الدرس السادس
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
(﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال تعالى: (﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾)، والتين هو التين المعروف الذي يؤكل، والزيتون المعروف التي يعصر، وفيه إشارة إلى منبتهما في الشام، وإشارة إلى مكان نبوة عيسى عليه السلام.
﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ هو الجبل الذي كلّم الله تعالى عنده موسى عليه السلام.
﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ مكة حرصها الله -عز وجل-، وأمّنها من كل مكروه، وفيه إشارة إلى نبوة المصطفى ﷺ.
فتضمنت هذه الآيات الإشارة إلى نبوة الأنبياء الثلاثة، وهم من أولي العزم، عليهم وعلى جميع أنبياء الله ورسله أتم الصلاة والتسليم.
وفيه انتقال من الشريف إلى الأشرف إلى الأشرف، وهذا المعنى المذكور في رأس هذه السورة ورد نظيره في التوراة، ففي التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرق في سعير، وهو جبل عند بيت المقدس، واستعلى في فاران، وفاران هي جبال عرفة، فتضمن هذا النص في التوراة الإشارة إلى النبوات الثلاث كهذه السورة.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ الواو حرف قسم وجر، ﴿والتين﴾ اسمٌ مقسم بِهِ مَجْرور.
﴿وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ مثلها، وجواب القسم ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، والله تعالى يقسم بما شاء وبمن شاء من خلقه -سبحانه وتعالى-.
وفي إقسامه بخلقه تعظيم للمخلوقات وتعظيم للخالق -سبحانه وتعالى-، وأما نحن فلا يجوز أن نقسم بغير الله -عز وجل-، قال ﷺ في حديث ابن عمر: «مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ كَفَر أو أَشْرَكْ» ، والمراد به هنا الشرك الأصغر.
وفي الحديث المخرج في الصحيح، وقد انتهى إلى عمر وهو يحلف بأبيه، قال: «ألَا إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبَائِكُمْ، فمَن كانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ، وإلَّا فَلْيَصْمُتْ»، وقال ﷺ كما عند أبي داود: «مَن حَلَف بالأمانةِ فليس مِنَّا» .
وقد يبلغ الأمر ببعض من يُقسم بغير الله -عز وجل- إلى أن يُقسم بالله على أي أمر سواء كان صادقاً أو كاذباً -عياذا بالله، وإذا طُلب منه أن يُقسم بمحلوفه من وليٍّ أو إمامٍ أو سيدٍ أو ما شاء، فإنه لا يحلف به كاذباً أبداً. وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد فالأمر جد خطير، فمعناه أن هذا الإنسان يعظم المخلوق أكثر من تعظيم الخالق سبحانه وبحمده، وهذا شرك أكبر بالله -عز وجل-.
وكان جهد اليمين عند المشركين الحلف بالله -عز وجل-: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ وَجَهَدُ الْيَمِينِ عند كَثِيرٍ من أهل البدع: الحَلِفُ بِمَحْلُوفِيهِمْ مِنَ المَوتَى وَالْمَقبورِينَ، والله المستعان.
وقد حكى ابن عبد البر -رحمه الله- إجماع العلماء على تحريم الحَلِف بغير الله.
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ هذا جواب القسم كما ذكر، أي: خلق الله تعالى هذا الإنسان في أحسن تقويم، في أحسن خلقة، وأحسن هيئة وصورة، حُسنٌ في خلقه، وكمالٌ في عقله فكرّمه وميّزه على كل المخلوقات.
﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ اختلف في قوله -عز وجل-: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، فقيل: ثم رددناه إلى النار، وهي أسفل سافلين، ولا قوة إلا بالله، والإنسان جنسٌ وأكثر ما يُطلق في السور المكية على الكافر، وعليه فتكون السورة شبيهة بسورة العصر في معناها، ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾
وقيل إن قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ يعني: إلى الهَرَم وسن الكبر، كما قال -عز وجل-: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾، ويُشكِلُ على هذا قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إلا إذا قلنا: إن الاستثناء هنا منقطع لا صلة له بما قبله فالمعنى يستقيم، والقول الأولو هو الأشهر.
ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ هذا استثناء مُتصِل على القول بأن المراد بـ ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ النار، فردَّ الله تعالى هذا الإنسان -وهو جنس- إلى ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ إلا من استُثني هنا وهم المؤمنون الذين آمنوا، وصدقوا، وعملوا الأعمال الصالحات، فآمنوا بقلوبهم وصدقوا بجوارحهم.
﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي: غير مقطوع، وما أكرم الله -عز وجل- يا إخوة، أن يسمي الثواب من لذله أجرًا، وكأن العبد أجيرٌ عند الله -عز وجل-، يعمل ثم يأخذ مقابلاً، وهو إنما يعمل لنفسه، وعمله يعود نفعه أو ضره إليه، ومع ذلك فإن الله أكرمه، ومنحه الأجر العظيم على العمل القليل.
﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ أي: أي شيء يُكذبكَ أيها الإنسان بعدُ بالدين، والدين هنا هو الجزاء، كما قال تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، فإن الدين يُطلق على شريعة الإسلام، ويطلق على الجزاء، كما في هذه الآية، وآية الفاتحة أيضاً، يعني: بعد ما تقدم من الأدلة كيف تُكذب أيها الإنسان بالدين؟
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- دليلاً من أدلة البعث وهو خلق الإنسان، فإنَّ الذي خلقه أقدر على بعثه وإعادته ثانية، كما قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ فهو -سبحانه وتعالى- الأحكم، أحكم الحاكمين في أحكامه الشرعية، وفي أحكامه الكونية، فلا أحد أحكم منه، فحكمه تعالى مبني على العدل في الأحكام، والصدق في الأخبار، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ فَلْيُقِلَ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» .
{أحسن الله إليكم.
(بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾)}.
هذه سورة الشرح تتمة لفضائل ومنن وكرامات ونعم من الله -عز وجل- على رسوله، ففي السور السابقة قال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى﴾، ثم قال هنا: (﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾) فامتنَّ الله عليه بأن شرح له صدره، وجعل صدره مُتسعًا رحبًا ليقوم بأعمال وأعباء الرسالة، فقد شرح صدره أول ما شرحه للإسلام، نسأل الله أن يشرح صدورنا وإياكم للإسلام، ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
وانشراح الصدر بالنسبة لمن يقوم بالأعباء ويتحمل الأعمال الكبيرة لا شك أمر مهم، فإن الإنسان إذا كان ضيق الصدر، لا يستطيع أن يؤدي عمل، ولذلك سأل موسى ربه أول ما سأله عندما أرسله إلى طاغيةٍ هو من أعتى طغاة التاريخ إلى فرعون، قال: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾، فسأل ربه أن يشرح صدره، وأن ييسر أمره.
والعلاقة يا إخواني بين شرح الصدر وتيسير الأمر علاقة واضحة، فإنه إذا انشرح الصدر تيسر الأمر، وفي المقابل إذا تيسر الأمر أيضاً انشرح الصدر، ولهذا ينبغي للإنسان أن يسعى إلى أسباب انشراح الصدر.
فمنها: الدعاء، كما دعا موسى ربه قائلاً: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ يكون هذا الدعاء على لسان الإنسان بين وقت وآخر.
ومنها التسبيح والتهليل والذكر، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.
ومنها: الأعمال الصالحة، فإنها سبب للحياة الطيبة، والطمأنينة -طمأنينة القلب- وراحة البال، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ أي: في الدنيا، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: في الآخرة.
وقال -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾.
ومنها يا إخوان: قراءة كتاب الله -عز وجل-، فإنه من أعظم أسباب انشراح الصدور، إذا قرأه الإنسان بتدبر، جمع بين ثلاثة أمور:
القراءة أولا، والثاني: فهم المقروء، والثالثة: تدبره، فإنه يجد راحةً ولذةً في قلبه لا توجد في الدنيا، وفي الحديث المأثور -في حديث الهم- أجارنا الله وإياكم منه، قال ﷺ: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهمَّ إني عبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، و ذَهابَ همِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ وحزنَه» .
كل هذه الفضائل في كتاب الله -عز وجل- فليحرص الإنسان على هذه الأسباب حتى ينشرح صدره لا سيما وهو في هذا الطريق الطويل، وهو طلب العلم، الذي يمتد من حين أن يبدأ الإنسان به إلى أن يلقى ربه به، «مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ» ، فهذا الطريق بدايته إذا دخلت فيه، ونهايته الجنة، نسأل الله الكريم من فضله.
(﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾) أي: وضعنا عنك يا محمد وزرك، والوزر الشيء الثقيل، والمراد به الذنب، والأنبياء معصومون فيما يبلغون عن الله -عز وجل-، ومعصومون عن مُقارفة الكبائر وحاشاهم، وأمَّا الصغائر فاختلف، والجمهور على أن الصغائر تقع منهم، ولهذا قال -عز وجل- لمحمد ﷺ: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾.
(﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾) والنقيض الصوت، يعني: صارها لهذا الوزر نقيض وصوت.
قد يقول قائل: هي صغائر فكيف تُوصَفُ بالوزر، والوزرُ ثقل، وكيف تثقل الظَّهْرَ ويكون لها كالصوت؟ قيل: لأنَّ الأنبياء يهتمون لمثل هذه الأمور الصغيرة، ويرونها أموراً شديدة وثقيلة عليهم، عليهم صلوات ربي وسلامه.
وقد روي فيه أثر وفيه: «إنَّ المؤمنَ يرَى ذنوبَه كأنه في أصلِ جبلٍ يخافُ أنْ يقعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرَى ذنوبَه كذبابٍ وقع على أنفِه، قال به هكذا، فطار» .
ثم قال -عز وجل-: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ أعلى الله تعالى ذِكْرَ محمدٍ، ورفع قدره ومكانته، ومنزلته، فلا يذكر الله -عز وجل- إلا وذكر معه:
في الشهادتين -في أول ركن من أركان الإسلام- يُذكر مع ربه -عز وجل-.
في الأذان يذكر مع الله -عز وجل-.
في الإقامة يذكر مع الله -عز وجل-.
في التشهد للصلاة يذكر مع الله -عز وجل-.
في الخطبة يذكر مع الله -عز وجل-.
فرفع الله ذكره، وأعلى قدره، ورفع مكانته ومنزلته، صلوات ربي وسلامه عليه.
وشرع لنا الصلاة والسلام عليه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ حتى مع انشراح الصدر قد يحصل للإنسان نوع عسر، ولكن التيسير مع العسر سواء.
وتأملوا إخواني كيف قال ربنا: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ ولم يقل: {بعد العسر}، وكأنّ اليسر مُقارن للعسر، فبمجرد أن يحصل العسر يأتي بعده اليسر، ولهذا قيل: لو دخل العسر في جحر ضبّ دخل اليسر عليه، قال تعالى: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ وجاء بالسين، وهي سين التنفيس عند علماء اللغة العربية الدالة على وقوع الأمر وقرب انكشافه وزواله، يقع العسر لكنه سرعان ما ينكشف، قال ﷺ في حديث ابن عباس: «واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا» وقال: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾، وورد عن عمر وغيره من السلف -رحمهم الله تعالى- من الصحابة والتابعين قولهم: "لن يغلب عسرٌ يُسرين"، وتأملوا معي فالآية فيها عسران ويسران، فكيف صار العسر واحداً؟
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ عسران ويسران، بينما قول عمر: "لن يغلب عسرٌ يُسرين".
قالوا: إنَّ العسر تَعَرَّفَ فَتَوَحد، وإن اليسر تنكر فتعدد! ما معنى هذه العبارة؟
اليسر جاء معرفة، والمعرفة في اللغة العربية اسم يدل على شيء معين، وأل في (العسر) في قوله: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ للتعريف. بينما جاء اليسر في نفس الآية (يسرا)، أي: نَكِرَةٌ.
فلما تعرف العسر كان الثاني هو الأول، و (أل) الداخلة على الثاني يسمونها "أل" العهدية، والعهد فيها "عهد ذكري" يعني: أن الثاني هو الأول، فصار العسر واحدًا، وصار اليسر اثنين، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى.
﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب﴾، أي: إذا فرغت من أعمالك ومشاغلك فانصب إلى ربك بطاعته وعبادته، وفيه أن الإنسان ينبغي ألا يأتي إلى الصلاة إلا وقد تخلص من مشاغله، حتى يتفرغ قلبه لمناجاة ربه.
﴿وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب﴾ أي: ارغب إلى ربك وحده، لا ترغب إلى غيره، داعياً، وراجياً، ومتوكلاً، وراغباً، وراهباً له سبحانه وبحمده.
وتقديم المعمول وهو قوله: ﴿إلى ربك﴾ يدل على الحصر، وهذه قاعدة في اللغة وفي التفسير، أن تقديم ما حقه التأخير يدلّ على الحصر، وقد ذكر ذلك في قولة تعالى: ﴿إيّاك نعبد وإيّاك نستعين﴾.
{أحسن الله إليكم.
(بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾)}.
﴿وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾ هذا قسم منه تعالى بالضحى، والضحى هو النهار أو أوله.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾ أي: إذا سكن وغطى الكون بسواده، وهو إقسام منه -عز وجل- بهذه الآيات التي تأتي على الناس تباعًا، فإن الناس بين ليل ونهار.
والليل والنهار هما في لغة العصر وسيلتا النقل التي تنقل الإنسان من هذه الحياة إلى النهاية، فالموفق من يبدعهما أعمالاً صالحةً، يقدم عليها غداً أحوج ما يكون إليها.
ثم قال -عز وجل-: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ ورد في سبب نزولها أن جبريل انقطع عن النبي ﷺ، فقال المشركون: "ودع محمد ربه"، وذُكر في سبب نزولها أقول أُخر، وقال الله تعالى نافيًا زعم المشركين: ما ودعه ربه وما قلاه، يعني: ما أبغضه، بل أحبه -سبحانه وبحمده-، وفي نفي الشيء عن الربِّ إثبات لكمال ضده. فما ودعه ربه في دُنياه، وما قلاه وما أبغضه.
وفيه إشارة إلى أنه إذا لم يودعه في الدنيا ولم يبغضه فيها، فإنه لن يهمله في الأخرة، ولهذا قال: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ﴾، وهذا وعد من الله -عز وجل- أنَّ ما عند الله لنبيه في الآخرة خير من الدنيا.
﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾ أي سوف يعطيك ربك مما لم يُذكر هنا، وحذفه وعود على كلام قيل، يدل على عموم الخير، والفضل، والكرم، للمصطفى ﷺ، فيعطيه ربه حتى يرضى.
ثم ذكره ربه بحاله الأولى، وذكره بشئ من مننه ونعمه عليه، فقال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ﴾ مات أبوه وهو في بطن أمه، وماتت صلوات ربي وسلامه عليه وهو ابن ست سنين، ومات جده عبد المطلب وهو ابن ثماني سنين، فنشأ يتيما صلوات الله وسلامه عليه.
ولكن الله أواه وضمه إليه، ومن أواه الله وضمه فلن يضره شيء، ولن يحتاج مع إيواء الله تعالى إيواء أحد.
﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ﴾ أي: وجدك ضالاً عن تفاصيل الإيمان؛ لا لأنه لم يكن مؤمناً حاشاه! بل كان مؤمناً صلوات ربي وسلامه عليه قبل الرسالة، وكان على دين إبراهيم، وكان ينكر ما عليه قومه من الشرك وارتكاب المحرمات.
إذن معنى قوله: ﴿ضَالًّا﴾، أي ضال عن تفاصيل الإيمان وفروعه، وتكون هذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ يعني: ما كنت تدري عن تفاصيل الكتاب، وعن تفاصيل الإيمان وفروعه.
﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ﴾ أي: وجدك فقيرا فأغناك، وغناه ﷺ كفاف، وما هو أعظم من غنى الدنيا أعطاه الله تعالى غنى القلب وغنى النفس، وفي الحديث الصحيح: «ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس».
ثم قال -عز وجل-: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ وتأملوا يا إخوان، بعد أن ذكر الله المنن والنعم؛ ذكر الوصايا لرسوله ﷺ، ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ فلا تقهر اليتيم، ولا تذل اليتيم، فقد كنت قبل ذلك يتيما، وتذكير الإنسان بحاله فيما مضى، أو بحاله فيما يستقبل، لاشك يفيده كثيراً، فيرعوي عن كثير من الأمور التي قد تقع من الناس، وهذا من التذكير بالماضي، ونظيره قوله -عز وجل- للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فتبيّنوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾، وسبب نزولها أن الصحابة كانوا مع النبي ﷺ في غزاة، فمر بهم رجل من هذه القبيلة التي كان الغزو عليها ومعه غليمة فسلم عليهم فقتلوه، من هذه القبيلة، فنزلت هذه الآية، وقال -عز وجل- موجهاً: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: كنتم قبل أن تسلموا كحال هذا الرجل، فنظر الرجل في ماضيه يجعله يلتزم بكثير من الآداب في علاقاته بالناس، في دعوته إلى الله، في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، كذلك نظره في مستقبله، قال تعَالَى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، ليتقوا الله في اليتامى فلا يظلموهم، ولا يأخذوا أموالهم، لأن لهم ذرية في المستقبل، ربما يتولاهم غيرهم، وربما يسيئون إليهم، كما أساؤوا هم إلى هؤلاء اليتامى. ولهذا قال -عز وجل-: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ﴾.
إذن هذه الوصية ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ في مقابل قوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ﴾.
ثم قال: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ قيل: السائل عن المال، يعني لو أنّ شخصًا يسأل مالا فلا تنهره، إن عطيته فذاك، وإن لم تعطه فتخلص منه بتلطف، قَالَ تَعَالَى: ﴿وآتي ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَكَانَ الشَّيْطَانَ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا﴾ فإذا لم تستطع أن تعطيهم وأعرضت عنهم، ﴿فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا﴾.
وأما أن تجمع الأمرين، لا تعطي وتقابل بكلام سيء، فلا ينبغي هذا.
وقيل: السائل هنا هو السائل عن العلم، إذا جاء شخص يسأله عن العلم فلا تنهره، ولا مانع من حمل الآية على المعنيين؛ لأن قاعدة في التفسير: جواز حمل الآية على المعنيين إذا لم يكن بينهما تضاد، ويكون هذا من باب اختلاف التنوع.
وأما إن كان بينهما تضاد فالواجب طلب الترجح.
إذاً قوله: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ فِي مُقَابِلِ قَوْلِهِ: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ﴾ وهذا القول بأن السؤال هنا هو سؤال عن العلم.
﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ النعمة هنا يا إخوان لفظها واحد، ومعناها متعدد، فمن أين جاءنا هذا العموم؟
داء هذا العموم من الإضافة، فإن المضاف يستفيد العموم من المضاف إليه سواء كان مفردا أو جمعا، ولهذا قال -عز وجل- في آية أخرى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾، فلو كانت واحدة هل تعد؟! وهل ينفع أن نحصيها؟ فدل على أنها نعم مع أن لفظها واحد ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾، ولكن لَمَّا أضيفت استفادت من الإضافة التعدد.
﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ أي: حدّث بنعم الله عليك شاكراً لا مُفتخراً ومتكبراً، وأما الحديث عن النعم بتكبر -عياذاً بالله- فهذا من جحودها وليس من شكرها، والمراد أن الإنسان يُحَدِّثُ بنعم الله عليه مُطلقاً، يعني يقول: نحن بخير ولله الحمد، لدينا من الخير ما فيه الكفاية، وما أشبه ذلك، يعني: يكون حديثه مطلقاً، لا أن يحدث عن كل ما عنده بتفصيل، فلا يطلب منه ذلك، وإنما يظهر أمام الناس مُعترفاً بنعم الله، سواء في مقاله، أو في حاله، وحاله أن يرى ربه أثر نعمته عليه، قال ﷺ: «إِنَّ اللهَ يُخِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعمته عَلَى عَبْدِه»، فهذا لا شك من شكر الله -عز وجل- ومن التحدث بنعم الله -عز وجل-.
والحديث عن النعم إذا كان الدافع له الشكر، فهذا لا شك شكر لله، وعرفان وامتنان له بنعمته سبحانه وبحمده، والشكر هو القيام بطاعة الله -عز وجل- نطقًا باللسان، واعترافاً بالقلب، وعملاً بالجوارح، والجوارح هي الأعضاء، فيشكر الإنسان ربه بلسانه، ويقول: الحمد لله، وفي الحديث: «إنَّ اللهَ لَيَرْضَى أَنْ يَأكلَ العبدُ الأكلة فَيَحمده عَلَيهَا، وَيَشْرَبُ الشَّربة فَيَحْمَده عليها»، ويعترف بقلبه أن ما به من النعم هو من الله -عز وجل-، عظمت أو صغرت، ﴿وَمَا بِكُم مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾.
يم يعمل بأركانه وحواسه وجوارحه وبطاعة ربه من: صلاة، وصيام، وصدقة، وما أشبه ذلك، فكل أعماله تلك إنما هي شكر لله على نعمه، وهو في ذلك كله لن نحصي ثناء على الله، وفي الدعاء المأثور: أثور اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناءً عليك كما أثنيت على نفسك»، فنحمدك اللهم على نعمك التي لا تعد ولا تحصى، ومن أجلها يا إخواني وأعظمها نعمة العلم، من أجلها على محمد ﷺ نعمة النبوة، ولهذا قال ربه -عز وجل-: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ فنعمة النبوة، ونعمة القرآن نِعَمٌ جليلة على محمد ﷺ، وأنتم تسلكون نهج محمد، فتطلبون العلم، وتعملون وتعلمون من احتاجوا إلى تعليم، وتدعون الناس إلى دين الله -عز وجل-، فهذه من النعم العظيمة التي يحرص المسلم عليها، ويشكر ربه إذ وضعه في هذا الطريق الموصل إليها.
اللهم إنا سألك العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه.
وبهذا ننتهي من الكلام عن قصار المفصل، وهو كلام وجيز على كل حال، وتجدونه في بطون الكتب، وفي كلام العلماء، وما نأخذه وتأخذونه أنتم إنما هي مفاتيح للعلم، تضحون منها على البحور، والبحور إنما هي في كلام الأئمة -رحمهم الله تعالى-.
والمقصود أنَّ ما أُخذ هو مدخلٌ لعلم التفسير، وهو علمٌ جليل عظيم، لا بد أن نرجع إليه، ونعنى به ونهتم به، وفي هذا يا إخوان قد سهل الأمر، وأما فيما مضى فكان يعز على الإنسان أن يجد كتاباً يقرأ فيه.
وقد حدثنا بعض مشايخنا أنه ربما استعار الكتاب لندرته، ونقله بخطه، بينما اليوم ترى كثرة الكتب والأجهزة التي فيها جميع الكتب تقريباً، فلا عذر لنا يا إخوان أن نقصّر مع هذه النعمة، كتاب الله نعمة كبيرة عظيمة، والله يا إخوان هي من أجل نعم الله علينا، بل هي أجل نعم الله علينا هي نعمة الإسلام، ولهذا قال ربنا -عز وجل-: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾، فحمد نفسه على إنزال هذا الكتاب، وقال ﷺ: «ورجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ».
وقال -عز وجل- في أربع آيات نزلت في كتاب الله -عز وجل- اشتملت على معنى واحد، بيّن فيها -عز وجل- الغاية من بعث هذا النبي الكريم، وإنزال هذا الكتاب العظيم، منها: دعوة إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة حينما قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وتأملوا يا إخواني ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ نبيًا منهم، ثم غاية هذا النبي ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ أولا، ثم: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، فذكر التعليم بعد التلاوة، ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، فيعلمهم القرآن ألفاظه ومعانيه، ثم يعلمهم الحكمة، والحكمة تطلق على معان منها السنة، ثم ذكر الثمرة، والثمرة ما هي؟ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي: يسعى في أسباب تزكيتهم، فدلَّ على أن الاهتمام بالقرآن تلاوةً وفهمًا وتدبّرًا وتعلمًا وتعليمًا ودعوةً، هي من أعظم أسباب زكاة النفوس وطهارتها.
وقد ذكر هذا المعنى كما ذكر لكم في أربع آيات، منها هذه الآية، وآية أيضًا في سورة البقرة: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.
وفي سورة آل عمران ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.
وفي سورة الجمعة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾، فالناس في ضلال دون هذا القرآن، إذا هم أهملوه وتركوه وهجروه فليس أمامهم إلا الضلال، فاحرصوا -يا إخواني- يا طلاب العلم على النظر في كتاب الله، وفهمه.
وإياكم ثم إياكم أن تكون قراءتكم قراءة الأميين، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ يعني إلا تلاوة، فكثير منا لا يعلمون من القرآن إلا تلاوة، ويرى أن المطلوب منه مجرد تلاوة كتاب الله -عز وجل-.
فإذا أكمل حفظ كتاب الله انتقل إلى العلوم الأخر، ولعا أكثر كتاب الله لا يفهمه، بل ربما يفهم بعضه خطأ، وهذه مصيبة، وقد ورد عن عَمرو بن مُرة -رحمه الله تعالى- أحد السلف، أنه قال: "إذا مرت بي آية وَأَنا لَا أَعْقِلُهَا حَزِنْتُ؛ لأن الله -عز وجل- يقول: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾، ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ فهو يحزن إذا مرت به آية واحدة من كتاب الله، وهو لا يعقلها، ونحن تمر بنا الآيات والسور وربما لا نعقل ولا نستحضر حتى ولو كان الإنسان يفهم، وهذه مشكلة، وهذه ناتجة عن عدم التدبر، فلو تدبرنا -يا إخواني- لفهمنا وعقلنا وتذكرنا.
ولهذا قال ربنا في آية أشير إليها ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، قال: ﴿لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾
وتأملوا -يا إخوان- كلام ربكم، ما أعظمه وأجزله وأبلغه وأحسنه، كلمة ﴿لِّيَدَّبَّرُوا﴾ تشتمل على ثلاث معان كما ذكر في درس مضى:
تشتمل على القراءة.
تشتمل على الفهم.
تشتمل على التدبر.
ثم الغاية بعد ذلك، ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ التذكر والاعتبار والاتعاظ فيمن قرأ القرآن متدبرا ومتفكرا ومتأملا، والتدبر هو التفكر في الألفاظ للوصول منه إلى المآل.
وقد ذكر الله التدبر في أربع آيات أيضاً:
في هذه الآية، آية (ص)، وفي آية (محمد) ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ما الذي منعهم من التدبر؟ الأقفال التي على قلوبهم ولا قوة إلا بالله.
في قوله -عز وجل-: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ في سورة النساء.
وفي سورة المؤمنون: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ فوبخهم -عز وجل- لأنهم لم يتدبروا القرآن، ولو تدبروه لاهتدوا به إلى الصراط المستقيم.
فعلينا أن نرجع إلى هذا المنهج، وهذا منهج محمد ﷺ وصحبه، ولهذا قال الله له: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾. تأملوا وكان يحرك لسانه ﷺ إذا أقرأه جبريل خوفًا من نسيانه، فقال الله له: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ أي: في صدرك، ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ يعني: قراءته عليك، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ يعني: قرأه جبريل، ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ يعني: إيضاحه، وبيان ألفاظه، وبيان معانيه أيضا.
فكون اللسان يتدبر، يدل على أنه يفهم، وكونه يستشكل يدل على أنه يفهم، وكونه لا يسأل ولا يستشكل ولا يتدبر يدل على أنه إما لا يفهم، أو أنه لا يعبأ ولا يبالي، والأولى مصيبة.
فالله الله بالرجوع إلى هذه الجادة، فهذا الطريق القويم، وصراطه المستقيم، وهذا كتاب رب العالمين، الذي تفضل به وأنعم وجاد وتكرم به عليكم، فاحرصوا على ضبطه -ضبط ألفاظه- وفهم معانيه، وحسن تلاوته.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا وارزقنا علما ينفعنا، اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا الكتاب والحكمة والتأويل، اللهم زدنا علمًا، واهدنا وسددنا، وارزقنا البصيرة في الدين، والإخلاص في القول والعمل.
وفق الله الجمي للخير، وبارك فيكم جميعا ووفقكم، وجزى الله الإخوة القائمين على هذا البرنامج أوفر الجزاء وأعظمه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على حسن ما قدمتم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن مُتابعتكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
5311 7
-
21960 9