الدرس الرابع

فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله المعيوف

إحصائية السلسلة

5311 7
الدرس الرابع

تفسير الفاتحة وقصار المفصل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات أهلًا ومرحبًا بكم في حلقة جديدة نستكمل فيها تفسير قصار المفصل مع ضيفنا فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله المعيوف. حياكم الله فضيلة الشيخ}.
مرحبا حيّاكم الله، أهلًا وسهلًا بك وبالإخوة المتابعين، حياكم الله جميعًا.
{نستأذنكم شيخ في بدء القراءة}.
تفضل.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم (﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، تسليمًا كثيرًا، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلِّمنا ما ينفعنا وزدنا ورزقنا علما ينفعنا.
أما بعد؛ إخواني في درس الماضي كان الحديث عن جملة من السور -من سورة الماعون إلى نهاية سورة العصر- وفي سورة الماعون ذكر الله -سبحانه وتعالى- المكذب بالدين، ووصفه بأنه لا خير فيه، فلا إخلاص في عبادته للخالق، ولا إحسان للمخلوقين، ثم ذكر -عز وجل- في سورة قريش ما امتنَّ به عليهم، حيث تفضل عليهم بالائتلاف والاجتماع في رحلتهم التي كانت في الشتاء الى اليمن وفي الصيف إلى الشام، وامتنَّ عليهم بأن أمنهم من الخوف وأطعمهم من الجوع، فكان المفترض إزاء هذا أن يعبدوا الله -عز وجل- و لا يشركوا به شيئًا خلاف ما حصل منهم من معاندة الحق ومعاداة المصطفى وما جاء به.
ثم في سورة الفيل ذكر -عز وجل- ما فعل بأصحاب الفيل أبرهة الأشرم وجنده حيث جاءوا إلى مكة بقصد هدم بيته العتيق، فأرسل الله عليهم طيرًا أبابيل فكانوا كزرعٍ تهشَّم وتكسَّر، ودفع الله عن بيته وردَّ كيد الكائد في نحره فعاد خائبًا خاسرًا، وهلكهم الله -عز وجل-.
ثم في سورة الهمزة ذكر -عز وجل- ذلك الهمَّاز اللمَاز الطعَّان العيَّاب والذي همته مع طعنه في الناس وأعراضهم وجمع ماله وإحصاؤه والحرص على كثرته، وبين -عز وجل- أن ماله لا يغني عنه ومن الله شيئًا وأن مآله إلى الحُطمة التي تحرق بدنَه، وتطلع على فؤاده فينال منها أشد العذاب.
ثم في سورة العصر بيّن -عز وجل- أن الخلق كلهم في خسار إلا من اتَّصف بأربع صفات:
الأولى: الإيمان، آمنوا بقلوبهم.
والثاني: صدّقوا بجوارهم بالأعمال الصالحة، وصدّقوا إيمانهم بطاعتهم لله تعالى، ثم لم يقتصروا بهذا الأمر على أنفسهم، بل أوصى بعضهم بعضًا بالحق وبالصبر عليه؛ فدلت السورة على جملة مسائل يتأكَّد على كل مسلم أن يعلمها وهي: العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إليه والصبر على ما يلقى الإنسان من نصبٍ وأذى فيه.
ثم في سورة التكاثر يقول ربنا -عز وجل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، لم يذكُر الله تعالى في هذه السورة التكاثر الذي ألهى الناس وأشغلهم، فعدم ذكره يدلُّ على شموله وعمومه، فكل تكاثر يُلهي ويصدُّ عن سبيل الله -عز وجل- فهو مذموم.
وهذه الآية وإن كانت صورتها صورة الخبر إلا أن المراد بها النهي، نهي المسلم أن يلهيه التشاغل بحطام الدنيا والاشتغال بها عما هو أهم وأعظم.
ثم إن اللهو -يا إخواني- يكون في القلب، والقلب أعظم ما في الإنسان، فإذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، قال تعالى: ﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنبياء: 3] وإذا لَهَا الإنسان بشيء فتبدأ أن يلهو عن شيء آخر، فإذا لها بالدنيا لها عن الآخرة، وإذا لها عن ذكر الله -عز وجل- فلا بد أن يتشاغل بما لا يعود عليه بالنفع ولا بالفائدة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون: 9]، وقال -عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20]، والشاهد في قوله: ﴿وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ ففيه تفسير للتكاثر المذكور في هذه السورة.
وقال -عز وجل: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: 37].
قوله: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾، يعني امتدّ هذا اللهو فيهم واستمر حتى زاروا المقابر، وإنما زيارتاها بالموت، وفيه إشارة إلى قصر عمر الدنيا، وأن حياة الإنسان فيها معدودة بالليالي والأيام، وأن الإنسان سائر فيها لا محالة إلى مآله ومصيره الذي ينتظروه.
وتأملوا -يا إخواني- كيف ذكر ربنا -عز وجل- المقابر بلفظ الزيارة؛ إشارة إلى أن مَن كان في المقبرة فهو بمثابة الزائر، يقول عمر بن عبد العزيز بن ميمون بن مهران -رحمهم الله تعالى أجمعين- قال: "ما المقابر إلا زيارة ولا بد للزائر أن يرجع إلى منزله، ومنزله إما الجنة -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها- وإما النار -أعاذنا الله وإياكم منها".
وسمع أعرابي هذه السورة فقال: "بعث اليوم وربّ الكعبة" إشارة إلى أنه زائر، والزائر لا يقيم طويلًا.
وفي الآية تذكيرٌ للمآلِ وتذكيرٌ للقبر وحضٌّ وترغيبٌ للاستعداد للنقلة التي لا بد منها.
قال: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، كلمة "كلا" يكثر ورُودها في النصف الأخير من القرآن وفي جزء عم يكثر ورودها بخاصة، إذ الخطاب في مجمل السور مع قوم المشركين، وهذه كلمة تفيد التوبيخ والرَّدع والزَّجر، وقد يكون المراد بها باين الحقيقة، لكنها لا شك أنها للزجر والردع والتوبيخ.
قال: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي ما يحل بكم، وحُذف المفعول به هنا، وحَذفُ المتعلق في التفسير يدلُّ على العموم، أي: سوف تعلمون ما يحل بكم وما ينتظركم من النَّكال.
وفيه تهويل وبيان لهولِ الموقفِ وشدته. ثم أكَّد ربنا -عز وجل- هذا المعنى بقوله: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ مرة أخرى، والتوكيد أيضًا يدل على أهمية الأمر وشدَّته، والتهويل والتشديد في شأنه.
قال: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾، أي: كلا لو تعلمون عاقبة أمركم وتعلمون علم اليقين.
وهنا يا إخوان وقفتان:
الوقفة الأولى: قوله ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ﴾ فـ "لو" هنا أداة شرط غير جازمة، فأين جوابها؟ جوابها يُفهم من السياق السابق، والمعنى: كلا لو تعلمون علم اليقين لما ألهاكم التكاثر، فلو بلغ العلم بكم اليقين ما شُغلتم بالدنيا، ولا أشغلكم التكاثر في حطامها، وأنتم تعلمون فعلها بأهلها.
والعلم ثلاث درجات، ذكر الله -سبحانه وتعالى- منه نوعين في هذه السورة:
النوع الأول: علمُ اليقين كما قال -عز وجل: ﴿كَالَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾، واليقين: هو الحق الثابت الذي لا مريّة ولا شك فيه، وعلمُ اليقين يُدرَكُ بالخبر، بمعنى أن الإنسان يسمع خبرًا من أكثر من جهة حتى يصل فيه إلى اليقين والجزم بحيث لا يكون عنده شكٌ ولا تردد.
النوع الثاني: عين اليقين، والذي ذكره ربنا -عز وجل- في قوله: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر: 7]، وعين اليقين يدرك بالنظر، بحيث يبصر الإنسان للشيء بعينه، وحينئذ يقوى يقينه بلا شك.
النوع الثالث: حق اليقين، كما ذكره الله -عز وجل- في سورة الحاقة في شأن القرآن الكريم ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الحاقة: 51]، قال العلماء: وحق اليقين يدرك بالذوق، يعني بذوق حلاوته، فإن للإيمان حلاوة، وللقرآن حلاوة، وهذه الحلاوة يجدها الإنسان في قلبه، فإذا وصل الإنسان إلى تذوق حلاوة الإيمان، وحلاوة مُناجاة ربه بتلاوة القرآن؛ فقد تحقّق من هذا العلم، بلّ ووصل إليه، نسأل الله أن يبلغنا وإياكم.
ثم قال -عز وجل: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾، اللام هنا يقول علماء العربية موطئة للقسم، وإذا مرّ مثل هذا السياق في القرآن -وهو كثير فمعناه- أن في الكلام قسمًا مقدّرًا، أي: والله لترون اليقين، والكلام هنا أُكِد بمؤكدات، وإذا أُكِّد الكلام فمعناه هو أنه غايةٌ في الأهمية، فالمؤكدات هي:
المؤكد الأول: القسم المقدر.
والثاني: اللام الموطئة له.
والثالث: نون التوكيد في قوله: ﴿لَتَرَوُنَّ﴾.
يُقسم تعالى أن الناس سوف يرون الجحيم، قيل الخطاب للناس جميعًا حتى المؤمن منهم، وتكون هذه الآية كقوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: 71] فالورود على النار يكون لجميع الناس، لكن الناس يتفاوتون في ورودهم على النار حسب أعمالهم في الدنيا.
وقيل هي للكفار بخاصة.
قال: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾، يعني سوف تشاهدون هذه النار يا من كنتم تنكرونها سوف تشاهدونها بأعينكم، ويبلغ العلم منكم منزلة عين اليقين، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: 27].
قوله: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، وهذا قسم آخر، يقسم -عز وجل- أن الناس سوف يسألون عن النعيم يوم القيامة.
وفي الحديث «لمَّا نزلَت هذهِ الآيةُ: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ قالَ الزُّبَيْرُ يا رسولَ اللَّهِ فأيُّ النَّعيمِ نُسأَلُ عنهُ وإنَّما هما الأسوَدانِ التَّمرُ والماءُ قالَ أما إنَّهُ سيَكونُ» ، يعني سيكون سؤال وسيكون النعيم أيضا، وقد فتحت الدنيا عليهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- بعد الفتوح وكثرت النعم لديهم، فأخبر -عز وجل- أن الناس سوف يسألون عن هذا الأمر، وفي السنة قال : «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي الْعَبْدَ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ» ، سيسأل عن الصحة، ويسأل حتى عن الماء البارد الذي يشربه، وكل نعمة يتمتع بها الإنسان في هذه الدنيا فسوف يسأل عنها.
روى مُسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي خرج ذات يوم فلقي أبا بكر وعمر -رضي الله عنهم- فقال: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ»؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا»، فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ : «أَيْنَ فُلَانٌ»؟ قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ»، فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» ، فإذا كان الإنسان سيسأل طعام أكله عند غيره، فما الظن بما يأكله في بيته والله المستعان! فمن فضل الله ولطفه أن أخبرنا عن مسائل عديدة سوف نُسأل عنها، أخبرنا بالأسئلة قبل الامتحان، هناك امتحان، وهناك مسائل كثيرة، وهناك مسائل القبر الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وهناك سؤال عن القرآن قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 44]، وهناك سؤال عن المال من أين جاء وكيف صرف، وسؤال عن الشباب وعن العمر، مسائل كثيرة سوف يسأل الإنسان عنها، قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: 92]، وهذا فضل وكرم من رب كريم حيث أخبر بالمسائل قبل حلول وقتها، أرأيتم لو أن طالبًا في الامتحان أُخبر عن الأسئلة قبل الاختبار ماذا يكون الجواب؟ سوف يكون الجواب كاملًا، وهذا لا يحصل ولكن من فضله أن أخبرنا عن الأسئلة، فماذا يكون جوابنا؟!
فالجواب على هذا السؤال -يا إخواني- وهو السؤال عن النعيم بشكر المنعم عليها -سبحانه وبحمده- فإنه تعالى آذن بالمزيد للشاكرين، قال -عز وجل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
والشكر ما هو؟
الشكر هو القيام بطاعة الله نطقًا باللسان واعترافًا بالقلب وعملًا بالجوارح، يحمد الإنسان ربَّه بلسانه، ويعتقد أن ما به من نعمة فهي من الله -عز وجل- ويعمل الأعمال الصالحة شكرًا للمنعم على إنعامه وفضائله وإحسانه، وإلا كان مغبونًا، والمغبون هو من يعطيه الله سبحانه وتعالى صحةً وفراغًا ومع ذلك ثم لا يوظف هذه الصِّحة والفراغ في طاعة الله -عز وجل-، كما قال في الحديث: «نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ» ، كثيرٌ من الناس يظنون أن قوله: «مغبون» يعني مغبوط إذ كان صحيحًا في بدنه ولديه فراغ فالناس يغبطونه؛ لا، ليس المعنى هذا، وإنما المعنى: مغبونٌ يعني هي عليه غبنٌ وخسارةٌ، فصحةٌ لم تُوظف في طاعة الله خسارةً، و فراغٌ لم يُوظف في طاعة الله -عز وجل- لا شكّ أنه خسارةً.
فالوجب على الإنسان أن يجتهد في طاعة ربه ويستفيد فيما بقي من عمره ويسأله -سبحانه وتعالى- العفو والصفح عما سلف من ذنوبه وسيئاته، نسأل الله العفو والعافية والمغفرة والنجاة من النار.
{بسم الله الرحمن الرحيم: (﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ﴾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ﴾.
"القارعة" اسم من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها، وللقيامة أسماء لاحظوا أن فيها شيئًا من التهويل والفخامة في ألفاظها، فمن أسمائها: الطامة، والصاخة، والحاقة، والغاشية، والآزفة، وما أشبه ذلك، وكلها أسماء تدل على شدة الأمر.
قوله: ﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ هذا الأسلوب يكثر في كتاب الله -عز وجل- لا سيما في السور الأخيرة في أجزائه الأخيرة، وتكرار الكلام يدلّ على أهميته، ويدل على شدّته وهوله، ويدلّ على توكيده أيضًا، خذ مثلًا قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، وقوله: ﴿الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾.
قوله: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ يذكر الله تعالى شيئًا من مشاهد يوم القيامة، عندما يبعث الناس من قبورهم، وللقيامة مشاهد عظيمة، قال ربنا -عز وجل: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل: 17]، أي: يوم يشيب فيه الوليد، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 2].
ومن هذه المشاهد ما ذكره -عز وجل- في هذه السورة حيث يكون الناس كالفراش المبثوث، والفراش هي هذه: الدواب التي تطير وتكون على المصابيح عادةً وحول النار، وربما تتهاوى في النار، قد وصف الله سبحانه وتعالى الناس بفراش كما في هذه الآية، ووصفهم أيضًا بالجراد المنتشر في قوله: ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ [القمر: 7]، فهم كفراش مبثوث تفرَّق، أي: يسيرون في كل اتجاه، لا يدرون أين يذهبون عندما يحشرون يوم القيامة.
وهناك يأتي فضل الكريم، ورحمة الرحيم سبحانه وتعالى، فيُظلُّ في ظلّ عرشه من يشاء من عباده، ممن فعل الأسباب، وأدركته رحمة رب العالمين.
قال: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾، ذكر الله سبحانه وتعالى مراحل تمر بها هذه الجبال الصلاب، المرحلة الأولى تكون كثيبًا مهيلًا كما قال -عز وجل: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ [المزمل: 14] والكثيب: هو كثيب الرمل، ثم بعد ذلك تكون كالصوف المنفوش كما ذكر -عز وجل- هنا، فالعهن: هو الصوف. والمنفوش: هو الضعيف البالي المتفتت.
ثم بعد ذلك تصير هباء منبثة كما قال -عز وجل: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ [الواقعة: 5]، والهباء: هو الغبار الذي تطاير ويكون كالحبيبات التي تُرى في الشمس، هذه الجبال العظيمة ينسفها ربي نسفًا، ﴿فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [طه: 106]
قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ بعد كل هذه المشاهد والأمور العظيمة تُنصب الموازين، والميزان ميزان حقيقي عند أهل السنة الجماعة، له كفتان توزن فيهما أعمال العباد.
قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي بالحسنات، قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ عيشة يرضى عنها عيشة ومرضي عنها، تكون نفسه مطمئنة وتكون راضية بما عند الله لها من الخير والفضل والنعيم، ومرضيًّا عنها، قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27-30]، فالعيشة راضية والنفس بها راضية ومطمئنة وفوق ذلك كله رضى رب العالمين -نسأل الله أن يرضى عنا وعنكم جميعًا.
والأعمال الصالحة هي التي تثقل الميزان، لا يثقل الميزان -يا إخوان- بالدنيا وبحطامها، وإنما يثقل الميزان بالأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، آخر حديث في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، قال : «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ علَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» ، هذه الأعمال التي تثقل بها موازين الإنسان والتي يجب عليها أن يستعد ويعُدَّ العدَّة ما دام في العمر مُتَّسَع.
قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ والعياذ بالله!
من خفت موازينه فرجحت سيئاته على حساناته.
قال: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ﴾، الهاوية: هي النار الحامية، وسُميت أمه هنا:
قيل: لأنه يُلقى في النار على أم رأسه.
وقيل: بل إنه يأوي إليها كما يأوي صبي إلى أمه؛ فهذه أمه يوم القيامة تضمه بلهبها وحريقها وعذابها ونكالها.
وقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾، تغليظ وتهويل لأمرها.
قال: ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ هي نار حامية شديدة الحرارة، والمعذَّب فيها -ولا قوة إلا بالله- يصلاها ويقاسي حرها ولظاها.
{بسم الله الرحمن الرحيم (﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ الواو حرف قسم وجر، و ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ مقسَمٌ به مجرور. وجواب القسم: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾.
يقسم تعالى بالعاديات وهي الخيل تعدُو ويكون لها ضبحٌ في عديها، والضبح: هو الصوت الذي يكون في صدرها عند العَدو.
قوله: ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ وهي الخيل أيضًا تصك الحجارة بحوافرها فتقدح منها نار لشدة عَدوِها وصلابة حوافرها.
قال: ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾، أي: هي المُغيرات على الأعداء، والإغارة تكون في الصباح، وكان «كانَ رَسولُ اللَّهِ إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حتَّى يُصْبِحَ، فإنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وإنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَما يُصْبِحُ» .
قال: ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾، أثارت هذه الخيل نقعًا، والنقع هو الغبار، فأثرن بمعتركهن ومكان القتال غبارًا.
قال: ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾، أي: وسطن بفرسانهن جموع العدو.
كل هذا الكلام للجواب الذي ذكره بعد ذلك -عز وجل-، فقال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾، الإنسان هنا جنس، ومعنى "كنود" يعني جموعٌ للمال جحودٌ لنعم الرب -سبحانه وتعالى- منوعٌ للحق الذي عليه، فهمته جمع المال والكفر بنعمة المُنعِم به وعدم شكره، والبُخل به عن أن يُنفقه في طرقه المشروعة.
قال: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ اختلف في مرجع الضمير هنا:
فقيل: يرجع إلى الإنسان الكنود الجحود، فلأنه شاهد على ذلك بلسان الحال وإن لم يُقر على نفسه بلسان المقال لكن حاله تشهد على ما هو عليه.
وقيل: إن الضمير يرجع إلى الله -عز وجل- لأن الله -سبحانه وتعالى- شاهد عليه مطلع عليه عالم به.
والأقرب الأول حتى تعود الضمائر كلها إلى مرجع واحدٍ.
قال: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾، الخير هنا هو المال، فيحبه حبًا شديدًا، قال تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر].
قد يكون قائل: وهل في محبة المال ملامة؟
فيُقال: النفوس جبلت على محبة المال، لكن لكل شيء حدود، فيحب الإنسان المال الذي يتعفف به ويغنيه عن الناس، أما أن يحبه الحب الذي يدفعه إلى الجشع، وإلى الطَّمع، وإلى البخل، وإلى الشُّح -ولا قوة إلا بالله-، فهذا الأشياء عمل ممقوت مذموم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
وقال تعالى منبهًا على هذا الجحود: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾، عندما تبعثه القبور وتشق الأرض فيخرج الناس منها؛ ما حالهم؟ وما مآلهم؟ وأين أموالهم؟
ورد عنه في حديث عبد الله بن الشخير قال: «أَتَيْتُ النَّبيَّ وَهو يَقْرَأُ: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، قالَ: يقولُ ابنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قالَ: وَهلْ لَكَ -يا ابْنَ آدَمَ- مِن مَالِكَ إلَّا ما أَكَلْتَ فأفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ؟!» ، هذا مال الإنسان، وما عدا ذلك فإنه يتركه للورثة، وثبت في الحديث عنه أنه قال: «يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنانِ ويَبْقَى معهُ واحِدٌ: يَتْبَعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ، ويَبْقَى عَمَلُهُ» ، وماذا يفعل الأهل بالمال؟! قبل الموت كان مالكًا له، وبعد موته لم يكن له من ماله إلا ما وصَّى به إن كان الله تعالى منَّ عليه ووصَّى لنفسه بشيء، وإلا أخذ المال وقُسِمَ المال، وربما حصل بين الورثة شجار ونزاع في هذا المال الذي ظلَّ يكدح ويكد طول عمره ليجمعه، ويا ليت يسلم من آفاته أيضًا؛ فإنه غدًا سيقدم على الحساب والجزاء، فله حسابُهُ وربما عذابُهُ، ولهم نعيمُهُ وتمتُعُ بهِ -ولا قُوة إلا بالله!
أفلا يعلم هذا الجحود إذا بعثر ما في القبور و ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾، الله أكبر! أخرج ما في الصدور، إخواني! نحن نتعامل مع الناس بالظاهر وليس لنا إلا ذلك، وأما ربنا فهو العالم بالبواطن والسرائر، وغدًا سيخرج كل ما في هذه القلوب ويحصَّل ما فيها، ويحاسب الإنسان على ما كان فيها، و لهذا كان أمر القلوب عظيمًا وكانت النيات عظيمة، وبصلاح القلب صلاح الجسد وصلاح الدين والدنيا والآخر، وبفساده فساد الإنسان في كل أحواله وأموره، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾ [الطارق]، يوم تُختبر السرائر و يُختبر ما فيها، ليس له قوةٌ من ذاته ولا ناصرٌ يناصره من الخارج، لا أحد ينصره وليس له قوة يدفع بها عن نفسه، والمقصود: أن الإنسان يعتني بقلبه وبصحته وبسلامته، فالقلب السليم هو الذي ينجو به صاحبه يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 87]، ذهب المال والبنون وذهب كل شيء، وبقي هذا القلب السليم، القلب السليم: هو السالم من الشهوات ومن الشبهات، سَلِم القلب فسَلِم معه العمل وسَلِم في دينه ودنياه وآخرته.
قال: ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾، ضمير الجمع هنا يعود إلى الإنسان لأن الإنسان جنس يشمل الناس، وهو تعالى بهم خبير يومئذٍ يوم قيامة، والخبير من أسمائه عز وجل، ومعناه: العالم بالظواهر والبواطن، الذي لا تخفى عليه من أعمال عباده خافية، فهو المطلع عليهم الناظر إليهم السامع لكلامهم الناظر لأعمالهم العالم بأحوالهم، وهو -سبحانه وتعالى- خبير يوم القيامة في الدنيا وفي كل وقت وحين، لكنه -عز وجل- ذكر علمه يوم القيامة حتى يستشعر الإنسان ويستحضر هذا الأمر، وأنه غدًا سوف يقدم إلى ربه ليس له بعد رحمته إلا عمله الذي عمله في الدنيا، وفي الحديث المخرج الصحيح: «ما مِنكُم أحَدٌ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ ليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ تُرْجُمانٌ، فَيَنْظُرُ أيْمَنَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ مِن عَمَلِهِ، ويَنْظُرُ أشْأَمَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ، ويَنْظُرُ بيْنَ يَدَيْهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وجْهِهِ، فاتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ» ، فالواجب على الإنسان أن يعتني بالباقيات الصالحات، وأن لا يشتغل بالأعمال الفانيات، فلا تشغله ولا تلهيه -كما تقدم- في السورة السابقة عن طاعة ربه -سبحانه وتعالى.
{بسم الله الرحمن الرحيم (﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾)}.
هذه السورة العظيمة في مشاهد يوم القيامة من أولها لآخرها، يبين الله تعالى فيها حال الأرض وحال أهل الأرض في ذلك الوقت حين تزلزل الأرض زلزالها، وأضيفت الزلزلة إليها لبيان هول الأمر وشدته.
واختلف في هذه الزلزلة:
- هل هي في آخر يوم من أيام الدنيا قبل قيام الساعة.
- أو أنها بعد قيام الساعة والنفخ في الصور؟
قولان لأهل العلم، بَّين الله سبحانه وتعالى شيئًا من مشاهد ذلك اليوم حين تزلزل الأرض، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 1] قال تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ [الواقعة: 1- 7]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ [المزمل: 14]،.
قال: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾، حينها تخرج الأرض أثقالها، وفي الغالب أن المقصود بـ "أثقالها" ما في بطنها من الأموات والكنوز، فالأموات يخرجون ويحشرون ويقدمون إلى ما كانوا في الدنيا يعملون، وأما الأموات والكنوز فقد ثبت عنه أنه قال: «تَقِيءُ الأرْضُ أفْلاذَ كَبِدِها، أمْثالَ الأُسْطُوانِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ»، والأسطوان معناه: العمود. قال: «فَيَجِيءُ القاتِلُ فيَقولُ: في هذا قَتَلْتُ، ويَجِيءُ القاطِعُ فيَقولُ: في هذا قَطَعْتُ رَحِمِي، ويَجِيءُ السَّارِقُ فيَقولُ: في هذا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فلا يَأْخُذُونَ منه شيئًا» ، لأنهم مشغولون بما هو أهول وأطم.
قال: ﴿وَقَالَ الْإِنْسَانُ﴾ أي: مندهشًا منذهلًا.
قال: ﴿مَا لَهَا﴾ أي: ما شأن الأرض وما خطبها وما الذي جرى لها.
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾، بين النبي حديث الأرض في قوله: «قَرَأَ رسولُ اللهِ هذه الآيَةَ: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ قال: أتَدْرُون ما أخبارُها؟ قالُوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ. قال: فإِنَّ أخبارَها أنْ تَشهدَ على كلِّ عبدٍ وأمَةٍ بِما عَمِلَ على ظَهرِها، تَقولُ: عَمِلَ يومَ كذا، كَذا وكذا، فهذِهِ أخبارُها» ، فثمة شهود -يا إخواني- محيطون بالإنسان يشهدون عليه يوم القيامة، من هؤلاء الشهود الأرض كما في هذه الآية.
ومن هؤلاء الشهود الكرام الكاتبون، قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 17] ـ وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 10]، فيكتبون الأقوال ويكتبون الأفعال، وغدا يشهدون على الإنسان أو للإنسان بما عمل في هذه الدنيا.
ومن الشهود الذين يشهدون عليه: وهم الأقرب إليه أعضاؤه جوارحه وحواسه، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ [النور: 24]، فأين المفر؟! المفر في الدنيا إلى الله -عز وجل-، قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]، يلجأ الإنسان إلى ربه في الدنيا ما دام في عمره مُتَّسع وفي وقته فرصة، يلجأ إليه ويتقرب إليه بما يُقربه إليه -سبحانه وبحمده.
قال: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ الباء سببية، أي بسبب أن ربك أوحى لها، أي أمرها وأذن لها بذلك.
قال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾، هناك ورودٌ وصدورٌ، يرد الناس يوم القيامة في مواقف الحساب فيحاسبون، وبعد الحساب يصدرون عن مواقف الحساب إلى دار الجزاء، يصدر الناس أشتاتًا مختلفين، فريق في الجنة -اللهم جعلنا جميعًا منهم- وفريق في السعير -أجارنا الله وإياكم من ذلك.
قال: ﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: ليُرَوْا جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
قال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، سيحاسب الإنسان عن مثاقيل الذر من الخير ومن الشر، والذر من المعروف، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء]، وحبة الخردل معروفة فهي حبة صغيرة من أصغر أنواع الحبوب، يعني إذا عمل الإنسان خيرًا بمقدار حبة الخردل أو شرًا فإنه سيوضع يوم القيامة ويُجازى عليه، ولهذا قال لقمان الحكيم لابنه وهو يوصيه بمراقبة ربه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 16]، فلو كانت هذه الخردلة في جوف صخرة فإن الله عالم بها مطلع عليها.
فالمقصود: أن الإنسان سيحاسب عن الصغير والكبير والدقيق والجليل، وفي هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، أي أنك إذا كنت ستحاسب عن مثاقيل الذر من الخير فأكثر إذًا من الخير، وجدَّ واجتهد، وإذا كان الإنسان سوف يحاسب عن مثاقيل الذر من الشر فلينأَ بنفسه وليبعد نفسَه عن الوقوع في الشر ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
وهذه الآية جليلة عظيمة -يا إخوة- إذا تأملها الإنسان وتدبر كلام ربه، وقرأ النبي هذه الآية على "صعصة بن معاوية" عم الفرزدق الشاعر المشهور، فلما قرأ عليه ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ قال: "حَسْبِي لَا أُبَالِي أَلَا أَسْمَعُ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا" . يعني: يكفي أني أسمع هاتين الآيتين، لأن الموفق إذا علم أنه سوف يُحاسب عن مثاقيل الذر من الخير سوف يجتهد فيه، ومن الشر سوف يجتهد في الفراغ منه والابتعاد عنه.
والآية تدل على عموم فعل الخير، ولهذا لما سئل النبي وقد ذكر الخيل والإبل، ثم سُئل عن الحُمُر، فقال: «ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فيها إلَّا هذِه الآيَةَ الفاذَّةَ الجامِعَةَ ﴿فمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾» .
وقوله: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ نكرة في سياق الشرط فتعم الأعمال كلها أيًّا كانت، والمفروض أن الإنسان يجاهد نفسه -يا إخوان- في العمال الصالحة التي تقربه إلى الله ربه -سبحانه وتعالى- ويفعل الأسباب ويستعين بربه، ويطلب منه التَّوفيق والسَّداد، اللهم وفِّقنا إلى الأعمال الصالحة وأعنَّا عليها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. والسلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.
{شكر لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأفدتم وجزاكم عنَّا خير الجزاء.
إذًا أيها الإخوة والأخوات؛ بهذا نصل إلى ختام هذه الحلقة، نلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله، دمتم في رعاية الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك