الدرس الثاني
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة نستكمل فيها تفسير قصار المفصل مع ضيفنا فضيلة الشيخ/ محمد بن عبد الله المعيوف. حياك الله فضيلة الشيخ}.
يا مرحبًا، أهلًا وسهلًا بك يا عبد الله وبالإخوة جميعًا.
{أستأذنك فضيلة الشيخ في بدء القراءة}.
قبل أن تقرأ يا عبد الله -جزاك الله خيرًا- أحب التنبيه على بعض المسائل فيما يتعلق بالدرس الماضي.
فبعد بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كنا أخذنا في الدرس الماضي سورة الفاتحة والمعوذتين، وذُكر أن سورة الفاتحة هي أعظم سورة في كتاب الله -عز وجل- كما دل عليه الحديث الصحيح، لأنها شملت على أعظم دعوة في كتاب الله -عز وجل- في قوله -عز وجل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، وكذلك افتُتحت السورة بالحمد لله رب العالمين، والثناء عليه وتمجيده، ثم الدعاء بعد ذلك، وهذه سنة الدعاء، فالمشروع لمن يريد أن يدعو أن يبدأ دعاءه بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي ﷺ ثم يدعو بما شاء، وفي حديث فضالة بن عبيد أنَّ النبيّ ﷺ سمعَ رجلًا يَدْعُو في صلاتِهِ فلمْ يُصَلِّ على النبيِّ ﷺ، فقال النبِيُّ ﷺ: «عَجِلَ هذا ثُمَّ دعاهُ فقال لهُ أوْ لغيرِهِ إذا صلَّى أحدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ ثُمَّ لَيُصَلِّ على النبيِّ ﷺ ثُمَّ لَيَدْعُ بَعْدُ بِما شاءَ» . أو كما قال ﷺ.
اشتملت السورة أيضًا على أركان العبادة الثلاثة وهي:
- المحبة: في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2].
- والرجاء في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 1].
- التذلل والخضور لرب العالمين في قوله -عز وجل: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4].
ثم إذا أكمل القارئ السورة قال: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، فيشرع أن يقول "آمين" إن كان في الصلاة أو خارج الصلاة.
أمَّا الصلاة فقد دلَّ على هذه المسألة الحديث المتفق عليه: «إذا قالَ الإمامُ: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7] فَقُولوا آمِينَ، فمَن وافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلائِكَةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» ، وفي رواية في الصحيح: «إِذَا أمَّنَ الإمَامُ، فأمِّنُوا» .
وخارج صلاته أيضًا إذا قرأها الإنسان فإنه يؤمِّن لأنه إذا أمَّن في الصلاة -والصلاة لا يقال فيها إلا ما ورد فيه الدليل- فغيرها حريٌّ بذلك، فالتأمين إذًا سنة في الصلاة وخارج الصلاة.
في سورة الفلق ذُكر العدو الظاهر، وفي سورة الناس ذُكر العدو الباطن.
ثم أشير إلى بعض المسائل في دفع الخطرات والنزغات والوساوس التي يقذف بها الشيطان في روعِ، فمنها:
- التعوًّذ منه وينفث على يساره ثلاثًا.
- ومنها -وهي مهمة جدًا-: أن ينتهي الإنسان عن هذه الخطرات، لأنها حلقات إذا تركها انفصمت وانقطعت، وإن استرسل معها استمرت وأتعبته، وقد أشار النبي ﷺ إلى هذا في قوله في الحديث المخرج في الصحيح: «لْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ» .
- ثم أيضًا الإكثار من ذكر -عز وجل- فإن ذكر -عز وجل- أمضى سلاح في طرد الشيطان والتخلص من وساوسه ثم يدعُ الإنسان ربه أن يقيه ويحفظه من نزغات الشيطان ووساوسه.
ننتقل الآن إلى سورة الإخلاص تفضل.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم (﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾)}.
هذه السورة سورة عظيمة، سميت سورة الإخلاص لأنها أخلصت في وصف الرب -عز وجل- فكل هذه السورة توحيدٌ، ففيها إثبات بوحدانية لله -عز وجل- في قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، وإثبات صفات الكمال لله -عز وجل- ونفي صفات النقائص والعيب عنه سبحانه وبحمده.
وهذه السورة تعدل ثلث القرآن، قال ﷺ في الحديث المخرج الصحيح: «أَيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَقْرَأَ في لَيْلَةٍ ثُلُثَ القُرْآنِ؟ قالوا: وكيفَ يَقْرَأْ ثُلُثَ القُرْآنِ؟ قالَ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ» وفي الحديث المخرج في الصحيحين: «أنَّ النبيَّ ﷺ بَعَثَ رَجُلًا علَى سَرِيَّةٍ، وكانَ يَقْرَأُ لأصْحَابِهِ في صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بقُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذلكَ للنبيِّ ﷺ، فَقالَ: سَلُوهُ لأيِّ شيءٍ يَصْنَعُ ذلكَ؟، فَسَأَلُوهُ، فَقالَ: لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وأَنَا أُحِبُّ أنْ أقْرَأَ بهَا، فَقالَ النبيُّ ﷺ: أخْبِرُوهُ أنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» .
ومعنى كونها تعدل ثلث القرآن: أن القرآن إما أحكام أو القصص أو عقائد، وهذه السورة كلها أخلصت في توحيد الرب -سبحانه وتعالى- فبهذا كانت تعدل ثلث القرآن.
قال تعالى: ﴿قُلْ﴾ خطاب للنبي ﷺ والخطاب له في مثل هذا خطابٌ له ولأمته تبعًا.
قوله: ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وسبق أن ذُكر أن لفظ الجلالة "الله" معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وهذا الاسم اسمٌ عظيم وهو من الأسماء التي لا يجوز لأحد أن يتسمَّى بها بحالٍ، فهناك أسماء لا يجوز لأحد أن يتسمى بها مثل "الله، رب العالمين"، وما أشبه ذلك، فلا يجوز لأحد أن يتسمى بهذه الأسماء.
سئُل سيبويه إمام العربية عن أعرف المعارف فقال: "الله".
قوله: ﴿أَحَدٌ﴾ وهو -سبحانه وتعالى- واحدٌ في ذاته، في ألوهيته، في ربوبيته، في أسمائه وصفاته، فلا شريك له ولا مثيل ولا ندَّ ولا نظير.
سئل أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب وهو إمام الكوفيين في اللغة عن جمع "أحد" قال: معاذ الله أن يكون له جمع! أما "آحاد" جمع "واحد" وليست جمع "أحد"؛ لأن هذا الاسم خاص بالله -عز وجل- إذًا لا يجوز أن يجمع بحالٍ من الأحوال.
قوله: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، ورد عن ابن عباس أن "الصمد" هو السيد الكامل في سؤدده، الشريف الكامل في شرفه، العظيم الكامل في عظمته، العليم الكامل في علمه، الحليم الكامل في حلمه.
والمراد هنا: الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجهم، فهو -سبحانه وتعالى- الغني الحميد، يقصده الناس في حوائجهم، يفزعون إليه، يسألونه، يستغيثون به، يستعيذون به سبحانه وبحمده.
قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾، هو تعالى لا ولدَ له، وفيه ردٌ على اليهود الذين قالوا: "عزير ابن الله"، وعلى النصارى الذين قالوا: "المسيح ابن الله"، وعلى المشركين الذين قالوا: "الملائكة بنات الله"، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: 30]، وحاشاه تعالى أن يكون له ولد، فهو منزَّه عن الولد لأمور:
أولًا: أنَّ الولد شبيه والده، وربنا لا شبيه له ولا نظير، قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
ثانيًا: أن الولد لابدَّ وأن يكون من زوجه، وتعالى وتنزّه وتقدّس ربنا -عز وجل-، قال تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 101]
ثالثًا: أنّ الولدَ إنما يتخذه من يحتاج إليه، وربنا -عز وجل- هو الغنيُّ الحميد لا يحتاج إلا أحدٍ من خلقه، قال تعالى: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس: 68].
رابعًا: أن الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون عبده ولده! قال تعالى: ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدً﴾ [مريم: 91 - 93].
فهو تعالى لم يلد ولم يولد -سبحانه وبحمده- لأنه تعالى لم يسبقه عدمٌ -تعالى وتقدس- قال تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3].
قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، أي: لا كفوَ ولا نظيرَ ولا ندَّ ولا مثيل له -سبحانه وبحمده- قال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]، وقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقال: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22].
وهذه السورة العظيمة مع المعوذتين يُشرع أن تقرأ في مواطن:
- فتقرأ عند النوم، وكان المصطفى ﷺ: «أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ كانَ إذا أخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ في يَدَيْهِ، وقَرَأَ بالمُعَوِّذاتِ، ومَسَحَ بهِما جَسَدَهُ» ، وهذا كالرقية للجسد كله.
- وهذه السور أيضا تُقرأ في أذكار الصباح والمساء، فعن عبد الله بن خبيب -رضي الله عنه- قال: خرجنا في ليلةِ مَطَرٍ وظُلْمَةٍ شديدةٍ نطلبُ رسولَ اللهِ ﷺ لِيُصليَ لنا، فأدركناه، فقال: «أصليتم؟» فلم أقلْ شيئًا، فقال: «قلْ». فلم أقلْ شيئًا، ثم قال: «قلْ». فلم أقلْ شيئًا، ثم قال: «قلْ» فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما أقولُ؟ قال: «قل هو الله أحد والمُعَوِّذَتين حينَ تُمسي وحينَ تُصبحُ ثلاثَ مراتٍ تُكفيك مِن كلِّ شيءٍ» .
- وتُقرأ في أدبار الصلوات أيضًا عقب الصلوات الخمس، فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: «أمرَني رسولُ اللَّهِ ﷺ أن أقرأَ بالمعوِّذاتِ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ» . والمعوذات إذا أُطلقت دخلت فيها سورة الإخلاص.
- تُقرأ سورتي "الإخلاص" و"الكافرون" في ركعتي الفجر كما ثبت عنه ﷺ، وتقرأ أيضا في ركعتي الطواف، وفي راتبة المغرب، وتقرأ سورتي "الإخلاص" مع "الكافرون" في الوتر، فيختم الوتر بسورة الإخلاص.
المقصود أن لهذه السورة شأنًا، فينبغي للإنسان أن يقرأها ويحرص على قراءتها في المواطن التي وردت السنة بها.
{بسم الله الرحمن الرحيم (﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾)}.
سبب نزول هذه السورة أن النبي ﷺ عندما نزل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] صعد على الصفا ونادى: يا صباحا. فسمع الناس حوله. فقال: «لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ صَعِدَ النَّبيُّ ﷺ علَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي عَدِيٍّ -لِبُطُونِ قُرَيْشٍ- حتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَخْرُجَ أرْسَلَ رَسولًا لِيَنْظُرَ ما هُوَ، فَجَاءَ أبو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ، فَقالَ: أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم؛ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقًا، قالَ: فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لكَ سَائِرَ اليَومِ، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟!» ، فأنزل الله تعالى هذه السورة، وصنيع أبي لهب هذا يدل على خبث طويته، فليس فيه محبة للخير ورغبة فيه، وليس فيه أيضًا حمية على ابن أخيه، فهذا أقل من أن تحمله الحمية أن يذبَّ عن ابن أخيه أو يكف لسانه، لكن لم يكن شيء من هذه الصفات عنده! فقال الله -عز وجل: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1]، أي: خسر وهلك أبو لهب.
وأبو لهب: هذه كنيته، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب.
وقوله: ﴿تَبَّتْ﴾ هذا دعاء عليه بالخسار والهلاك.
وقوله: ﴿وَتَبَّ﴾ هذا خبر يفيد أنه هالك، وأنه خاسر، وأنّ مآله إلى ما ذكره الله -عز وجل- من الوعيد الشديد في هذه السور.
قوله: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾، لا يغني عنه ماله، ولا يغني عنه ما كسب من ولد، أو غيره من شؤون الدنيا وحطامها، فغدًا لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثم ذكر الله تعالى مآله فقال: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾، أي: يصلى نارًا يقاسي حرها، وهذه النار تلتهب عليه وتشتدُّ عليه، فهي ذات لهب وذات شرر يصلاها ويقاسيها.
وذكر الله -سبحانه وتعالى- عقوبته ﴿سَيَصْلَى﴾ بحرف السين، فإن حرف السين يدلّ على تحقّق وقوع ما ذُكر بعدَه، وعلى قربه أيضًا، خلاف "سوف"؛ ولهذا يقول العلماء: إن السين للتنفيس، أي: للقرب، و بينما "سوف" للتسويف، فالسين تدل على تحقق وقوع الأمر لكن مع شيء من البعد، ولهذا قال ربنا -عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النساء: 56 - 57]، اللهم اجعلنا جميعًا منهم.
ففي الكفار قال: "سوف" تسويف، وفيه إشارة إلى أن بين أيديهم فرصة أن يتوبوا وينيبوا إلى الله -عز وجل-، فإن هم تابوا تاب الله عليهم، وإن هم تمادوا واستمروا في كفرهم؛ حلّ بهم الوعيد المذكور في الآية.
وأمَّا المؤمنون فذكر السين الدّالة على قُرب وقوع الأمر مع تحققه، وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 10]، وقوله: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق:7] إشارة إلى قرب الفرج بعد الشدة.
قوله: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ أيضًا امرأته سوف يصليها الله -عز وجل- النارَ، وامرأته هي أم جميل واسمها: "أروى بنت حرب بن أمية بن عبد الشمس"، وهي أخت أبي سفيان، وهي من نساء قريش المعروفات، ولكنها كزوجها في سوء خلقها، وشدة حَنقها على الإسلام ونبي الإسلام -صلوات ربي وسلامه عليه.
قوله: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ اختلف فيه:
- فقيل: إنها كانت تحمل الشوك وتلقيه في طريق النبي ﷺ، ولهذا قال بعدها: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾، والجيد: هو العنق. والمسد: الليف. وفيه تحقير لشأنها، يعني في رقبتها حاملًا من ليف، وأنها تحمل الشوك على رأسها التي كانت تلقيه في طريق النبي ﷺ وهي يُفترض أنها كانت من نساء أشراف قريش، لا تمتهن هذه المهنة ولا تقوم بهذا العمل.
- وقيل: إنها تحمل الحطب في نار جنهم فتلقيه على زوجها، زيادة في نكاله وشدة عذابه.
والمسد: قيل هو الليف -وهو المشهور- وقيل هو طوق من حديد تُطوَّق به في نار جهنم.
وفي هذه السورة إشارة ودلالة على عظمة هذا القرآن ونبي الإسلام، فإنه مذ نزلت هذه السورة وحكمَ فيها ربنا -عز وجل- على أبي لهب بدخول النار لم يحدث أن أبي لهب فكَّر في الإسلام أو دخل فيه؛ بل استمر متماديًا في طغيانه وفي ضلاله إلى أن هلك ومأواه النار وبئس القرار.
{بسم الله الرحمن الرحيم (﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾)}.
المقصود بالفتح هنا: هو فتح مكة باتفاق.
واختُلف في نزول السورة:
- فقيل: نزلت عام خيبر قبل فتح مكة، ولا إشكال حينئذٍ في توجيه فاتحة السورة، لأن فاتحة السورة وردت بالظرف "إذا"، والظرف "إذا" ظرف لِمَا يُستقبل من الزمان.
وبالمناسبة "إذا، وإذ، وإذًا" هذه الظروف الثلاثة تختلف في مبناها من حيث الزمن.
فـ "إذا" للزمن المستقبل، تقول: "إذا جاء خالد فأكرمه"، يعني: جاء في المستقبل.
و "إذ" للزمن الماضي، تقول: "إذ جاء خالد أكرمته" يعني: فيما مضى.
و "إذًا" للزمن الحاضر، تقول: "إذًا أكرمك إذا أتيت"، وهنا "إذا" للزمن المستقبل.
- وورد عن بعض السلف أنها نزلت في غزوة حنين، أي بعد فتح مكة.
- وورد أنها نزلت أوسط أيام التشريق، لكن الحديث الوارد فيها حديثٌ فيه راوٍ ضعيف وهو موسى بن عبيدة الربذي، قال الإمام أحمد: لا تحل الرواية عنه.
لكن على القول بأنها نزلت بعد غزوة حُنين: نحتاج أن نوجه الظرف "إذا"، والفتح والنصر كان قبل غزوة حنين، ولهذا قال العلماء: إن هذا الظرف إذا كان للاستقبال جاء بعده الفعل الماضي والفعل المضارع، وإذا كان للماضي جاء بعده الفعل الماضي فقط، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: 11] مع أن الحادثة وقعت ومضت وانتهت ومع ذلك جئ بـ "إذا" الدالة على الاستقبال، لكنها هنا تدلّ على المضيّ.
قوله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾، كان العرب يتباطؤون في الدخول في الإسلام ويتلوَّمون ليروا هل يظهر النبي ﷺ على قومه قريش أم لا؟! فإن ظهروا عليه حينها لم يدخلوا في الإسلام على زعمهم، وإن ظهر هو عليهم دخلوا في الإسلام، فلما انتصر النبي ﷺ ودخل مكة ظافرًا منتصرًا؛ أقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا، وكان دخلوه مكة -صلوات ربي وسلامه عليه- في شهر رمضان سنة ثمانٍ.
وفي سنة تسع وفدت قبائل العرب من أنحاء الجزيرة العربية إلى النبي ﷺ مذعنين معلنين دخولهم في دين الإسلام، فدخلوا في دين الله أفواجًا.
قال تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ الفاء هنا للتعليل، وإذا كانت الفاء للتعليل فالمعنى أن ما قبلها علّةٌ لما بعدها، أي: إذ يسر الله أمرك وفتح لك ونصرك ورأيت الناس قد دخلوا في دين الله أفواجًا؛ فسبح بحمد ربك واستغفره شكرًا له على هذه النعمة العظيمة، ودل على أن التسبيح والتحميد من مظاهر شكر النعمة، أن الإنسان يسبح ويحمد ربه شاكرًا له على ما أولاه وأسداه عليه من الفضائل والمنن والنعم.
ولما نزلت هذه السورة على النبي ﷺ كان يُكثر التسبيح والتحميد.
ومعنى قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾، أي: سبّحه تسبيحًا مقرونًا بحمده -سبحانه وبحمده- وهذا معنى التسبيح -يا إخوان- نقول دائمًا "سبحان الله وبحمده" أي: أسبّحه تسبيحًا مقرونًا بالحمد، فأنت تجمع بين التسبيح وبين التحميد في هذه الكلمات الوجيزة العظيمة.
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُكثِرُ أن يقولَ في ركوعِه وسُجودِه: سبحانك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي» ، وتقول: «ما رَأَيْتُ النبيَّ ﷺ مُنْذُ نَزَلَ عليه ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والْفَتْحُ﴾ [النصر:1] يُصَلِّي صَلَاةً إلَّا دَعَا، أوْ قالَ فِيهَا: سُبْحَانَكَ رَبِّي وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» .
وعمر -رضي الله عنه- كان يحضر مجلسه الصحابة وذوي الرأي من الناس، ويدخل معهم ابن عباس -كان لا يزال شابًا في مقتبل العمر- فقال بعضهم: لماذا يدخل هذا ولنا أولاد مثله؟ فالرجال يحبون أن يصطحبوا أولادهم في مجالس الرجال، حتى يتعلموا ويستفيدوا، وتنضج عقولهم لما يسمعون من كلام الرجال الذين تقدَّموهم، وخبر من الدنيا ما لم يعلموه ولم يمروا به، فأراد عمر -رضي الله عنه- أن يقنعهم، يقول ابن عباس: فدعاني يومًا، وعلمت أنه يريد أن يقنعهم سبب كونه يدخلني، ولم يكن يدخله لأنه ابن عم رسول الله ﷺ وإنما يدخله لمكانته وما كان عليه من الفقه والعلم.
وكان ابن عباس -رضي الله عنه- على جانب من العلم بكتاب الله -عز وجل- وبسنة رسوله ﷺ ببركة دعوة المصطفى -صلواته ربي وسلامه عليه- حيث دعا له عندما جاءه بوضوئه وقال: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتابَ» ، و في رواية: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ» والروايتان في الصحيح، وفي غير الصحيح: «و علمه التأويل»، فغدا ببركة هذه الدعوة حبر الأمة وترجمان القرآن، فسألهم عمر -رضي الله عنه- عن هذه السورة، فقال الصحابة: أمرنا أن نسبح الله عز وجل وأن نحمده وأن نستغفره بعد إذ نصرنا؛ وهذا كلام حسن وهو ظاهر معنى السورة، فقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: "أقول هو أجل رسول الله ﷺ" فقال عمر: "ما أعرف منها إلا ما تعرف"، أو كما ورد عنه -رضي الله عنه.
ففهم ابن عباس فهمًا دقيقًا أن في السورة إشارة إلى أجل النبي ﷺ قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾، إذًا هذا علامة على دنو أجل رسول الله ﷺ فلم يلبث النبي ﷺ أن توفي بعد الفتح بسنتين.
{بسم الله الرحمن الرحيم: (﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾)}.
هذه السورة -سورة الكافرون- فيها البراءة من الشرك، ويا أخي إذا سمعت الله يقول لنبيه: "قل" في القرآن؛ فتأمل وانظر ما الذي أُمِرَ أن يقوله رسول الله ﷺ، فإن المُصطفى ﷺ أُمِر أن يقول القرآن كله للناس، وأُمِر أن يبلّغ هذا الكتاب للناس، وقد بلغ ﷺ وأدى الأمانة وَنَصَح الأُمَّة، فمَنَعى أن يُقَال في بعض الآيات: "قُل" وهذا يأتي في القرآن في مواضع كثيرة، وتصير الآية بأمره أن يقول مضمونها للناس، يدل على اهتمام بهذا الأمر، وأن هذا الأمر غاية في الأهمية.
أمر الله تعالى محمدًا أن يقول: "يا أيها الكافرون"، لم يرد -يا إخواني- في القرآن نداء الكافرين بوصف الكفر إلا في آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم: 7]، والآية في مشاهد القيامة وفي معرض التبكيت والتعنيف للمشركين.
هنا لم تبدأ السورة بـ "أيها الكافرون" وإنما بدأت بـ "قل".
وأما النداء بوصف الإيمان "يا أيها الذين آمنوا" فقد ورد في القرآن في 89 موضعًا، ينادي الله تعالى عباده بوصف الإيمان إغراءً وترغيبًا لهم بالعمل، ولأن مقتضى الإيمان أن يعملوا بما يكون بعد هذا النداء الجليل "يا أيها الذين آمنوا" من أمر فيمتثلونه، أو نهيٍ فيجتنبونه، ولأن ما بعدها من الأمر أو النهي:
* إن كان أمرًا: فامتثاله تكميل للإيمان.
* وإن كان نهيًا: فتركه تكمل للإيمان.
وعدم ذلك نقص في الإيمان، ولأن فيه تشريفًا للمؤمن أن يُنادى بهذا الوصف الجليل، كان يُمكن أن يقول تعالى "يا معشر بني فلان، يا معشر قريش، يا معشر العرب"، وما أشبه ذلك، وإنما ناداهم بأجلِّ وصفٍ وأعظمه.
وأما الكفار فلم يُنادوا في القرآن إلا في الآية التي سبق ذكرها، بمعنى أنهم يم يُنادَوا بآية يُستفتح فيها ذكرهم.
وقيل في سبب نزول السورة: إن مشركي مكة قالوا للنبي ﷺ: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة؛ فنزلت هذه الآية التي فيها البراءة منهم ومن معبوداتهم.
قال: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾، أي: لا أعبد هذه الأصنام التي تعبدونها، والتي لا تعي، ولا تعقل، ولا تخلق، ولا ترزق، ولا تنصر، ولا تنفع، ولا تضر؛ إنما أعبد ربي لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، الذي في يده الأمر، وله الملك، وهو الخالق المالك المدبر، وهو الذي بيده النفع والضر، والأمر كله، والخير كله.
قال تعالى: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ﴾، فلا أنا بالذي أعبد آلهتكم، ولا أنتم بالذين تعبدون إلهي.
ثم عاد المعنى مرة ثانية فقال: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ كرّر هذا المعنى مرة ثانية، قيل: للتوكيد، ولا ريب أن التكرير يفيد التوكيد، وهذا توكيد للفظ وتوكيد أيضًا للمعنى، فلأهمية هذا الأمر وبراءته ﷺ من الشرك والمشركين، وبُعد المشركين عن عبادة رب العالمين كُرّر مرة أخرى.
وقيل كُرِّرَ لمعنًى آخر: وهو أن قوله ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ فـ "أعبد" فعل مضارع، فنفى ﷺ أن يحصل منه فعل بمقتضاه أن يعبد آلهة المشركين.
وقوله: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ﴾، فِيهِ إشَارَةٌ إِلى عَدَمِ قَبولِه وَعَدمِ وقُوعهِ، وَعَدمِ إمكانِ ذَلك شَرعًا دَائِمًا وأبدًا، ولهذا جاء بالجملة الاسمية الدّالة على الثبوتِ والدّوامِ، وورد هذا عن شيخ الإسلام -رحمه الله.
وإذا دار الأمر بين التوكيد وبين أن يكون هناك معنى آخر؛ فلا ريب أن الأخذ بالمعنى الآخر -إذا كان معنًى واضحًا- لا ريب أنه أولى، والقاعدة في التفسير: أن التأسيس أولى من التأكيد، يعني كونه يأتي معنى جديد وتأسيس لمعنى جديد، أولى من مجرد توكيد كلام سبق أن تقدم.
قد يسأل سائل ويقول: هذه الآية فيها حكم على هؤلاء المشركين بأنهم لن يسلموا وقد أسلم الكثير منهم؟
فالجواب عن هذا: قد يكون المراد بهؤلاء المشركين أناس طُبع على قلوبهم، وعلم الله من حالهم أنه لن يُسلموا، كأبي جهل، وأبي لهب، والنضر بن الحارث، وعقبة بن معيط، وأبي بن خلف، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وما أشبه هؤلاء من رؤوس المشركين الذين عُرفوا بالمكابرة والكبر والعناد.
وقال شيخ الإسلام: بأنهم لن يعبدوا الله ما داموا على وصف الكفر، أي: ما داموا متصفين بالكفر فلن يعبدوا الله -عز وجل-، ولكن إن هُم تخلصوا من الكفر، وأقبلوا على دين الله -عز وجل-؛ فإنهم سوف يعبدون الله -عز وجل.
ثم قال: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، أي: ولي ديني، لكن حذف الياء مراعاة لرؤوس الآي.
والمعنى: أنا بريءٌ منكم ومما تعبدون كما قال -عز وجل: ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [البقرة: 139]، وقال: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: 84]، وقال: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 39- 41].
{بسم الله الرحمن الرحيم (﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾)}.
هذا الخطاب لنبي ﷺ بخاصَّة، وذلك أن الخطابات للنبي ﷺ في القرآن:
- منها ما هو خاص كهذه سورة، وكقوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)﴾ [الشرح: 1- 2].
- ومنها خطابات موجهة إليه وللأمة تبعًا ﷺ، وهذا كثير في القرآن كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الأحزاب: 1].
قوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾.
المراد بالكوثر: روى مسلم في صحيح من حديث أنس قال: «بيْنَا رَسولُ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَومٍ بيْنَ أظْهُرِنَا إذْ أغْفَى إغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: ما أضْحَكَكَ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ (2) إنَّ شَانِئَكَ هو الأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 1 - 3]، ثُمَّ قالَ: أتَدْرُونَ ما الكَوْثَرُ؟ فَقُلْنَا اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّه نَهْرٌ وعَدَنِيهِ رَبِّي عزَّ وجلَّ، عليه خَيْرٌ كَثِيرٌ، هو حَوْضٌ تَرِدُ عليه أُمَّتي يَومَ القِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فيُخْتَلَجُ العَبْدُ منهمْ، فأقُولُ: رَبِّ، إنَّه مِن أُمَّتي فيَقولُ: ما تَدْرِي ما أحْدَثَتْ بَعْدَكَ» ، فبيّن النبي ﷺ أن هذا الكوثَر نهر في الجنة، وورد أنه يصُبُّ منه ميزَبان في الحوض، وحوضُه ﷺ في عرصاتِ القيامة، والذي يَرِدُ عليه من أمته من يرده ويشرب منه شربة لا يظمأ بعده أبدًا.
وعن ابن عباس: أن الكوثر هو الخير الكثير.
ولا اختلاف فالكوثر الذي في الجنة هو من الخير الكثير، ولهذا قال في الحديث: «عليه خير الكثير»، فتأملوا -يا أخوان- ربنا يقول: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾ فذكر الضمير المضاف إليه بصيغة الجمع، وهذا يرد في القرآن كثير، خذ مثلًا قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9] فيه خمسة ضمائر كلها للجمع، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر:1]، فمجيئ هذه الضمائر بصيغة الجمع يدل على تعظيم رب -سبحانه وتعالى- وأيضًا تعظيم ما ورد بعدها، فيقال إن قوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ تعظيمٌ للعطية و للمُعطى -صلواتُ ربي وسلامه عليه- فالعطية: أعطاه الله تعالى الكوثر، وهو المُعطى -صلواتُ الله وسلامه عليه.
وقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ تعظيم لكتاب الله -عز وجل.
قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ الفاء هنا -كما ذكر في سورة النصر- للتعليل، ومعنى كونها أنّ ما قبلها علة وسببٌ لما بعدها، يعني: إذا عطاك الله تعالى هذه النعمة وتفضّل عليك بهذه المنّة؛ فاشكر الله عليها، ومن أعظم مظاهر شكر النعمة: ما ذكره ربنا في هذه الآية: الصلاة والنحر، فأنت تصلي شكرًا لله -عز وجل- وتصوم شكرًا وتتصدق شكرًا وتعمل الأعمال الصالحة كلها شكرًا لله -عز وجل-، ومهما عملت فلن تحصي ثناءً على ربك -سبحانه وبحمده.
قال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾، أي: اجعل صلاتك لربك خالصة، فلا يكون فيها شيء يُكدّرها، ولا يكون في عملك الصالح التفات لأحد من البشر كائنًا من كان.
وقوله: ﴿وَانْحَرْ﴾ المراد به الذبح، فدلّ على أنَّ الصلاة و النحر من أعظم مظاهر شكر النعمة، ودلّ على وجوب إخلاص هاتين العبادتين الجليلتين "الصلاة والنحر"، وأن من صَلَّى لغيرِ الله فقد أشرك، ومن ذبحَ لغيرِ الله فقد أشرك، وفي حديث علي المخرَّج في صحيح مسلم: «لَعَنَ اللَّهُ مَن ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ...» ، فلعنه النبي ﷺ بل أخبر أن الله تعالى لعنه وطرده وأبعده من رحمته، وكثيرا ما يقع بعض الناس في هذه المخلفات الخطيرة التي تزل بها القدم ويحصل لصاحبها عظيم الندم، والذبح عبادةٌ الله -عز وجل- لا يجوز صرفه لأحد كائنًا من كان، وصرفه لغيره -عز وجل- شرك كما يدل عليه ظاهر هذه الآية، وأدلة أخرى.
قوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ الشانئُ: هو المبغض.
والأبتر: الأذل والأحقر المقطوع عنه الخير، بل كان بعض المشركين كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط قال في شأن النبي ﷺ: دعوه فإنه أبتر، يعني ليس له أولاد، أي: يوشك أن يموت فينتهي أمره، فقال الله -عز وجل: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ فمُبغِضه ﷺ هو المقطوع من كل خير كائنًا من كان، وفي كلِّ زمانٍ ومكان، قال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 94 - 95] فكل من استهزأ بالنبي ﷺ وسخرَ منه بكلامٍ أو فعلٍ أو رسمٍ فهو الأبتر الأقل والأحقر، وقد كفى الله -سبحانه وتعالى- نبيّه هؤلاء الساخرين والمستهزئين، وفيه إنذار لهم بالوعيد الشديد.
وفق الله الجميع للخير، ورزقنا وإياكم جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، والدعوة إليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{جزاكم الله خيرًا شيخنا على ما قدمتم وأفدتم، وإلى هنا نصل إلى ختام هذه الحلقة، أيها الإخوة والأخوات نلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله، دمتم في رعاية الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
5357 7
-
22033 9