (34).
[5] أخرجه مسلم (2999).
[6] أخرجه البخاري (1901)، ومسلم (760).
[7] أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632).
[8] أخرجه مسلم (2699).
[9] أخرجه مسلم (2797).
[10] أخرجه مسلم (482).
سلاسل أخرى للشيخ
-
5357 7
-
22033 9