الدرس الأول

فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف

إحصائية السلسلة

5357 7
الدرس الأول

تفسير الفاتحة وقصار المفصل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعزاؤُنا المشاهدون، أهلًا وسهلًا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم).
في هذه الحلقة نبدأ مُستعينين بالله في تفسير سورة الفاتحة وقصار المفصل.
أيها الإخوة والأخوات اسمحوا لي أن أرحب باسمي وباسمكم بضيفنا فضيلة الشيخ/ محمد بن عبد الله المعيوف. أهلا وسهلا الشيخ الكريم}.
حياك الله وحيا الله الإخوة والأخوات جميعًا، وفقنا الله جميعًا للخير، ورزقنا وإياهم جميعًا العلم النافع والعمل الصالح والدعوة إليه.
{اللهم آمين.
شيخنا بعد إذنكم نود أن نقرأ في سورة الفاتحة}.
نعم، تفضل.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:1-7])}.
 بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فإنَّ قراءة التفسير والنظر فيه غاية في الأهمية، ولا ينبغي للإنسان أن يتحمل كتاب الله وهو لا يعقل مَعانيه، كيف يتدبره وقد أُمر بتدبره وهو لا يفهمه؟! كان بعض السلف يقول: إذا مَرَّت بي آية من كتاب الله وأنا أعقلها أحزن؛ لأنَّ ربنا -عز وجل- يقول: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت:43].
فالمؤكد على كل مسلم أن يكون له نظرٌ في تفسير كلام الله -عز وجل-، فإنَّ قراءة الألفاظ -كما يقول ابن القيم رحمه الله- وسيلة، والمعاني غاية، قال -عز وجل-: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29]، وقد بيَّنَ تعالى أنه إنما أَنزل هذا القرآن ليدبر الناس آياته، ولم يقل: ليقرأ مجرد قراءة، وذلك أنَّ مَن تدبر قَرأه ولابد، ولكن لا يلزم من قراءة القرآن تدبره، وتدبره لا يكون إلا بفهمه.
وثمرات القرآن العظيمة لا تكون إلا بتدبره، ولهذا قال -عز وجل- بعد أن بيّن الغاية التي من أجلها أُنزل هذا القرآن العظيم: ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ فعطف التذكّر على التدبر، والتذكر هو الاعتبار والاتعاظ، وإنما يكون التذكر ممن حباه الله -سبحانه وتعالى- قلبًا أو ألقى السمع وهو شهيد، كما قال ربنا -عز وجل- ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37].
والتفسير إخواني بما أنَّه سهل هو بيانُ ما تيسَّر من معاني كتاب الله -عز وجل-، وأما الإحاطة بمعاني كتاب الله فلا يمكن لأحد أن يحيط بكلام الله -عز وجل-، إذ كلامه من صفاته، وصفاته تعالى لا يحيط بها أحدٌ من خلقه، لكن المسلم ينظر في معاني كتاب الله ويتأملها ليتبين له شيء من معانيه، فاجتهدوا يا إخوان في الرجوع إلى هذا النهج القويم والطريق المستقيم، وهو نهج محمد والسلف الصالح، فإنَّ الله تعالى لَمَّا أنزل هذا القرآن وبعث هذا النبي الكريم، بيّن الغاية من ذلك في أربع آيات من كتابه، قال تعالى عن إبراهيم إذ دعا لهذه الأمة: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة:129]، قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ والتلاوة نوعان: تلاوة لفظية وهي القراءة المعروفة، وتلاوة حُكمية وهي اتباع ما جاء في كتاب الله -عز وجل-، قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾، أي: يعلمون معانيه، وأحكامه، وحكمه، وأسراره، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ هي "السنة" ثم تكون الثمرة بعد ذلك، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، فتحصل تزكية النفوس وطهارتها وصحة القلوب وسلامتها بكتاب الله -عز وجل- لمن وعاه وَعَقَلَه، وتفكر فيه وتدبره.
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾) قبل أن يقرأ القارئ لا بد أن يتعوذ من الشيطان الرجيم، فإن الشيطان يجلب على المسلم بخيله ورجله، يحاول صده عن كل خير، ومن ذلك تلاوة كتاب الله -عز وجل-، فإن الإنسان إذا غفل عن ذكر الله، وأعظم ذكر الله كتابه؛ تسلّط عليه الشيطان، بل سُلّط عليه الشيطان، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف:36]، فإن هو أَقبلَ على كتاب الله، فإن الشيطان ينخنس ويبتعد عنه، قال : «لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقابِرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الذي تُقْرَأُ فيه سُورَةُ البَقَرَةِ»[1].
(أعوذ) أي: ألتجئ وأعتصم بالله -عز وجل- من الشيطان الرجيم.
(أعوذ بالله) لفظ الجلالة (الله) معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وهو اسم عظيم، حتى قيل: إنه هو الاسم الأعظم، ولهذا لم يرد في القرآن إلا موصوفًا، أي: لم يرد صفةً أبدًا.
وأمَّا قوله -عز وجل- في أول سورة إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [إبراهيم:1-2]، ولفظ الجلالة هنا ليس صفة للعزيز الحميد، يعني: لهذين الاسمين، وإنما هو بدل، والبدل هو الاسم المقصود بالحكم.
(من الشيطان الرجيم) الشيطان مأخوذ من شَطن بمعنى: بَعُدَ، فالشيطان مُبعدٌ مَطرودٌ عن رحمة الله، بعيد عن كل خير.
و (رجيم) بمعنى مرجوم، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:98]، ويكون التعوذ في أول السورة وفي وسطها.
(بسم الله الرحمن الرحيم) الباء في (بسم) حرف جر، والاسم هنا مجرور بالباء، وهما متعلقان بمقدر مؤخر، والتقدير باسم الله أقرأ، وإنما قُدّم نسمه هنا تيمنًا وتبركًا بذكر اسم الله -عز وجل- أولًا، ولإفادة الاختصاص أني لا أبدأ بأي عمل إلا مستعينًا باسم الله -عز وجل-.
والاسم هنا يشمل كل اسم من أسماء الله -عز وجل-؛ لأنه مضاف، والقاعدة في اللغة والتفسير أنَّ الإضافة تفيد العموم، فأنا أستعين بكل اسم من أسماء الله -عز وجل-.
(الرحمن الرحيم) الرحمن والرحيم اسمان كريمان عظيمان من أسماء الله -عز وجل-، وإذا اجتمعا فالمراد بالرحمة في اسم الرحمن وصفه، والمراد بالرحمة في اسم الرحيم فعله.
فالرحمن من حيث تعلق الرحمة به سبحانه وبحمده، والرحيم من حيث صلتها بخلقه، وأمَّا إذا انفردا، فكل واحد منهما يدل على الأمرين، الوصف والفعل.
والبسملة آية من كتاب الله قطعا، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل:30]، ولكن هل هي آية من كل سورة؟ أم هي آية نزلة في الفصل بين السور؟
قولان عند أهل العلم، والمشهور أنها آية نزلة للفصل بين السور، وقد روي عن ابن عباس أن النبي كان لا يعلم بتمام السورة حتى يُفصل بينهما بالبسملة.
وهل هي آية من سورة الفاتحة؟
أيضًا خلاف مشهور بين أهل العلم، والذي يظهر أنها ليست آيةً من سورة الفاتحة، بدليل أحاديث وردت عن النبي ذُكرت فيها السورة دون أن تُذكر معها البسملة، مثل: حديث أبي سعيد بن المعلى أنّ النبيّ قال له: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ» ثم قال: «(الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»[2] قال هنا: الحمد لله ولم يقل: بسم الله الرحمن الرحيم.
وفي حديث أبي هريرة المخرج عند مسلم أنَّ النبي قال: «مَن صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فيها بأُمِّ القُرْآنِ فَهي خِداجٌ ثَلاثًا غَيْرُ تَمامٍ» يعني: ناقصة غير تامة. فقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّا نَكُونُ وراءَ الإمامِ؟ فقالَ: اقْرَأْ بها في نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ يقولُ: «قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿مالِكِ يَومِ الدِّينِ﴾، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فإذا قالَ: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ﴾ قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ»[3].
إذًا قوله: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي: نعبد الله -عز وجل-، هذا النصف الأول، والنصف الثاني من قوله: ﴿وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ للعبد، والمقصود أنَّ النبي لم يذكر البسملة في هذين الحديثين مما يدل على أنَّ البسملة ليست آية من الفاتحة.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الحمد هو وصفه -سبحانه وتعالى- بالثناء عليه، ووصفه بالكمال في ذاته، وفي أسمائه صفاته، وفي أفعاله، مع المحبة التعظيم له، و (ال) الداخلة على الحمد للاستغراق، يعني: كل الحمد له سبحانه وبحمده.
ولفظ الجلالة (الله) تقدم الكلام عنه، وأنَّ المعنى ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
وقوله -عز وجل-: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فهو ربهم خالقهم ومالقهم ومربيهم بالنعم سبحانه وبحمده، وربوبيته لخلقه نوعان: ربوبيه عامة لكل الخلق، بالملك والتدبير والرزق، وربوبية خاصة لأنبيائه وأتباع أنبيائه، وهي ربوبية بما تقدم من الملك والخلق والتدبير، وأيضا بالتوفيق لكل خير، والحفظ من كل شر.
(الْعَالَمِينَ) جمع عالم وهو كل ما سوى الله -عز وجل- من العقلاء وغيرهم، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ [الشعراء:22-23]، وسمي العالَم عَالَمًا؛ لأنه عَلَمٌ على مُوجده وخالقه سبحانه وبحمده.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسمان جليلان سبق الكلام عنهما، وأنَّ اسم الرحمن باعتبار اتصافه بالرحمة -سبحانه وبحمده- فهو ذو الرحمة الواسعة، التي شملت الخلق أجمعين.
والرحمة أيضًا عامة وخاصة، أمَّا الرحمة العامة فهي الرحمة بالخلق أجمعين، كما قال -عز وجل-: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة:143].
والرحمة الخاصة هي الرحمة الواصلة لعباده، وتؤخذ من اسم الرحيم، وهي رحمة بعباده خاصة بهم كما قال: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:43].
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وفي قراءة {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وكلاهما قراءة سبعية، فهو تعالى ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، ويوم الدين هو يوم الجزاء، يوم يدان الناس في أعمالهم، ويحاسبون عليها، وهو -سبحانه وتعالى- مالك يوم الدين وغيره، إلا أن مُلكه يوم الدين لا يَشركه فيه أحد بحال، ففي الدنيا كل يملك ما تحت يده، ولكن يوم القيامة لا أحد يملك شيئًا، وكل الخلق بين يديه مملوكون، وهو المالك وحده، كما قال -عز وجل-: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر:15-16].
وهذه الآية اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الألوهية في لفظ الجلالة ﴿لله﴾، وبعدها أيضًا في قوله: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
وتوحيد الربوية في قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وتوحيد الأسماء والصفات في قوله -عز وجل: ﴿الْحَمْدُ﴾ إذ هو تعالى يُحمد على كمال صفاته، وعلى ما يتفضل به على عباده من نعمه وآلائه.
ثم قال -عز وجل-: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فقدَّم المعبود هنا ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لإفادة الحصر، فهو المعبود وحده، وهو المستعان وحده سبحانه وبحمده.
وقَدَّمَ العبادة على الاستعانة؛ لأن العبادة غاية، والاستعانة وسيلة إليها، والعبادة بمعناها العام: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وهي بالمعنى الخاص: اسم يجمع كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل والخضوع ونهايته، فبالمحبّة يحصل فعل المأمور وبالذلّ والخضوع يحصل ترك المحظور.
ثم قال: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينَ﴾ أَي: نَسْتَعِينُ بِكَ ولا نَسْتَعِينُ بغَيْرِكَ، والاستعانة هي طلب العون من الله -سبحانه وتعالى- في جلب نفغٍ أو دفع ضرٍ مع الثقة به -سبحانه وبحمده-.
والاستعانة عظيمة حتى قال الشيخ الإسلام -رحمه الله- تأملت في أنفع الدعاء فوجدته سؤالَ الله العون على مَرضاته، ووجدت ذلك في القرآن في قوله: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فكانت العبادة نصفًا والاستعانة نصفًا.
وفي ذكر العبادة إشارة إلى إخلاص العمل لله -عز وجل- فنحن نعبدك تعالى مخلصين له الدين لا نعبد سواء، وفي ذكر الاستعانة البراءة من الحول ومن الطول.
وفيه إشارة إلى أنَّ الإنسان لا بد وأن يستعين بربه -عز وجل- في كل حركاته وسكناته، فإن لم يُعنه الله -عز وجل- لا يستطيع أن يعملَ شيئًا.
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
تجني عليه نفسه، واجتهاده يعود وبالاً عليه، إذا لم يكن عونٌ من الله -سبحانه وتعالى- له.
وفي قوله في أول السورة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إخبارٌ منه -سبحانه وتعالى- عن حمده وثنائه وفي ضمنه الأمر بحمده -سبحانه وتعالى-، والثناء عليه على ما يجود به من الإنعام والإفضال.
وفي قوله: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وصلته بالآيات التي قبلها، فقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فهو رب العالمين، وهو الرحمن الرحيم، وهو مالك يوم الدين. وقوله: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ضمير خطاب، ففيه التفات كما يسميه علماء البلاغة من الغيبة إلى الخطاب، وفيه إشعارٌ وإشارةٌ إلى قرب العبد من ربه -سبحانه وبحمده-، فإنَّ العبد كلما تعبد لله كلما ازداد قُربًا منه، وفي الحديث يقول: : «أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ»[4].
ثم قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ إخواني هذه هي أعظم صورة في كتاب الله كما مر بنا في حديث أبي سعيد بن المعلا، وقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ قَالَ ابن القيم -رحمه الله: هَذِه أَعْظَمُ دَعْوَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ -عز وجل-، فالدعوات في القرآن كثيرة، وهذه الدعوة كما يقول -رحمه الله-: هي أعظمها، لأنَّ فيها طلب الهداية من رب الكريم إلى الصراط المستقيم، المتضمن للإعانة على كل عمل خير، والبعد عن كل شر.
﴿اهْدِنَا﴾ الهداية نوعان، هداية الدلالة والبيان، وهذه لربنا -عز وجل-، وللمخلوق منها نصيب، قال تعالى لنبييه : ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى:52].
الهداية الثانية: هداية التوفيق والإلهاء، وهذه ليست لأحد إلا لله -عز وجل-، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص:56]، وقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:272]، فقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يعني: دُلّنا وأرشدنا ووفقنا وألهمنا لسلوك هذا الصراط المستقيم، وأعنَّا على شعبه وفروعه، وافتح علينا من الخيرات، وأنعم علينا من البركات في هذا الصراط المستقيم، ما يكون وسيلة وسببًا للفوز بدار النعيم، وعبور الصراط يوم القيامة، وهذا صراط مستقيم لا ... إليه، وإلى جانب هذا الصراط طرق عن يمينه وشماله، وقد رد عنه أنه خطَّ خطًا مُستقيمًا فقال: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا»، وَخَطَّ إلى جنبه خطوطًا صغارًا عن يمينه وشماله وقال: «هَذِه السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبيلٌ إِلَّا عَلَيهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيِهِ».
والإنسان في طريق بين طرق، واحتمال أن تزل القدم عياذًا بالله وارد ما لم يحفظه ربنا -عز وجل-، ولهذا هو يدعو بهذه الدعوة في اليوم سبع عشرة مرة في الفرائض فقط، وفي النوافل أيضًا يدعو بها، فكون هذه الصورة وهذه الدعوة يُدعى بها في كل يوم وبهذا القدر، يدل على عظمة السورة، وعظمة الدعوة، وأنَّ العبد الفقير ما يزال مُضطرًا فقيرًا لربه -عز وجل- أن يهديه، وأن يُثبته على الصراط المستقيم.
لسائل أن يسأل فيقول: ما دام أنَّ المسلم مُهتديًا ولله الحمد، وقد جاء يُصلي فكيف يردده هذه الدعوة؟
نقول: نعم يرددها؛ لأنه بحاجة إلى تثبيت ربه على هذا الصراط المستقيم، أن يثبته وأن لا يزيغ قلبه وألا تزل قدمه.
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وهذا الصراط المستقيم يجمع وصفين عظيمين هما: العلم النافع، والعمل الصالح، عمل صالح ثمرة لعلم نافع، فمن جمع الوصفين ومَنَّ الله تعالى عليه بالوصفين، فهذا هو الصراط المستقيم، ولهذا قال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾؛ دلَّ على أنَّ الهداية نعمته -سبحانه وتعالى-، حتى على أكرم الخلق وهم أنبياؤه ورسوله.
والمُنْعَمُ عليهم هم المذكرون في قوله -عز وجل-: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69) ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء:69-70]. اللهم جعلنا جميعًا معهم.
هؤلاء المُنعم عليهم، وهذا صراطهم المتضمن للأمرين المذكورين العلم النافع والعمل الصالح.
ثم ذكر مثلين لمن حادَّ عن هذا الصراط المستقيم، فقال:
 ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، وقد سأل عدي بن حاتم -قبل أن يُسلم وكان نصرانيًا- سأل النبي عن هذه الآية، فقال: «المغضوب عليهم هم اليهود، والنصارى هم الضالون».
لماذا كان اليهود مغضوبًا عليهم؟ لأن اليهود عندهم علم، ولكن ليس عندهم عمل، ولذا قال العلماء: مَن ضَلَّ من علمائنا فله شبه باليهود، ومن ضلّ من عوامنا فله شبه بالنصارى، فمن ضلّ من علمائنا -لديه علم- ولكن ولا قوة إلا بالله، فهو لم يُفِد ولم يستفد ولم ينتفع بعلمه، فله شبه باليهود الذين عندهم علم وليس عندهم عمل.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ أي: غير سبيل الضالين، والضالون -كَمَا ذُكِرَ- هم النصارى، وكلا الفريقين جمع بين الأمرين، ولكن السمة الظاهرة لليهود هي: الغضب، والسمة الظاهرة للنصارى هي: الضلال.
وهذه سورة عظيمة، هي أم الكتاب، هي أم القرآن، وإنما وصفت بهذا الوصف؛ لأن مُجمل ما في كتاب الله مذكور فيها، ففيها الحمد والثناء لله -عزَّ وجلَّ-، وفيها أنواع التوحيد الثلاثة كما ذُكِرْ، وفيها ذكر يوم الجزاء والحساب، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
وفيها ذكر العبادة مُجملة، ثم ذكر نوعين منها، وفيها الإشارة إلى نبوة الأنبياء، ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾.
وفيها إشارة أيضًا إلى أصول طوائف الضلال، فمجمل ما في القرآن مذكور في هذه السورة.
{أحسن الله إليكم.
(بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [الناس:1-6].
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق:1-5])
}.
هاتان سورتان جليلتان عظيمتان، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر الجهني أنَّ النبي قال له: «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟! ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، وَ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾»[5].
وورد أنه كان يستعيذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت السورتان فأخذ بهما وترك ما سواهما.
سورة الفلق فيها السعادة من العدو الظاهر، ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾.
وسورة الناس فيها الإشارة إلى التعوذ من العدو الباطن، ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾.
قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ وهنا سؤال يا إخوان، وهو أن الله -سبحانه وتعالى- أمر محمدًا أن يقول القرآن كله للناس، فما المعنى أن يَرِدَ الأمر له أن يقول آياتٍ أو سورًا خاصة، وهذا في القرآن كثير، يأمر الله نبيه أن يقول: قل، مثل: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، والآيات في هذا كثيرة، والجواب عن هذا أن تصير هذه الآيات أو هذه السور بأمر النبي أن يقولها للناس بخاصة دليل على أهميتها، والعناية بها، وإلا فالقرآن كله كما ذُكِر، أُمر النبي أن يقرأه للناس وأن يقوله لهم.
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ أي: أعوذ وألتجئ وأعتصم كَمَا مر.
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ﴾ أُمِر أن يتعوذ برب الناس، وهو ملك الناس، وهو إله الناس، وفي الآية -يا إخواني- ترقّ فهو تعالى رب الناس، وربوبيته قد تطلق على غير الرب -سبحانه وتعالى-، فقد تطلق على آحاد الناس فيقال: رب الدّار، ورب الدّابة، وما أشبه ذلك.
ثم ترقى إلى ما هو أعلى فقال: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ ولا يكون في الناس ملكًا إلا القليل، ثم ترقى إلى ما هو أعلى وأعظم، فقال: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ ولا يكون إلهًا أبدًا إلا الله -عز وجل-.
وفي الآية أيضًا استدلال بتوحيد الربوية على توحيد الألوية، وهذه مسألة ترد في القرآن كثيرًا، فإن المشركين في الجاهلية كانوا مُقرين بتوحيد الربوية فيقولون: ﴿أجَعَلَ الآلهة إلهاً واحداً﴾، وهذا من تناقضهم وصغر عقولهم، وإلا فالتوحيدان متلازمان، فمن أقرَّ بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية، حيث تقر بأن الله هو الخالق، هو الرازق، هو المالك، هو المدبر، فيلزمك أن تعبده وحده -سبحانه وبحمده- فهو تعالى رب الناس، وملك الناس. إذن يجب أن تُؤلهه وحده، وأن تعبده وحده دونما سواه.
ثم قال: ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ ما الفرق بين الوَسواس، والوِسواس بالكسر؟ الوِسواس بالكسر هو الوسوسة التي تحدث في الصدر، والوَسواس بالفتح هو الشيطان، فهذا الشيطان يوسوس في صدور الناس، فوصفه ربنا بأنه الخناس، يخنس ويتأخر، ولكن متى يتأخر؟
يتأخر إذا ذُكِرَ الله -عزَّ وجلَّ-، قال ابن عباس: "الشَّيطانُ جاثمٌ على قلبِ ابنِ آدمَ؛ فإذا ذَكَرَ اللَّهَ خنسَ، وإذا غفلَ وَسوَسَ"[6] والوسوسة هي الخطرات والنزغات التي يَقذف بها، وقد قال : «ما مِنكُم مِن أحَدٍ، إلَّا وقدْ وُكِّلَ به قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ، قالوا: وإيَّاكَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: وإيَّايَ، إلَّا أنَّ اللَّهَ أعانَنِي عليه فأسْلَمَ»[7].
وقال وقد خرج من المسجد وهو معتكف ومعه صفية، ذهب معها إلى بيتها ومر به رجلان من خيار الأنصار، وهما أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ، وعَبَّادُ بنُ بشْرٍ -رضي الله عنهما- فأسرعا حياء من النبي ، فقال : «علَى رِسْلِكُمَا إنَّها صفيَّةُ بنتُ حييٍّ» قالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ! قالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يجري منَ الإنسانِ مجرَى الدَّمِ، فخشيتُ أن يَقذفَ في قلوبِكما شيئًا» أو قال: «شرًا»[8].
وفي الصحيح من حديث أبي العاص بن أبي العاص -رضي الله عنه- قال: "إنَّ الشَّيْطَانَ قدْ حَالَ بَيْنِي وبيْنَ صَلَاتي وَقِرَاءَتي؛ يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقالَ رَسولُ اللهِ : «ذَاكَ شيطَانٌ يُقَالُ له خِنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ باللَّهِ منه، وَاتْفِلْ علَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا» قالَ: فَفَعَلْتُ ذلكَ، فأذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي"[9].
والمقصود أنَّ الشيطان لَمَّا لُعِنَ وطُرِد من الجنة، أقسم بعزة الله -عز وجل- أن يُغوي الناس أجمعين، إلا من عصمه الله -عز وجل-، قال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، قال الله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر:42].
﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ من فضل الله ولطفه أنه لم يوسوس في القلوب نفسها، وإنما على الصدر يحوم حول القلب، فيحفظ الله تعالى قلب عبده بذكره له، وتعوذه من الشيطان.
الوسوسة محلها الصدر، فهو يُوسوس في صدور الناس، ولا أحد يسلم من وساوسه.
ومن نفضل الله أن هذه الوسواس ما دامت في الصدر، فإنها لا تؤثر على صاحبه، قال الصحابة للنبي : "إنَّ أحدَنا يجدُ الشيء في نفسِه، يعرضُ بالشيء، لأن يكونُ حممةٌ" يعني: فحمة، أحبَّ إليه من أن يتكلَّم به، فقال: «أو قد وجدتموه؟» قالوا: نعم! قال: «ذاك صريحُ الإيمانِ»[10]، صريح الإيمان كونهم يجدون هذا الشيء ولكنهم يكتمونه، لأنه يوجد من الناس -عياذا بالله- من يتكلم بكل ما يقذفه الشيطان في روعه، فما يكون في قلبه يتكلم به بلسانه، ولكن المسلم يعصم لسانه، ويحفظ نفسه من نزغات الشيطان ووساوسه.
﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ وهذا الموسوس إمَّا أن يكون من الجنة -من الجن- كما ذُكر في الأحاديث، وإما أن يكون من الناس، فإن في الناس وفي الإنس شياطين كما في الجن، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام:112]، تأملوا كيف ذكر الشياطين الإنس قبل شياطين الجن، ففي الإنس شياطين، وضرهم وشرهم -لا شك- على الإنسان خطير، فالمسلم يتعوذ من الوساوس التي يقذف بها شيطان الإنسي أو شيطان الجن. فكيف بمثل هذه الوساوس؟ والتي كما ذكرت ما يسلم منها أحد.
وعلاجها أولًا بالتعوذ بالله منها كما في هذه السورة، يتعوذ الإنسان من وساوس الشيطان، وإن كان هذا الشيطان من الإنس، فمع التعوذ بالله منه يبتعدوا عنه وعن مجالسه، وعن سماع قيلهم وحواراتهم وكلامهم وهي كثيرة في هذه الأزمنة، قد قال ربنا -عز وجل-: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾، وفي هذه الآية إحالة إلى آية أخرى مع أن الإحالات في القرآن قليلة، ولكن لأهمية الموضوع يحيل ربنا هذه الآية وهي مدنية على آية نزلت قبلها في سورة الأنعام وهي مكية، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، فإذا نسيت وجلست معهم، وسمعت شيئًا من كلامهم ثم تذكرت فقل وداعًا، ولا تعرف قلبك على وساوس الناس ونزغات الشياطين -شياطين الإنس والجن-.
الأمر الثاني: مع التعوذ، يتعوذ الإنسان منه، ويتفل عن يساره أيضا كما أمر النبي بذلك عثمان بن أبي العاص.
الأمر الثاني: ذكر الله -عز وجل-، وأعظمه تلاوة القرآن، كما أشرنا إلى ذلك في قوله : «إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الذي تُقْرَأُ فيه سُورَةُ البَقَرَةِ»[11].
وفي الحديث المخرج في الصحيح: «إذا نُودِيَ بالأذانِ أدْبَرَ الشَّيْطانُ له ضُراطٌ»، حتَّى لا يَسْمع الأذانَ، يهرب من الأذان، يطرده الأذان، «فإذا قُضِيَ الأذانُ أقْبَلَ، فإذا ثُوِّبَ» وثوب يعني: أقيم للصلاة، «أدْبَرَ»، ثم قال: «فإذا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أقْبَلَ يَخْطُرُ بيْنَ المَرْءِ ونَفْسِهِ يقولُ: اذْكُرْ كَذا، اذْكُرْ كَذا، لِما لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى»، وهذا أمر نسأل الله العصمة والإعانة في التخلص منه.
وقد سمعت مرة في إذاعة القرآن الكريم في برنامج "كيف أسلمت؟" رجل أسلم من بعض الجنسيات الأسيوية، ويحكي قصة الإسلام ويقول: إني أعمل في المملكة منذ سبع سنين، ولم يعرض عليَّ أحد الإسلام، وكان يعمل خارج البلد، يقول عنه نفسه: وكان يتعاطى الشعوذة، فإذا جاء الأذان هربوا، فأسألهم لماذا تهربون؟ فلا يجبونني.
وفي يوم من الأيام دخلت الرياض فسمعت الأذان وأنا لا أعرفه، فقلت ما هذا؟ قالوا: الأذان. قلت ما معنى الأذان؟ قالوا: النداء للصلاة! قال: كان هذا أول سبب في دخولي هذا الدين، فكون الأذان يطرد الشياطين، فإذا كان الأذان يطرد، فما بالك بكلام رب العالمين!
ولهذا يتأكد أن تكون بيوتنا معمورة بذكر الله -عز وجل- وبقراءة القرآن، حتى إن قرأ الإنسان بنفسه فما أحسن هذا، وإن قرأ بجهاز فلا بأس، والمقصود أن لا تخلو البيوت من كلام الله -عز وجل-، وأن لا تكون بيوتنا مكانًا للهو والمنكرات، للأمور التي تدعو الشياطين، ولا قوة إلا بالله.
الأمر الثالث والأخير: ينتهي الإنسان عن هذه الوساوس، وهذا من الأسباب الكبيرة، قال : «يَأْتي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَن خَلَقَ كَذا وكَذا؟ حتَّى يَقُولَ له: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فإذا بَلَغَ ذلكَ، فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ» أي: ليقف وينتهي، فهي سلسلة إذا وقف عنها إنسان انقطعت، وإذا استمر معها حلقاتها يأخذ بعضها ببعض، ويترك مثل هذه الأفكار الرديئة، ويتشاغل بأمور أخرى، وبأمور يفكر بها غير هذه الأمور، فتذهب عنه مثل هذه الأفكار، ومثل هذه الخطرات الرديئة.
سورة الفلق. بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿قل﴾ أي: يا محمد، ﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ أي: ألتجئ وأعتصم ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، والفلق هو كل شيء فلقه الله -سبحانه وتعالى-، كفلق الصبح، وانفلاق الحب والنوى، كما قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾، وقال: ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾ انفلاق الأرض عن النبات، انفلاق السحاب عن المطر، وما أشبه ذلك.
﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ قَالُواْ: أي مِن شَرِّ كل مخلوق قام فيه الشر كائنًا من كان، سواء كان إنسانا أو حيوانًا، وهذا تعميم.
ثم يأتي بعده تخصيص ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب﴾ والغاسق هو الليل، وإذا وقب يعني: إذا أظلم وخيّم بسواده، ومنه القمر إذا وقب أيضًا، وقد أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِ عائشة، وَأَشَارَ إِلَى الْقَمَرِ، وَقَالَ: «اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ»[12]، أي إذا أظلم، وهذا داخل في معنى الأول، فإن القمر آية من آيات الليل، والليل تكون في الشرور، قال في الحديث الصحيح: «إذا كانَ جُنْحُ اللَّيْلِ فَكُفُّوا صِبْيانَكُمْ؛ فإنَّ الشَّياطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فإذا ذَهَبَ ساعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخلُّوهُمْ» يعني: قبيل غروب الشمس، أو مع غروب الشمس، ينبغي كفُّ الصبيان عن اللعب والصياح، وإذا مضت ساعة قال : «فَخلُّوهُمْ»، لأن الشياطين تنتشر في هذه اللحظات.
والمقصود أن الليل مكان الشرور، وبه تخرج الهوام والسباع، فيستعيذ المسلم بربه من شر الليل وما يكون فيه.
﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ النفاثات هي: السواحر، فهي تنفث في العقد، تعقد العقد وتنفث فيها، وإذا تعوذ الإنسان من شرها سواء كنّ إناثًا أو كانوا ذكورًا، فإن الله -سبحانه وتعالى- يحفظ العبد من شرها.
﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ وفيه دليل على أنّ للسّحر حقيقة، وذهب بعضهم إلى أن السحر كله خيالٌ، وصحيح المفهوم من كلام الله -عز وجل- وسنة رسوله أنَّ من السحر ما هو حقيقة، ومنه ما هو خيال، وهذه الآية دليل على أن له حقيقة، بدليل التعوذ منه.
ومن الأدلة على ذلك، قوله -عز وجل-: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾، وهذا يدل على أنه قد يؤدي إلى التفكيك بين الزوجين، وهذا لا شك يدل على أنَّ له حقيقة، وبعضه يكون مجرد خيال، كما قال -عزوجل- ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ فسحر سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له.
﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ أيضًا كل هذا تخصيصٌ بعد التعميم، أين التعميم؟ التعميم قوله: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾، وما جاء بعده التخصيص، وكونه يذكر بخاصة مع دخوله في العام يدل على أهمية التعوذ، فيتعوذ من شر الحاسد إذا حسده، سواء حسد بقوله، أو حسد بفعله، أو حسد بعينه.
والحسد تمني زوال النعمة عن الغير، وقد يتمنّاها وإن لم تأت إليه، وهذا أشره، ولا قوة إلا بالله، وقد يتمنى زوالها لتأتي إليه، وهذا كسابقه، ولا شك أنه شر، وقد يتمنى مثلها، وهذه غبطة وهي جائزة، قال : «لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، ورجلٌ آتاه اللهُ مالًا فهو ينفقُ منه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ»[13]، وفي رواية: «رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها»، فهذه غبطة لا بأس بها، ولو أنَّ الأولى والأكمل أن يفعل الإنسان الأسباب لنيل ما يريده من الخير ولا ينظر إلى الناس وما عندهم، وأن يسأل الله من فضله، كما قال -عزوجل-: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾، فبين أن للرجل كسبه وللمرأة كسبها، ففيه حث على الكسب لا مجرد التمني فقط.
ثم حضهم وحثهم على سؤال ربهم من واسع فضله سبحانه وبحمده، فهاتان الصورتان عظيمتان في التعوذ من كل الشرور، فينبغي النظر فيهما وتأملهما، وفهم معانيهما، وقرأتهما مع سورة الإخلاص في بعض المواطن.
فالحاسد -يا إخوان- وأختم الكلام بهذا، يُعَرِّضُ نفسه للآثام، وقد روي في حديث أن النبي قال: «إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ»[14]، وقال : «ولا تَحاسَدُوا».
وأيضا فيه سوء أدب مع الله -عز وجل- واعتراض على قضاء الله تعالى وقدره، فهو أنعم على هذا الإنسان، فلماذا تحسده على نعمة أنعمها الله -سبحانه وتعالى- عليه.
وفيه أيضا ما يكون فيه الحاسد عياذًا بالله من الكبد والنكد والضيق والله المستعان.
كفاكم الله وكفانا جميعا الشرور كلها، ظاهرها وباطنها، وحفظكم ووقاكم من كل مكروه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{إذن نصل بهذا الحد إلى ختام حلقة اليوم، شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأفدتم، ونستكمل وإياكم حلقات التفسير في حلقات قادمة -بإذن الله تعالى-.
والشكر موصول إليكم أيضا -أيها الإخوة والأخوات- نلقاكم في حلقات قادمة بمشيئة الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] أخرجه مسلم (780).
[2] رواه البخاري (4474).
[3] رواه مسلم (395).
[4] أخرجه مسلم (482).
[5] رواه مسلم (814).
[6] أخرجه ابن أبي شيبة (34774)، وأبو داود في ﴿الزهد﴾ (337)، والطبري في ﴿جامع البيان﴾ (24/ 754).
[7] رواه مسلم (2814).
[8] رواه البخاري (3101).
[9] رواه مسلم (2203).
[10] أخرجه مسلم (132).
[11] رواه مسلم (780).
[12] أخرجه الترمذي (3366)، وأحمد (25844).
[13] أخرجه البخاري (5025)، ومسلم (815).
[14] أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك